السنن والأحاديث النبوية ( بحث النسخ )
قال حضرة الدكتور : ( النسخ هو إبطالُ حُكْمٍ لبدل أو لغير بدل ) .
وأقول : ما ذكره من تعريف النسخ غير كافٍ ولا وافٍ ؛ فإنه غير جامعٍ ,
ولا مانعٍ , ولا نطيل بالمناقشة فيما يتعلق بالعبارة ؛ إذ مراده بذلك الكلام على النسخ
المعروف عند المسلمين , وهو صريح في اختياره النسخ بمعناه عند المتأخرين - أمّا
هو في عُرْف السَّلَف , فهو زيادة على ما ذكره يعم رفع دِلالة العامّ , والمطلق ,
والظاهر ؛ إمّا بتخصيص أو تقييد أو حمل على مقيد وتفسيره وتبيينه .
قال شيخ الإسلام ابن القيم - رحمه الله - : حتى إنهم ليسمون الاستثناء والشرط
والصفة نسخًا ؛ لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد ؛ فالنسخ عندهم وفي
لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ , بل بأمر خارج عنه , وبذلك تزول إشكالات
أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر - انتهى ملخصًا -
وهل الإنساء والنسخ شيء واحد أم هما شيئان ؟
ذهب بعض السلف إلى الأول , والظاهر أنه أَعَمُّ من النسخ , أمّا على قول مَن
قال : إن معناه التأخير والإرجاء . فهو قبل نزوله وأوان ظهوره للتكليف لا يوصف
بنسخ ولا عدمه .
واعلم أيها القارئ أنه يتفرع على النسخ بمعناه عند الخلف خلاف بينهم , هل
يجوز نسخه بالآحاد الصحيحة , أم ببعضها دون البعض ؟ أما السلف : فلا نعلم
عنهم خلافًا في جوازه .
قال حضرة الدكتور : فالنسخ عندنا لا يقع إلا في الأحكام ( الأوامر والنواهي )
ولا يقع في القصص أو القضايا العقلية ؛ إذ لا معنى لوقوعه في ذلك .
وأقول : إذا سلمنا أن معنى النسخ هو ما ذكره المتأخرون حيثُ قالوا في
تعريفه : ( هو أن يدل على خلاف حكم شرعي دليل شرعي متراخٍ ) فلا شَكَّ أن
المنسوخ لا يجوز أن يكون من الإخبار عن الأمور الماضية أو الواقعة في الحال أو
الاستقبال ؛ مما يؤدي نسخه إلى كذب أو جهل - بخلاف الإخبار عن حل الشيء أو
حرمته ونحوها ؛ فإنه يجوز النسخ في هذا الأخير , وكذلك القضايا العقلية لا يجوز
النسخ فيها لإفضاء ذلك إلى الجهل , وكذلك إذا قَيَّدَ نصًا بتأييد أو توقيت فلا يجوز
نسخه لاستحالة العبث والجهالة .
أما إذا فسر النسخ بمعناه عند السلف فلا مانع من وقوعه في كل ما ذكرناه ؛
لأنهم لم يشترطوا في الناسخ منافاة المنسوخ . ودونك ما ذكر الحافظ ابن كثير في
تفسيره عنهم بعد قوله تعالى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ( البقرة : 106 ) قال ابن أبي طلحة , عن ابن عباس رضي الله عنه { مَا نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ } ( البقرة : 106 ) قال ابن جريج , عن مجاهد : ما نمحو من آية , وقال
ابن أبي نجيح عن مجاهد : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } ( البقرة : 106 ) . قال : نثبت
خطها ونؤيد حكمها . حدَّث به عن أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه . وقال ابن
أبي حاتم : وروي عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي نحو ذلك , وقال
الضحاك : ما ننسخ من آية , ما ننسك . وقال عطاء : أما ما ننسخ , فما نترك من
القرآن وقال ابن أبي حاتم : يعني ترك , فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال السُّدِّيّ : ما ننسخ من آية نسخها : قبضها . قال ابن أبي حاتم : يَعْنِي قبضها
رفعها مثل قوله : ( الشيخ والشيخة إذا زنيَا فارجموهما ألبتة ) وقوله : ( لو كان
لابن آدم واديانِ من ذهب لاَبْتَغَى لهما ثالثًا ) وذكر عن ابن جرير ما مؤداه اختيار
