الأحد، 1 يونيو 2014

كيف نفهم مصر ؟ بقلم دكنور أحمد كلحى

كيف نفهم مصر





لكل شعب خصائص يتميز بها عن غيره من الشعوب ومصر كذلك تتميز ببعض الخصائص التى تميزها وتعطيها طابعا خاصا
وهذه الخصائص والميزات يجب على كل من يتطلع إلى حكم مصر أن يعيها جيدا بل إن تلك الخصائص فرضت نفسها حتى على كل من حاول أن يستعمر هذا الوطن من الغزاة
ومن أهم هذه الخصائص فى عجالة ما يلى :
1 - مصر الدولة الوحيدة التى ذكر اسمها فى القرآن الكريم صراحة وهذا مؤشر على أنها كانت أمة واحدة حتى أصبح اسمها علما على المكان وعلى الشعب فى آن واحد وهو يؤشر على أن مصرغير قابلة للتقسيم أو التجزئة وستظل مصر ما دام القرآن يتلى
 يتميز الشعب المصرى بوحدة لحمته وهو غير قابل للتفرقة والفرقة لهذا لا تنجح أى تدابير من شأنها أن تفرق هذا الشعب برغم تنوع سلالاته ورحابة خصائصه الديموغرافية
فالوحدة فى كل الأمم هى أساس وحجر الزاوية للاستمرارية والنهضة بيد أنها فى مصر أضحت حالة مزاجية ونفسية حتى للأفراد ، فالفرد المصرى لا يعرف للإبداع طريقا إن غابت عنه هذه الوحدة ، بل سينعكس حتى على تعامله اليومى مع كل من وما يحيط به
ومن العجيب والغريب الذى يبين مدى أهمية الوحدة لدى الشعب المصرى أن أعتى الطغاة لم يستطع أن ينل من هذه الوحدة حتى فرعون نبى الله موسى رضخ لتلك الوحدة ، لننظر إلى قوله تعالى ( قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى ) سور طه آية 59 ، فهو عندما خيلت له نفسه المتكبرة أن يظهر على نبى الله موسى وعرض عليه المناظرة - ان جاز التعبير - اختار موسى عليه السلام يوم عيد للمصريين وهو يوم الزينة حيث يجتمع الناس ( وأن يحشر الناس ضحى ) فكان تأييد الله لنبيه أمام الجموع المحتشدة حتى آمن سحرة فرعون وأظهروا للناس كفر فرعون وقبح عمله ، الشاهد هنا ان الجمع والحشر واجتماع الناس يوم عيدهم دليل على وحدة هذه الأمة من قديم الزمن ودليل بين على أن سعادته لا تكتمل ولا تظهر بوادرها إلا باحساسه بالوحدة وأن أعياده لا تكتمل إلا بالالتقاء والتواصل المجتمعى ، وكأن هذه الوحدة هى خط أحمر لا يستطيع أعتى الطغاة أن ينال منها وإلا أُسقِط وحورب
2 - يتميز الشعب المصرى فكريا وثقافيا بظاهرة فريدة وهى أنه غير قابل للتشكل الثقافى الخارجى أو الاستجابة لفرض ثقافة مختلفة أيا كان مصدر الثقافة غير أنه فى ذات الوقت يمتص الثقافات الأخرى مع ما يتماشى مع فكره ومزاجه العام أى أنه يبتلع الثقافات ويصبغها بصبغة مصرية لتخرج من رحمه ثقافة مصرية خالصة متنوعة المصادر وهو ما يعطيها صفة الاستمرارية
سأضرب مثالا بسيطا معبرا ، عندما دخل جهاز التليفزيون مصر كانت مصر تقبع تحت الاحتلال الإنجليزى وكان من الطبيعى أن تكون اللغة الإنجليزية لغة سائدة أو على الأقل لغة الصفوة ومع ذلك ظلت اللغة الإنجليزية محتجزة داخل أروقة الحكم ولم تنتشر بين جموع الشعب والمدهش أن الإنسان المصرى حينما أراد أن يسم هذا الجهاز الجديد لم يختر له اسمه الإنجليزى (تليفشن) أو( تليفيجن ) ( Television ) بل اختار الاسم الفرنسى لأنه الأقرب إلى لغته من حيث النطق والمزاج فسماه ( تلفزيون ) ( télévision ) ، وهو تفرد الشخصية المصرية التى تأبى الا ان تفرض نفسها حتى فى أشد لحظاتها ضعفا واستكانة
التنوع الثقافى للثقافة المصرية جعلته حالة فريدة من نوعها سواء بسبب تنوع الاجناس والسلالات أو بسبب موقعها الجغرافى فهى تعتبر ملتقى الثقافات سواء من ناحية الغرب فى مطرح وما يحاذيها وتمتد لثقافات المغرب العربى أو فى الجنوب فى أسوان وبلاد النوبة وحلايب وشلاتين وهى امتداد للسودان والعمق الإفريقى بثقافاته المختلفة أو فى سيناء حيث الامتداد الثقافى لشبه الجزيرة العربية والشام وما وراء النهرين والهند إلى حدود الصين وهى امتداد لعمق الثقافات الحالية والتاريخية لهذه المنطقة الخصبة بثقافات وحضارات رائدة ، ثم أخيرا الحدود الشمالية والبحر الأبيض المتوسط والذى لم تمنع مياهه أن تكون امتدادا للثقافات الأوروبية المختلفة
