العصبية الجنسية وجريدة اللواء بقلم محمد رشيد رضا
أرسل إلينا بعض طلبة مدرسة الحقوق مقالاً من الإسكندرية عنوانه ( المنار
والسياسة والدين ) . ولكن موضوعه الدفاع عن صاحب جريدة اللواء ، وإطراؤه
بالمدح والثناء ، ومؤاخذة المنار على إنكار عليه ما أدخله في دعوة الوطنية ؛ من
نزغات العصبية الجنسية الجاهلية ، وإقامته الحجج على أن ذلك مناف لما قرره
الإسلام من أخوة الدين ، ومن الحقوق الأخرى لكل مقيم في دار الإسلام أيًّا كان
جنسه . ذكره بذلك ، ما كتبناه في الجزء الماضي ردًّا على فريد أفندي وجدي .
قال الكاتب : ( أما بعد ، فإن لي كلمة ، يدفعني الشعور بالواجب أن أقولها لكم
وهي وإن كانت لا تتفق إلى الآن مع رأيكم ، إلا أن لي ملء الثقة في أنكم لا
ترفضون كل ما يخالفكم ؛ لما ناديتم بذلك كثيرًا ، وشهدناه منكم غير مرة . فأنا أرسل
إليكم تلك الكلمة ؛ معتقدًا أني أخدم بها الحق ، كما أخدم بها المنار ، فرجائي أن
تنشروها في مجلتكم ، ولكم بعد ذلك أن تعلقوا عليها ، ما شئتم أن تعلقوا ) .
نقول : إننا لا نرفض كل ما يخالفنا ، ولا ننشر كل ما يوافقنا ، وإنما نختار ما
نرى فيه الفائدة من الأمرين ، ومنه الانتقاد علينا في المسائل الدينية والعلمية ، ممن
يبحث في المسألة نفسها ، لا في اعتقاده بنية صاحبها وشؤونه الخاصة ، فلو كان
الكاتب جعل مقالته في انتقاد رأينا في العصبية الجنسية ؛ لنشرناها . ولكن معظمها
في بيان اعتقاده في صاحب جريدة اللواء ، وما يرجوه من سعادة البلاد بدعوته ،
وهو ما نعتقد خلافه .
فهو يذكر اعتقاده فيه ، ويقول : ( فماذا تنتقدون عليه في ذلك ؟ وماذا ترون
فيه مما يخالف روح الدين ؟ ) كأنني بانتقاد العصبية الجنسية الجاهلية عليه ،
انتقدت عليه كل شيء يقوله . وقد غلا في ذلك ، حتى حكم بأنني أعد المبادئ التي
تنهض بها الأمم - وهي مبادئ صاحب جريدة اللواء في رأيه مخالفة للإسلام ،
وأنني أجعل الحياة الوطنية عين العصبية الجنسية الجاهلية ؛ وبذلك أكون منفرًا عن
الإسلام .
وهذا غير صحيح ، فما فائدة التطويل بشرح رأي غير منطبق على الواقع .
ليس في المقال دفاع حقيقي عن صاحب جريدة اللواء في موضوع العصبية
الجنسية ، إلا إنكار أن تكون مما يدعو إليه ، قال : لعلكم تريدون بذلك ، ما يطعن
به على الدخلاء ، وتحذير المصريين منهم في اللواء . إن كنتم تريدون ذلك وهو
الواقع ، فما أبعد دعوته عن عصبية الجنسية ؛ لأن مصطفى كامل باشا قد عرَّف
معنى الدخلاء غير مرة ، وفهم ذلك عنه الكثيرون من قرَّاء اللواء فهو يعني
بالدخيل من يزج بنفسه في أهل أمة ، ويسعى في ضررهم ، وهو يطلق هذا اللفظ
على فئة من نصارى سوريا ، رأينا من أعمالهم أنهم يحملون في صدورهم أقبح
النيات نحونا ؛ سعيًا وراء مصالحهم وأهوائهم .
ثم ذكر أنه إن كان قد أدمجنا في تلك الزمرة ؛ فما ذلك إلا لاعتقاده أننا نفعل
فعل تلك الزمرة ، وأننا لا نخلص في فائدة الأمة المصرية ، ثم استدل على ذلك
بإجلاله لبعض السوريين كرفيق بك العظم .
