الضمير
فى كثير من الأحيان يعرض للإنسان أمر من الأمور فتحدثه نفسه بأن يقوم حياله بتصرف خاص ، وأن يأتى بالنسبة إليه فعلا معينا
ولكن هذا الفعل من بين سائر الأفعال التى يمكن أن يقوم بها المرء قد يكون موافقا لقاعدة لخير ، وقد لا يكون محققا لمصلحة الفرد أو المجتمع أو غير محقق ، وعنئذ يعرض الإنسان على نفسه ، ويقلب بذهنه وجوه الفعل والترك مقارنا كل واحد منها بما قد يترتب عليه من خير أو شر ، ومن نفع أو ضر ، ثم يقضى برأى يبرمه وحكم ينفذه ، ذلك هو القيام بهذا الفعل أو عدم القيام به ، وفى حالة تنفيذ الفعل وأثناء القيام به لابد من رقاة يقظة ، ورعاية حذرة واعية ، تضمن سلامة التنفيذ والإتيان بهذا الفعل على الوجه الذى يحقق الغرض منه ، ويجعله مفتاح الخير وسبيل نفع وبر ، وهذه المراقبة مهمة أخرى يضطلع بها الإنسان بعد مهمة الحكم بالفعل أو الترك
إلا أنه بعد وقوع أحد الأمرين فعلا أو تركا ، وبعد تحقق ما يترتب على أحدهما وينتج عن كل منهما من خير أو شر ، يجد الإنسان من نفسه كذلك نزوعا إلى الإثابة على خيرية الفعل إن أثمر خيرا ، والعقاب على شريته إن أثمر شرا ، ذلك ما يسمى باطمئنان الضمير فى الحالة الأولى ، وبتأنيب الضمير فى الحالة الثانية
ويكون مصدر هذا النزوع هو أيضا ذات الإنسان وقوة كامنة فيه
ومن هنا نرى أن كل فعل من أفعال الإنسان ، وكل تصرف من تصرفاته لا بد أن يمر بمراحل أو أدوار ثلاثة
الأول : دور تشريع الفعل
والثانى : دور تنفيذ الفعل
والثالث : دور المحاسبة للإثابة أو العقاب
ونرى كذلك أن كل دور من هذه الأدوار يحتاج إلى سلطة ترعاه وتكون وحدها المرجع فى كل ما يتعلق به
ولهذا وجدت فى داخل نفس الإنسان سلطات ثلاث :
1 - السلطة التشريعية
2 - السلطة التنفيذية
3 - السلطة القضائة
ولو أمعنا النظر فى نفوسنا ، وفى حقيقة ذواتنا وفى مكنون أسرارنا لا نجد هذه السلطات منفصلة ، أو مستقلا بعضها عن بعض ، أو على نحو من التعدد والتخالف فى الواقع ونفى الأمر
وإنما سرعان ما يتبين لنا جميعها ترجع لقوة واحدة ، لها كل هذه السلطات ومن حقها وحدها ممارستها ، مهما تعددت مراحلها ، أو اختلفت كيفياتها
تلك القوة الكامنة فى نفس الإنسان ، المودعة فى فطرته ، هى ما أطلق عليه علماء الأخلاق إسم ( الضمير )
إلا أن فلاسفة الأخلاق عندما حاولوا الكشف عن حقيقة هذه القوة التى هى ( الضمير ) اختلفوا فى مفهومها
وقد نشأ هذا الخلاف بينهم عن اختلافهم فى أمر أساسى وجوهرى هو فطرية هذه القوة التى أودعها الله فى الإنسان وركزها فى طبعه فولد بها أو كسبيتها بحيث تكون مستوردة من خارج ذاته بالمران والممارسة وحسن التربية واعتياد الفضائل وارتياد جميل العاادات وحميد الصفات
ويطلق على المذهب الأول اسم (مذهب الحاسة الأخلاقية)
ومن أشهر القائلين به الفيلسوفان الأخلاقيان الانجليزيان (شافتسبرى) و (هتشون)
وقد عرف هؤلاء الضمير بأنه : قوة فطرية غريزية موضوعها الخير والشر ، كما أن المحسات متعلق الحواس الخمس الأخرى