3 - يتميز الإنسان المصرى فى كثير من الأحيان بلمحة من الغموض التى اكتسبها من طبيعة الحياة وجغرافية المكان لذا صعب على كثير ممن تعامل مع شعب مصر سواء من الغزاة أو حتى ممن ولى حكمها أن يعلم خطواته المستقبلية أو حتى ردة فعله وهى خاصية قد لا يلتفت إليها الباحثون كثيرا مع أن التاريخ يدل عليها
4 - على عكس ما يشاع من أن المصرى يرضخ للذل والعبودية طوعا وهذا على غير الحقيقة فهو حينما يرضخ لذل حاكمه الطاغية انما يكون باختياره ومحض إرادته واحيانا بتلاعب بعض الطفاة باحلامه وعقله كقوله تعالى ( فاستخف قومه فاطاعوه ) لكنه لا يرضخ الا طواعية ويعجز اى طاغية أن يستبد به كرها وجبرا دون اقناع حتى ولو مزيف شريطة كما قلنا أن لا يمس تلك الخطوط الحمراء التى ذكرناها
ويتضح ذلك جليا فى قصة ابن عمرو ابن العاص رضى الله عنه والمصرى
فيذكر ابن عبد الحكم أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال له : يا أمير المؤمنين ، عائذ بك من الظلم. قال : عذت معاذًا ، قال : سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته ، فجعل يضربني بالسوط ، ويقول : أنا ابن الأكرمين
 فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم عليه هو وابنه ، فقدما ، فقال عمر : أين المصري ؟ خذ السوط فاضرب
فجعل يضربه بالسوط ، ويقول عمر :
اضرب ابن الأكرمين ، قال أنس : فضرب فوالله لقد ضربه ونحن نحب ضربه ، فما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه. ثم قال عمر للمصري : ضع على صلعة عمرو فقال: يا أمير المؤمنين ، إنما ابنه الذي ضربني ، وقد اشتفيت منه ، فقال عمر لعمرو : مُذ كَمْ تعبدتم الناس ، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟! قال : يا أمير المؤمنين ، لم أعلم ولم يأتني
لذلك فطن عمرو ابن العاص لطبيعة الشخصية المصرية مبكرا فعقد معهم وثيقة الإسلام التى ينادى بيها وهى مبادئ الإسلام التى أبهرت العالم بعظمتها وسماحتها وحرصها على العدل وكرامة الاسان وكان فى مقدمة الوثيقة :
( بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر ، الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم ، وبرهم وبحرهم ، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص ، ولا يساكنهم النوب ، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح .. )
5 - تفرد موقعها الجغرافى سواء من ناحية الموقع الفريد والذى يتوسط العالم القديم بكل ثقافاته وأجناسه أو من ناحية طبيعتها الجغرافية متعددة الأشكال وبالتاكيد فان جغرافية المكان من حيث الموقع أو الطبيعة لم تعط أهمية لمصر من ناحية القوة والمكانة فقط بل ساهمت أيضا فى صناعة الإنسان المصرى وأعطته زخما وتفردا وقدرة على التعامل مع مختلف الظروف والمواقف
فمن حيث الموقع فهى رمانة الميزان وملتقى الثقافات وواسطة العقد وكأنها بوابة الكون إلى الأرض
ومن حيث الطبيعة فكم من الحيرة تنتابك لتصفها فهى بلد زراعية كانها جنة خضراء ليس بها حبة رمل وهى بلد صحراوية تشعر أنها لا تعرف للخضرة مكانا ، هى واحة حينا وشبه واحة حينا آخر ، هى بلد بدوية كما أنها حضرية ، وهى دولة بر كما أنها دولة بحرية من طراز فريد ، تشعر أنها بلد المتناقضات لكنها فى الحقيقة هى بلد تختصر البلاد فيها
وحقا لقد وافق مفكرنا الراحل جمال حمدان الصواب حينما وصف عبقرية المكان بقوله عن جغرافية مصر (فلتة جغرافية لا تتكرر فى أى ركن من أركان العالم فالمكان ، الجغرافيا كالتاريخ لا يعيد نفسه أو تعيد نفسها ، تلك هى حقيقة عبقريتها الاقليمية)
حينما يسير النيل بين ربوعها فهو يتخطى كونه نهرا ليغدوا فيلسوفا شاعرا على عرش الملك تحوطه الدنيا على ضفتيه وكأن الطبيعة اختصرت الأرض على ضفافه من حدودها الجنوبية حتى المصب
كل تلك الخصائص والعوامل جعلت الانسان المصرى دائم التطلع للأفضل على مستوى الأمة حتى وان رضى لنفسه بالقليل
هلا فهم الساسة والصفوة من المثقفين كيفية التعامل مع هذه الأمة وهذا الشعب ؟
لم يكن مغزى مقالى أن أفضل شعب مصر على غيره من الشعوب فلكل شعب خصائص تميزه عن غيره وإنما كانت محاولة سريعة لمعرفة كيف نفهم مصر وكيف نفهم شعبها لنصل إلى جملة مفادها
من أراد أن يتعامل مع مصر فليعرف من تكون


بقلم : دكتور أحمد كلحى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