الاثنين، 22 مايو 2017

المقال الإسبوعي : تنافس الأفكار فى مناخ حر بين العرض والطلب


تنافس الأفكار فى مناخ حر بين العرض والطلب
كيف نصنع الفكر وكيف نوجد المناخ الجيد لنشره ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بداية قد لا يكون العنوان فى جملة عرض وطلب الذى يتعلق أصلا باقتصاديات السوق التى تفترض أن عمل الباعة والمشترين فى السوق تنافسي بحيث لا يؤثر أحد على السعر ولا على التوجيه والمنع مناسبا
لكننا نستعير الجملة مجازيا ، ولو تأملنا المعنى سنجده لا يتعارض معه ، إذ الفكرة تعرض على العقل فى جو تنافسي حر فإذا اقتنع بها طلبها وأخذها 

تعالوا نتناقش بهدوء فى مسألة مهمة جداً :
أنت تملك بضاعة ثمينة جيدة وجارك يملك بضاعة رديئة فاسدة وأنت تعلم رداءة بضاعة جارك والكل يعلم أن كليكما لديه بضاعة ولا أحد يعرف من منكما بضاعته جيدة ومن بضاعته رديئة والناس مثلا تنتظركما فى السوق
فإن منعت جارك من الخروج ليشترى الناس بضاعتك الجيدة وتمنع عنهم بضاعة جارك الرديئة لظن الناس أنك تمنع جارك حسدا منك لبضاعته الثمينة ولتمسك الناس ببضاعته أكثر وربما تسللوا لبيته ليأخذوها منه ، وإن عرضها بعد ذلك لن يفحصها أحد وسيأخذها الجميع بفكرة أنك ما منعته إلا لجودة بضاعته
لكنك لو بالفعل تملك بضاعة جيدة وتملك أدوات العرض وحسن الإقناع فلماذا تخاف
اعرض بضاعتك واعرضها جيدا ودع جارك يعرض بضاعته الرديئة وساعتها سيقارن الناس بين الجيد والرديء وسينبع إختيارهم من الإقناع وعندها سيزهد الناس فى بضاعة جارك حتى يعود بها خائبا إلى بيته وربما يتخلص منها ولن يعيد تسويقها للناس بعد أن عرف الناس حقيقتها
وبالمثل إن رأيت تيارا فكريا تعلم أن فكره رديئا أو ظلاميا أو جاهليا أو جاهلا أو خاطئا 
هل تعتقد أن الحل يكمن فى عزل التيار أو المذهب أو حتى المعتقد :
سياسيا أو مؤسسيا أو حتى أمنيا أو عزله بالخداع وربما الطعن فى شخص المحاور لا فى فكرته عن طريق وصفه برداءة فكره دون دحض الفكرة بالفكرة ؟
فكل إرهاب للفكر ماديا أو معنويا لن يؤدى إلا لنموها 
لأن الإقناع الحقيقي ونجاحه يكمن فى أن يتوصل الناس ويتوصل المحاور ذاته لجودة الأفكار عن طريق المقارنة والدخول فى تفاصيل الفكرة
ثم إننى كصاحب فكرة جيدة لا أسعد بعدد من ينتمى لفكرتى شكليا وإنما بعدد من يقتنع بها عقليا
كما أن مسألة المقارنة والتنافس بين الأفكار سيؤدى لجودة الأفكار المعروضة وسيؤدى أيضا إلى التنوع الذى يصب فى مصلحة الفكر العام وسيؤدى أخيرا إلى أن يتخير الناس أجود الفكر وأعمقها حينما تعرض أمامهم تلكم الفِكَر المتنوعة
الدارس للتاريخ سيعلم أن هذه الطريقة أي طريقة العزل والحصار القوي والناعم لا تجدى ولم تجد يوما
ففكرة انعزال التيارات وفكرة الخصام والعيش فى بواتق منعزلة لن يحقق إلا أمر واحد هو أن من يجيد عرض بضاعته حتى ولو كانت رديئة سيفوز لأن البضاعة الردئية لا تعرف إلا إذا وضعت فى مقارنة مع البضاعة الجيدة وعندها سيتم العزل شعبيا
ولنعلم أن الأفكار لا تدخل العقول جبرا وإنما لابد أن تمر الفكرة بمراحل داخل العقل بإختيار حر ، هكذا هو العقل وهكذا طبيعته وهكذا عمله وهكذا خلقه ربه
ولنتعلم من فلسفة الحياة وحكمة الخلق ، فرؤيتنا للظلام عرفنا قيمة النور ، ورؤيتنا للكفر عرفنا حلاوة الإيمان ورؤيتنا للشر عرفنا جمال الخير
