الثلاثاء، 4 مارس 2014

قسم المقالات : الفضيحة بقلم دكتور مصطفى محمود


الفضيحة
   
بقلم د مصطفى محمود

جوزيف أسترادا رئيس الفليبين‏..‏ بهلوان وممثل أدوار الشجيع‏..‏ بدأ حياته من قاع التياترو ومن أفلام الترسو‏..‏ يخطف الأضواء ويثير الجماهير كبطل يدافع عن الفقراء ويناصر قضايا الكادحين‏..‏ وصدق نفسه وكبر الأمر في دماغه فتقدم للانتخابات‏..‏ وحملته الجماهير إلي مقعد الرياسة‏..‏ وتحول الخيال الي حقيقة‏..‏
وهكذا فجأة‏..‏ تحول الممثل البهلوان الشجيع‏..‏ إلي سيادة الرئيس الزعيم حاكم الفليبين
ولم يختلف الأمر كثيرا فقد بدأ الرئيس يقود البلاد علي طريقة رؤساء العصابات‏..‏ يفتتح يومه بالاجتماعات الوزارية والقاء الخطب وتوقيع البيانات ومتابعة المشروعات‏..‏ وفي المساء تبدأ حفلات الأنس وجلسات القمار وموائد الشمبانيا والسكر والعربدة والمخدرات وفي آخر الليل تكون حلقة الصفوة من بنات الليل وحسن الختام في أحضان أهل الحظوة وصاحبات المقام الرفيع أقصد صاحبات القوام الرفيع‏..‏ وكالعادة تغطي الدولة تكاليف هذه السهرات الجادة والمضنية‏..‏ ويصحو صاحبنا مصدعا في ساعة متأخرة من النهار ويدلق فناجين القهوة في فمه ليفرك عينيه ويتثاءب ويحملق في الوجوه من حوله‏.‏
وحينما تفجرت فضيحة سيادة الرئيس العضو في نوادي القمار‏..‏ وتناقلتها الجرائد‏..‏ قال الرئيس معلقا‏..‏ هكذا يحدث في الأفلام‏..‏ يتعرض البطل للضرب في البداية‏..‏ ولكنه يفوز بالضربة القاضية في النهاية‏..‏
ولكنها لم تكن نوادي القمار وحدها‏..‏ هي التي ظهرت في الصورة‏..‏ وانما الرشاوي بالملايين‏..‏ والسرقات بالهبل‏..‏ وأموال الضرائب التي كان يحولها إلي حسابه‏..‏ والعلاقات النسائية المتعددة‏..‏ والأبناء غير الشرعين‏..‏ إلخ‏..‏ إلخ
وحينما فاحت الروائح الكريهة في كل مكان وثار الشعب وقاد المظاهرات والتجمعات والمسيرات‏..‏ وفتح سيادة الرئيس نافذته ذات يوم ليجد مائة ألف يهتفون بسقوطه‏..‏ أدرك أن الضربة القاضية نزلت علي رأسه هذه المرة بلا أمل
وهذه المرة تحالف الجيش والكنيسة والفقراء فأطاحوا بالرئيس الفاسد ونصبوا نائبته جلوريا أرويو رئيسة للفليبين مكانه‏.‏
وكان هذا ثاني رئيس يسقطه شعب الفليبين بعد ماركوس وإيمليدا ماركوس وكالعادة قال الرئيس المخلوع‏..‏ أنها مؤامرة‏..‏ وأن الذين دبروها هم أعداء الشعب الذين يمتصون دماء الفقراء ويستغلون الكادحين‏..‏ ولكن لغة الخطابه لم تستطع الصمود أمام سوء الفعال‏..‏ وتهريج السينما لم يجد‏..‏
وقال استرادا أنه لن يهرب مثل فرديناند ماركوس الذي هرب إلي منفي في هاواي بعد أن أطاحت به الثورة الشعبية في‏1986..‏ وأنه سوف يصمد للمحاكمة ويثبت براءته من كل هذه التهم والمفتريات التي ألصقت به زورا وبهتانا‏..‏ وبحسب قانون الفليبين فإن ثبوت تهمه السرقة ونهب أموال الشعب عقوبتها الإعدام‏.‏
وقالت النائبة الكاثوليكية جلوريا أرويو التي تحكم البلاد‏..‏ والتي جاءت مكانه‏.‏
سوف نترك العدالة تأخذ مجراها بكرامة وبدون تهريج‏.‏
هل يصمد بطل الترسو فعلا للمحاكمة العادلة‏..‏؟‏!‏
