الخميس، 11 أبريل 2013

قسم المقالات : خديجة أم المؤمنين (2) بقلم عبد الحميد الزهراوى

خديجة أم المؤمنين (2)


الفصل الرابع
( مقام النساء في قوم خديجة )
تلك كانت أحوال قوم خديجة في نظام اجتماعهم ذلك , ولم يكن مقام المرأة فيهم
مقامًا مهينًا ، بل كان لها لديهم مقام كريم ، وجلّ ما عرف عنهم من انحطاط مقام
المرأة أنهم كانوا يكرهون البنات , وأنهم كانوا يَئِدونهن ؛ أي : يدفنونهن في التراب
وهنّ على الحياة { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًا وَهُوَ كَظِيمٌ *
يَتَوَارَى مِنَ القَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ
مَا يَحْكُمُونَ } ( النحل : 58-59 ) .
هذا ما عُرِفَ عنهم ومَن أخذ هذا الأمر على ظاهره وإطلاقه يستخف بهؤلاء
القوم ؛ لأن انحطاط قيمة المرأة ومقامها عندهم دليلٌ على انحطاطهم , ولكن أخذ
الأمر على ظاهره وإطلاقه ليس من شأن الذين يحبّون معرفة الحقائق .
إن كل بلد فيها الفقراء وذَوُو اليسار ، وفيها الحمقى وأُولُو الألباب ، وفيها القساة
وأهل المَرْحَمَة . فليس من العقل ولا العدل أن يجعل عمل بعض الحمقى أو القساة
أو الفقراء في بلد مثالاً ومرآةً لأعمال مجموع أهل البلد .
كان في مكة فقراءُ وحَمْقى وقساة كما هو الحال في سائر البلاد , وكان أناس
قليلون من هذه الأصناف يأتون هذا العمل الفظيع ؛ نَعْنِي الوأْدَ ( دَفْنُ البنات في
الحياة في سِنّ الطفولة ) فلا ينبغي أن يُقال بدون تقييد : إن القوم الذين نشأَتْ منهم
سيدتنا هذه كانوا يَئِدون البنات .
إن قومًا نبغَتْ فيهم مثل هذه السيدة لا يُعقل أن يكونوا قَتَلَةَ بناتٍ ؛ كَلاَّ إنهم لم
يكونوا يقتلون الأجساد ، ولم يكونوا يقتلون منهن العقول والإرادات ، وأما الذي
نقل عنهم فهو عَمَل نَفَرٍ يكادون لا يُذكرون من فقرائهم أو حمقاهم أو قساتهم .
ولم يكن الذين يئدون بناتهم يأتون هذا العمل الفظيع تغيظًا من هذه النسمات
البريئة , أو احتقارًا لجنس المرأة كما يلوح لأول وهْلَة , بل كان يسوقهم إلى ذلك
فساد في الخيال وضعف عظيم في الطبيعة . وإن الخيال الفاسد ليزين المنكر حتى
يظنه صاحبه من المعروف ؛ كما يشاهد كل واحد منا كثيرًا .
كان منهم فقراء يزين لهم خيالُهم الفاسد أن فتاتهم إذا ظلّتْ في ميدان الحياة
ربما نالها ضيْم من فقرهم , وربما عجزوا عن أن يكرمنهن بنفقة تساويهن بأَتْرَابهن
من ذوي قرباهن أو جوارهن ، فيرون مواراتهن في التراب خيرًا لهن من بقائهن
دون الأتراب .
لا نكرانَ للحق أن هذا لَخيالٌ باطل , ولا سِيَّمَا عند المؤمنين , ولكن هذا
الخيال الباطل لم يوحِ إلى صاحبه أن الفتاة شجرة خبيثة يجب اجتثاثها قبل النمو ,
ويستحسن حرمان الوجود من ثمراتها , وإنما زيّن له سوء عمله هذا من طريق
أخرى هي كرامة فتاته .