وان كنت تملك فكرا راقيا وتملك أدوات العرض والإقناع وتجيدها فلماذ تخاف الحوار والنقاش ليعرف الناس بإرادتهم وبإختيارهم وبإقناع عقلي الغث من السمين ؟
مع الأخذ فى الإعتبار الآتى :
1 - عدم التقليل من أهمية الفكر ودوره فى ضعف الأمة وتمزقها فما كانت الإختلافات والتحزبات منذ خلق الفرق الإعتقادية وما صاحبها من معارك فكرية ودموية حتى يومنا هذا وما يحدث فيه من انقسامات وتحزبات وكل حزب بما لديهم فرحون ، وما يصاحب ذلك أيضا من عيوب سياسية ومجتمعية نطبقها اليوم إلا بسبب أفكار غريبة والتشدد لها ونظرة نفي الآخر نفيا قاطعا وعدم الإعتراف به وعدم الإيمان مسبقا بأهمية الفكر ومناخه 
وإن تركنا الماضى ونظرنا بعين متأملة لحاضرنا نتساءل 
لماذا سياسيا لا يتصف الحكم العربي بالشورى أو الديموقراطية أو التعددية كما نراها فى أوروبا مثلا ؟
لماذ تغيب فى أوطاننا العربية الحريات والعدالة والمساواة والشفافية ؟
لماذا مجتمعيا تتكبل أيادينا العربية بقيود من العادات والأعراف التى ما أنزل الله بها من سلطان ؟
كل ما تقدم من أسئلة سببه الفكر ، فإن اعترضت مثلا أو حاولت أن تناقش جيء لك بألف دليل ودليل وبما أننا دخلنا فى حكاية الأدلة فنحن نتكلم عن الفكر
لماذا حينما حاولت الشعوب العربية صنع ثورات للتغيير تراوحت النتائج بين الفشل والتعثر ؟
ولو عدنا لمسيرة الثورات العربية نجد أن السبب الرئيسي لفشلها أو تعثرها هى التحزبات الفكرية السطحية وكل فريق يجد فى عقله الحق المطلق والمعرفة الكاملة التامة والعقل المتوشح بوشاح القداسة وبالتالى الحق المطلق فى جني ثمار الثورة 
فى الثورات العربية اختلف الناس فى أمور فكرية سطحية فكانت التيارات المختلفة التى قضت على حركات الشباب العربي الذى حركته أحلام التغيير ، لكنه حينما أطلت فى الأفق تلكم التيارات الفكرية انتهت الأمور بما لا يتوقعه أحد 
مما تقدم يتضح جليا أن الفكر هو من يصنع الأمل ونظرتنا السطحية لعلاجه هى ما تقودنا للتمزق والكوارث المتتالية
وبالتالى يجب ألا نقلل مطلقا من أهمية الفكر الذى يحركنا حتى ولو لم نؤمن بأهميته
فكل عقباتنا السياسية والإجتماعية لا ولن تحل إلا فكريا 
2 - لا تقل هذا جاهل وهذا أمي لن يفهم الفكر المتطور الراقي ، فالجاهل والأمي والمتعلم كل له عقل قادر على الإستيعاب والفهم ، المهم كيفية عرض الفكرة وتوصيلها وطريقة شرحها بأسلوب يناسب حالة كل متلق
3 - الفكرة القابعة فى حيز النظرية لن يقتنع بها الناس فعلى من يعرض فكرة أن يظهر تطبيق ملامحها العامة عمليا كلما أمكن ذلك من خلال حياته وسلوكياته ومن خلال أمثلة عملية كلما أمكن ذلك
4 - أسلوب عرض الفكرة يجب أن يتحلى بأخلاقيات الحوار والتعامل كاللين واللطف والإبتسام الذى يعانق شفاه المتحدث ، وعدم التكبر والغطرسة على المتلقى وأن يكون الكلام جميلا مقنعا والشرح عميقا يتعرض لتفاصيل تشغل بال الناس
5 - الفكرة المضادة التى تحتل عقول البعض لا تقيسها بعدد من ينتمون إليها ولا بتوهم التخلص منهم مثلا ، فالفكرة تتجدد وربما تدخل عقول البعض دون أن يعرضها عليهم أحد لذلك ناقش الفكرة حتى ولو لم يوجد لها أتباع
6 - الفكرة طائر محلق شفاف غير ملموس لا تستطيع الإمساك به ولا تستطيع قتله برصاصة يدخل العقول دون استئذان ، فلا أحد يستطيع منعه ماديا ولا سبيل إلى ذلك إلا بالفكرة المضادة