مذهب المتأخرين في تفسير معنى النسخ , وأنت ترى بُعْدًا بين ما فهموه وما فهمه
المتأخرون إلا ما نُقل عن أصحاب عبد الله بن مسعود ، لكنه محمول على ما هو
معروف عن السلف من أنهم كثيرًا ما يفسرون الشيء ببعض معانيه نظرًا لِحال
السامع تارةً , ولما يقتضيه المقام تارةً , ولظهوره في باقي معانيه الأخرى , ولم
يكونوا ليحدوا الأشياء بالحدود والتعاريف التي اصطلح عليها المتأخرون , فإذا كان
النسخ عندهم مفسرًا بالرفع والقبض الذي هو أعمُّ عند المتأخرين فالله جَلَّ شَأْنُهُ ينزل
على رسوله صلى الله عليه وسلم الأحكام في جميع أنواع الموضوعات والقصص
والأخبار للإذعان والاعتبار , وردًّا على المعاندين الكفار , فإذا قامت الحُجّة ,
وحصل لرسوله صلى الله علية وسلم الفَلْج وعليهم الغَلَبَة , فالعقل لا يوجب إبقاء
الحُجة مسطورةً مكتوبةً , كما أنه لا يجب ولا يلزم حبس وإبقاء الجيش العظيم على
البلد بعد فتحها , وكما أن الأحكام تختلف باختلاف حال المكلفين ، كذلك التعاليم
الأخلاقية ونحوها تختلف باختلاف أحوالهم أيضًا - فإذا أنزلَ الله على رسوله صلى
الله عليه وسلم ما شاء من أخبار أو غيرها لمقتض ولمصلحة , ثم رفعها على ما لها
من الإجلال فائزة بالنصر , وقهر الأعداء غير منقوضة بريب أو تكذيب لا سِيَّمَا
إذا أحل وأنزل بدلها ما هو أنسب وخير منها لنا , فيا تُرَى أي جهل وعبث يلزم ؟!
فسبحان ربك رب العزَّة عما يصفون .
ثم قال حضرة الدكتور : فلسنا ممن يسلم القول بنسخ لفظ بلفظ كما يتوهمون
أو بنسخ لفظ وإبقاء حكمه كما يزعمون . واستدل على ذلك باستلزامه الجهل أو
العبث .
وأقول : هذا الاستبعاد من حضرة الدكتور منشؤه عدم الإمعان في معاني
القرآن ؛ لأن الله جَلَّ شَأْنُهُ وعظم سلطانه ذو الكمال وخالق الكمال النسبي , وكلتا
يديه يمين فهو يعبر لرسوله صلى الله عليه وسلم عن شئونه بما شاء مما هو كافٍ
في إعجاز مخلوقه القاصر والمعاند الكافر , ولا محذور في أن يرفع عبارة ( قد
اعتبروا ) بمدلولها ثم يكررها ثانيًا لمقتض في قالب عبارة وألفاظ أكمل من الأولى ,
أو أنسب بالحال منها فإنه ما من كمال نراه إلا وعند الله أكمل منه , والكل بالنسبة
إلينا معجز وكمال كما قال تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } ( البقرة : 106 ) .
ومما يوضح ذلك ويقربه ما هو في المُحْكَم بين دَفَّتَيِ المُصْحَفِ مِن ذِكْر القصة
الواحدة في مواضعَ متعددةٍ بألفاظٍ وعبارات متغايرة لفظًا متحدةً مَعْنًى , وقد تراها
بزيادة ونفص , وما ذلك إلا لاختلاف ما يقتضيه الحال لسوقها في الاستشهاد بها
ولاختلاف أحوال المتلقين عن رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن منهم من يميل إلى
التطويل وحفظه , ومنهم من يميل إلى الاقتصار على الاختصار إما لعدم الفرص أو
غير ذلك - فإذا حسن ذكر القصة الواحدة بعبارات وألفاظ متغايرة لفظًا مع بقاء الكل
فجوازه كذلك بعد رفع الأول ونسخه أولى وأحرى , وهذا ظاهر لا غُبَارَ عليه -
على أنه قد يُقَال : لم لا تسلم وتحمل ذلك على ما نزل قبل التحدي بالإعجاز ؟
وإذا رفع بالنسخ أو الإنساء ما هو كذا فقد قدمنا الحكمة فيه وسببه , وإذا بقي
محفوظًا لأفراد لا يصح أن يثبت بروايتهم آيات قرآنية , فما ذلك إلا ليتحقق صدق
قوله تعالى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } ( البقرة : 106 ) الآية , وليعرف أن
البدل خير من المبدل فيشكروا الله على ما أعطاهم , وانظروا إلى ما روي في
الصحيح : ( لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثًا , ولا يملأ جوف ابن
آدم إلا التراب , ويتوب الله على من تاب ) .