آخر الأخبار أن أسترادا ترك القصر الرئاسي وتوجه إلي منزله في أحد أحياء مانيلا الراقية‏..‏ وأن أعوانه من عصابات نوادي القمار يدبرون له هروبا إلي أمريكا
وهكذا تنتهي أفلام الـــ أكشن في العادة
برصاصة تجندل البطل الأفاك‏..‏
أو بهروب مهين يجرر أذيال الخيبة
أما الأفاكين العظام‏..‏ والجبابرة من المقاس الكبير‏..‏ فموعدهم مع الكبير القادر عليهم‏..‏ في اليوم الذي لاتنفع فيه شفاعة‏..‏ ولايجدي هروب
وأين يكون الهروب‏..‏ من رب كل العوالم‏..‏ ورب كل الأزمنة‏..‏ الحاضر في كل مكان‏..‏ والمحيط الذي يحيط بكل شيء‏..‏ ولا قبل لنظر أو عقل أن يحيط به‏..‏ إن يونس لم يجد المهرب الذي يخفيه في بطن حوت‏..‏ وهو النبي إنها لحظة لايعرف قدرها إلا مؤمن ولا يخشاها حق خشيتها إلا ولي
ولو آمن بها أهل هذه الدنيا‏..‏ لما كانت دنيا‏..‏ بل جنة‏.‏
ما أكثر المؤمنين الذين يرددونها دون القدرة علي تصورها
ولايتصورها بحق الا مرابط علي آيات القرآن لايبرحها
وذلك هو الرباط المنجي في لغة أهل الله جعلنا الله منهم
إن سير الظالمين وحكايات الفساق‏..‏ مثل حكاية صاحبنا الفليبيني‏..‏ ومصارع الجبارين والقتلة‏..‏ الذين يحفل بهم التاريخ تفتح نوافذ العقل‏..‏ وتضيء رحبات التأمل‏..‏ علي عتبات مفزعة نحن في حاجة إلي ذخائر الحكمة التي تخفيها وسيادة الرئيس موضوع قصتنا‏..‏ والنجم صاحب النجومية التي حملت صاحبها إلي سدة الحكم‏..‏ والتي توشك أن تهبط به إلي حبل المشنقة‏..‏ ثم الي حضيض الإعدام‏..‏ هكذا هبوطا من ذري المجد‏..‏ إلي هاوية الندامة‏..‏ فجأة وبدون سابق انذار‏..‏ هي في نفس الوقت مناسبة منذرة لكل غافل‏..‏ ومثال صغير يضربه ربنا في الدنيا لمصير يلاحقنا كظلنا من دنيانا إلي آخرتنا ولانفكر فيه ولا نأخذه مأخذ الجد في مجيئنا ورواحنا ومسعانا في حياتنا الصاخبة اللاهية‏.‏
وبعضنا مثل هذا الاسترادا‏..‏ أصحاب نجومية في أعمالهم‏..‏ وفي حياتهم الخاصة لهم سعي آخر‏.‏
ولكل منا ما يخفيه وما يظهره
ولكل منا عثراته وعوراته‏..‏ وكلنا نمثل أدوارا علي أنفسنا وعلي غيرنا‏,‏ ومناسبات الأنس التي تجمع بعضنا علي موائد الشراب تنسي أهل الفرفشة والحظ مايترصدهم من مفاجات ومحن‏..‏ وتنسيهم مايحدث حولهم من كوارث‏..‏ كل يوم‏..‏ تنسيهم من يسقط بالسكتة القلبية ومن يسقط بالشلل ومن يقع بالسكتة المخية ومن يحمله سوء حظه الي حادث تصادم يفقد فيه ساقيه‏..‏ ومن يقع في بالوعة‏..‏ ومن تنفجر به طائرة‏..‏ ومن يموت فجأة ببساطة وبدون أي سبب‏..‏ وكلها أحداث كل يوم‏..‏ وصفحات الوفيات في الجرائد أكثر من صفحات الحوادث‏..‏ ونبأ الانتقال الوشيك الي الآخرة‏..‏ نبأ عادي يطرق أسماعنا كل ساعة‏..‏ وهو معلق في رقبة كل منا رغم أنفه‏..‏ وهو يركب معه كل قطار وكل طائرة وكل اتوبيس ويجالسه في كل وليمة‏..‏ ويشاركه في كل احتفال‏.‏
ولكننا نسمع وننسي‏..‏ ونقرأ وننسي‏..‏ ولا أحد يعد العدة لهذه الرحلة المفاجئة ضمن ما يعد لبرنامج كل يوم‏.‏
ولا أحد يجلس مع نفسه جلسة مصارحة قبل أن تقع الواقعة
