الأربعاء، 21 نوفمبر 2012

موسوعة الأخلاق الإسلامية : الوفاء

الوفاء

معنى الوفاء لغة واصطلاحاً:
معنى الوفاء لغة:
الوفاءُ ضد الغَدْر يقال وَفَى بعهده وأَوْفَى بمعنى. قال ابن بري وقد جمعهما طُفَيْل الغَنَوِيُّ في بيت واحد في قوله:
أَمَّا ابن طَوْقٍ فقد أَوْفَى بِذِمَّتِه ... كما وَفَى بِقلاصِ النَّجْمِ حادِيها (1)
ووفى بعهده يفي وفاءً، وأوفى: إذا تمم العهد ولم ينقض حفظه (2).
معنى الوفاء اصطلاحا:
الوفاء هو: (ملازمة طريق المواساة ومحافظة عهود الخلطاء) (3).
وقيل: (هو الصبر على ما يبذله الإنسان من نفسه ويرهن به لسانه، والخروج مما يضمنه وإن كان مجحفاً به) (4).

(1) ((لسان العرب)) لابن منظور (15/ 398).
(2) ((مفردات ألفاظ القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص878).
(3) انظر ((التعريفات)) للجرجاني (ص253). و ((التوقيف على مهمات التعاريف)) للمناوي (ص:339)
(4) ((تهذيب الأخلاق)) للجاحظ (ص: 24).

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الفرق بين الوفاء والصدق:
(قيل: هما أعم وأخص، فكل وفاء صدق، وليس كل صدق وفاء.
فإن الوفاء قد يكون بالفعل دون القول، ولا يكون الصدق إلا في القول، لأنه نوع من أنواع الخبر، والخبر قول) (1).

(1) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص: 575).،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،أهمية الوفاء بالعهد:
(الوفاء أخو الصدق والعدل، والغدر أخو الكذب والجور وذلك أن الوفاء صدق اللسان والفعل معاً، والغدر كذب بهما لأن فيه مع الكذب نقض العهد.
والوفاء يختص بالإنسان فمن فقد فيه فقد انسلخ من الإنسانية كالصدق، وقد جعل الله تعالى العهد من الإيمان وصيره قواماً لأمور الناس، فالناس مضطرون إلى التعاون ولا يتم تعاونهم إلا بمراعاة العهد والوفاء، ولولا ذلك لتنافرت القلوب وارتفع التعايش، ولذلك عظم الله تعالى أمره فقال تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40] وقال تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ [النحل: 91]) (1).
(والصدق في الوعد وفي العهد من الفضائل الخلقية التي يتحلى بها المؤمنون، والكذب في الوعد وفي العهد من الرزائل الخلقية التي يجتنبها المؤمنون ... ويشترك الوعد والعهد بأن كلا منهما إخبار بأمر جزم المخبر بأن يفعله، ويفترقان بأن العهد يزيد على الوعد بالتوثيق الذي يقدمه صاحب العهد، من أيمان مؤكدة. والمواعدة مشاركة في الوعد بين فريقين، والمعاهدة مشاركة في العهد بين فريقين، فيعد كل من الفريقين المتواعدين صاحبه بما سيفعل، ويعاهد كل من الفريقين المتعاهدين صاحبه بما سيفعل) (2).
(وقد وصف القرآن الذين يوفون بالعهد بأحسن الصفات فقال: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177] وقال: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران: 71] ونقض الميثاق يؤدي إلى سوء السلوك والأخلاق، قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ [المائدة: 13] ومع هذه الأخلاق المتراكمة كظلمات بعضها فوق بعض يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقابل ذلك بحسن الخلق والصبر والتحمل: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 13] ما أروع هذا القرآن كيف يربي الرجال. واستمراراً لورود العهد والميثاق في مجال بناء الأمة على الأخلاق السامية يأمر الله عباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بعدد من الوصايا التي تكون جيلا ذا خلق رفيع، ثم يختم تلك الوصايا الخالدة بقوله سبحانه وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام: 152] فالوفاء بالعهد ضمانة لأداء تلك الأوامر واجتناب ما ورد من نواهي ومن ثم يكون الانقياد والطاعة وحسن الخلق، وإخلاف العهد نقض للعهد، ينحط بصاحبه إلى أسوأ البشر أخلاقا – وبخاصة إذا كان العهد مع الله – فإن المتصف بتلك الصفة ينتقل من مجتمع الصادقين المتقين إلى تجمع المخادعين الكاذبين من المنافقين فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ [التوبة:77]) (3).

