الخميس، 11 أبريل 2013

قسم المقالات : مصاب مصر بقاسم بك أمين بقلم محمد رشيد رضا

مصاب مصر بقاسم بك أمين

يموت كل يوم خلْق كثير , فيخلفهم مثلهم , فتمسي الأمة وتصبح وكأنها لم تفقد
أحدًا . ولكن في الناس أفرادًا امتازوا بالمزايا النادرة في قومهم , فأولئك إذا مات
الواحد منهم يشعر أهل البصيرة من أُمّتهم بأنهم فقدوا من لا يقوم مقامه غيره , ولا
يعمل عمله سواه . ومن هؤلاء الأفراد من فقدته مصر اليوم ألا وهو قاسم بك أمين
القاضي بمحكمة الاستئناف الأهلية , ونائب رئيس إنشاء الجامعة المصرية , ومؤلف
كتابي ( تحرير المرأة ) و ( المرأة الجديدة ) اغتالته المنية فجأةً ( في 21 من
هذا الشهر ) فلم تنذره بمرض ولا سَقَم , بل لم تنذر عقلاء البلاد ليعدوا لهذا
الخطب عُدَّته ، ويأخذوا للمصاب أُهْبَته بتوطين النفس على الصبر ، وتوجيه قواها
إلى الجَلَد والتجلد .
امتاز قاسم بك أمين بمعظم المزايا التي تعوز المصريين في سبيل الحياة
الاستقلالية التي ولوا وجوههم شطرها .
امتاز باستقلال الفكر , وجودة الرأي , وصفاء الذهن , وَسَعَة الخيال , وقوة
الإرادة , والعدل في الحُكْم , والوفاء في الصداقة , والإخلاص للبلاد , وكان مع هذا
من علماء الحقوق والأخلاق والاجتماع والفلسفة العقلية , وقد وجَّه هِمّته في السنين
الأخيرة إلى فرع من فروع هذه العلوم وهو ترقية البيوت ( العائلات ) بتعليم النساء
وتهذيبهن , فلم يكتفِ بكتابيه فيه , بل جعله همه الأكبر إلى أن وافته منيته ولسانه
رطب بذكر تهذيب النساء وتمدينهن , وتمني مشاركة الفتيات المصريات للفتيان في
محافل العلم والأدب . قال ذلك في خُطْبَة فرنسية أَلْقاها في نادي المدارس العليا قبل
وَفَاته بساعة أو ساعتين .
كان قاسم بك أمين يعد في استقلاله وفي الحرص على ترقية بلاده من طبقة
يُعَدّ رجالُها على الأنامل , وهم أصدقاء بعضُهم لبعض ، مات إمامهم وكبيرهم فَكَرَّ
أكثرهم على أثره . مات الأستاذ الإمام فتلاه صديقه علي بك فخري أحد أركان
النهضة الوطنية العاملين في ترقية القضاء والمحاكم الأهلية , فحسن باشا عاصم
المصلح في القضاء وفي المعية وقطب إدارة الجمعية الخيرية الإسلامية , فحسن
باشا عبد الرازق الذي كان في مجلس الشورى هو الثنيان ، بعد البدء الذي هو
الأستاذ الإمام ، وهذا قاسم بك أمين خامسهم فلا غَرْوَ إذا تفاقم بالرزيئة به الخطب ،
وعظم على البلاد الكرب ، فإنه كاد يتحقق به قول الأستاذ الإمام : إن الأمة مصابة
بالعقم وقحط الرجال ، فللأمة أن تتمثل اليوم بقول ابن النبيه :
والموت نقاد على كفه ... جواهر يختار منها الجياد
فقد كنا نقول : إن هذا البيت من الشعريات ، وصرنا نقول اليوم : إنه من
المشاهدات ، ولا ننسى أن مصر فقدت أيضًا في هذه المُدّة القليلة الشيخ أحمد أبا
خطوة نابغة الأزهر ، وإبراهيم بك اللقاني الذي كاد يكون في آخِرِ عُمُرِهِ منسيًّا
لحيلولة المرض بينه وبين العمل , وهو في مقدمة كتاب مصر وخطبائها ومن أركان
النهضة الجمالية الأولى فيها , وكان كلا الرجلين من أصدقاء الأستاذ الإمام أيضًا فيا
لَلَّهِ ما كان أشأم فقده على هذه البلاد , فقد ذكرني بما تتابع بعده من خيار الرجال قتل
عمر بن الخطاب إذ فتح على المسلمين باب الفتنة في السلطة , فقتل بعده عثمان
وعلي ( رضي الله عنهم أجمعين ) .
