الاثنين، 30 مايو 2016

المقال الإسبوعي : أعيش لأفكر وأحيا لأحب

أعيش لأفكر وأحيا لأحب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الفقير المعدم الذى يمنى نفسه قطعة خبز وما قل من الإدام حتى ما رخص سعره أو انخفض قيمته ويا حبذا لو تحقق حلمه وشبع يوما بأكلة لحم لذيذ أو طبق من الأطعمة الشهية ، وهذا الغني المترف بغناه ومن يعش فى بحبوحة ورغد من العيش وهو يجلس على مائدة حافلة بما لذ من صنوف الأطعمة والأشربة ، يجوع الأول فيأكل ثم يشبع ، وحينما يجوع الثانى يأكل فيشبع ، كلاهما يشبع وكلاهما يحول الشبع بينهما وبين المزيد من الأكل ، وكلاهما يزهد فى الطعام حينها 
وما يحدث فى الأكل يحدث فى كل احتياجات الجسد وشهواته ، هذه حقيقة وهو لا ريب واقع ، لأن لجميع أعضاء الجسد وأجهزته وظائف محددة خلقت لها تحتاج قدرا محددا من الإمداد لكي تعمل وتؤدى وظائفها ، ومع استمتاعنا اللحظي ساعة إمداد الجسد باحتياجاته سرعان ما نقف عاجزين عن أن نمده بالمزيد لبلوغنا مبلغ الزهد الذى إن لم نلحظ بوادره تحول إلى ملل ورتابة وكراهية 
يا للغرابة ! ما الذى يحدث ؟ أي مفارقة تلك ؟
هذا العالم المحسوس المادي بداخلنا والذى نتصارع من أجله والذى ظننا أننا نعيش له لا يمكننا أن نستمتع بملذاته ومنتهى كدحنا فيه كما نشاء وكما نريد ، بل تأتى لحظة نضطر أن نتوقف فنزهد ونتركه طواعية فى ثوب المضطر 
إن الغني المترف الذى يقبع فى عالمه المادي المحسوس ولا يغادره : طعام وشراب ونساء وقصر مشيد وأمر مطاع وكلمة مسموعة ، حتما ستأتى عليه لحظة بينه وبين نفسه ليسألها لماذا ؟ ثم ماذا بعد ؟
ما أحقر هذه الحياة وما أتعسنى فيها
بالطبع هو إحساس ناتج عن الزهد والملل والرتابة ثم عدم احساسه بنتيجة ملموسة داخله ، ثم عجزه عن الإجابة عن أسئلته التى تحرك ثورته على عالمه المادي الذى يحبسه بين أسواره
وهذا الشاب الذى فتنه جسد ما ظن أنها محبوبته ، وهذه الفتاة التى سحرها عيون ما ظنت أنه حبيبها ، فيكون وتكون بين الناس كلمات عشق لقصة حب ملتهبة ، وبعد معركة مضنية تتهى بالزواج ، تحدث النتيجة المتوقعة الحتمية ، الإنفصال إما بالطلاق وإما إنفصال داخل عش الزوجية الطائر فى مهب الريح 
وساعتها يشاع أن الحب أكبر كذبة ، والحب منهما برئ ، فما جمعهما ليس حبا ينطلق بهما إلى آفاق رحبة واسعة وإنما قبعا بين أسوار عالم مادي ينتهى حتما إلى الملل والجفاء ومن ثم الكراهية وهذا ما حدث
وعلى النقيض احبها وأحبته فقدم لها وردة شكلها جميل يفوح منها العطر ، اختلست من محياه نظرة واكتحلت عيناها بحياء رقيق ، ابتسمت له فابتسم لها ، حنت لعينيه فنظرت إلى وردته ، أراد هو أن تحدثه عن حبها فسمع نبضات قلبها تتصاعد من وردته ، أحست بأمنيته فأرادت أن تجيبه بقبلة حانية وحضن دافئ فشاهدت حروفها وحروفه وهمساتها وهمساته على وريقات وردته الحمراء وذاب قلبها بفؤاده وتطايرا كنسمات ربيعية من عطر وردته القابعة بين أناملها الرقيقة
فى تلك اللحظات المختلسة من عمر الزمن يحسد الكون الوردة وتتفاخر هى أنها لم تعد مجرد وردة فقد أصبحت جزء من معانى الحب وعنوانا له 
بيد أن ما يعجب الوردة ليس فقط تحولها لمعنى للحب الجميل وإنما لشئ أبعد وأغلى ، إذ أنها لم ينظر لها من منظور مادي ينتهى بها إلى أن تصبح منبوذة مكروهة فتلقى بها بعد وقت قصير لسلة المهملات ، بل ما يعجبها أكثر أن الحبيبين نظرا إلى معناها الأسمى والأبعد والأدوم ، ما وراء المادة وما وراء الجسد وما وراء الشهوة ، المعنى الحقيقي والهدف السامي والغاية العظمى
حتى الوردة لها مدلول آخر غير شكلها الجميل ورائحتها العطرة ، وريقات وساق وزهرة وأجزاء نباتية مادية هى فى نظر المحب الذى تخطى بعد مروره مراحل الفكر مرحلة المادة إلى ما وراء المادة ، إلى ما يداعب وجدان المرء وما يعانق الروح