(1) ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) (ص: 292).
(2) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/ 501).
(3) ((العهد والميثاق في القرآن الكريم)) لناصر العمر (ص: 183).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،فضل الوفاء بالعهد:
إن من حميد الغرائز وكريم الشيم وفاضل الأخلاق ... الوفاء؛ وإنه لمن أقوى الدلائل وأوضح البراهين على طيب الأصل وشرف العنصر، وهو يتفاضل بالتفاضل اللازم للمخلوقات ... وأول مراتب الوفاء أن يفي الإنسان لمن يفي له، وهذا فرض لازم وحق واجب ... لا يحول عنه إلا خبيث المحتد لا خلاق له ولا خير عنده (1).
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن خيار عباد الله الموفون المطيبون)) (2).
وعن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الله بن أبي ربيعة عن أبيه عن جده قال: استقرض مني النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين ألفا فجاءه مال فدفعه إلي وقال: ((بارك الله لك في أهلك ومالك إنما جزاء السلف الحمد والأداء)) (3).

(1) ((طوق الحمامة)) لابن حزم (ص: 205). بتصرف.
(2) رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (13/ 289)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (36/ 388).
(3) رواه النسائي (4683)، وابن السني في ((عمل اليوم والليلة)) (277) من حديث عبد الله بن أبي ربيعة رضي الله عنه. وحسن إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (391)، والألباني في ((الإرواء)) (5/ 224).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،الأمر بالوفاء بالعهد والوعد في القرآن والسنة
الأمر بالوفاء بالعهد والوعد من القرآن الكريم:
وردت آيات في كتاب الله تحث على الوفاء بالعهد والوعد بسياق مختلف، منها:
- قوله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [يس:60].
- وقوله سبحانه: وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً [الإسراء: 17].
قال الطبري في تفسير هذه الآية: (وأوفوا بالعقد الذي تعاقدون الناس في الصلح بين أهل الحرب والإسلام، وفيما بينكم أيضا، والبيوع والأشربة والإجارات، وغير ذلك من العقود إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا [الإسراء: 17] يقول: إن الله جلّ ثناؤه سائل ناقض العهد عن نقضه إياه، يقول: فلا تنقضوا العهود الجائزة بينكم، وبين من عاهدتموه أيها الناس فتخفروه، وتغدروا بمن أعطيتموه ذلك. وإنما عنى بذلك أن العهد كان مطلوبا) (1).
- وقال عزّ من قائل: أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ ينقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد: 19].
قال الشوكاني في تفسير هذه الآية: (أي بما عقدوه من العهود فيما بينهم وبين ربهم، أو فيما بينهم وبين العباد وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق [الرعد:20] الذي وثقوه على أنفسهم، وأكدوه بالإيمان ونحوها، وهذا تعميم بعد التخصيص، لأنه يدخل تحت الميثاق كل ما أوجبه العبد على نفسه كالنذور ونحوها، ويحتمل أن يكون الأمر بالعكس فيكون من التخصيص بعد التعميم على أن يراد بالعهد جميع عهود الله، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده، ويدخل في ذلك الالتزامات التي يلزم بها العبد نفسه، ويراد بالميثاق: ما أخذه الله على عباده حين أخرجهم من صلب آدم في عالم الذرّ المذكور في قوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ [الأعراف:172]) (2).
- وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:10].
- وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة: 1].
قال السعدي: (هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالوفاء بالعقود، أي: بإكمالها، وإتمامها، وعدم نقضها ونقصها. وهذا شامل للعقود التي بين العبد وبين ربه، من التزام عبوديته، والقيام بها أتم قيام، وعدم الانتقاص من حقوقها شيئا، والتي بينه وبين الرسول بطاعته واتباعه، والتي بينه وبين الوالدين والأقارب، ببرهم وصلتهم، وعدم قطيعتهم.
والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر، واليسر والعسر، والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات، كالبيع والإجارة، ونحوهما، وعقود التبرعات كالهبة ونحوها، بل والقيام بحقوق المسلمين التي عقدها الله بينهم في قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] بالتناصر على الحق، والتعاون عليه والتآلف بين المسلمين وعدم التقاطع.

(1) ((جامع البيان في تأويل أي القرآن)) للطبري (17/ 444).
(2) ((فتح القدير)) للشوكاني (4/ 105).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،فهذا الأمر شامل لأصول الدين وفروعه، فكلها داخلة في العقود التي أمر الله بالقيام بها) (1).
الأمر بالوفاء بالعهد والوعد من السنة النبوية:
فقد وردت أحاديث تأمر بالوفاء بالعهد وتبين حقيقة الغدر وتنهى عنه وهي كثيرة فمنها:
- ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم)) (2).
- وعن سليم بن عامر قال: كان بين معاوية، وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة، ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء)) فرجع معاوية (3).
(ومعنى قوله ينبذ إليهم على سواء أي يعلمهم أنه يريد أن يغزوهم وأن الصلح الذي كان بينهم قد ارتفع فيكون الفريقان في ذلك على السواء.
وفيه دليل على أن العهد الذي يقع بين المسلمين وبين العدو ليس بعقد لازم لا يجوز القتال قبل انقضاء مدته، ولكن لا يجوز أن يفعل ذلك إلاّ بعد الإعلام به والإنذار فيه) (4).
- وعن أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى الصبح، فهو في ذمة الله. فلا تخفروا الله في عهده. فمن قتله، طلبه الله حتى يكبه في النار على وجهه)) (5).
(أي في عهده وأمانه في الدنيا والآخرة وهذا غير الأمان الذي ثبت بكلمة التوحيد ((فلا تخفروا الله في ذمته)) (6) قال في النهاية: خفرت الرجل أجرته وحفظته وأخفرت الرجل إذا نقضت عهده وذمامه) (7).
- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) (8).