فإنه كان قرآنًا يُتْلى ؛ أي : ثم رُفِعَ وأُنْسِيَ لفظه , وإنما بقي محفوظًا لدى من لا
يثبت بروايته آيات قرآنية ؛ والعلة التي أدركناها في ذلك ما ذكرناه , فإذا تتبعنا
المصحف وجدنا ما هو أولى وأظهر مثل قوله تعالى : { وَتُحِبُّونَ المَالَ حُباًّ جَماًّ } ( الفجر : 20 ) الآية - أما ما يذكر في آية ( الشيخ والشيخة ) ، إلى آخِرِهِ كما في
الصحيح , وأن ذلك كان قرآنًا يُتْلَى , ثم نُسِخَ لفظه كذا قالوا فلا يبعد أن يُقالَ : إن
هذا مما نُسخ لفظُه وحكمه ؛ لأن الرجمَ أولُ ما نزل في أول الإسلام , ثم نسخ
بنزول حَدِّ الزاني , وحينئذ قال صلى الله عليه وسلم - في حديث عُبَادة رضي الله
عنه : ( خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً : الثيّب بالثيّب جلد مائة والرجم ) منسوخ - ثم شرع الرجم مرةً أخرى ؛ لأنه رجم ماعزًا والغامدية بعد أن قال ذلك . انظر
ذلك في زاد المعاد لشيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله .
ولنعد إلى ما كُنّا بصدده , فنقول : إذا لم يشترط في النسخ المنافاة والمناقضة
بين الناسخ والمنسوخ , وهو يدل عليه كلام عامة السلف , وهو ظاهر القرآن حيث
جعل متعلق النسخ والإنساء - الآية - ولم يخص بذلك حكمها وإذا جاز الإنساء ,
فالنسخ كذلك قال تعالى : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ } ( الأعلى : 6، 7 )
فلا عيبَ ولا نَقْصَ في نسخ ما شاء , وسواءٌ في ذلك رفع لفظ بلفظ ورفع لفظ
وإبقاء حكمه ؛ لِمَا تقدم ولأنه إذا تفضل بالبدل فهو لا شك يبدله بما هو خير منه ؛
لأنه إذا وعد بإعطاء أحد خيرين فكرمه وكرامته لرسوله صلى الله عليه وسلم
تقتضي أن يمتن عليه صلى الله عليه وسلم بأفضلها وأكملها ؛ { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
رَبُّكَ فَتَرْضَى } ( الضحى : 5 ) , أو يُقالُ : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ( البقرة :
106 ) أي ؛ المنسية , والله أعلم بمراده .
فإن قيل : ما الحكمة في رفْع ألفاظ وإبدالها بألفاظ أو رفع لفظ بعد نزوله ؟
قلتُ : قد بيّنا ذلك فيما تقدم , ولكن نحن مهما جهدنا فلا نستطيع أن نعلل بأصح
وأحكم مما أجاب الله به منكري النسخ بقوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ( البقرة : 106 ) أيْ : لَمّا كان المنسوخ قبل نسخه مناسبًا للمصلحة ومطابقًا للحكمة ,
فإذا نسخناه لمقتض فإنما هو لنأتي بخير منه ؛ أي : أكثر مناسبةً وأشد مطابقةً
للحكمة .