هذه القوة فى نظرهم لا تستند إلى كسب وإنما هى قدر مشترك بين جميع الناس ، وان اختلفت فيهم قوة وضعفا
وكما منح الإنسان قوة البصر والسمع واللمس والشم مثلا لتمييز المبصورات والمسموعات والملموسات والمشمومات ، كذلك منحه الله (حاسة أخلاقية فطرية ) تميز بين الخير والشر وتحضه على ما تراه حسنا بقدر ما تنهاه عن ما تراه قبيحا من الأفعال
وفى محاولة صريحة واضحة لشافتسبرى ، فى إيضاح هذا الرأى يقول ما نصه :
( إذا سألنى سائل وقال لماذا يجب عليك أن تبتعد عن القذارة إذا كنت منفردا ؟ فأول ما يتبادر إلى أن هذا السائل رجل قذر ، وأنه من الصعب أن أدخل فى ذهن مثل ذهنه الوسخ حقيقة النظافة ، ومع ذلك ، إذا أغضيت عن هذه الصعوبة ، أيمكننى أن أجيبه بأن السبب فى ذلك أن لى أنفا يشم ؟
فإذا تثاقل وقال : فإذا كنت مزكوما ، أو فاقد حاسة الشم مثلا فلماذا ؟ أجبته بأنى أبغض أن أرى نفسى قذرا ، كما أبغض أن يرانى الناس كذلك
فإن ألح وقال : فإن كنت فى حجرة مظلمة لا ترى شيئا فلماذا ؟ أجبته بأنى حتى فى هذه الحالة وليس لى أنف يشم ولا عين تبصر ، لا يزال إحساسى كما كان ، يألم من القذر ، ونفسى الانسانية تشمئز من الدنس ، ولو لم اكن كذلك لانحططت عن درجة الإنسان ، ولأبغضت نفسى لأنها نفس حيوان ، ولما امكننى ان احترم تلك النفس التى لا تعرف قيمتها ولا ا يليق بها
كذلك سمعت الناس يتسائلون لماذا ينبغى ان يكون الانسان شريف النفس محبا للفضيلة فى الخفاء ؟ وهو سؤال لا أريد أن أصرح باعتقادى فيمن يسأله ) انتهى كلامه
ويرى الفيلسوف الفرنسى (جان جاك روسو) أن الإنسان مزود بهذه الغريزة الفطرية كالحيوان ، وأنه بهذه الغريزة الإلهية يفرق بين الخير والشر ، مثلما تفرق العين بين السواد والبياض
هذا الضمير أو (البصيرة الفطرية) كما يسميها (روسو) أحيانا يولد مع الإنسان ، وهو ثقة لا يخطئ ، خير دائما ، ثم هو الوسيلة الوحيدة للهداية فى الطبيعة الإنسانية
أما المذهب الثانى : فعلى رأس القائلين به (ستيورت مل) وهو (المذهب الكسبى) الذى ينكر فطرية الضمير ، حسيا كان أو عقليا ، ويقرر كسبيته ، يعنى أنه قوة من قوى الشعور ، اكتسبها الإنسان ، واستفادها من المران والتجربة ، وعلى نحو من التدريج
ومن أجل ذلك كان الضمير - فى نظر أصحاب هذا المذهب - متفاوتا بتفاوت الأفراد والجماعات مختلفا فى أمة أو بئة عنه فى أمة أو بيئة أخرى
إن المرء فى نظرهم وليد مجتمعه ، وكل مجتمع له عرفه المعين وتقاليده ونظمه المتفق عليها ، وبمقتضى هذه التقاليد والنظم تتحدد قيمة الفعل ، كما يتحدد الجزاء عليه
وقد كره الفرد الأول الذى عاش فى هذا المجتمع الشر ونفر منه ، وأحب الخير ورغب فيه فى أول أمره ، تحت تأثير الخوف من العقاب ، أو رغبة فى الحصول على الثواب ، ولكنه بعد أن مرن على ذلك أصبح نمو هذا الشعور بوازع الشرائع السماوية أو القوانين الوضعية ، وبتقادم الزمن وتوالى العصور والدهور نسى الناس أو تناسوا الدوافع الأولى لكراهية الشر واجتنابه ، وحب الخير والرغبة فى ممارسته ، فظنوا أنهم يفعلون ذلك بقوة باطنية فطرية هى التى اطلقوا عليه اسم (الضمير) ، ثم حكموا بناءا على ذلك بفطريتها ، بينما هى فى الواقع ونفس الأمر مكتسبة بالتجارب والمران عبر تاريخ الإنسان ، فى جماعة معينة ، مارا بأطوارها المختلفة ، وعصور تاريخها المتعاقبة