(1) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 218).
(2) رواه أحمد (5/ 323) (22809)، وابن حبان (1/ 506) (271)، والحاكم (4/ 399) (8066). وصحح إسناده الحاكم، وقال الذهبي: فيه إرسال. وقال الهيثمي في ((المجمع)) (4/ 148): رجاله ثقات إلا أن المطلب لم يسمع من عبادة.
(3) رواه أبو داود (2759)، والترمذي (1580)، وأحمد (4/ 385) (19455) من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (6480).
(4) ((معالم السنن)) للخطابي (2/ 275).
(5) رواه ابن ماجه (3945)، والضياء في ((المختارة)) (1/ 152). قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/ 167): رجاله ثقات إلا أنه منقطع. وصححه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (421). وقد رواه مسلم (657) بلفظ مقارب، من حديث جندب رضي الله عنه.
(6) رواه ابن ماجه (3945)، والضياء في ((المختارة)) (1/ 152). قال البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/ 167): رجاله ثقات إلا أنه منقطع. وصححه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (421).
(7) ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (2/ 14).
(8) رواه البخاري (34)، ومسلم (58).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،قال ابن عثيمين رحمه الله: (وأما إخلاف الوعد فحرام يجب الوفاء بالوعد سواء وعدته مالا أو وعدته إعانة تعينه في شيء أو أي أمر من الأمور إذا وعدت فيجب عليك أن تفي بالوعد وفي هذا ينبغي للإنسان أن يحدد المواعيد ويضبطها فإذا قال لأحد إخوانه أواعدك في المكان الفلاني فليحدد الساعة الفلانية حتى إذا تأخر الموعود وانصرف الواعد يكون له عذر حتى لا يربطه في المكان كثيرا وقد اشتهر عند بعض السفهاء أنهم يقولون أنا واعدك ولا أخلفك وعدي إنجليزي يظنون أن الذين يوفون بالوعد هم الإنجليز ولكن الوعد الذي يوفى به هو وعد المؤمن ولهذا ينبغي لك أن تقول إذا وعدت أحدا وأردت أن تؤكد إنه وعد مؤمن حتى لا يخلفه لأنه لا يخلف الوعد إلا المنافق) (1).
- وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جمع الله بين الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان)) (2).
قوله ((لكل غادر لواء)) قال النووي: (معناه لكل غادر علامة يشهر بها في الناس لأن موضوع اللواء الشهرة مكان الرئيس علامة له، وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحفلة لغدرة الغادر لتشهيره بذلك) (3).
وقال القرطبي: (هذا خطاب منه للعرب بنحو ما كانت تفعل، لأنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء ليلوموا الغادر ويذموه، فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر ليشتهر بصفته في القيامة فيذمه أهل الموقف) (4).

(1) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (4/ 47 - 48).
(2) رواه مسلم (1735).
(3) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (12/ 43).
(4) ((فتح الباري)) لابن حجر (6/ 284).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،ما قيل في الوفاء
- قال الأحنف: (لا صديق لملولٍ ولا وفاء لكذوبٍ ولا راحة لحسودٍ ولا مروءة لبخيلٍ ولا سؤدد لسيئ الخلق) (1).
- وقيل لبعض الحكماء: (بأي شيء يعرف وفاء الرجل دون تجربة واختبار؟ قال بحنينه إلى أوطانه، وتلهفه على ما مضى من زمانه
- وعن الأصمعي قال: إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ووفاء عهده فانظر إلى حنينه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه وبكائه على ما مضى من زمانه) (2).
- وقال ابن مفلح: (كان يقال كما يتوخى للوديعة أهل الأمانة والثقة كذلك ينبغي أن يتوخى بالمعروف أهل الوفاء والشكر) (3).
- وقال الحريري: (تعامل القرن الأول فيما بينهم بالدين زمانا طويلا حتى رق الدين ثم تعامل القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء ثم تعامل القرن الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة ثم تعامل القرن الرابع بالحياء حتى ذهب الحياء ثم صار الناس يتعاملون بالرغبة والرهبة) (4).
- وقال بعض الحكماء: (من لم يف للإخوان كان مغموز النسب) (5).
- وقال ابن حزم: (الوفاء مركب من العدل والجود والنجدة لأن الوفي رأى من الجور أن لا يقارض من وثق به أو من أحسن إليه فعدل في ذلك ورأى أن يسمح بعاجل يقتضيه له عدم الوفاء من الحظ فجاد في ذلك ورأى أن يتجلد لما يتوقع من عاقبة الوفاء فشجع في ذلك) (6).
- وعن عوف بن النعمان الشيباني أنّه قال في الجاهلية الجهلاء: (لأن أموت عطشاً أحب إليَّ من أكون مخلاف الموعدة) (7).
- وعن عوف الكلبي أنّه قال: (آفة المروءة خلف الموعد) (8).
- وقال الحارث بن عمرو بن حجر الكندي: (أنجز حر ما وعد) (9).
- (وقالت الحكماء: لا شيءَ أضيع من مَوَدَةِ من لا وَفاء له: واصطناع مَن لا شكر عِنده، والكريمُ يَوَد الكريم عن لُقْية واحدة، واللّئيم لا يَصِل أحداً إلا عن رَغْبة أو رَهْبة) (10).
- (وأوصت أعرابية ابناً لها فقالت: يا بني، اعلم أنه من اعتقد الوفاء والسخاء فقد استجاد الحلة بربطتها وسربالها، وإياك والنمائم فإنها تنبت السخائم، وتفرق بين المحبين، وتحسي أهلها الأمرين) (11).