أما ما استدل به حضرة الدكتور ، وعلّل به جواز وقوع النسخ حيث قال :
والسبب في وقوعه اختلاف حال المكلفين باختلاف الزمان والمكان , فما يلائم البشر
في زمن طفوليتهم قد لا يلائمهم في زمن كهولتهم أو شيخوختهم , ومَثّل لذلك
باختلاف حالة الإنسان بالصحة والمرض - فهذا التعليل للنسخ إنما أخذه حضرته
عن المتكلمين الذين ادَّعَوْا لأنفسهم الكمالَ فوقَ كلِّ أحدٍ حتى إنهم قد يدعون لأنفسهم
أنهم يعرفون من الدين ما لم يعرفه السلف , وأنهم قد يصلحون منه ما يزعم بعضهم
أنه ناقصٌ منه , وما درى المساكين أن النقص وصفهم اللازم الذاتي , ولله دَرُّ
الشاعر :
وكم من عائب قولاً صحيحًا ... وآفته من الفهم السقيم
ولو كان لا يكون النسخ في الشرائع إلا إذا صار المنسوخ بمنزلة ما لا يلائم
حالة البشر , بحيث يكون نسبته إليهم كنسبة ما لا يناسب حالة المريض لَكان ذلك
- أي النسخ - لا يكون إلا بعد إحراجهم غايةَ الإحراج , بحيث يكونون قد عانوا ما
قرب أن يكون خرج عن حدّ استطاعتهم , وهذا لا يجوز مِن واسع الرحمةِ , فكيف
يستقيم قول حضرة الدكتور ؟
قدمنا ذلك لِنعلمَ أن النسخ لِمقتض أو لحكمة لا عيبَ فيه عند العقل , إلخ ؛ لأنه
يفهم منه أن إبقاء التكليف وعدم النسخ والحالة هذه جائز عقلاً وشرعًا , والذي يُقال :
إن تأخير النسخ إلى تلك الحالة ممتنع عقلاً وشرعًا ؛ لقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } ( البقرة : 286 ) والنسخ شرعًا هو الذي دلّ القرآن دلالة
الكريم عليه , وهو تبديل ذي الخير مما أوحي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بما
هو أكثر خيرًا منه - وهو من باب التوسيع فيما كثرت فوائده , وعمّت عوائده ,
وفيه تنبيه هذه الأمة لِفتح أبواب المعارف والرقي إلى مدارج الكمال والاستعداد لِكل
ما عسى أن ينجمَ من خير يقدم أو بلاء يهجم .
فما ذكره حضرة الدكتور من الحكمة في النسخ ليس هو حكمته ؛ نعم هو يقرب
ويضارع مَا نَصَبَهُ الشارع مسوغًا للترخيص في المحكم ؛ لأنه ألزمَ عِباده بامتثال ما
شرَعَه محكمًا بشروط وأسباب ما لم تعارض ذلك موانع ومرخصات , فإذا عرض
مانع أو مرخص فقد رفع عن العِباد الإثم , وجاز لهم فعل أو ترك ما اقتضاه الحال ,
وبذلك قد ينقلب الواجب محرمًا , والمحرم واجبًا أو جائزًا في حقّ مَن قامَ بِه مانع ,
والحكم يختلف باختلاف المكلف , وتارةً يعتبر مع ذلك المكان , وتارةً الزمان , وقد
يختلف الحكم بالنسبة إلى شخص أو أشخاص باختلاف حال ما احْتَفّ به من البشر ،
وبحاله من صغر وكبر ، وإقامة وسفر ، وضعف وقوة ، وأمن وخوف ، وقد
يختلف بالمواسم تبعًا للضرورات ، أو توقعها ولو ظنًّا في بعض الحالات ،
وللضرورات أحكام تخصها ؛ ولهذا صحّ المثل : ( عند الضرورات تباح
المحظورات ) قال تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } ( البقرة :
173 ) , وأَلْحِقْ بذلك ما صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( رُفِعَ عن أمتي
الخطأُ والنسيانُ , وما استُكْرِهوا عليه ) .
فاختلاف الحكم باختلاف حال المكلف أو المكلفين - بحيث لا يبقى ملائمًا
لطبائعهم بأن تكون نسبته إليهم كنسبة ما لا يلائم حالة المريض - لا يصلح أن يكون
علة النسخ وحكمته كما عرفت بل باقٍ ومعتبر للترخيص في الشريعة المحكمة
الثابتة الباقية ؛ فكيف يجعل مناطًا وسببًا للنسخ وقت التشريع لا سِيَّمَا , وقد نص
الله في كتابه على سبب النسخِ كما قد قدمنا ذلك .
ومن تأمل وأمعن النظرَ فيما ذكرناه اتَّضَحَ له الحقُّ , وَعرف مَنْشَأَ الغَلط الذي
ارتكبه كثيرٌ من جهابذة النقاد والنظار في استبعاد جواز النسخ والتردد فيه , وعرف
أن منشأه ما أصلوه واصطلحوا عليه مما أوجب لهم الحيرة ( وعلى نَفْسِها جَنَتْ
براقشُ ) وما ضيقوه مما وسعه الله فعليهم ( لا علينا ) .
وبما ذكرناه من التيسير والتوسعة في هذا الدِّين تظهرُ بعض حكمة بقاءِ هذا
الدين إلى آخِرِ الأبد , ولزوم أنه دين عامة البشر وأنه وحي يُوحَى ، ولا يأتيه الباطلُ
من بين يديه ولا مِن خَلْفِه شرع على لسان من لا ينطق عن الهوى . اللهم أحينا عليه
وبه , وأَمِتْنَا متمسكين به يا أرحمَ الراحمين .
