نكتفي في هذا الجزء بالانتقاد على مادة واحدة من مواد كتاب كنز العلوم واللغة ؛
لأن باب المناظرة لا يتسع فيه لأكثر من ذلك .
أخطأ فريد أفندي وجدي فيما كتبه في لفظ ( حديث ) أنواعًا من الخطأ ، تدل
على أنه لا ثقة بنقله وروايته ، كما أنه لا ثقة بفهمه ورأيه .
( الخطأ الأول ) تعريفه الحديث في الاصطلاح ، بقوله : ( والحديث في
الاصطلاح ، أطلق على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكلام )
وهذا غير صحيح ، وهو يدل على أنه لم يتلق ، ولم يقرأ شيئًا من كتب الحديث
مطلقًا ، أو قرأ شيئًا قليلاً لم يفهمه ، والصواب أن الحديث في اصطلاحهم ما أضيف
إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً أو تقريرًا أو صفة . ويطلق كما في
النخبة على كل من : المرفوع والموقوف والمقطوع .
( الثاني ) قوله : إنه لم يصح عند أبي حنيفة إلا سبعة عشر حديثًا فقط ، فإن
من يعرف غير هذا العدد من الصحاح لا يعترف له أحد بالإمامة والاجتهاد المطلق
نعم ، إن الرواية عن أبي حنيفة قليلة ، وفرق بين ما يروى عنه ، وما يصح
عنده .
( الثالث ) قوله : ( إنه لم يصح عند الإمام مالك إلا ثلاث مائة حديث ) ،
وهذا خطأ كبير ، فقد قال الحافظ ابن حجر : كتاب مالك صحيح عنده ، وعند من
يقلده ، على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما .
وقد نقل عن الإمام الشافعي أن الموطأ أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى . نعم ،
إن الشافعي قال ذلك قبل وجود صحيحي البخاري ومسلم ، اللذين قدمهما العلماء بعده
على الموطأ . ولكن ذلك لم يخرج الموطأ عن كونه صحيحًا . وقد نقل السيوطي في
تنوير الحوالك عن القاضي أبي بكر بن العربي أن الموطأ هو الأصل الأول ،
والبخاري هو الأصل الثاني . وأنَّ مالكًا روى مائة ألف حديث ، جمع منها في
الموطأ عشرة آلاف ، ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة ( أي العملية ) ، حتى
رجعت إلى خمس مائة وعن إلكيا الهراسي كان تسعة آلاف ، فرجع إلى سبع مائة .
أقول : والظاهر أن الخلاف في العدد خاص بالأحاديث المسندة ، وهي كما نقل
عن الأبهري ست مائة ، وعن ابن حزم خمس مائة ونيف . ومجموع الأحاديث والآثار
فيه ألف وسبع مائة وعشرون . قال الأبهري : المرسل منها 222 ، والموقوف
613 ، ومن أقوال التابعين 285 ، وكل ما فيه قد صح عند مالك . وإن قال بعض
المحدثين بعده بضعف قليل من رواياته ، وقد نقل عنه أنه قال : ( عرضت كتابي هذا
على سبعين فقيهًا من فقهاء المدينة ، فكلهم واطأني عليه ، فسميته الموطأ ) ، فلينظر
الناظر على مبلغ علم فريد أفندي بالآثار ، وجرأته على كتابة ما ليس له به علم .
( الثالث ) قوله : ( ولم يصح عند البخاري إلا 6200 حديثا ( كذا ) من أكثر
من 600.00 سمعها من الناس ) .
أقول : لا ندري ، أيخترع فريد أفندي وجدي هذه الأقوال اختراعًا أم سأل بعض
من يظن فيه العلم أن يكتب له ذلك ، ليفتخر بعلم غيره ، فكان افتخاره بالجهل .
أما المعروف المشهور في كتب الحديث ، فهو أن ما في الجامع الصحيح
للبخاري هو بعض ما صح عنده ، وهو بالمكرر يزيد عما قال ، وبدونه ينقص ،
قال الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح : جميع أحاديثه بالمكرر سوى المعلقات
والمتابعات سبعة آلاف وثلاثة مائة وسبعة وتسعون حديثًا ، والخالص من ذلك بلا
تكرار ألفا حديث وست مائة وحديثان . ثم تكلم في إحصاء المتون المعلقة المرفوعة
بغير وصل .
ولا يتفق زعم فريد أفندي وجدي مع عد المكرر ولا مع تركه . هذا إذا فرضنا
أنه لم يصح عند البخاري إلا أحاديث الجامع ، والصواب أنه قد صح عنده غيرها ،
وقد صح عنه أنه قال : ( لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحًا ، وما تركت من
الصحيح أكثر حتى لا يطول ) .
( الرابع ) قوله : أول من ألف في الحديث مالك في الموطأ ( كذا ) توفي سنة
179 ، وقيل : ابن جريج .
والصواب أن أول من دون الحديث ابن شهاب الزهري بأمر عمر بن عبد
العزيز كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح ، ورواه أبو نعيم في الحلية عن مالك نفسه
وفي باب اكتتاب العلم من الموطأ رواية محمد بن الحسن ، وعلقه البخاري
( أخبرنا مالك أخبرنا يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر
عمرو بن حزم : أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنته
أو حديث عمر أو نحو هذا ، فاكتبه لي ؛ فإني قد خفت دروس العلم وذهاب العلماء ) .
