غرور متعلمي اللغات الأوربية بقلم الشيخ محمد رشيد رضا
إن أصحاب العقول الصغيرة من متعلمي اللغات الأوربية ، يتخيلون أن كل من
تلقف لغة منها ، صار من العلماء الأعلام والحكماء المرشدين للأنام . ولكن هؤلاء
المتعلمين يعدون بالألوف ، ولا نكاد نجد واحدًا منهم في الألف يفيد أمته بكتاب
يفضل به غير العارفين بهذه اللغات ، وإننا نرى أكثر ما يكتب كاتبوهم في الجرائد
أو غيرها ، في منتهى السخف وضعف الفكر ؛ والسبب في هذا أن اللغة الأوربية
وسيلة للعلم ، وليست هي عين العلم ، ولا عين العقل الذي لا علم بدونه ولا فهم .
إذا وجد في متعلمي هذه اللغات أفراد كفتحي باشا زغلول وقاسم بك أمين لهم
آثار في الترجمة والتصنيف ؛ تدل على أنهم استفادوا من اللغة الأوربية علمًا
وبصيرة ، فإنه يوجد فيهم ألوف ما يستفيدوا إلا الغرور والتبجح والدعوى ، ومنهم
من أضاع ثروته الموروثة ، وأهان نفسه وذوي قرابته بسوء سيرته ، وما كانت
اللغة الأجنبية التي يعرفها إلا عونًا له على إضاعة ماله وشرفه ، ثم هو يفاخر باللغة
وعلومها ، ويحتقر علوم العربية من دينية وغيرها ، ويحط من قدر أهلها .
للأستاذ الإمام آثار جليلة كتبها قبل أن يتعلم اللغة الفرنسية كمقالات
الوقائع المصرية ومقالات العروة الوثقى ، وقد كان ما يكتبه بعد تعلم هذه اللغة
أدل على كثرة الاطلاع والسعة في العلم ، ولكن هل يوجد في هؤلاء الألوف من
المتعلمين من يستطيع أن يكتب مثل تلك المقالات التي كان العالم يهتز لها حتى
أن إنكلترا ذات الحرية الواسعة منعت العروة الوثقى من مصر والهند . ولا
غرو فإن العقول التي وسعت دائرة العلوم باللغات الأوربية حتى صارت هذه اللغات
تتعلم لأجل ذلك يوجد مثلها في الأمة العربية وفي غيرها من الأمم . وقد كان
السيد الكواكبي غير عارف باللغات الأوربية ولكن ما كتبه في الاستبداد لا يوجد في
فلاسفة أوربا كثيرون يكتبون أحسن منه أو مثله بل الذين يعرفون لغات أوربا
وليس لهم من علومها سهم يعتد به .
وما لي لا أضرب لهؤلاء المغرورين الأمثال إلا بمن ماتوا ، فهذا رفيق بك
العظم فليأتونا بكثير من مثله من متعلمي اللغات الأوربية ، وهذا صاحب جريدة
المؤيد ، لا يختلف عاقلان في تفضيل ما يكتبه وهو لا يعرف لغة أجنبية ، على ما
يكتب صاحب جريدة اللواء العارف باللغة الفرنسية .
فليخفض المغرورون برطانة اللغة الأجنبية من غرورهم ، فإن الناس تتفاضل
بالعقول لا باللغات ، فذو العقل الكبير قد يقتبس العلم من الوجود ، كما اقتبسه جميع
الفلاسفة ، وإن للعاقل الشرقي من موارد العلم الغربي كتبًا كثيرة ومجالات مترجمة ،
يستفيد منها ما لا يستطيع صاحب العقل الصغير أن يستفيده من ينابيعها وأصولها .