كمل للأستاذ الإمام قوة الفكر والنظر ، مع القدرة والمرانة على القول والعمل ،
وكان حسن عاصم أقوى في العمل منه ( أي : من نفسه ) في القول والنظر ، وأما
قاسم أمين فكان نظريًّا ، أكثر مما كان عمليًّا ، فكان يسبح في بَحْرٍ لُِجِّيٍّ من الفكر ،
ويطير في جو واسع من الخيال ، فيؤلف بين الحكم العقلية ، وبين التخيلات
الشعرية ، فلهذا كان لمكتوبة من التأثير وقوة الجاذبية ، ما جعله في مقدمة كتاب
العربية ، على قِلّة اشتغاله بفنونها ، وتحصيله لها ، وما ذاك إلا أن كلامه يشبهه في
كون روحه أكبر من جسمه ، ومعناه يفيض الجمال على صورته ، حتى كاد يكون
فكرًا مجردًا ، أو خيالاً متوهمًا .
كان قاسم من الهائمين في رياض الجمال المعنوي , فكان ذلك يرفعه أحيانًا عن
عالم المادّة وما فيه النَّصَب واللُّغُوب والمصائب في المال والوَلَد والصديق , فيهون
عليه ما أصابه من ذلك , ويفيض عليه الجَلَد والصبر ، ويخيل لي أن لو طال عُمُرُهُ ،
وقلّ عَمَلُه ، واستراح بالُه ، لانتهى أمْرُه بفلسفة عالية تظهر على لسانه ، وتفيض
من قلمه ، فتروي أرض مصر بالحكم الجليلة ، في غلائل من الشعريات الجميلة ،
وناهيك بما في اجتماع الحكمة والشعر ، من تربية الشعور والفكر .
على أن ما في هذه الطريقة من الخطأ في الحكم قد يعسر انتزاعه ممن تمكن
فيه , فإن الفكر يتحد فيه مع الوجدان ، اتحادًا يقل أن يفيد معه البرهان ، لذلك كان
لقاسم آراء في فلسفة الأديان ، ومستقبل الإنسان ، تعد عند المنطقي من الخيالات ،
وهو يراها من الحدسيات أو الوجدانيات .
كان فقيد مصر اليوم من أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية الأولين , ولكن
خدمته لها كانت بالرأي لا بالعمل ، أما العمل الذي كان يتوق إليه ، ويتمنى لو يتيسر
له ، فهو أن يؤسس ولو بماله - إن وجد المال - مدرسة لتربية البنات المصريات
على ما يحب ويرى أنه يرقي هذه البلاد .
كان قاسم كَنْزًا مخفيًّا لا يعرفه إلا أصدقاؤه , وكان أول شيء عُرِفَ به في
عالم الأدب ردُّه على الدُّوق دركور فيما كتبه مِن الانتقاد على البيوت بمصر لا سِيَّمَا
مسألة الحجاب وسوء حال النساء المسلمات . كتب الدُّوق في ذلك كتابًا باللغة
الفرنسية , فردّ عليه قاسم باللغة الفرنسية , وقد ذكر لنا غير واحد أن عبارته في
رده كانت كعبارة كُتّاب فرنسا البلغاء . وكان قلمه في ذلك الرد يتدفق غيرةً وحماسةً ,
وقد بين فيه ما للحجاب من الفائدة , وشنع على ما في أوروبا من التبذل والتهتك
وتجارة الأعراض .