أقول : ليست العصبية الجنسية في اللواء مأخوذة من كلمة الدخلاء التي جعلها
هجيراه فقط ، بل نرى روحه فائضة بهذه العصبية التي جعلها مضادة للسوريين
بوجه خاص ، فما غاضت آونة ؛ لعدم المحرك إلا وفاضت أخرى . وقد طغت حتى
تجاوزت السوريين المقيمين في مصر إلى غيرهم ، كما ظهر ذلك عندما علل تألب
العساكر السورية المسوقة إلى اليمن بخسة المنبت .
وقد ظهر أثرها في الأغرار المخدوعين بجعجعة هذه الجريدة ، حتى صار مثل
محمد فريد أفندي وجدي لا يسمح لمحمد رشيد رضا أن يتكلم في شؤون الأمة
المصرية ، بل ولا في شؤون ملتها ، ولا يجد أحدًا ينشر له هذا إلا اللواء ؛ صاحب
الدعوة وناشرها . وإن مثل هذه العصبية يكون مظهرها في اللسان أقوى منه في
الكتابة ، وقد سمعنا من خاصة أصدقائنا الفضلاء من المصريين أنها قد قويت ، حتى
صار بعض المتعلمين ، بل والمعلمين يعذلون من إخوانهم من يعترف بفضل
سوري ، أو يخلص له في الصداقة ورأينا أهل الفضل والدين من المصريين يألمون ؛
لطروء النزعة الجاهلية على المسلمين .
ولعل المنتقد قد قرأ ما كتبه بعض إخوانه طلاب الحقوق في بعض المجلات
المحدثة من كونهم يطلبون : بيان الدين والدفاع عنه من المصريين .
بل وصل شر العصبية إلى بعض علماء الأزهر الذين يعيشون فيه مع
طوائف المسلمين من جميع الأقطار ، حتى قال أحد كبرائهم مرة عندما مدح أمامه
(مسجد الست الشامية) في موقعه ونظافته : نعم . ولكن من الأسف أنهم حشوه
بالشوام : وهو - وإن بناه الشوام ، ووقفوه ووقفوا عليه - ليس فيه مستخدم شامي إلا
الخطيب الصالح الذي يقصد المسجد ؛ لأجله من الأماكن البعيدة ، ممن لم تفسد دينهم
عصبية الجاهلية . أتدري من هو ذلك العالم ؟ إنني لا أسميه ، وإنما أقول لك : إنه
صديق صاحب جريدة اللواء من علماء الأزهر الذي كان يزوره ، كما يزوره هو .
بل ارتقى صاحب جريدة اللواء بهذه العصبية إلى مستوى أسمى ، فصرح بأن
أمير البلاد أشار في خطبته يوم خلع على الشربيني خلعة مشيخة الأزهر إلى
وجوب خروج صاحب المنار من مصر ؛ لأنه هو الغريب الذي هو غير راض عن
طريقة التعليم في الأزهر .
على أننا لو سلمنا أن اللواء لا يعني بالدخلاء الذين ينفر عنهم ، ويبغض
فيهم غير فئة من نصارى السوريين ، كما يرى المنتقد الحسن الظن ، لما كنا إلا
قائلين بأنه مخطئ خطأ ضارًّا بالبلاد ؛ لأن أول من يخطر بالبال من هذه الفئة
أصحاب المقطم ، وهم لم يذهبوا مذهبهم المعروف في السياسة ؛ لأجل فائدة سوريا
ومصلحتها ، حتى يقال : إنه مذهب سوري ، ويذم منتحله بأنه أو لأنه سوري أو
دخيل .