يتخيل ذلك المسكين أن فتاته إن عاشت تعيش مثله في غصص تذيب الفؤاد ,
ولو قدَّ من الجلمود ، وكرب تسود الوجوه البيض , وتبيض الشعور السود ، فيزين
له خيالُه أن يحمي كريمته فِلْذَةَ كَبِدِهِ مِن مثل هذه الحياة التي بلاها فقلاها , وأن يتقي
بألم ساعة عند توديعها وتسليمها إلى الأبد آلام سنين يراها فيها كثيرة النصب قليلة
النصيب , كما يتقي أحدهم بألم الكي آلام سقم مزمن .
وكان منهم حمقى توسوس لهم شياطينُ الخواطر بأن الفتاة ربما وقعتْ في يد
من لا يرعى له ولها حُرْمَة . ولو قضي على كل البشر بمثل هذه الوساوس لآذنت
الدنيا بالانقضاء , ولكن الموجد لم يشأ إلا أن تكون الدنيا على هذا النمط من
الاستمرار , فلذلك لم يوجد لهذه الوساوس سلطانًا على قلوب البشر إلا قليلاً ممن
بلغنا شيء عنهم من هذا القبيل .
ساء ما يزين لهؤلاء الفقراء والحمقى الذين كبر نصيبهم من القسوة مع نصيبهم
من الفقر والحمق , فلو علم المعدم أن اليسار ليس محتكرًا في بيوت معينة وأشخاص
مختصة , وإنما يتاح للعاملين المحسنين مع الظروف المناسبة ، وأن قيمة كل امرئ
ما يحسنه ، وأن ليس عليه إلا أن يعمل بالمعروف عند قومه ، ويصبر قليلاً حتى يتاح
له ما يقوم به شأنه ، لَمَا سهلَ عليه أن يقصف بيديه غصنًا منه أنبته الله , ولا لذة
أكبر من تربيته وتنميته .
ولو علم الأحمق أن الفرار من توهم العدو نهاية الجبن وغاية الخذلان ، ويثمر
أقصى درجات الخسران لَرَأَى أنه جدير بالبكاء على حظه من ضعف النفس .
وهيهاتَ أن يكون قوم ( خديجة ) على هذا النمط من ضعف النفوس , وهم
المعروفون بالشجاعة والإقدام . وأَيُّ قوم تطيب لهم الحياة إذا كانوا لا يرون سلامة
حرمهم إلا بإفنائها ؟ وأَنَّى يجد الشخص الطمأنينة إذا كان دأبه الهرب ، من غير ما
طلب ؟
أَمّا إنهم كانوا يكرهون البنات إذا بُشِّرَ أحدُهم بها فلا يستطيع أحدٌ إنكارَه ؛ لأن
القرآن المجيد هو الذي سجّلَ هذه الحقيقة التاريخية , وقد سرى هذا إلى نفوسهم من
شدة احتياجهم إلى البنين الذين سيكونون المدافعين في ذلك المجتمع القائم بنفسه قيامَ
المجتمعات الكبيرة .
وليس معناه أن البنت تظلّ طول دهرها مكروهةً , أو أن النساء لا قيمةَ
لهن ولا قَدْرَ عند أولئك القوم . ما ذنْب القوم إذا كان نَفَر من فقرائهم وحمقاهم
قد ضعف نفوسهم , فاستسلموا إلى الاستراحة مما يلذ للكرام التعب فيه ؟ وما إجرامهم
إلى الإنسانية من بعْدِ أن يقوم أمجادُهم بافتداء كثير من الفتيات اللاتي تصدى
آباؤهن لِوَأْدِهِن من الفقر ؟
إن العرب كافّةً وقريشًا خاصّةً كانوا يعزّون المرأة ولا يهينونها , وقد أَعْطَوُا
النساءَ كلَّ ما لهن من الحقوق في نظر العدل , ولم يَنْسَوْا أن المرأة كالرجل هي
إنسان يحمل دماغًا فيه إدراك , وأن لهذا الإنسان المؤنث نفسًا كنفس ذلك الإنسان
المذكر تغضب وترضى وتنعم وتشقى , فأعطَوْا دماغها ونفسها حقيْهِما .