( للكلام بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))
وأقول : ما ذكره من تعريف النسخ غير كافٍ ولا وافٍ ؛ فإنه غير جامعٍ ,
ولا مانعٍ , ولا نطيل بالمناقشة فيما يتعلق بالعبارة ؛ إذ مراده بذلك الكلام على النسخ
المعروف عند المسلمين , وهو صريح في اختياره النسخ بمعناه عند المتأخرين - أمّا
هو في عُرْف السَّلَف , فهو زيادة على ما ذكره يعم رفع دِلالة العامّ , والمطلق ,
والظاهر ؛ إمّا بتخصيص أو تقييد أو حمل على مقيد وتفسيره وتبيينه .
قال شيخ الإسلام ابن القيم - رحمه الله - : حتى إنهم ليسمون الاستثناء والشرط
والصفة نسخًا ؛ لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد ؛ فالنسخ عندهم وفي
لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ , بل بأمر خارج عنه , وبذلك تزول إشكالات
أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر - انتهى ملخصًا -
وهل الإنساء والنسخ شيء واحد أم هما شيئان ؟
ذهب بعض السلف إلى الأول , والظاهر أنه أَعَمُّ من النسخ , أمّا على قول مَن
قال : إن معناه التأخير والإرجاء . فهو قبل نزوله وأوان ظهوره للتكليف لا يوصف
بنسخ ولا عدمه .
واعلم أيها القارئ أنه يتفرع على النسخ بمعناه عند الخلف خلاف بينهم , هل
يجوز نسخه بالآحاد الصحيحة , أم ببعضها دون البعض ؟ أما السلف : فلا نعلم
عنهم خلافًا في جوازه .
قال حضرة الدكتور : فالنسخ عندنا لا يقع إلا في الأحكام ( الأوامر والنواهي )
ولا يقع في القصص أو القضايا العقلية ؛ إذ لا معنى لوقوعه في ذلك .
وأقول : إذا سلمنا أن معنى النسخ هو ما ذكره المتأخرون حيثُ قالوا في
تعريفه : ( هو أن يدل على خلاف حكم شرعي دليل شرعي متراخٍ ) فلا شَكَّ أن
المنسوخ لا يجوز أن يكون من الإخبار عن الأمور الماضية أو الواقعة في الحال أو
الاستقبال ؛ مما يؤدي نسخه إلى كذب أو جهل - بخلاف الإخبار عن حل الشيء أو
حرمته ونحوها ؛ فإنه يجوز النسخ في هذا الأخير , وكذلك القضايا العقلية لا يجوز
النسخ فيها لإفضاء ذلك إلى الجهل , وكذلك إذا قَيَّدَ نصًا بتأييد أو توقيت فلا يجوز
نسخه لاستحالة العبث والجهالة .
أما إذا فسر النسخ بمعناه عند السلف فلا مانع من وقوعه في كل ما ذكرناه ؛
لأنهم لم يشترطوا في الناسخ منافاة المنسوخ . ودونك ما ذكر الحافظ ابن كثير في
تفسيره عنهم بعد قوله تعالى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ( البقرة : 106 ) قال ابن أبي طلحة , عن ابن عباس رضي الله عنه { مَا نَنْسَخْ
مِنْ آيَةٍ } ( البقرة : 106 ) قال ابن جريج , عن مجاهد : ما نمحو من آية , وقال
ابن أبي نجيح عن مجاهد : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ } ( البقرة : 106 ) . قال : نثبت
خطها ونؤيد حكمها . حدَّث به عن أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه . وقال ابن
أبي حاتم : وروي عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي نحو ذلك , وقال
الضحاك : ما ننسخ من آية , ما ننسك . وقال عطاء : أما ما ننسخ , فما نترك من
القرآن وقال ابن أبي حاتم : يعني ترك , فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال السُّدِّيّ : ما ننسخ من آية نسخها : قبضها . قال ابن أبي حاتم : يَعْنِي قبضها
رفعها مثل قوله : ( الشيخ والشيخة إذا زنيَا فارجموهما ألبتة ) وقوله : ( لو كان
لابن آدم واديانِ من ذهب لاَبْتَغَى لهما ثالثًا ) وذكر عن ابن جرير ما مؤداه اختيار
مذهب المتأخرين في تفسير معنى النسخ , وأنت ترى بُعْدًا بين ما فهموه وما فهمه