كلا ، إنه ما ذهب أحد منهم هذا المذهب ؛ لأنه سوري دخيل في البلاد
المصرية ، يتعصب عليها وعلى أهلها ؛ ليحول مصالحها ومنافعها إلى وطنه ، وإنما
قصارى سوء الظن فيهم أن يكونوا يلتمسون بهذا منفعتهم الخاصة ، فما معنى
نبزهم بلقب الدخلاء ، وجعل ذلك علة لعداوتهم للمصريين ؟
أليس من المقرر في علم الأصول ، والمعروف عند أرباب الأذواق والعقول
أن ترتيب الحكم على المشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق ؟ أليس الاسم المنسوب
من قبيل المشتقات ، ولذلك يعمل عمل اسم المفعول ؟ فبهذا تبين أن ترتيب الطعن
في قوم على كونهم سوريين دخلاء ؛ يؤذن بأن كونهم سوريين هو علة ذلك الطعن ،
وما ترتب عليه ، وحينئذ يكون طعنًا في جميع السوريين من حيث هم سوريون ،
وهو على كونه خرقًا وأفنًا في الرأي ضار ؛ لأنه تأريث عداوات وضغائن بين أهل
قطرين متجاورين في الأرض ، متساوين في اللغة والتابعة العثمانية ، متقاربين في
العادات ، وأكثر أهلهما مع هذا متفقون في الدين .
إن السوريين المقيمين بمصر وحدهم ، لا يستهان بعداوتهم ؛ فإنهم أصحاب
قوة مالية تقدر بنحو خمسين مليون جنيه ، وقوة أدبية لا تحتاج إلى تعريف . وما من
أحد منهم يعد من أصحاب الرأي ، والإشراف على أحوال العصر ، إلا وهو يعتقد
بأن خطة جريدة اللواء تضعه من المصريين موضع العدو من عدوه . ومن هؤلاء
من هو مخالف لأصحاب المقطم في الرأي والسياسة ، ومنهم من يبغضهم ويطعن
فيهم .
أي قول قال به أصحاب المقطم ، وليس في المصريين مسلمهم أو قبطهم من
يقول بمثله ، فما بالك بسائر الشعوب التي يوجد منها ألوف تقيم في مصر ، ولهم
جرائد تخالف رأي اللواء ، كما يخالفه المقطم وهي أشد خلافًا ، فلماذا لا ينوط ذنبها
في رأيه ، بكون أصحابها من جنس كذا ، أو من بلاد كذا ؟
إن كل أجنبي بمصر , يرى جنسه أشرف من الجنس المصري ، وأجل من أن
يخضع لقانونه ، وهو يعمل في هذه البلاد لأمته وبلاده وما أصابه من الثروة
ينقلب به إلى أهله . والسوري يرى نفسه شقيقًا للمصري ، ومساويًا له في كل شيء
وقلما يرجع سوري إلى بلاده بما كسب من مال . ولكن كثيرًا منهم جاءوا إلى
مصر بأموال عظيمة ، لا سيما في هذه السنين الأخيرة .
فلأي شيء يعد اللواء ذنب الواحد منهم عارًا عليهم . وما هو الفرق بين السوري
والمصري والإفرنجي في ذلك ؟ على أن جميع الأجناس صارت تشعر بأن اللواء
يدعو إلى عدوانها ، بل طفقوا يعتقدون أن المصريين يبغضون كل غريب ، فما أشأم
اللواء !
المنتصر للواء ؛ يرى أن خطته هي التي تنجح بها الأمم ، وأنه لا نجاح
بسواها ، ونحن نرى ضد ما يرى ، وما توسعنا في مسألة الجنسية الآن وقبل الآن ؛
إلا لأنها منافية لروح الإسلام من جهة ، ولمصلحة المصريين ثم السوريين من جهة
أخرى ، ولو شئنا لبيَّنا تنفير هذه الخطة جميع الأوربيين من المصريين ، وكيف
جعلتهم عونًا للإنكليز عليهم ، بعد أن كانوا عونًا لهم على الإنكليز ، وبيَّنا كيف
شغلت هذه الخطة المصريين بالسياسة العقيمة من الطريقة المستقيمة ، وغير ذلك
مما ننكره على هذه الجريدة المتهورة وصاحبها . ولكننا ندع ذلك للأيام ، فهي التي
تكشف للناس ، كيف كانت هذه الوطنية عبارة تبغيض المصريين إلى جميع الشعوب
وكثرة الفخر والدعوى والعظمة ، ولعل اليوم الذي تنكشف فيه الحقائق ليس ببعيد .