نعم . إن صاحب العقل الكبير إذا اطلع على تلك الأصول يكون أوسع علمًا منه
قبل الاطلاع عليها ، وإن الأمم الشرقية لا تستغني عن طائفة من الأذكياء يَنْفرون ؛
لاقتباس تلك العلوم من لغاتها ونقلها إلى قومهم ، كما أنها لا تستغني عن طائفة يحيون
لغتها وعلومها الدينية والأدبية والتاريخية ، ولا يجوز تفضيل أفراد إحدى الطائفتين
على الأخرى ؛ لأن كلاًّ منهما يخدم الأمة بما لابد لها منه ، فإن جاز التفاضل ، كان
تفضيل من يشتغل لإحياء الأمة بمقوماتها الأصلية من اللغة والدين والعلوم ، على من
يجلب لها علومًا من غيرها أظهر ؛ لأن فقد العلوم الأجنبية عنها نقص ، وفقد مقوماتها
الذاتية موت وفناء .
فهل بقي بعد هذا البيان من عذر لبعض الأغرار المفتونين بما لقفوا من العلم
الناقص بلغة أجنبية ، في تنقيص العلماء بدينهم ولغتهم وتاريخهم ، إذا كانوا لا
يرطنون معهم بتلك اللغة .
على أن وراء العلم الذي تعد اللغات وسائل له أمرًا آخر ؛ هو مناط الإفادة
بالعلم لمن يحصله ، وهو مكارم الأخلاق ؛ كالصدق والإخلاص والاستقلال والعزيمة
والشجاعة والعفة ، وغير ذلك من الفضائل ، فإذا أغضينا عن الذين يتعلمون بعض
لغات العلم ، ولا يستفيدون من العلم نفسه إلا حثالة من قشوره ، ونظرنا في حال
الذين يقال : إنهم أوتوا نصيبًا من العلوم ، نجد الكثيرين منهم قد شغلتهم شهواتهم
وأهواؤهم ، عن بث ما استفادوا في قومهم ، وعن الاستزادة منه ، وعن العمل به
على الوجه النافع . فالعلم لأمثال هؤلاء كالسيف في يد المجنون يخشى ضره ، ولا
يرجى نفعه للأمة .
تلقف لغة منها ، صار من العلماء الأعلام والحكماء المرشدين للأنام . ولكن هؤلاء
المتعلمين يعدون بالألوف ، ولا نكاد نجد واحدًا منهم في الألف يفيد أمته بكتاب
يفضل به غير العارفين بهذه اللغات ، وإننا نرى أكثر ما يكتب كاتبوهم في الجرائد
أو غيرها ، في منتهى السخف وضعف الفكر ؛ والسبب في هذا أن اللغة الأوربية
وسيلة للعلم ، وليست هي عين العلم ، ولا عين العقل الذي لا علم بدونه ولا فهم .
إذا وجد في متعلمي هذه اللغات أفراد كفتحي باشا زغلول وقاسم بك أمين لهم
آثار في الترجمة والتصنيف ؛ تدل على أنهم استفادوا من اللغة الأوربية علمًا
وبصيرة ، فإنه يوجد فيهم ألوف ما يستفيدوا إلا الغرور والتبجح والدعوى ، ومنهم
من أضاع ثروته الموروثة ، وأهان نفسه وذوي قرابته بسوء سيرته ، وما كانت
اللغة الأجنبية التي يعرفها إلا عونًا له على إضاعة ماله وشرفه ، ثم هو يفاخر باللغة
وعلومها ، ويحتقر علوم العربية من دينية وغيرها ، ويحط من قدر أهلها .
