الأحد، 31 مارس 2013

قسم المقالات : المسألة المراكشية وحرب الدار البيضاء بقلم الشيخ محمد رشيد رضا

المسألة المراكشية وحرب الدار البيضاء بقلم الشيخ محمد رشيد رضا


كتبنا في السنة الأولى للمنار نصيحة فيه لسلطان مراكش ؛ أنذرناه فيها بأن
طوفان أوربا لابد أن يفيض على بلاده ، فيغمرها إن لم يبادر هو إلى إصلاح شأنها
بما تقتضيه حال العصر من التربية والتعليم ، لا سيما تعليم الفنون العسكرية والمالية .
ثم كنا نعيد النصائح والنذر مرة بعد أخرى ، وآخر عهدنا بها ما كتبناه في أيام
انعقاد مؤتمر الجزيرة من العام الماضي { وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ
يُؤْمِنُونَ} ( يونس : 101 ) بالأسباب والمسببات وسنن الله تعالى في الأمم ، وإنما
يعتمدون في دفع الضر ، وحفظ المصالح على الخوارق ، وكرامات الأولياء مع
ما درجوا عليه من التقاليد والعادات ، لا يقبلون وراء ذلك إصلاحًا ، ولا يبتغون
بدونه فلاحًا ، وقد سبق لنا بيان التجائهم إلى قبر مولاي إدريس ، وجؤار أهل العلم
الديني عنده بكلمة يا لطيف ؛ ليدفعوا بذلك ما طلبته فرنسا من السلطان يومئذ
فليرجع إلى ذلك في المجلد الثامن من أراد .
مرت الأيام والسنون ، وأهل هذه البلاد { يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْن } ( التوبة : 126 ) أو مرات { ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ } ( التوبة : 126 ) من تفريطهم
وغرورهم { ولا هم يذكرون } ( التوبة : 126 ) ، ما حل بأمثالهم من الأمم
والشعوب الجاهلية بحال هذا العصر ورقي أممه ، وما يجب من إعداد القوة
لمدافعتها إذا عدت بحسب الاستطاعة ، وعلى قدر ما هي عليه من الاستعداد ،
وكل ذلك مما يرشد إليه الإسلام ، ويفرضه بنص القرآن .
ولكن أين أولئك الجاهلون من الإسلام والقرآن ، وهم يعتقدون أن قراءة تفسيره
تميت السلطان ، وحياته عندهم أولى من إحياء القرآن ، ثم ماذا تفيدهم قراءته إذا
كانوا يعتقدون أن الاهتداء به من الاجتهاد الممنوع بحكم شيوخ التقليد الجامدين ، وأنَّ
الدِّين لا يؤخذ إلا من كتب الفقهاء الميتين ، كما يفهمها أصحاب الجاه من الشيوخ
الحاضرين ، وهم يرون أن العلوم والفنون والصنائع التي تصنع آلات القوة ، كالبنادق
( ويسمونها المكاحل ) والمدافع والبوارج الحربية كلها محرمة ، لا يجوز للمسلمين
الاشتغال بها ، كما يرى ويعتقد ذلك أشباههم من أصحاب العمائم في أكثر بلاد
المسلمين ، وبذلك أضاعوا الدنيا والدين وكانوا سبب هلاك المسلمين .
مرت الأيام والسنون ، فدخلت ( مسألة مراكش ) ؛ أي : مسألة محاولة أوربا
استعمارها والاستيلاء عليها في طور جديد ، فقد اعتدى بعض المغاربة على العُمَلة
الأوربيين في مرفأ الدار البيضاء ، وهي من حواضر مملكة مراكش ، ففتح بذلك
لفرنسا باب استعمال القوة في هذا الثغر ، فدخلت منه ، وذلك ما كانت تبغي .
أصبحت فرنسا مع قبائل المغرب في حرب تعددت وقائعها ، فالقبائل تهاجم
الدار البيضاء ، فتلاقيها العساكر الفرنسية بمدافعها ، ومن ورائها البوارج تساعدها
بمدفعها ، فتمزق شمل القبائل ، وتنسفهم في الهواء نسفًا . ولكن الفرنسيين قد دهشوا
من شجاعة المغاربة واستبسالهم ، فسلطوا عليهم عسكرهم من مسلمي الجزائر ؛
لعلمهم بأنه لا يفل الحديد إلا الحديد ، وقد ترك المغاربة الهجوم إلى حيث تنالهم مدافع
البحر .
مهما عظمت شجاعة المغاربة ، فإنها - والجهل قائدها - لا تكفي لحفظ
استقلال البلاد ، ولا تدفع عنها ما تريد فرنسا منها ، فإن الجهل لا يغلب العلم ،
والاختلال لا يعلو النظام ، فإذا كان أهل المغرب الأقصى أسودًا ، فإن العقلاء من
البشر قد عهد منهم التصرف في الأسود وحبسها في بلاد ما هي مواطنها ، وما
عهد أن تعيش فيها وجعلها مع ذلك في مواضع النزهة ، يأنس برؤيتها حتى
النساء والولدان .
نعم ، ينتظر أن تتعب فرنسا في تذليلهم ، كما تعبت في الجزائر ، ولكن العاقبة