(1) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/ 146).
(2) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (ص: 292).
(3) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (ص: 292).
(4) ((آداب الصحبة)) للسلمي (ص73).
(5) ((آداب العشرة)) لبدر الدين الغزي (ص52).
(6) ((الأخلاق والسير)) لابن حزم (ص145).
(7) ((الأمثال)) لأبي عبيد بن سلام (ص71).
(8) ((الأمثال)) لأبي عبيد بن سلام (ص71).
(9) ((الأمثال)) لأبي عبيد بن سلام (ص71).
(10) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 345)
(11) ((ربيع الأبرار)) لأبي القاسم الزمخشري (5/ 299 - 300).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،أقسام العهد
العهد: ما يعاهد الإنسان به غيره وهو نوعان:
- (عهد مع الله عز وجل فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف: 172] فقد أخذ الله العهد على عباده جميعا أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا لأنه ربهم وخالقهم.
- وعهد مع عباد الله ومنه العهود التي تقع بين الناس بين الإنسان وبين أخيه المسلم بين المسلمين وبين الكفار وغير ذلك من العهود المعروفة فقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعهد فقال عز وجل: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً [الإسراء: 34] يعني أن الوفاء بالعهد مسئول عنه الإنسان يوم القيامة يسأل عن عهده هل وفَّى به أم لا قال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ [النحل:91] يعني ولا تخلفوا العهد) (1).

(1) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (4/ 45).،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،فوائد وآثار الوفاء بالعهد
الآثار المترتبة على الالتزام بالعهد والميثاق متنوعة ومتعددة، فهناك الآثار التي تخص الفرد وأخرى تعم الجماعة، بعضها في الحياة الدنيا، وأخرى يوم القيامة، فمن هذه الآثار:
1 - الإيمان:
وردت آيات كثيرة تنفي الإيمان عن الناقضين لعهدهم وتصفهم بالكفر ... وفي المقابل وصف الله سبحانه وتعالى الموفين لعهدهم ومواثيقهم بالإيمان قال تعالى وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الحديد:8]
2 - التقوى:
التقوى أثر من آثار الوفاء بعهد الله وثمرة من ثمرات الالتزام بميثاقه قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 63]
3 - محبة الله:
أثبت الله محبته للمتقين الموفين بعهدهم، المستقيمين على عهودهم ومواثيقهم حتى مع أعدائهم ما استقاموا هم على تلك العهود، قال تعالى: فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 7].
4 - حصول الأمن في الدنيا وصيانة الدماء:
لم تقتصر آثار الوفاء بالعهد والميثاق على المسلمين وحدهم، وإنما شمل عدل الله الكفار الذين لم يدخلوا في دين الإسلام ولهم عهود مع أولئك المسلمين، فجاءت الآيات صريحة بوجوب الوفاء لهم وصيانة دمائهم.
5 - الحياة الطيبة والجزاء الحسن والأجر العظيم:
وعد الله الموفين بعهدهم بجزاء عظيم قال تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ [الأحزاب: 23]
وقال: وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 10]
6 - تكفير السيئات وإدخال الجنات:
ومن الآثار التي وردت في أكثر من آية جزاء لمن وفَّى بعهده والتزم بميثاقه الوعد بدخول الجنة وتكفير السيئات، قال تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: 40] قال ابن جرير: وعهده إياهم أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة (1).