7 - وأنت تعرض فكرتك اعلم أنك لا تملك الحقيقة المطلقة وإنما تحاول أن تعرض ما تراه من وجهة نظرك جيدا إلا ما كان منه يقينا كالدين فتؤمن داخليا أنه حق لكنك مع ذلك لست وصيا على غيرك (لا إكراه فى الدين)
8 - كما أن من حقك أن تعرض فكرتك فمن حق غيرك أن يعرض فكرته شريطة ألا تستبيح دمى ولا استبيح دمك وشريطة ألا يتحول فكرى وفكرك للقيادة دون اقناع الناس وشريطة أن لا تستبق كصاحب فكرة تغيير مناخ المجتمع بالقوة أو بالارهاب الفكري ، وإنما تملك ذلك فى حالة واحدة وهى أن يقتنع المجتمع بفكرتك فيتغير االمناخ تلقائيا إن لقيت فكرتك قبولا عاما 
9 - وأنت تحاور حاول أن تفهم محاورك وتفهم عقليته وتفهم فكره ورأيه ولا تحاور فقط من باب المعلم الناصح ، ففى ذلك تقارب نفسي تستطيع به أن تصل لقلب محاورك قبل عقله كما أنك بهذه الطريقة قد تستفيد إما من بعض نقاط تصوراته فتضيفها لفكرتك بتغيير بعض نقاطها أو أنه يظهر لك بعض النقاط التى تنقص فكرتك فتعمل على تكملتها 
10 - وأنت تحاور يجب أن يكون همك الانتصار للفكرة الجيدة وليس الإنتصار لنفسك وكبريائها 
11 - غالبا ما يأتى التغيير الفكري شعبيا أي من قاعدة الهرم لقمته وليس العكس اللهم إلا لو آمن من فى القمة بالقضية وأهميتها وساعتها سيكون أفضل والنتائج أسرع لأن الدولة حينما تنظم وتساعد وتمد ستقطع مراحل أطول فى فترة وجيزة وهذا غالبا لا يحدث لأن التغيير الناتج عن الحوارات الفكرية هو أشبه بزلزال فكري يغير كل المعتقدات الخاطئة ومنها ما يمس الحكم 
12 - تهيئة المناخ الحر لا يتوقف فقط على الدولة لكن الأهم هو أن يقتنع المتحاورون كما أسلفنا ووضحنا بذلك ويصنعوا بإيمانهم مناخا حرا متبادلا ، لأن العداء الحواري ربما أحيانا أو غالبا أشد تأثيرا على حرية المناخ من تعتيم الدولة أو منعها له
13 - من المهم جدا أن تتعرف كمحاور صاحب فكرة على العقل وحدود العقل وعمل العقل الذى تخاطبه بوجه عام وعلى ما يهم المجتمع الذى تناقش فيه الأفكار وعلى الأفكار التى يحتاجها المجتمع من باب فقه الأولويات وأن تعطى كل مسألة ما تستحقها من الترتيب والأسبقية ومن الإهتمام فليس الوقت الذى تقضيه وبحثك واهتمامك فى الفرائض كبحثك مثلا فى السنن والمندوبات
فمثلا لا تناقش قضايا سطحية تشغل بها الناس وهناك قضايا مصيرية وأساسية 
ولا تشغل الناس أيضا بقضايا هى أصلا خارج نطاق العقل وفوق قدراته كتفاصيل غيبية ، وهل ننسى أننا كأمة أضعنا عقودا وعهودا وقرونا فى مناقشة تفاصيل غيبية لم يأمرنا بها الإسلام كتلك الفرق المستحدثة التى لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعض مناقشات علماء الكلام والتى توهت الأمة فى جدل لا طائل من ورائه لأنها أي تلك التفاصيل خارج نطاق العقل ولن تفيد لا فى العمل ولا فى الإيمان لكننا انشغلنا بها طويلا لو انشغلنا فيما يحتاجه العقل لاختلفت أوضاعنا
فمثلا مسألة استواء الله على العرش التى أخذت من وقت الأمة طويلا ، فلماذ دخلنا فى تفاصيلها وما علينا لو قلنا لله استواء يليق بذاته من باب (ليس كمثله شيء) والصحابة على عهد النبي سمعوا الآيات التى تتحدث عن الاستواء لكنهم أخذوها من باب ليس كمثله شيء وانتهى الأمر ، فلو أنهم قالوا فيها مثل قول العلماء العالمين ( الإستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة ) وانتهى الأمر لوفرنا جهدنا العقلي فى ما هو أهم مما يناسب العقل 