المتأخرون إلا ما نُقل عن أصحاب عبد الله بن مسعود ، لكنه محمول على ما هو
معروف عن السلف من أنهم كثيرًا ما يفسرون الشيء ببعض معانيه نظرًا لِحال
السامع تارةً , ولما يقتضيه المقام تارةً , ولظهوره في باقي معانيه الأخرى , ولم
يكونوا ليحدوا الأشياء بالحدود والتعاريف التي اصطلح عليها المتأخرون , فإذا كان
النسخ عندهم مفسرًا بالرفع والقبض الذي هو أعمُّ عند المتأخرين فالله جَلَّ شَأْنُهُ ينزل
على رسوله صلى الله عليه وسلم الأحكام في جميع أنواع الموضوعات والقصص
والأخبار للإذعان والاعتبار , وردًّا على المعاندين الكفار , فإذا قامت الحُجّة ,
وحصل لرسوله صلى الله علية وسلم الفَلْج وعليهم الغَلَبَة , فالعقل لا يوجب إبقاء
الحُجة مسطورةً مكتوبةً , كما أنه لا يجب ولا يلزم حبس وإبقاء الجيش العظيم على
البلد بعد فتحها , وكما أن الأحكام تختلف باختلاف حال المكلفين ، كذلك التعاليم
الأخلاقية ونحوها تختلف باختلاف أحوالهم أيضًا - فإذا أنزلَ الله على رسوله صلى
الله عليه وسلم ما شاء من أخبار أو غيرها لمقتض ولمصلحة , ثم رفعها على ما لها
من الإجلال فائزة بالنصر , وقهر الأعداء غير منقوضة بريب أو تكذيب لا سِيَّمَا
إذا أحل وأنزل بدلها ما هو أنسب وخير منها لنا , فيا تُرَى أي جهل وعبث يلزم ؟!
فسبحان ربك رب العزَّة عما يصفون .
ثم قال حضرة الدكتور : فلسنا ممن يسلم القول بنسخ لفظ بلفظ كما يتوهمون
أو بنسخ لفظ وإبقاء حكمه كما يزعمون . واستدل على ذلك باستلزامه الجهل أو
العبث .
وأقول : هذا الاستبعاد من حضرة الدكتور منشؤه عدم الإمعان في معاني
القرآن ؛ لأن الله جَلَّ شَأْنُهُ وعظم سلطانه ذو الكمال وخالق الكمال النسبي , وكلتا
يديه يمين فهو يعبر لرسوله صلى الله عليه وسلم عن شئونه بما شاء مما هو كافٍ
في إعجاز مخلوقه القاصر والمعاند الكافر , ولا محذور في أن يرفع عبارة ( قد
اعتبروا ) بمدلولها ثم يكررها ثانيًا لمقتض في قالب عبارة وألفاظ أكمل من الأولى ,
أو أنسب بالحال منها فإنه ما من كمال نراه إلا وعند الله أكمل منه , والكل بالنسبة
إلينا معجز وكمال كما قال تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } ( البقرة : 106 ) .
ومما يوضح ذلك ويقربه ما هو في المُحْكَم بين دَفَّتَيِ المُصْحَفِ مِن ذِكْر القصة
الواحدة في مواضعَ متعددةٍ بألفاظٍ وعبارات متغايرة لفظًا متحدةً مَعْنًى , وقد تراها
بزيادة ونفص , وما ذلك إلا لاختلاف ما يقتضيه الحال لسوقها في الاستشهاد بها
ولاختلاف أحوال المتلقين عن رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن منهم من يميل إلى
التطويل وحفظه , ومنهم من يميل إلى الاقتصار على الاختصار إما لعدم الفرص أو
غير ذلك - فإذا حسن ذكر القصة الواحدة بعبارات وألفاظ متغايرة لفظًا مع بقاء الكل
فجوازه كذلك بعد رفع الأول ونسخه أولى وأحرى , وهذا ظاهر لا غُبَارَ عليه -
على أنه قد يُقَال : لم لا تسلم وتحمل ذلك على ما نزل قبل التحدي بالإعجاز ؟
وإذا رفع بالنسخ أو الإنساء ما هو كذا فقد قدمنا الحكمة فيه وسببه , وإذا بقي
محفوظًا لأفراد لا يصح أن يثبت بروايتهم آيات قرآنية , فما ذلك إلا ليتحقق صدق
قوله تعالى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } ( البقرة : 106 ) الآية , وليعرف أن
البدل خير من المبدل فيشكروا الله على ما أعطاهم , وانظروا إلى ما روي في
الصحيح : ( لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثًا , ولا يملأ جوف ابن
آدم إلا التراب , ويتوب الله على من تاب ) .