(1) ((العهد والميثاق في القرآن الكريم)) لناصر العمر (ص: 204). بتصرف.،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،صور الوفاء
الوفاء خلق إسلامي رفيع وله صور وأنواع عدة منها:
1 - الوفاء بالعهد الذي بين العبد وربه:
(فالعهود التي يرتبط المسلم بها درجات، فأعلاها مكانة، وأقدسها ذماماً، العهد الأعظم، الذي بين العبد ورب العالمين. فإن الله خلق الإنسان بقدرته، ورباه بنعمته، وطلب منه أن يعرف هذه الحقيقة، وأن يعترف بها، وألا تشرد به المغويات، فيجهلها أو يجحدها قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ [يس: 60]) (1).
2 - الوفاء في سداد الدين:
اهتم الإسلام بالدَّين لأن أمره عظيم، وشأنه جسيم، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على قضاء الدين، وكان لا يصلي على الميت إذا كان عليه دين حتى يُقضى عنه. وقد قال: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)) (2).
3 - الوفاء بشروط عقد النكاح:
قال صلى الله عليه وسلم: ((أحقُّ الشروط أن توفُّوا به ما استحللتُم به الفروج)) (3).
قال الخطابي: (الشروط في النكاح مختلفة فمنها ما يجب الوفاء به اتفاقا وهو ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وعليه حمل بعضهم هذا الحديث، ومنها ما لا يوفى به اتفاقا كسؤال طلاق أختها ... ومنها ما اختلف فيه كاشتراط أن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى أو لا ينقلها من منزلها إلى منزله) (4).
4 - الوفاء بين الزوجين:
الوفاء بين الزوجين يجعل الأسر مستقرة والبيوت مطمئنة، فيكون رابط الوفاء بينهما في حال الشدة والرخاء وفي العسر واليسر.
5 - الوفاء بإعطاء الأجير أجره:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) (5).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعط أجره)) (6).
6 - وفاء العامل بعمله:
وذلك بأن يعمل العامل ويعطي العمل حقه باستيفائه خالياً من الغش والتدليس، فعن عاصم بن كليب الجرمي قال: حدثني أبي كليب ((أنه شهد مع أبيه جنازة شهدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا غلام أعقل وأفهم، فانتهى بالجنازة إلى القبر ولم يمكن لها، قال: فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: سووا لحد هذا. حتى ظن الناس أنه سنة، فالتفت إليهم فقال: أما إن هذا لا ينفع الميت ولا يضره، ولكن الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن)) (7).
7 - الوفاء بالنذر:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)) (8) ويجب الوفاء بالنذر إذا كان نذر طاعة.
8 - الوفاء بما التزم به من بيع أو إجارة:
(الوفاء بما التزم به من بيع أو إجارة، وغير ذلك من المعاملات المالية ما دامت مشروعة يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [المائدة:1] وسواء كانت هذه العقود مبرمة بين المسلم والمسلم، أو المسلم وغير المسلم) (9).
9 - الوفاء بما التزم به الولاة والأمراء من العهود والمواثيق في علاقاتهم مع الدول.

(1) ((خلق المسلم)) لمحمد الغزالي (ص: 50).
(2) رواه البخاري (2387) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) رواه البخاري (2721) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
(4) ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 218).
(5) رواه ابن ماجه (3443) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. ورواه أبو يعلى (6682)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (8/ 13) (3014)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (7/ 142) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2892): هذا المتن مع غرابته يكتسب بكثرة طرقه قوة. وحسن إسناده البوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (3/ 75)، وجوَّد إسناده العجلوني في ((كشف الخفاء)) (1/ 161).
(6) رواه البخاري (2227) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) رواه البيهقي في ((الشعب)) (7/ 234) (4932) من حديث كليب الجرمي رضي الله عنه.
(8) رواه البخاري (6696) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(9) ((الأخلاق الإسلامية)) لحسن المرسي (ص: 218).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،نماذج من وفاء النبي صلى الله عليه وسلم:
إن الوفاء بالعهد، وعدم نسيانه أو الإغضاء عن واجبه خلق كريم، ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بالمحل الأفضل والمقام الأسمى، والمكان الأشرف، فوفاؤه ... كان مضرب المثل، وحق له ذلك وهو سيد الأوفياء (1). ويتجلى لنا وفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في صور كثيرة منها:
وفاؤه صلى الله عليه وسلم بالوعد:
فقد روى أبو داود عن عبد الله بن أبي الحمساء قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت ثم ذكرت بعد ثلاث فجئت فإذا هو في مكانه فقال ((يا فتى لقد شققت علي أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك)) (2).
قال صاحب كتاب (عون المعبود): (كان انتظاره صلى الله عليه وسلم لصدق وعده لا لقبض ثمنه. قال النووي: أجمعوا على أن من وعد إنسانا شيئا ليس بمنهي عنه فينبغي أن يفي بوعده، وهل ذلك واجب أو مستحب، فيه خلاف) (3).
- وفاؤه صلى الله عليه وسلم بالعهد لعدوه:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفي بالعهود والمواثيق التي تكون بينه وبين أعداء الإسلام.
(فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لرسولي مسيلمة الكذاب لما قالا: نقول إنه رسول الله ((لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما)) (4). وثبت عنه أنه قال لأبي رافع وقد أرسلته إليه قريش فأراد المقام عنده وأنه لا يرجع إليهم فقال: ((إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع إلى قومك فإن كان في نفسك الذي فيها الآن فارجع)) (5). وثبت عنه أنه رد إليهم أبا جندل للعهد الذي كان بينه وبينهم أن يرد إليهم من جاءه منهم مسلما) (6).
- وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل. قال: فأخذنا كفار قريش. قالوا: إنكم تريدون محمدا؟ فقلنا: ما نريده. ما نريد إلا المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه. فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر. فقال: ((انصرفا. نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم)) (7).
وفاءه صلى الله عليه وسلم لزوجاته:
فمن وفائه صلى الله عليه وسلم كان يكرم صديقات زوجته خديجة رضي الله عنها بعد موتها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى بالشيء يقول ((اذهبوا به إلى فلانة فإنها كانت صديقة خديجة اذهبوا به إلى بيت فلانة فإنها كانت تحب خديجة)) (8).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما غرت على أحد من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما بي أن أكون أدركتها وما ذاك لكثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان ليذبح الشاة فيتتبع بها صدائق خديجة فيهديها لهن)) (9).