وأخبرني قاسم أنه كان يومَ اطلع على ما كتبه الدُّوق دركور غافلاً عن حال
النساء بمصر , فآلمه ذلك النقد والتشنيع , فاندفع إلى الرد بوجدان الغيرة وبعد أن
شفى غيظَه ، وأرضى غيرتَه بذلك عاد إلى نفسه وفكّر في الأمر , فرأى أن كثيرًا
من العيوب التي عاب الدُّوق بها البيوت المصرية صحيح في نفسه , فبعثه ذلك
إلى درس هذه المسألة قائلا في نفسه : إنه لا ينفعنا إذا كان العيب فينا أن نرد على
مَن يعيبنا ونبحث عن عيوب قومه , وإنما يجب علينا أن نبحث عن عيبنا ,
فنعرِفه ونسعى في إزالته .
وطَفِقَ يبحثُ ويسأل ويفكر في حال البيوت بمصر , ويقرأ ما كتب الإفرنج
في شأن النساء , وانتهى به البحث والتنقيب إلى تصنيف ( كتاب تحرير المرأة )
الذي هَزّ مصر هزةً شديدةً , وشغل جرائدها في تقريظه ونقده زمنًا طويلاً , وبعث
همة غير واحد من حملة العمائم والطرابيش جميعًا إلى التصنيف في الردّ عليه ,
وبذلك طارَ صيت قاسم بك أمين في الآفاق وعُرِفَ اسمُه في الشرق والغرب , وعُدَّ
من المصلحين الاجتماعيين .
ثم ألف كتابه ( المرأة الجديدة ) لتعزيز رأيه , وتفنيد آراء خصومه , فكان
دون كتاب تحرير المرأة مادةً وفائدةً وتحريرًا وتأثيرًا على أنه فوقه صراحةً في
المقصد وحريةً في القول المخالف لرأي الجمهور وميله .
وقد تولى في السنتين الأخيرتين من عُمُرِهِ الاشتغال بتأسيس ( الجامعة
المصرية ) فلم يدخر وسعًا ، ولم يأْلُ جهدًا ، وكان مَناطَ الأمل في إنجاح هذا
العمل ، وأي مصاب ترزأ به البلاد أشد من فقد رجالها عندما يتم استعدادهم ، ويكمل
رشادهم ، وتعرف الناس قيمتهم ، ويشرعون في الأعمال الكبيرة التي يرجى
نهوضهم بها ، وينتظر نجاحهم فيها ؟ فهذا ما ضاعف الحزن على فقيد مصر اليوم .
حزن العقلاء على قاسم لذاته , وما تحلّتْ به ذاته من المزايا العالية ،
وضاعف حزنهم عليه أن كان مصاب البلاد به قريب العهد بمصابها بأصدقائه من
رجال الاستقلال ، وما يرقي الأمة من الأعمال ، وضاعفه مرةً أخرى أن كان في
الوقت الذي بدأ فيه بعمل عظيم ، وأنشأت النابتة تعرف من فضله ما يعرف الكهول
والشيوخ من أهل المعرفة والفضل .
يموت الرجل فيبكيه الأهل ويندبه النساء , ولكن قاسمًا أبكى عظماء الرجال
وأقدرهم على التجلد والاحتمال ، وندبه مثل سعد باشا زغلول و فتحي باشا زغلول ,
وإنما أرادا أن يؤبناه , فكان تأبينهما ندبًا وتعدادًا ، وبكاء ونشيجًا ، أبكى معهما جميع
من بلغ القبر من المشيعين ، وذلك ما لم يعهد لسواه من الميتين .
وجملة القول فيه أنه يصدق عليه ما قاله هو في تأبين الأستاذ الإمام من أنه لا
يوجد في الأمة من يملأ الفراغ الذي كان يشغله ، فرحمه الله تعالى رحمةً واسعةً ,
وأحسن عزاء أهله وأصدقائه ووطنه فيه .