فإنه كان قرآنًا يُتْلى ؛ أي : ثم رُفِعَ وأُنْسِيَ لفظه , وإنما بقي محفوظًا لدى من لا
يثبت بروايته آيات قرآنية ؛ والعلة التي أدركناها في ذلك ما ذكرناه , فإذا تتبعنا
المصحف وجدنا ما هو أولى وأظهر مثل قوله تعالى : { وَتُحِبُّونَ المَالَ حُباًّ جَماًّ } ( الفجر : 20 ) الآية - أما ما يذكر في آية ( الشيخ والشيخة ) ، إلى آخِرِهِ كما في
الصحيح , وأن ذلك كان قرآنًا يُتْلَى , ثم نُسِخَ لفظه كذا قالوا فلا يبعد أن يُقالَ : إن
هذا مما نُسخ لفظُه وحكمه ؛ لأن الرجمَ أولُ ما نزل في أول الإسلام , ثم نسخ
بنزول حَدِّ الزاني , وحينئذ قال صلى الله عليه وسلم - في حديث عُبَادة رضي الله
عنه : ( خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً : الثيّب بالثيّب جلد مائة والرجم ) منسوخ - ثم شرع الرجم مرةً أخرى ؛ لأنه رجم ماعزًا والغامدية بعد أن قال ذلك . انظر
ذلك في زاد المعاد لشيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله .
ولنعد إلى ما كُنّا بصدده , فنقول : إذا لم يشترط في النسخ المنافاة والمناقضة
بين الناسخ والمنسوخ , وهو يدل عليه كلام عامة السلف , وهو ظاهر القرآن حيث
جعل متعلق النسخ والإنساء - الآية - ولم يخص بذلك حكمها وإذا جاز الإنساء ,
فالنسخ كذلك قال تعالى : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ } ( الأعلى : 6، 7 )
فلا عيبَ ولا نَقْصَ في نسخ ما شاء , وسواءٌ في ذلك رفع لفظ بلفظ ورفع لفظ
وإبقاء حكمه ؛ لِمَا تقدم ولأنه إذا تفضل بالبدل فهو لا شك يبدله بما هو خير منه ؛
لأنه إذا وعد بإعطاء أحد خيرين فكرمه وكرامته لرسوله صلى الله عليه وسلم
تقتضي أن يمتن عليه صلى الله عليه وسلم بأفضلها وأكملها ؛ { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
رَبُّكَ فَتَرْضَى } ( الضحى : 5 ) , أو يُقالُ : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ( البقرة :
106 ) أي ؛ المنسية , والله أعلم بمراده .
فإن قيل : ما الحكمة في رفْع ألفاظ وإبدالها بألفاظ أو رفع لفظ بعد نزوله ؟
قلتُ : قد بيّنا ذلك فيما تقدم , ولكن نحن مهما جهدنا فلا نستطيع أن نعلل بأصح
وأحكم مما أجاب الله به منكري النسخ بقوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ( البقرة : 106 ) أيْ : لَمّا كان المنسوخ قبل نسخه مناسبًا للمصلحة ومطابقًا للحكمة ,
فإذا نسخناه لمقتض فإنما هو لنأتي بخير منه ؛ أي : أكثر مناسبةً وأشد مطابقةً
للحكمة .