(1) ((هذا الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا محب)) لأبي بكر الجزائري (ص 556).
(2) رواه أبو داود (4996)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (20835) من حديث عبد الله بن أبي الحمساء رضي الله عنه. وضعفه الألباني في ((ضعيف الترغيب)) (1776).
(3) ((عون المعبود شرح سنن أبي داود)) للعظيم آبادي (13/ 340).
(4) رواه أبو داود (2761)، وأحمد (3/ 487) (17032) من حديث نعيم بن مسعود رضي الله عنه. قال الحاكم (2/ 155): صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1339).
(5) رواه أبو داود (2785)، وأحمد (6/ 8) (23908)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8/ 52) (8621) من حديث أبي رافع رضي الله عنه. وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (2644)، وصحح إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (702).
(6) ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/ 79).
(7) رواه مسلم (1787) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(8) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (232)، وابن حبان (15/ 467) (7007)، الحاكم (4/ 193) (7339) من حديث أنس رضي الله عنه. وصحح إسناده الحاكم، وصححه الذهبي، وحسنه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (172).
(9) رواه الترمذي (2017) من حديث عائشة رضي الله عنها. وقال: حسن صحيح غريب. وصححه الألباني في ((صحيح الترمذي)).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،نماذج من وفاء الصحابة رضي الله عنهم:
لقد وفّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعهود والمواثيق والتزموا بالمبايعات التي أخذها عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(فقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته في عدة مناسبات وهذه هي العهود والمواثيق التي ذكرها الله في أكثر من آية، حيث خص بعضها بالذكر كبيعة الرضوان وعم آخر كسائر المبايعات ... وأخذ عليهم العهد في بيعتي العقبة، وبيعة الرضوان، وبايعهم على الإسلام، وبايع النساء بيعة خاصة، كما بايع بعض صحابته على الجهاد، وآخرون على السمع والطاعة، وبايع بعضهم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم ... ومما يجدر التنبيه إليه هنا ما ذكره سبحانه في سورة الأحزاب مادحاً أصحاب تلك العهود والمواثيق ومثنياً عليهم: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب: 23]. نعم لقد وفى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعهودهم، والتزموا مواثيقهم، ولم يكونوا كبني إسرائيل الذين أصبحت الخيانة والغدر من سماتهم وأبرز سجاياهم وطباعهم.
لقد كان من وفاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحدهم يسقط سوطه وهو راكب على دابته فينزل ليأخذ سوطه ولا يطلب من أحد أن يناوله، لأنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يسأل الناس شيئاً أعطوه أو منعوه.
هذه هي الطاعة وهذا هو الوفاء، وبمثل هؤلاء تسعد البشرية وتصل إلى مدارج الرقي وسمو الأخلاق، لقد كان جيلاً قرآنياً فذاً، لم تعرف البشرية جيلاً كذلك الجيل، ولا صفوة كتلك الصفوة أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 18]) (1).
- وفاء أبي بكر رضي الله عنه:
وفاء أبي بكر بديون النبي صلى الله عليه وسلم وعداته:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قد جاء مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا ثلاثا فلم يقدم مال البحرين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم على أبي بكر أمر مناديا فنادى من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم دين، أو عدة فليأتني قال جابر فجئت أبا بكر فأخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا ثلاثا قال فأعطاني قال جابر فلقيت أبا بكر بعد ذلك فسألته فلم يعطني ثم أتيته فلم يعطني ثم أتيته الثالثة فلم يعطني فقلت له قد أتيتك فلم تعطني ثم أتيتك فلم تعطني ثم أتيتك فلم تعطني فإما أن تعطيني وإما أن تبخل عني فقال أقلت تبخل عني وأي داء أدوأ من البخل- قالها ثلاثا - ما منعتك من مرة إلا وأنا أريد أن أعطيك)) (2).
وفاؤه في إنفاذ جيش أسامة رضي الله عنه:
قام أبو بكر رضي الله عنه بتنفيذ جيش أسامة بن زيد الذين كانوا قد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسير إلى تخوم البلقاء من الشام.
(فخرجوا إلى الجرف فخيموا به، وكان بينهم عمر بن الخطاب، ويقال: وأبو بكر الصديق فاستثناه رسول الله منهم للصلاة، فلما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا هنالك، فلما مات عظم الخطب واشتد الحال ونجم النفاق بالمدينة، وارتد من ارتد من أحياء العرب حول المدينة، وامتنع آخرون من أداء الزكاة إلى الصديق، ولم يبق للجمعة مقام في بلد سوى مكة والمدينة، وكانت جواثا من البحرين أول قرية أقامت الجمعة بعد رجوع الناس إلى الحق كما في صحيح البخاري عن ابن عباس كما سيأتي، وقد كانت ثقيف بالطائف ثبتوا على الإسلام، لم يفروا ولا ارتدوا، والمقصود أنه لما وقعت هذه الأمور أشار كثير من الناس على الصديق أن لا ينفذ جيش أسامة لاحتياجه إليه فيما هو أهم، لأن ما جهز بسببه في حال السلامة، وكان من جملة من أشار بذلك عمر بن الخطاب، فامتنع الصديق من ذلك، وأبى أشد الإباء، إلا أن ينفذ جيش أسامة، وقال: والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطير تخطفنا، والسباع من حول المدينة ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة) (3).