إن أسترادا قد يهرب بأمواله إلي أمريكا‏..‏ ولكن أين يهرب حينما يوافيه أجله‏..‏ ولاتوجد بنوك في الآخرة يحول إليها دولاراته‏..‏ إنه رجل أبله
إن الدنيا التي تبدو لنا كذلك ليستخرج منا كل نياتنا وليعطي لأشرارنا الأمان وليمد لهم في حبال الأمل ليخرجوا أضغانهم ولينفسوا أحقادهم وليمكروا مكرهم‏..‏ ليتم المكتوب ويكتمل البلاء‏.‏
إنها شبكة حريرية لاصطياد الذباب‏..‏ ذباب البشر‏..‏ وخنازير البشر‏..‏ وهم كثير‏..‏ يتنكر بعضهم في ثياب الملوك‏..‏ ويأتي بعضهم في ثياب السوقة‏..‏ ويخطف بعضهم الأضواء‏..‏ ويحتل بعضهم صفحات التاريخ‏..‏ وتكتب في بعضهم السير والملاحم‏..‏ ويتدلي بعضهم من حبال المشانق‏..‏ ويمشي بعضهم في الأسواق تحف به الملائكة ولايدري به أحد
كم من فقير خامل الذكر لايدري به أحد وهو في كتاب الغيب من نجوم الآخرة‏.‏
إننا نعيش في دنيا أشبه بالحفلة التنكرية ولايبدو لنا أي شيء علي حقيقته‏..‏ انما هي أقنعة‏..‏ ورموز‏..‏ وشخوص‏..‏ وأسرار‏..‏ فالملابس تنكرية‏..‏ والأحداث رمزية‏..‏ وهي جميعها صفحات من كتاب القدر تفض مكنونها عجلة الزمن الدوار ليقول كل منا كلمته ويأخذ فرصة ثم يخرج من الحياة ليأتي غيره وغيره‏.‏
لقد جاء أسترادا نجم الشباك من ظلام الترسو ليمثل دوره الفاشل علي مسرح الرئاسة في الفليبين ثم سقط وترك وراءه خزينة مفلسة وديونا بلا آخر ومن قبله جاء ماركوس وإيميلدا ونزيف آخر من الإنفاق‏..‏ وفي الكونغو جاء موبوتو سيسيكو ومن بعده كابيلا الأب ثم كابيلا الإبن‏..‏ والكونغو هي عاصمة الالماس في أفريقيا‏..‏ ومن ورائها ذئاب الاستعمار القديم بلجيكا وفرنسا وكلاب إسرائيل التي تتقاطر كلما ظهرت رائحة منفعة‏.‏
واستنزاف ثروات هذا العالم الثالث حتي النخاع ليس مصادفة‏..‏ وإنما هي اختيارات وراءها تدبير وتخطيط وسطو متعمد والظروف التي جاءت بماركوس وأسترادا وموبوتو وسوهارتو وباقي سرب اللصوص الذين نهبوا أفريقيا وآسيا ليست مصادفات‏..‏ إنما هي اختيارات الكبار الذين يديرون دفة هذا العالم ويخططون لنهب خيراته‏..‏ ووراء هؤلاء اللصوص دول كبري ورؤوس كبري ووراء المسرح الكبير الظاهر مسرح خفي‏..‏ ووراء المسرح الخفي أيدي تتحرك لايعرف أحد أصحابها‏..‏ وشخوص تتحرك في الظلام لايعرف أحد أسماءها وهؤلاء هم المجرمون الكبار الذين يديرون شئون العالم من هم الذين خططوا لقتل السادات؟؟‏!!‏
إن الذين في الواجهة هم الجماعة الإرهابية‏..‏ هذا صحيح‏..‏ لكن من كان وراءهم؟‏!!..‏ الله وحده يعلم‏..‏
إن القائد قد اغتيل وسط جيشه في هجوم محكم سابق الإعداد والتجهيز وفي عدوان مدبر لامثيل له‏..‏ من هم الذين أعدوا المسرح للجريمة الكبري؟‏!!‏ علامات استفهام‏..‏ إلي يوم القيامة‏..‏ وأسئلة وراءها أسئلة‏..‏ بلا جواب‏..‏ والتحقيق أغلق ولم يصل الي شييء‏..‏ ولايعلم الحقيقة إلا علام الغيوب‏.‏
ومن الذي قتل الفرعون الذهبي‏..‏ توت عنخ أمون؟‏!!!‏ رئيس الكهنة أم حورمحب؟‏!!‏ وحكايات الإجرام تجر بعضها‏..‏ إنها جماعة دينية أخري من أربعة آلاف سنة كانت تتآمر علي الحكم في مصر‏..‏ ولم يبق منها الا ظلالها الباهتة‏..‏ ما حكايتها؟‏!!‏