وقد رَوَوْا لنا أن هندًا بنت عتبة وهي من قوم سيدتنا ( خديجة ) جاءها أبوها
يشاورها في رجلين من قومها رغبَا الزواجَ بِها , فقالت : صِفْهُمَا لي , فقال : ( أما
أحدهما ففي ثروة وَسَعَة من العيش , إنْ تابعتيه تابعكِ ، وإن ملتِ عنه حطّ إليكِ ،
تحكمين عليه في أهله وماله ، وأما الآخر فموسع عليه منظور إليه ، في الحَسَب
الحسيب ، والرأي الأريب ، مدره أرومته ، وعز عشيرته ، شديد الغيرة ، لا ينام
على ضَعَة ، ولا يرفع عصاه عن أهله ) [1] فقالت : يا أبتِ الأول سيِّد مضياع
للحرة , فما عست أن تلين بعد إبائها ، وتضيع تحت جَنَاحه إذا تابعها بعلها فأشِرَتْ ،
وخافها أهلها فأمنت ، فساء عند ذلك حالها ، وقبح عند ذلك دلالها ، فإن جاءت
بولد أحمقت ، وإن أنجبت فعن خطأ ما أنجبت ، فاطوِ ذكر هذا عَنّي ولا تسمه عليّ
بعدُ .
وأما الآخر فبعل الفتاة الخريدة ، الحرة العفيفة ، وإني لأَخْلاقِ مثل هذا
لموافقة ؛ فزوجنيه , فزوجها الثاني , وكان هو أبا سفيان بن حرب فولدت منه
معاوية مؤسس دولة بني أمية الشهيرة , وأحد نجباء العرب ودواهيهم .
فهكذا كان مقام المرأة في قوم سيدتنا ( خديجة ) لا يفتات أهلها عليها في حقها ,
وهكذا كان رأي ذوات الحِجَى والزكانة منهنَّ .
ولقد كان كثير من نساء العرب يشاركن في السياسة والأمور العمومية . وناهيك
أن الحرب التي ظلت مستعرة نحوًا من أربعين سنةً بين بني ذُِبيان و بني عبس لم
يتفكر في إطفاء نارها إلا امرأةٌ , ولم تتمكن من إطفائها إلا بِما لها من المكانة ,
وحسن الرأي , وذلك أن بيهسة بنت أوس بن حارثة بن لام الطائي لما زوجها أبوها
من الحارث بن عوف المرِّيّ ، وأراد أن يدخل عليها قالت : أتتفرغ للنساء والعربُ
يقتُل بعضُها بعضًا ؟ تَعْنِي بني عبس وبني ذبيان . فقال لها : ماذا تقولين ؟ قالت :
( اخرج إلى هؤلاء القوم فأَصْلِحْ بينهم , ثم ارجعْ إليّ ) فخرج وعرض الأمر
لخارجه بن سنان , فاستحسنَ ذلك وقاما كلاهما بهذا الأمر , فمشيا بالصلح , ودفعا
الدِّيات من أموالهم , وحَسْبك مَنِ اشتهرْن مِن العربيات في السياسة منهن اللاَّتِي كُن
من شيعة الإمام علي أيام مناصبة معاوية كسودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية ،
وبكارة الهلالية ، والزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية ، وأم سنان بنت جشمة بن
خرشة المذحجية ، وعكرمة بنت الأطرش بن رواحة ، ودارمية الحجونية ، وأم الخير
بنت الحريش بنت سراقة البارقي . وأروى بنت الحارث بن عبد المطلب
الهاشمية .