(1) ((العهد والميثاق في القرآن الكريم)) لناصر العمر (ص: 235).
(2) رواه البخاري (4383).
(3) ((البداية والنهاية)) لابن كثير (6/ 335).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،أحوال الإخلاف بالعهد والوعد
(من يخلف الوعد له أربع أحوال في إخلافه بالعهد والوعد:
الحالة الأولى: التعبير الملي عن الكذب منذ إعطاء الوعد أو العهد، وهو في هذا يحمل رذيلة الإخلاف المستند إلى رذيلة الكذب.
الحالة الثانية: النكث والنقض لما أبرمه والتزم به من وعد وعهد، وهذا يعبر عن ضعف الإرادة وعدم الثبات، وعدم احترام شرف الكلمة وثقة الآخرين بها، وهذا الخلق يفضي بصاحبه إلى النبذ من ملاك جماعة الفضلاء الذين يوثق بهم وبأقوالهم.
الحالة الثالثة: التحول إلى ما هو أفضل وخير عند الله، والانتقال إلى ما هو أكثر طاعة لله، إلا أن هذه الحالة لا تكون في العهود العامة، التي تدخل فيها حقوق دولية، ولا في العهود التي ترتبط بها حقوق مادية للآخرين من الناس. أما العهد مع الله في التزام أمر من الأمور، فقد تجري المفاضلة بينه وبين غيره، لاختيار ما هو أقرب إلى طاعة الله وتحقيق مرضاته.
الحالة الرابعة: العجز عن الوفاء لسبب من الأسباب، ومن عجز عن الوفاء مع صدق رغبته به وحرصه عليه فهو معذور لعدم استطاعته.
وأما حالة النسيان فهي من الأمور العامة التي تشمل كل واجب أو مستحب، وتنطبق عليها أحكام النسيان العامة. وصادق الوعد والعهد هو الذي يكون عازما على الوفاء منذ إعطائه الوعد أو العهد، ويظل حريصاً على ذلك ما لم يمنعه مانع من التنفيذ يعذر به، أو كان ترك الوفاء استجابة لرغبة من كان الوعد أو العهد من أجله وابتغاء مرضاته أو مسرته) (1).