الله وحده‏..‏ هو الذي يملك الجواب‏..‏ وهو الذي يأتينا بالتاريخ كله من عنده‏..‏ من أول الأزل الي آخر الأبد‏..‏ والحكاية المحيرة التي عشناها جميعا ولم نجد لها تفسيرا الي الآن‏..‏ هزيمة عبد الناصر المنكرة في حرب‏67..‏ كيف حدثت بهذه الصورة المخزية المروعة رغم علم عبد الناصر بيوم وساعة الهجوم‏..‏ وماذا كانت شهادة عبد الحكيم عامر‏..‏ وهل مات منتحرا أو مقتولا‏..‏ الحقيقة عند الله وحده علام الغيوب ولانملك نحن إلا علامات استفهام وعلامات تعجب‏..‏ من هنا الي يوم القيامة‏.‏
من أجل هذا يا اخواني أراد الله أن يكون هناك يوم يعلن فيه الحق في مشهد جامع يؤتي فيه بالكل‏..‏ ويؤتي بالمجرمين علي رؤوس الأشهاد‏..‏ فالله هو الحق‏..‏ والحق إسمه‏..‏ وذلك اليوم هو أعلي تجلياته‏.‏
يقول ربنا
ومكروا ومكر الله
والله خير الماكرين
فقد مكروا جميعا لإخفاء الحق‏..‏ والله مكر بهم لإظهاره‏..‏ وذلك مكره الخير‏..‏ وذلك اليوم الهائل هو تجلي جميع أسمائه‏..‏ الخافض الرافع المعز المذل العفو المنتقم الجبار القهار‏..‏ يقول ربنا‏..‏ ذلك يوم مجموع له الناس‏..‏ وذلك يوم مشهود‏..‏ لقد أراد الله أن يكون يوما مشهودا وأن يكون الجزي فيه معلنا‏..‏ انه يوم الفضيحة العظمي‏..‏ الذي لن تخفي فيه خافية‏..‏ ولن يجد مجرم مايستتر به‏..‏ ولا مايخفي به عورات نفسه‏..‏ ولن يجرؤ شفيع أن يتقدم من الله مدافعا عن ظالم‏..‏ ولن تعلو كلمة الا كلمة‏..‏ العدل الحكم جل جلاله‏.‏
يقول ربنا
ما للظالمين من شفيع ولاحميم يطاع
والكفر هو الحل السهل والمهرب الجاهز لكل من أثقلتهم جرائمهم‏..‏ فلا حساب هناك ولا محاسب وليس بعد رقدة القبر قيامة‏.‏
والحكاية كلها مهزلة نهايتها الموت‏..‏ وليس بعد الموت إلا التراب‏..‏ هكذا يقولون‏..‏ ويقول الفلاسفة أن الدنيا ماهي الا مسرح من مسارح العبث واللامعقول وأنها لاغاية لها ولا معني‏.‏
ولا أدري ماذا يكون قولهم الآن بعد أن انكشف أمر الجنيوم البشري‏..‏ ذلك الكتاب المكنون من خمسة ملايين صفحة وثلاثة مليارات من الحروف الكيميائية في خلايا كل مولود تشهد عليه بكل أمراضه المحتملة في المستقبل وكل نواحي ضعفه وقوته‏..‏ وكل هذا في حيز أقل من ميلليمتر‏..‏
أي غرابة بعد هذا أن يدون عليه الخالق الذي خلقه مايستجد من أعماله؟‏!!‏ وأن يسجل عليه جرائمه‏.‏
هل هذا هو العبث واللامعقول‏..‏ أم هو الانضباط والإحكام والنظام المذهل بل هناك وقفة حساب ياإخواني‏..‏ ولن يهرب مجرم من جريمته‏..‏ وللحكاية بقية‏..‏ وسوف تكون هناك قيامة ويكون حساب‏..‏ والذي خلق هذه الدنيا قادر علي ذلك‏..‏ بل هو الوحيد القادر‏.‏
أدعو ربكم ألا يصنع أحدكم مايخزيه في ذلك اليوم‏..‏ وأشكروه علي أنه لم يجعلكم ملوكا وأنه اختار لكم أن تكونوا مملوكين عبيدا‏..‏ ليفتح لكم باب العذر والمسكنة‏.‏
ولاتتمنوا مافضل الله به بعضكم علي بعض‏..‏ فرب نعمه وراءها مذلة‏..‏ ورب رفعة وراءها مهلكة‏.‏
ولانصادر علي الغيب‏..‏ ونستغفر الله مما لانعلم
ونقول مسلمين مستسلمين‏..‏ لله الأمر من قبل ومن بعد
لا اله الا هو سبحانه اليه يرجع الأمر كله