أما ما استدل به حضرة الدكتور ، وعلّل به جواز وقوع النسخ حيث قال :
والسبب في وقوعه اختلاف حال المكلفين باختلاف الزمان والمكان , فما يلائم البشر
في زمن طفوليتهم قد لا يلائمهم في زمن كهولتهم أو شيخوختهم , ومَثّل لذلك
باختلاف حالة الإنسان بالصحة والمرض - فهذا التعليل للنسخ إنما أخذه حضرته
عن المتكلمين الذين ادَّعَوْا لأنفسهم الكمالَ فوقَ كلِّ أحدٍ حتى إنهم قد يدعون لأنفسهم
أنهم يعرفون من الدين ما لم يعرفه السلف , وأنهم قد يصلحون منه ما يزعم بعضهم
أنه ناقصٌ منه , وما درى المساكين أن النقص وصفهم اللازم الذاتي , ولله دَرُّ
الشاعر :
وكم من عائب قولاً صحيحًا ... وآفته من الفهم السقيم
ولو كان لا يكون النسخ في الشرائع إلا إذا صار المنسوخ بمنزلة ما لا يلائم
حالة البشر , بحيث يكون نسبته إليهم كنسبة ما لا يناسب حالة المريض لَكان ذلك
- أي النسخ - لا يكون إلا بعد إحراجهم غايةَ الإحراج , بحيث يكونون قد عانوا ما
قرب أن يكون خرج عن حدّ استطاعتهم , وهذا لا يجوز مِن واسع الرحمةِ , فكيف
يستقيم قول حضرة الدكتور ؟
قدمنا ذلك لِنعلمَ أن النسخ لِمقتض أو لحكمة لا عيبَ فيه عند العقل , إلخ ؛ لأنه
يفهم منه أن إبقاء التكليف وعدم النسخ والحالة هذه جائز عقلاً وشرعًا , والذي يُقال :
إن تأخير النسخ إلى تلك الحالة ممتنع عقلاً وشرعًا ؛ لقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } ( البقرة : 286 ) والنسخ شرعًا هو الذي دلّ القرآن دلالة
الكريم عليه , وهو تبديل ذي الخير مما أوحي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بما
هو أكثر خيرًا منه - وهو من باب التوسيع فيما كثرت فوائده , وعمّت عوائده ,
وفيه تنبيه هذه الأمة لِفتح أبواب المعارف والرقي إلى مدارج الكمال والاستعداد لِكل
ما عسى أن ينجمَ من خير يقدم أو بلاء يهجم .
فما ذكره حضرة الدكتور من الحكمة في النسخ ليس هو حكمته ؛ نعم هو يقرب
ويضارع مَا نَصَبَهُ الشارع مسوغًا للترخيص في المحكم ؛ لأنه ألزمَ عِباده بامتثال ما
شرَعَه محكمًا بشروط وأسباب ما لم تعارض ذلك موانع ومرخصات , فإذا عرض
مانع أو مرخص فقد رفع عن العِباد الإثم , وجاز لهم فعل أو ترك ما اقتضاه الحال ,
وبذلك قد ينقلب الواجب محرمًا , والمحرم واجبًا أو جائزًا في حقّ مَن قامَ بِه مانع ,
والحكم يختلف باختلاف المكلف , وتارةً يعتبر مع ذلك المكان , وتارةً الزمان , وقد
يختلف الحكم بالنسبة إلى شخص أو أشخاص باختلاف حال ما احْتَفّ به من البشر ،
وبحاله من صغر وكبر ، وإقامة وسفر ، وضعف وقوة ، وأمن وخوف ، وقد
يختلف بالمواسم تبعًا للضرورات ، أو توقعها ولو ظنًّا في بعض الحالات ،
وللضرورات أحكام تخصها ؛ ولهذا صحّ المثل : ( عند الضرورات تباح
المحظورات ) قال تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } ( البقرة :
173 ) , وأَلْحِقْ بذلك ما صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( رُفِعَ عن أمتي
الخطأُ والنسيانُ , وما استُكْرِهوا عليه ) .
فاختلاف الحكم باختلاف حال المكلف أو المكلفين - بحيث لا يبقى ملائمًا
لطبائعهم بأن تكون نسبته إليهم كنسبة ما لا يلائم حالة المريض - لا يصلح أن يكون
علة النسخ وحكمته كما عرفت بل باقٍ ومعتبر للترخيص في الشريعة المحكمة
الثابتة الباقية ؛ فكيف يجعل مناطًا وسببًا للنسخ وقت التشريع لا سِيَّمَا , وقد نص
الله في كتابه على سبب النسخِ كما قد قدمنا ذلك .
ومن تأمل وأمعن النظرَ فيما ذكرناه اتَّضَحَ له الحقُّ , وَعرف مَنْشَأَ الغَلط الذي
ارتكبه كثيرٌ من جهابذة النقاد والنظار في استبعاد جواز النسخ والتردد فيه , وعرف
أن منشأه ما أصلوه واصطلحوا عليه مما أوجب لهم الحيرة ( وعلى نَفْسِها جَنَتْ
براقشُ ) وما ضيقوه مما وسعه الله فعليهم ( لا علينا ) .
وبما ذكرناه من التيسير والتوسعة في هذا الدِّين تظهرُ بعض حكمة بقاءِ هذا
الدين إلى آخِرِ الأبد , ولزوم أنه دين عامة البشر وأنه وحي يُوحَى ، ولا يأتيه الباطلُ
من بين يديه ولا مِن خَلْفِه شرع على لسان من لا ينطق عن الهوى . اللهم أحينا عليه
وبه , وأَمِتْنَا متمسكين به يا أرحمَ الراحمين .
( للكلام بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))
نشر عام 1908