وهناك مذهب ثالث بجانب هذين المذهبين المتقدمين ، يمكن أن نطلق عليه اسم مذهب (الفطريين العقليين) وهو وان كان يتفق مع المذهب الأول فى القول بفطرية الضمير ، إلا أنه يخالفه فى القول بأنه (حاسة) ويقرر أنه (قوة عقلية) ولدت مع الإنسان وطبعت فى خلقه الأول
وهذا هو مذهب الفيلسوف الألمانى (كانت) الذى يقسم العقل إلى قسمين :
1 - العقل النظرى : الذى يختص بإدراك المحسوسات ، ويعتمد فى معارفه على الحس والتجربة فهو لا يصلح أن يكون مصدرا للأخلاق لأنه :
أولا : لأنه يعتمد فى أحكامه على الحواس والتجارب ، وهى كثيرة الخطأ والضلال
ثانيا : لأنه يعتمد على مقدمات لا تؤمن صحتها دائما ، وبطريق قطعى يقينى
2 - العقل العملى : ويسميه (كانت) الضمير ، الذى يحدده بأنه قوة فطرية عقلية وجدت كامنة فى الإنسان منذ الأزل وإلى الأبد ، لا تكتسب بالتجربة ، ولا تتوقف على الحواس ، بل لا تتصل بالمادة نهائيا لأنها - كما يقول كانت - شعاع من نور هبط من القوة العليا المطلقة غير المحدودة ، إلى النفس الإنسانية ، به تهتدى وبه تميز بين الخير والشر ، ثم هو فى الوقت ذاته قاض معصوم عن الخطأ فى قضائه ، وحكم لا يضل فى أحكامه
ومن أجل ذلك كان نداء الضمير واجب الإستجابة وكانت أوامره مطلقة غير مقيدة بشرط ، أو محدودة بحد ، وهذا هو دعامة الأخلاق ومصدرها وحارسها وقاضيها ، وهو ذلك كله فى وقت واحد ، ومن غير تفرقة فيه بين جانب وآخر لأنه جماع الخير
ورأى (كانت) فى الضمير يشبه - إلى حد كبير - وجهة النظر الإسلامية ، وعلى الأخص عند الفيلسوفيين الإسلاميين (أبى حامد الغزالى) و (ابن مسكويه)
وقد روى وابضة بن معبد رضى الله عنه أنه قال ( أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جئت تسأل عن البر؟ قلت نعم ، قال البر ما اطمأنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك فى النفس وتردد فى الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك) صدق الرسول الكريم
وفى باب المحاسبة والمراقبة فى كتاب الاحياء ، يقول الإمام الغزالى رحمه الله : ( للمراقب فى عمله نظران ، نظر قبل العمل ، ونظر فى العمل ، أما قبل العمل فلينظر إلى همته وحركته ، أهى خالصة أم لهو النفس ، ومتابعة الشيطان ، فيتوقف فيه ويتثبت حتى ينكشف له ذلك بنور الحق ، فإن كان لله تعالى أمضاه ، وإن كان لغير الله استحيا من الله وانكشف عنه ، وأما النظر الثانى للمراقب عند الشروع فى العمل ، فذلك بتفقد كيفية العمل ، ليقضى حق الله فيه ، ويحسن النية فى إتمامه ، ويتعاطاه على أكمل ما يمكنه ) انتهى كلامه