14 - اقناع الناس والمجتمع بهذه النقاط وبالمناخ الصحي لعرض الأفكار والمساعدة فى ذلك بإيمانك به أولا كمحاور لا يقل فى أهميته عن جهدك فى الفكرة الجيدة فهذا المناخ بأسسه ومعالمه يسبق عرض الفكرة 
15 - إذا كان كل ما تقدم أساسيات عامة لمبدأ الحوار فى أي أمة لكننا فى أمتنا يجب أن نراعى عدة نقاط
- منها مراعاة أننا عشنا عدة قرون منعزلين عن المشاركة فى صناعة العالم الحديث وأن كثيرا منها يحتاج أن نصبغه بصبغة ذاتية ونضيف عليه حتى نبدأ المشاركة ولا نكون عالة على العالم
- ومنها أن مناقشة القضايا الدينية التشريعية لابد منه فالدين فى أمتنا يرتبط ارتباطا وثيقا بفكر الأمة شئنا أم أبينا
- ومنها أن خلق مناخ حواري فكري فى مجتمعات بعيدة منذ زمن عن هذا المناخ يحتاج لصبر وجهد 
- ومنها أننا سنجد عقبات تقاوم صناعة هذا المناخ منها عقبات مجتمعية ومنها عقبات سياسية 
- مراعاة الجانب النفسي والمزاجى للفرد العربي وعلاقته بالعادات والتقاليد وتأثير القبلية والعرف عليه
- ومنها أننا يجب أن ننظر لما بعد الحركات الثورية نظرة مختلفة وأن فكرة قيادة التكتلات القديمة للمشهد الفكري غير مناسبة ، بمعنى لو أن تكتلا لديه فكرا ما من الممكن أن يدخل تلك المنافسة ولكن كفكر لا كتكتل له تطلعات ذاتية
- ومنها أن كل صاحب فكر وكل تيار يحمل فكرا عليه أن يؤمن أننا فى مرحلة صناعة فكر عام وأن فكره وفكر تياره يجب أن يكون لبنة فى الفكر العام الذى نتطلع له خاصة بعد فترة الانعزال الطويل عن عالم لم نشارك فى آلياته منذ عقود ، وأن نظرة استحواذ أو امتلاك أي تيار للفكر أو بمعنى أصح أن فكرى وفكر تيارى هو فكر الأمة لا يجب أن يكون خاصة أننا فى مرحلة صناعته وكانت هناك محاولات فردية لم تكتمل
- ومنها أن يعلم المحاور صاحب الفكر مسبقا أنه أمام تحديات كبرى وهو يناقش قضايا مصيرية من قمة الهرم السياسي والإجتماعى حتى قاعدته
- ومنها أننا كأمة نملك أرضية خصبة من الفكر يحتاج أن نكتشفه ونتبين ملامحه ونعيد صياغته بما يتناسب مع عصرنا الحالى
- ومنها وجود الكثير من المصطلحات والمعانى التائهة إما لبعد معناها عن الواقع أو لعدم فهمها وإما لفهم يتجه ناحية اليمين أو اليسار ولعل وسطية المعنى الذى يعنى العمق فى المعنى المراد هى مشكلة كبرى تحتاج لحلها وتهيئة مناخ لها 
- ومنها وجود الكثير من القضايا الفكرية الشائكة المهمة والمعلقة فى انتظار حلها وصياغتها التى تمس جوانب حياتنا سياسيا وإجتماعيا والتى تحتاج لمناقشتها بشكل عاجل لا يحتمل التأخيرولعلها من الأمور التى ربما لن تسير قافلة الإصلاح الفكري إلا بها
- ويفضل أن يكون التوجه جماعيا فى أي شكل كان مؤسسي أو حزبي أو من خلال عمل وحدات صغيرة أو كبيرة لمفكرين كبار ومفكرين شباب ومن الممكن أن يكون توجها لا يربطه إلا الإيمان بالقضية فخطورة المرحلة وأهميتها لن يسعفها الأعمال الفردية المنعزلة التى ستغرق وسط أمواج الجمود والعادات والأفكار السائدة منذ عقود وعقود
16 - وأخيرا لا تقل هذا كلام مثالي لا يناسب الواقع ، عذرا عزيزي فللعقل مثاليته التى لا يعمل بعيدا عنها ، فإن لم تعجبك مثالية العقل فى عمله التى خلقه الله عليها فعش واقعك الذى لم نجن منه إلا التمزق والضياع


بقلم / دكتور أحمد كلحي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