نعم ، إنهم ذكروا أن مالكا وابن جريج من أول من صنف الحديث مرتبًا على
الأبواب ، وهذا أخص من مطلق التأليف والتدوين ، فإن الذين كتبوا الحديث
على أقسام : منهم من كتب ما اجتمع له كيفما اتفق ، ومنهم من رتبه على
الأبواب ، ومنهم أصحاب المساند الذين ذكروا ما أسنده كل صحابي على حدة بحسب
رواياتهم ، ومنهم أصحاب المعاجم الذين رتبوه على حروف المعجم .
وقد كان ممن ألف الحديث مرتبًا على الأبواب في القرن الثاني مالك بالمدينة ،
وابن جريج بمكة ، وسفيان الثوري بالكوفة ، والأوزاعي بالشام ، والربيع بن صبيح
أو سعيد بن أبي عروبة أو حماد بن سلمة بالبصرة ، وهشيم بواسط ، ومعمر باليمن ،
وجرير بن عبد بن حميد بالري ، و ابن المبارك بخراسان . قال الحافظان ابن حجر
والعراقي : وكان هؤلاء في عصر واحد ، فلا يدرى أيهم أسبق ، كذلك كتب المسند
غير واحد في عصر واحد ، فاختلفوا في الأول منهم .
فلو كان فريد أفندي وجدي مطلعًا على أقوال المحدثين في ذلك ، لقال : إن
مالكًا وابن جريج هما أول ، بل من أول من صنف الحديث مبوبًا ، كما يقال أول أو
من أول من كتب المسند نعيم بن حماد وأسد بن موسى وعبد الله بن موسى . وأنَّى
لمثل فريد أفندي وجدي أن يعرف شيئًا من هذه الفروق والدقائق ، أو مثل من وصفه
بالتدقيق والتحقيق في كل ما يكتب ، كبعض محرري المؤيد . على أن القول بسبق
ابن جريج لمالك أقوى من عكسه ، كما أطلق ذلك غير واحد ، ومنه ما في التذكرة
للحافظ ابن حجر عن الإمام أحمد أنَّ ابن جريج وابن أبي عروبة أول من صنف
الكتب .
( الخامس ) قال فريد أفندي وجدي : ( ثم توالت بعد ذلك المجموعات السبع
الشهيرة بكتب السنة الصحيحة وهي : مجموعة البخاري المتوفى سنة 256 هـ ،
ومسلم المتوفى سنة 261 هـ ، وأبو داود ( كذا ) المتوفى سنة 275 هـ وابن ماجه
المتوفى سنة 282 هـ ، والنسائي المتوفى سنة 333 هـ والدارقطني
المتوفى سنة 385 هـ ) .
أقول : إنه ذكر أن المجموعات سبع وعد ستًّا فقط ، فلا نعد هذا عليه ، وإنما
نعد عليه أنه ترك من الكتب الستة كتاب الترمذي ، واستبدل هو به الدارقطني ،
وهذا يدل على الجهل المطلق بهذا العلم ، ولو ترك ابن ماجه لقلنا : إنه تركه
للخلاف فيه ، وإن جرى جميع المتأخرين على عده السادس من الستة . ولكن أنَّى
لمثله ، ولمن يقرظ له كتبه ، فيصفها بالتحقيق والتدقيق أن يعرف هذا .
( السادس ) زعمه أن ابن ماجه توفي سنة 282 ، والصواب أنه توفي سنة
272 ، وقيل 275 .
( السابع ) زعمه أن النسائي توفي سنة 333 ، والصواب أنه توفي سنة
ثلاث وثلاث مائة . فبأي شيء مما يكتب فريد أفندي يوثق .
إن كل ما كتبه في هذه المادة لا يزيد إلا قليلاً عن الصفحة ، وقد رأيت أن
معظم ما هو نقلي من ذلك فهو خطأ ؛ لأن منه الكلام في النسخ والوضع ، وله في
ذلك عبارات لو تتبعناها وانتقدناها لفظًا ومعنى ؛ لأطلنا في إحصاء ما يتعذر
إحصاؤه .
ومن قرأ قوله في آخر هذه المادة : ( هذا وإننا في عصر كثر فيه النبهاء ،
وأخذ كثير منا في احتذاء مثال أئمتنا في مسألة الأحاديث من الاكتفاء بالصحيح
السليم ، وإن كان قليلاً ، وترك المشكوك فيه ، مهما كان كثيرًا ) .
من قرأ قوله هذا يظن أنه هو في مقدمة هؤلاء النبهاء الذين ذكرهم . ولكنه إذا
تتبع الأحاديث التي يحتج بها فيما يكتب ، يرى أنه يشكك في أصح الروايات ؛
كأحاديث الشفاعة . ويعتمد في الأكثر على الأحاديث المشكوك فيها ، أو المقطوع
بضعفها أو وضعها ، وهو لا يعلم . وسنبين ذلك في فصل مستقل إن شاء الله .
__________