وفى محاسبة النفس بعد العمل يقول الغزالى : ( ينبغى أن يكون للمرء آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها ، كما يفعل التجار فى الدنيا مع الشركاء فى آخر كل سنة ، أو شهر ، أو يوم ، حرصا منهم على الدنيا ) انتهى كلامه
وخلاصة ما جاء فى الباب المذكور على لسان الغزالى تفيد أنه يعتقد فى قوة يسميها تارة (نورا إلهيا) وتارة أخرى يسميها (معرفة) ، إليها تستند قيادة المرء فى أعماله ، وهدايته إلى سواء السبيل ، وصراط الله المستقيم
أما (ابن مسكويه) فحين يتكلم فى كتابه تهذيب الأخلاق عن النفس الإنسانية وقواها ، يذكر أن من بين هذه القوى قوة باطنية عاقلة ، هى قبس من النور قذف به الخالق إلى النفس البشرية ليكون لها هاديا ومرشدا
هذا هو مجمل آراء الأخلاقيين فى الضمير
ويؤخذ على الرأى الأول أن حاسة الضمير لا تضمن الصواب فى أحكامه كما هو شأن سائر الحواس ، وفوق ذلك فإنه يترتب عليها اختلاف الحكم على أعمال الناس باختلاف إحساساتهم ، فيكون الخير عند بعضهم شرا عند الآخرين وبالعكس ، وقد وقع ذلك كثير فى تاريخ البشرية ، ومثاله إقرار ضمير المجتمع العربى فى الجاهلية لوأد البنات وحسبانه داخلا فى الخيرات ، بينما اعتبره الإسلام بعد مجيئه من أقبح الجرائم
أما الرأى الثانى فقد نقد بان الضمير لو كان كسبيا لوقع اختلاف الناس فى تقييم الفضائل والرذائل باختلاف العصور والأمم ، بل وباختلاف البيئات كما تختلف تقاليدهم وقوانينهم ، وهذا مخالف للواقع ، فإننا نرى الناس متفقين على المبادئ الأخلاقية فى مختلف الأزمان ، ومتعدد العصور مهما كان هناك من بعض وجوه التفاوت فى مسائل جزئية ، لا تؤثر على أصول الأخلاق المقررة وقواعد السلوك العامة
وهذه المبادئ العامة التى يتفق عليها الناس جميعا هى معتمد المشرعين والمصلحين ، وهى كذلك الأساس فى احترام هذه القوانين ، ووجوب طاعتها من الناس جميعا
أما الرأى الثالث ، وهو رأى (كانت) فربما كان قبوله للنقد أقل من المذهبين السابقين ، ذلك أن الضمير وإن وجد عند الناس جميعا ، كما يقول ، إلا أنه لم يكن فيهم بمثابة واحدة أو قدر متكافئ ، ومن هنا جاء حكمنا الأخلاقى على بعض الأفعال مختلفا عن حكم أجدادنا الأولين مثلا ، وهذا دليل على أن للتجربة دخلها فى تكوين الضمير
وخلاصة ما يمكن استخلاصه من هذا كله ، هو الرأى المختار ، الذى يأخذ من كل الآراء المتقدمة بطرف ، ويطرح منها ما كان مثارا للنقد ومدعاة للاعتراض ، وذلك هو القول بأن الضمير قوة فطرية فى كل إنسان ، بإعتبار جرثومتها وأصلها ، وإن كان للتربية العقلية والأدبية دخلا فى نموها وتحقيق كمالها
ولعل هذا ما أراده الإمام الغزالى ، عنما اسماه أولا (نورا إلهيا) مما يمكن تفسيره بأنه قوة فطرية ، وما اسماه ثانيا بقوله (معرفة) مما يبيح لنا القول بأنه قابل كذلك للتأثر فى نموه ، وكمال حقيقته بعوامل التربية
..............................................................................
من كتاب العقيد والأخلاق للدكتور محمد بيصار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