للأستاذ الإمام آثار جليلة كتبها قبل أن يتعلم اللغة الفرنسية كمقالات
الوقائع المصرية ومقالات العروة الوثقى ، وقد كان ما يكتبه بعد تعلم هذه اللغة
أدل على كثرة الاطلاع والسعة في العلم ، ولكن هل يوجد في هؤلاء الألوف من
المتعلمين من يستطيع أن يكتب مثل تلك المقالات التي كان العالم يهتز لها حتى
أن إنكلترا ذات الحرية الواسعة منعت العروة الوثقى من مصر والهند . ولا
غرو فإن العقول التي وسعت دائرة العلوم باللغات الأوربية حتى صارت هذه اللغات
تتعلم لأجل ذلك يوجد مثلها في الأمة العربية وفي غيرها من الأمم . وقد كان
السيد الكواكبي غير عارف باللغات الأوربية ولكن ما كتبه في الاستبداد لا يوجد في
فلاسفة أوربا كثيرون يكتبون أحسن منه أو مثله بل الذين يعرفون لغات أوربا
وليس لهم من علومها سهم يعتد به .
وما لي لا أضرب لهؤلاء المغرورين الأمثال إلا بمن ماتوا ، فهذا رفيق بك
العظم فليأتونا بكثير من مثله من متعلمي اللغات الأوربية ، وهذا صاحب جريدة
المؤيد ، لا يختلف عاقلان في تفضيل ما يكتبه وهو لا يعرف لغة أجنبية ، على ما
يكتب صاحب جريدة اللواء العارف باللغة الفرنسية .
فليخفض المغرورون برطانة اللغة الأجنبية من غرورهم ، فإن الناس تتفاضل
بالعقول لا باللغات ، فذو العقل الكبير قد يقتبس العلم من الوجود ، كما اقتبسه جميع
الفلاسفة ، وإن للعاقل الشرقي من موارد العلم الغربي كتبًا كثيرة ومجالات مترجمة ،
يستفيد منها ما لا يستطيع صاحب العقل الصغير أن يستفيده من ينابيعها وأصولها .
نعم . إن صاحب العقل الكبير إذا اطلع على تلك الأصول يكون أوسع علمًا منه
قبل الاطلاع عليها ، وإن الأمم الشرقية لا تستغني عن طائفة من الأذكياء يَنْفرون ؛
لاقتباس تلك العلوم من لغاتها ونقلها إلى قومهم ، كما أنها لا تستغني عن طائفة يحيون
لغتها وعلومها الدينية والأدبية والتاريخية ، ولا يجوز تفضيل أفراد إحدى الطائفتين
على الأخرى ؛ لأن كلاًّ منهما يخدم الأمة بما لابد لها منه ، فإن جاز التفاضل ، كان
تفضيل من يشتغل لإحياء الأمة بمقوماتها الأصلية من اللغة والدين والعلوم ، على من
يجلب لها علومًا من غيرها أظهر ؛ لأن فقد العلوم الأجنبية عنها نقص ، وفقد مقوماتها
الذاتية موت وفناء .
فهل بقي بعد هذا البيان من عذر لبعض الأغرار المفتونين بما لقفوا من العلم
الناقص بلغة أجنبية ، في تنقيص العلماء بدينهم ولغتهم وتاريخهم ، إذا كانوا لا
يرطنون معهم بتلك اللغة .
على أن وراء العلم الذي تعد اللغات وسائل له أمرًا آخر ؛ هو مناط الإفادة
بالعلم لمن يحصله ، وهو مكارم الأخلاق ؛ كالصدق والإخلاص والاستقلال والعزيمة
والشجاعة والعفة ، وغير ذلك من الفضائل ، فإذا أغضينا عن الذين يتعلمون بعض
لغات العلم ، ولا يستفيدون من العلم نفسه إلا حثالة من قشوره ، ونظرنا في حال
الذين يقال : إنهم أوتوا نصيبًا من العلوم ، نجد الكثيرين منهم قد شغلتهم شهواتهم
وأهواؤهم ، عن بث ما استفادوا في قومهم ، وعن الاستزادة منه ، وعن العمل به
على الوجه النافع . فالعلم لأمثال هؤلاء كالسيف في يد المجنون يخشى ضره ، ولا
يرجى نفعه للأمة .
المصدر : مجلة المنار