وفدتْ سودة على معاوية بعد موت علي , فاستأذنتْ عليه , فأذن لها فَلَمّا دخلت
عليه سلمت سودة , فقال لها : كيف أنت يا ابنة الأشتر ؟ قالت : بخير يا أمير
المؤمنين . قال لها : أنت القائلة لأخيك :
شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة ... يوم الطعان وملتقى الأقران
وانصر عليًّا و الحسين ورهطه ... واقصد لهند وابنها بهوان
إن الإمام أخا النبي محمد [2] ... علم الهدى ومنارة الإيمان
فقُد الجيوش وسِر أمام لوائه ... قدمًا بأبيض صارم و سنان
قالت : ( يا أمير المؤمنين , مات الرأس ، وبتر الذنب ، فدع عنك تذكار ما قد
نسي ) فقال : ( هيهات , ليس مثل مقام أخيك ينسى ) . قالت : صدقْتَ والله يا
أمير المؤمنين , ما كان أخي خفي المقام ، ذليل المكان ، ولكن كما قالت الخنساء :
وإن صخرًا لتأتمُّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
وبالله أسألك يا أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيته . قال : قد فعلت فقولي
حاجتك . فقالت : يا أمير المؤمنين ( إنك للناس سيّد ، ولأمورهم مقلد ، والله
سائلك عما افترض عليك من حقنا ، ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك ، ويبسط
بسلطانك ، فيحصدنا حصاد السنبل ، ويدوسنا دياس البقر ، ويسومنا الخسيسة ،
ويسألنا الجليلة ، هذا ابن أرطاة قدم بلادي ، وقتل رجالي ، وأخذ مالي ، ولولا
الطاعةُ لَكَان فينا عز ومَنْعَة ، فإمَّا عزلتَه فشكرناك ، وإمّا لا فعرفناك ) فقال
معاوية : ( إيايَ تهددين بقومك , والله لقد هممتُ أن أردَّكِ إليه على قِتْب أشرس ,
فينفذ حكمه فيك ) فسكتَتْ , ثم قالت :
صلى الإله على روح تضمنه ... قبر فأصبح فيه العدل مدفونًا
قد حالف الحق لا يبغي به ثمنًا ... فصار بالحق والإيمان مقرونًا
قال : ومَن ذلك؟ قالت : علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى ، قال : ما أرى
عليك منه أثرًا . قالت : بلى , أتيته يومًا في رجل ولاّه صدقاتنا , فكان بيننا وبينه
ما بين الغث والسمين , فوجدته قائمًا , فانفتل من الصلاة , ثم قال برأفةٍ وتعطفٍ :
ألكِ حاجةٌ ؟ فأخبرته خبر الرجل , فبكى , ثم رفع يديه إلى السماء , فقال : ( اللهم ,
إني لم آمُرْهم بِظُلْم خلقك ، ولا ترْكِ حقِّك ) ثم أخرج من جيبه قطعةً من جراب ,
فكتب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم
{ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } ( يونس : 57 ) { فَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } ( الأعراف : 85 ) { وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } ( البقرة : 60 ) { بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ } ( هود :
86 ) إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك حتى يأتي مَنْ يقبضه منك , والسلامُ ) .
قال معاوية : اكتبوا لها بالإنصاف لها والعدل عليها . فقالت : ( ألي خاصَّةً أم
لقومي عامّةً ؟ ) فقال : ( ما أنت وغيرك ) . قالت : ( هي والله الفحشاء واللؤم , إن
كان عدلاً شاملاً , وإلاّ يسعني ما يسع قومي ) . قال : ( اكتبوا لها بحاجتها ) .
ووفدت بكارة الهلالية أيضًا على معاوية بعد موت علي , فدخلت عليه , وكان
بحضرته عمرو بن العاص ومروان وسعيد بن العاصي , فجعلوا يذكرونه بأقوالها
التي قالتها في مشايعة علي ومعاداة معاوية , فقالت : ( أنا والله قائلة ما قالوا , وما
خفي عنك مني أكثر ) فضحك , وقال : ليس يمنعنا ذلك من برك .