الجرائد و تاريخ الأستاذ الإمام
و صاحب جريدة اللواء
جاءتنا رسالة من الشيخ أحمد المنوفي إمام الجامع الكبير بكلكته (الهند) في
موضوع انتقادنا على بعض الجرائد فيما كتبت عن تاريخ الأستاذ الإمام ، أنحى
فيها على صاحب جريدة اللواء إنحاءً شديدًا ، يتعلق بسيرته وسياسته ، كما أطرأه
صاحب الرسالة السابقة في ذلك . فنعتذر عن نشرها بمثل ما اعتذرنا به عن نشر
تلك ؛ لأنها لا تفيد القراء وإنما تفيدنا نحن ، وقد قرأناها ، وإنما نذكر جملة منها
على سبيل النموذج ؛ لما فيها من اعتقاد كاتبها في الأستاذ الإمام - عليه رضوان الله-
لا مجازاة للواء على شتمه إيانا مرة بعد أخرى إذ لو كان غرضنا ذلك لنشرناها
برمتها . قال الكاتب في عرض الكلام على صاحب اللواء :
( ثم ازداد غلوًّا ، فجعل مداد قلمه تامور المسلمين ، ومهجة المصريين ، لا
استغراب ما صدر منه من هذه اللفظة الشنيعة التي منشأها الغطرسة وسوء الأدب
مع أئمة الدين وقادة المسلمين ، ألا وهي قوله : ( تاريخ الشيخ عبده ) إذ مثل هذه
اللفظة يتحاشا من كتابتها ، وجعلها عنوانًا على إمام الأئمة المرحوم الأستاذ الإمام ،
أقلُّ الناس أدبًا ، وأشدهم تكبرًا ، وأجهلهم بحقيقة نفسه ، بل لا ينبغي لأديب أن
يجعلها عنوانًا على أصغر تلميذ ، فضلاً عن الأستاذ الإمام .
فما بالك بصاحب (جريدة ) اللواء ، الذي يعتقد أنه خلَّص المسلمين وعلى
الأخص المصريين من دوكه أو أخرجهم من سَلَى جمل ، وأنهم لولاه لم تقم لهم قائمة
إلخ ما قال ، ومنه عدم التفرقة بين ما يكتبه صاحب هذه الجريدة ، وما يكتبه خلفاؤه ؛
لأنهم كما قال الكاتب : ( لا يكتبون إلا ما يوافق مشربه ) .
وجملة القول : أننا لا نحب البحث في مذهب جريدة اللواء ، وسيرة صاحبها
في سياسته ، ومشربه ، ولا نحاول إقناع المعجبين بها وبه بما نعتقد فيهما ؛ لأنهم
يتبعون في ذلك الإعجاب الشعور والوجدان ، دون الرأي والبرهان ، والوجدان
يستفزه الغلو والشذوذ ؛ ولذلك نال عبد الله أفندي نديم رحمه الله من إعجاب
الجماهير ، وتصفيق قلوبهم وأيديهم ، ما لم يصل إلى مثله ولا إلى عشره صاحب
جريدة اللواء إلى اليوم ؛ لأنه كان يقول لهم فيما يكتب يخطب : إن قذائف مدافع
الإسكندرية تصل إلى قبرص من هذه الناحية ، وقذائف مدافع الآستانة تصل إليها
من الناحية الأخرى ، فكيفما جالت المراكب الإنكليزية فهي تحت رحمة مدافعنا .
ومصطفى كامل يهزأ بالإنكليز ، ويهددهم بما يقرب من هذا ، ومتى وصل إلى مثله -
وما ذلك ببعيد - يصير إعجاب الجماهير به أشد منه اليوم ؛ لأن إعجابهم يكون
دائمًا على قدر الغلو , كما قلنا .
ولكن إذا وقع بالبلاد منتهى ما يتوقعه العقلاء من عواقب هذا الغلو - وما
وقع إلى اليوم ليس بقليل - أو إذا تدارك هؤلاء العقلاء الخطب قبل وقوعه وهم
أولو الشأن في البلاد ، كما يرجى منهم ، فيومئذ يعلم المغرورون أن ليس كل مخالف
للواء بعدو للبلاد ، ولا بدخيل ، ولا بضار ، بل الضارهو اللواء ، وصاحبه المتفاني
في حب الشهرة والعلو ، لا في حب الوطن { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ
وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ َ} (النحل : 9 ) .
__________
المصدر مجلة المنار