للمتقين كما قال الله تعالى ، والتقوى تفسر في كل مقام بحسبه ، فهي تفسر في باب
الحرب والصدام باتقاء أسباب الانكسار والخذلان ، ولا شك أن فرنسا هي المتقية ما
يجب اتقاؤه في هذا المقام ، بالتدبير التام ، وإعداد ما تستطيع من قوة ، كما أمر الله
تعالى .
ومن التدبير الذي يتخذه العقلاء ولا يدري به الجهلاء - وهو من قبيل السيل
يضرب جلمودًا بجلمود - إيقاع الشقاق بين الزعماء في المغرب . وما وقف ذلك عند
حد الخارجين على السلطان والمحاربين له ، بل قامت طائفة عظيمة من الأمة فبايعت
بالملك مولاي حفيظًا ( أو عبد الحفيظ ) أخا السلطان عبد العزيز بفتوى من العلماء ،
فصار في البلاد سلطانان سيحارب كل منهما الآخر ، فيكفون فرنسا شر قوة البلاد .
يظن كثير من الناس أن السلطان عبد العزيز سيلجأ إلى فرنسا ؛ لتحفظ له
سلطانه ، وتكفيه شر أخيه ، كما لجأ توفيق باشا إلى إنكلترا في إبان الثورة العرابية ،
وبذلك تحتل فرنسا بلاد مراكش احتلالاً رسميًّا يسمى موقتًا ، وتعمل عملها فيها باسم
السلطان ، كما تحكم تونس باسم الباي ، وهذه هي الطريقة التي استقر عليها رأي
ساسة أوربا في استعمار بلاد المسلمين ؛ لأن حكمهم باسم أمرائهم وملوكهم أقرب إلى
السلام ، وأبعد عن النزاع والخصام .
إنه ليحزننا ؛ أن نرى مملكة إسلامية في الشقاء الذي أحاط بمملكة مراكش ،
ولا يسرنا أن تبقى على ما هي عليه ، أو على ما كانت عليه ، إذا كان ما انتابها
الآن مبدأ للانتقال من حال إلى حال .
وإنه ليحزننا ؛ أن يكون انتقالها بقوة الأجانب ، لا بتدبير رجالها وحكمتهم .
ولكننا لا نرى منفذًا لخيط من خيوط أشعة الرجاء في أولئك الرجال الجهلاء ، فيا
طالما نصحنا لهم ، وأنذرناهم البطشة الكبرى { فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} ( القمر : 36 ) ،
بل كان مثلنا ومثل سائر الناصحين معهم { كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً
وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } ( البقرة : 171 ) .
إن أهل العقل والعلم من طلاب الإصلاح للمسلمين ، تتمنى قلوبهم لو يدوم
لسلطنة مراكش استقلالها ، ويتحول طوفان أوربا عنها ، حتى يكون إصلاح حالها
من نفسها ولو بعد حين . ولكن عقولهم تحكم بأن هذا شيء لا مطمع فيه ، وتدرك أن
من العدالة العامة في الأكوان ، ومن سنن المبدع في اجتماع الإنسان أن يقذف بالحق
على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق . ( راجع سورة الأنبياء من 18 : 21 ) وأن
الأرض يرثها عباد الله الصالحون ؛ أي : لعمارتها . ( راجع آية 105 من السورة
المذكورة ) ولا شك أن العلم بالنظام ، وبطرق العمران ، وتأمين السكان من الحق ،
وهو مما يقوم به الأوربيون ، وأن ما عليه المغاربة من ضد ذلك هو من الباطل ،
وأن الأوربيين يعدون بالنسبة إلى المغاربة من الصالحين لاستعمار الأرض الذي
امتَنَّ الله علينا به ، كما قال - تعالى - { هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} ( هود : 61 ) ، فكان الكتاب العزيز مؤيدًا لحكم العقل في وجوب زوال استقلال
المغاربة ، وكل دولة لا تحسن الاستعمار ولا تقيم النظام ، إلا أن تتوب وتقيم
الميزان بعد الاستعداد له بما تقتضيه حال الزمان . ولا يظهر صدق الآية الكريمة في
إرث الأرض إلا بهذا التفسير ، ولنا فيه سلف صالح فهو منقول لا مخترع .
إن حُكم الفرقان والقرآن بأن دول العلم والنظام والاستعمار هي التي تسود على
دول الجهل والخلل والإفساد في الأرض ، هو الذي يخفف من ألم حسرة العقلاء على
زوال استقلال دول المسلمين ، ولا أقول : دول الإسلام ، فإن من يقضي القرآن
بزوال دولته لا تكون دولته إسلامية . ولكن قد تكون مسلمية ، وبهذا نبرئ الإسلام
بحق من مناقضة أصول العمران العلمي ، ونجعل ذلك على أعناق المسلمين

المصدر : مجلة المنار