وهذا القمر فى لحظات الحب الرومانسي يتخطى كونه جرما سماويا يشبه الأرض التابع لها ليصبح معنى مختلفا 
يبدو لنا أن حقيقة الحياة هى فى معناها الأسمى الذى يرقى من حيز المادة إلى ما ورائها ، فكرة ونبضة وعناق روحي لا يقتصر عليها فحسب وإنما يتخطاها ليبحث عن معانيها فى المادة ذاتها ليجعلها وسيلة وخطوة نتعمق فيها باحثين عن الأرقى والأسمى والأشمل 
يعيش الإنسان ليفكر ، ثم يحيا ليحب 
وحتى يفكر يحتاج لقدر من العلم الذى هو بمثابة الغذاء للعقل ، فالعلم ليس غاية فى ذاته وإنما هو وسيلة يصل العقل بالفكرة التى تتحول بعد تأكد صحتها إلى حقيقة ومن ثم عقيدة يؤمن بها ويعيش من أجلها 
وهو حينما يعطل خاصية التفكير للفكر الأسمى يجد نفسه مضطرا بدرجة أو بأخرى لأن يستعمل الفكر حتى فى خضم معايشته للمادة ، ثم يا للعجب لا يستطيع أن يبعد نفسه عن تساؤلات عدة تطرحها نفسه عليه حتى وهو فى معتقل المادة 
فى لحظة ما قد يطرح عقلك عليك سؤالين فى كل منها إجابة للآخر 
لماذا الله غيب ؟ ما الحكمة فى ذلك ؟ 
ولماذا أعطانا الله دلائل وجوده وأعطانا العقل الذى يفكر والعلم الذى يغذى العقل ليفكر ؟
إن العلم الذى علمناه والذى ستتعلمه الأجيال اللاحقة ما هو إلا هبة الله لأبينا آدم عليه السلام ( وعلم آدم الأسماء كلها ) فكان العلم لاحقا للخلقة ونفخ الروح وسابقا للتكريم وسجود الملائكة 
هبط آدم بذريته إلى الأرض ومعهم العقل المفكر والعلم المغذى والقلب المتصل بالله اتصالا لا يحتاج سوى الوصول بالعلم والعقل 
هذا كله فى الفكرة الكبرى والغاية العظمى وما ينطبق على الفكرة العظمى ينطبق على معانى الفكر التى ترسم سعادتنا ونحن نعيش المادة ، هذه المادة التى ما هى إلا وسيلة لاكتشاف حقيقتنا وغاية وجودنا التى تعتلى المادة كصورة لا يجب أن تتعداها ، فإن لم نفهم ونعى ذلك بفطرتنا السوية وبعقلنا الرشيد اضطررنا أن نفهمه من خلال عدم وصولنا للسعادة عن طريق حصري للمادة وعن طريق اكتشافنا الصادم فى زوال اللذة التى سرعان ما تنتهى فنعلم ساعتها أن الأكل مثلا وسيلة ومحال أن يكون غاية
فالقاعدة أننا نتعلم ونعرف لنفكر ونفكر لنصل إلى الحقيقة وحينما نصل إلى الحقيقة نتلمس طريق الحب 
فحينما نصل إلى الله كغاية عظمى ننتظر الحب فلا إيمان دون حب ( قل ان كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ) 
وما ينطبق على الغاية العظمى ينطبق على ما دونه فنعيش لنفكر ونحيا لتنبض قلوبنا بالحب 
هذا ملخص الحكاية 
وحينما يلقن الآباء والمعلمون التربية المعلمة تلقينا وتحفيظا فهم يخلقون ببغاوات لا مفكرين مرددين لا متأملين ، وهم بهذا يلبسون لباس الجهل عن غير قصد ، لأنهم يعتقدون أن العلم غاية فى ذاته وليس وسيلة للوصول للغاية ، للوصول للحقيقة عن طريق الفكرة النابعة من عقل مفكر 
وما عاشه المصريون على عهد فرعون نبي الله موسى من تقدم ومدنية ورغد عيش لم يشفع لفرعون أمام القرآن الذى ذمه وانكر صنيعه ، فالقرآن يوضح لنا أن ما يقدمه الحاكم المستبد من تقدم ورغد عيش لا يساوى شيئا أمام استبداده وغلق منارات الكلمة وحرية التفكير التى هى الغاية الأسمى من الحياة 
فالانسان ليس كائنا حيوانيا يأكل ويشرب ويعيش فى قصور كالمراعى ولا تعنيه مصانع وشركات وشوارع وأموال ان هو فقد الوسيلة للوصول إلى الغاية الملحة داخله والتى لن يصل إليها إلا عن طريق الفكر الحر 
عقبات الفكر وعوائق الحب ثلاث
جهل وجمود واستبداد
فالجهل يمنع الفكر باضعاف العقل عن طريق منعه من غذائه
والجمود يمنع تحول العلم داخل العقل لفكرة تظهر الحقيقة وتمنع الغاية 
وأما الإستبداد فهو يمنع العلم ويمنع تحول العلم إلى فكرة ويمنع تحول الفكرة لواقع ويمنع حتى التعبير والإفصاح عنها

كان هذا المقال ضمن سلسلة مقالات مصباح علاء الدين
وللحديث بقية

بقلم : دكتور أحمد كلحي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