السلوك والتصرف
إذا كان علم الأخلاق يعرف بأنه : حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية ، من هذا التعريف يتبين أن الخلق فى حقيقته وذاته حالة باطنية ، أو أنه أمر داخلى تشتمل عليه النفس ، وصفة تقوم بها فتطبعها بطابع معين ، يميل بها إما إلى فعل الخير وإما إلى فعل الشر
إلا أن أفعال الإنسان الظاهرة تختلف كل الاختلاف عن هذا الأمر الباطنى ، فالخلق فى مفهومه وماهيته شئ ، والفعل الذى من شأنه أن يصدر عنه ويكون مظهرا له شئ آخر
هذه الأعمال الظاهرة هى التى يطلق عليها علماء الأخلاق اسم ( السلوك )
وهى لا تسمى سلوكا إلا إذا كانت ادرة عن إرادة ، أما إذا صدرت عن المرء من غير إرادة لها أو تفكير فيها فإنها حينئذ لا تسمى سلوكا ، وإنما تكون ( تصرفا ) ، تدفع إليها الغرائز التى يشترك فيها الإنسان والحيوان على السواء
ولهذا عارض (ماكنزى) الفيلسوف الأخلاقى (هربرت سبنسر) فى تعريفه للسلوك بأنه ( مجموعة الأعمال الحيوانية المتجهة نحو غاية ) ، ووجهة نظر (ماكنزى) أن هذا التعريف لا يقتصر على أعمال الإنسان الإرادية التى هى موضوع علم الأخلاق ، وإنما يشمل كذلك أعماله الغير إرادية ، كما يشمل أعمال الحيوان ، مع أن أعمال الحيوان - فى نظر ماكنزى - مدفوعة بغرائزه وشهواته ، لا يوجهها تفكير ، ولا يقترن بها شعور بغاياتها
ولهذا اصطلح علماء الأخلاق على استعمال كلمة السلوك فى الدلالة على الأعمال الظاهرة للإنسان ، كما اصطلحوا على استعمال كلمة الخلق فى الدلالة على أعماله الباطنة ، ووضعوا للأول تعريفا يتفق وإنسانيته فقالوا :
إن السلوك هو أعمال الإنسان الإرادية المتجهة نحو غاية معينة مقصودة
فالعلاقة بين السلوك والخلق إذا هى علاقة الدال بالمدلول أو الأثر بالمؤثر
غير أن الخلق لا ينفرد بالتأثير فى سلوك الإنسان ، وإنما هناك عوامل وظروف يتوقف عليها تكييف الصلة بينهما ، وفاعلية الأول فى الثانى
فليس من الضرورى إذن أنه كلما وجد لدى إنسان خلق السخاء أن يسخو فعلا ، أو كلما اشتملت نفسه على خلق العدل أن يعدل فعلا ، أو على خلق الشجاعة أن يكون شجاعا فعلا ، بل قد يتخلف ذلك لضيق ذات اليد مثلا ، أو لعجز عن تحقيق العدل بين الناس ، أو لمرض يلم به يقعده عن ممارسة فعل النجدة والشجاعة ... وهكذا
وقد يزور المرء مثلا معسكرات اللاجئين من إخواننا عرب فلسطين ، أو يرى المشوهين ممن خلفهم الاعتداء الأمريكى فى فيتنام ، فيرق قلبه وتستثار رحمته ، وتوقظ بواعث الخير فى نفسه ، فيخصص لهم من ماله الخاص تبرعا شهريا ، حتى إذا تقادم به العهد ، فنسى شيئا فشيئا ما راى من هول المصاب وشدة العذاب ووقع الكارثة التى حلت بهؤلاء المشردين ، أخذ حماسه يفتر ، ورحمته تقل ، وشفقته تخبو ، فيقبض يده عن البذل لهم ، وتختفى العوامل والبواعث التى كانت تدفعه للتضحية من أجلهم ، والسلوك نحوهم مسلكا معينا
وربما كان أصدق تعبير عن أثر الظروف والعوامل فى صدور السلوك الحميد عن الخلق الحميد ، ذلك المثل الانجليزى المشهور
إن الشفق الذى يرسل الدجاج لينام يخرج الثعالب لتسعى
وإن زئير الأسد الذى يجمع أفراد ابن آوى يفرق الغنم
........................................................................
من كتاب العقيدة والأخلاق للدكتور محمد بيصار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