وكتب معاوية إلى عامله بالكوفة أن يوفد إليه الزرقاء ابنة عدي بن قيس
الهمدانية مع ثقة من ذوي محارمها وعِدّة من فرسان قومها , وأن يوسع لها في النفقة ,
فلما وفدت على معاوية قال : مرحبًا , قدمت خير مقدم قدمه وافد كيف حالك ؟
فقالت : بخير يا أمير المؤمنين . ثم قال لها : ألستِ الراكبة الجمل الأحمر , والواقفة
بين الصفين تحضين على القتال , وتوقدين الحرب , فما حملكِ على ذلك ؟ قالت :
يا أمير المؤمنين ( مات الرأس وبتر الذَّنَب ، ولا يعود ما ذهب ، والدهر ذو غِيَر ،
ومن تفكر أبصر ، والأمر يحدث بعده الأمر ) قال لها : أتحفظين كلامك يومئذ ؟
قالت : ( لا , والله لا أحفظه ) قال : لكني أحفظه ؛ وَتَلاَ عليها خُطْبة من خطبها
التي هي في منتهى البلاغة , ثم قال لها : والله يا زرقاء لقد شركت عليًّا في كل دم
سفكه . قالت : ( أحسن الله شارتك , وأدام سلامتك ، فمثلك يبشر بخير , ويسر
جليسه ) قال : ( أوَيَسرك ذلك ؟ ) قالت : ( نعم , والله ) فقال : ( والله , لوفاؤكم له
بعد موته ، أعجب من حبكم له في حياته ، اذكري حاجتك ) فقالت : يا أمير
المؤمنين , آليتُ على نفسي أن لا أسأل أميرًا أَعَنْتُ عليه أبدًا . ومثلك من
أعطى من غير مسألة وجاد عن غير طلبة . قال : صدقْتِ . وأمَرَ لها وللذين جاءوا
معها بجوائزَ .
ووفدت عليه أيضًا أم سنان بنت جشمة ، و عكرشة بنت الأطرش ، ولما حجّ
سأل عن دارمية الحجونية , فجيء بها إليه , فقال لها : ( بعثتُ إليكِ لأسألك عَلاَمَ
أحببتِ عليًّا وأبغضتني ، وواليته وعاديتني ؟ فاستعفته فلم يفعل . فقالت له أحببت
عليًّا على عدْلِه في الرعية ، وقسمه بالسوية ، وأبغضتك على قتال مَن هو
أولى منك بالأمر ، وطلبتك ما ليس لك بالحق ، وواليت عليًّا على حبه المساكين ،
وإعظامه لأهل الدين ، وعاديتك على سفكك الدماء ، وجورك في القضاء ، وحكمك
بالهوى ) ثم قال لها : يا هذه , هل رأيت عليًّا ؟ قالت ( أي , والله ) قال : فكيف
رأيته ؟ قالت : ( رأيته والله لم يفتنه المُلك الذي فتنك , ولم تشغله النعمة التي
شغلتك ) قال : فهل سمعتِ كلامه ؟ قالت : ( نَعَم والله ، فكان يجلو القلوب من
العمى كما يجلو الزيت صدأ الطست ) . قال : صدقْتِ , فهل لك من حاجةٍ ؟
( قالت : ) نعم , تعطيني مائة ناقة حمراء ( قال : ماذا تصنعين بها ؟ ) قالت :
( أغذو بألبانها الصغار ، وأستحيي بها الكبار ، وأكتسب بها المكارم ، وأصلح
بها بين العشائر ) قال : فإنْ أعطيتك ذلك , فهل أحل عندك محل علي بن أبي
طالب ؟ قالت ( سبحانَ الله , أوْ دونه ) فقال : ( أما والله , لو كان عليٌّ حيًّا ما
أعطاك منها شيئًا ) قالت : لا والله ولا وبرةً واحدةً من مال المسلمين .
وكذلك وفدت عليه أم الخير بنت حريش من الكوفة , ووفدت عليه أروى
بنت الحارث , وجرى لهما معه حديث من مثل ما تقدم .
فهكذا كان مقام المرأة العربية من أخوات سيدتنا القرشية . وهكذا كان حظهن
من الفصاحة والحصافة ، ومبلغهن من المشاركة في الأمور العمومية , والأخذ
بالأسباب ، والمشايعة لبعض الأحزاب ، وما أَتَيْنَا إلا باليسير توطِئَةً لمعرفة مقام
السيدة خديجة في قومها .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كناية عن اليقظة .
(2) أخوة الدين .