(1) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/ 503).،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،قصص في الوفاء:
1 - (يذكر أن امرأ القيس الكندي، لما أراد المضي إلى قيصر ملك الروم، أودع عند السموأل دروعا وسلاحا، وأمتعة تساوي من المال جملة كثيرة. فلما مات امرؤ القيس أرسل ملك كندة يطلب الدروع والأسلحة المودعة عند السموأل. فقال: السموأل لا أدفعها إلا لمستحقها. وأبى أن يدفع إليه منها شيئا، فعاوده فأبى، وقال لا أغدر بذمتي، ولا أخون أمانتي، ولا أترك الوفاء الواجب علي. فقصده ذلك الملك من كندة بعسكره فدخل السموأل في حصنه، وامتنع به. فحاصره ذلك الملك، وكان ولد السموأل خارج الحصن فظفر به ذلك الملك فأخذه أسيرا ثم طاف حول الحصن وصاح بالسموأل. فأشرف عليه من أعلى الحصن. فلما رآه قال له: إن ولدك قد أسرته، وها هو معي، فإن سلمت إلي الدروع والسلاح التي لامرئ القيس عندك، رحلت عنك وسلمت إليك ولدك، وإن امتنعت من ذلك ذبحت ولدك وأنت تنظر، فاختر أيهما شئت. فقال له السموأل: ما كنت لأخفر ذمامي، وأبطل وفائي، فاصنع ما شئت. فذبح ولده وهو ينظر. ثم لما عجز عن الحصن رجع خائبا، واحتسب السموأل ذبح ولده وصبر، محافظة على وفائه. فلما جاء الموسم وحضر ورثة امرئ القيس سلم إليهم الدروع والسلاح. ورأى حفظ ذمامه ورعاية وفائه أحب إليه من حياة ولده وبقائه. فصارت الأمثال في الوفاء تضرب بالسموأل، وإذا مدحوا أهل الوفاء في الأنام ذكر السموأل في الأول. وكم أعلى الوفاء رتبة من اعتقله بيديه، وأغلى قيمة من جعله نصب عينيه، واستنطق الأفواه لفاعله بالثناء عليه، واستطلق الأيدي المقبوضة عنه بالإحسان إليه) (1).

(1) ((المستطرف)) للأبشيهي (1/ 432).،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،2 - قصة أخرى يحكيها مالك بن عمارة اللخمي، قال: (كنت جالسا في ظل الكعبة أيام الموسم عند عبد الملك بن مروان وقبيصة بن ذؤيب وعروة بن الزبير وكنا نخوض في الفقه مرة وفي المذاكرة مرة وفي أشعار العرب وأمثال الناس مرة فكنت لا أجد عند أحد ما أجده عند عبد الملك بن مروان من الاتساع في المعرفة والتصرف في فنون العلم وحسن استماعه إذا حدث وحلاوة لفظه إذا حدث فخلوت معه ليلة فقلت له والله إني لمسرور بك لما شاهدته من كثرة تصرفك وحسن حديثك وإقبالك على جليسك فقال إن تعش قليلا فسترى العيون طامحة إلي والأعناق نحوي متطاولة فإذا صار الأمر إلي فلعلك أن تنقل إلي ركابك فلأملأن يديك فلما أفضت إليه الخلافة توجهت إليه فوافيته يوم الجمعة وهو يخطب على المنبر فلما رآني أعرض عني فقلت لعله لم يعرفني أو عرفني وأظهر لي نكره فلما قضيت الصلاة ودخل بيته لم ألبث أن خرج الحاجب فقال أين مالك بن عمارة فقمت فأخذ بيدي وأدخلني عليه فمد إلي يده وقال إنك تراءيت لي في موضع لا يجوز فيه إلا ما رأيت فأما الآن فمرحبا وأهلا كيف كنت بعدي فأخبرته فقال أتذكر ما كنت قلت لك قلت نعم فقال والله ما هو بميراث وعيناه ولا أثر رويناه ولكني أخبرك بخصال مني سميت بها نفسي إلى الموضع الذي ترى ما خنت ذا ود قط ولا شمت بمصيبة عدو قط ولا أعرضت عن محدث حتى ينتهي حديثه ولا قصدت كبيرة من محارم الله تعالى متلذذا بها فكنت أؤمل بهذه أن يرفع الله تعالى منزلتي وقد فعل ثم دعا بغلام فقال له يا غلام بوئه منزلا في الدار فأخذ الغلام بيدي وأفرد لي منزلا حسنا فكنت في ألذ حال وأنعم بال وكان يسمع كلامي وأسمع كلامه ثم أدخل عليه في وقت عشائه وغدائه فيرفع منزلتي ويقبل علي ويحادثني ويسألني مرة عن العراق ومرة عن الحجاز حتى مضت لي عشرون ليلة فتغديت يوما عنده فلما تفرق الناس نهضت قائما فقال على رسلك فقعدت فقال أي الأمرين أحب إليك المقام عندنا مع النصفة لك في المعاشرة أو الرجوع إلى أهلك ولك الكرامة فقلت يا أمير المؤمنين فارقت أهلي وولدي على أني أزور أمير المؤمنين وأعود إليهم فإن أمرني أمير المؤمنين اخترت رؤيته على الأهل والولد فقال لا بل أرى لك الرجوع إليهم والخيار لك بعد في زيارتنا وقد أمرنا لك بعشرين ألف دينار وكسوناك وحملناك أتراني قد ملأت يديك فلا خير فيمن ينسى إذا وعد وعدا وزرنا إذا شئت صحبتك السلامة) (1).
3 - قال الأبشيهي: (ومما يعد من محاسن الشيم ومكارم أخلاق أهل الكرم ويحث على الوفاء بالعهود ورعاية الذمم ما رواه حمزة بن الحسين الفقيه في تاريخه قال: قال لي أبو الفتح المنطيقي كنا جلوسا عند كافور الأخشيدي وهو يومئذ صاحب مصر والشام وله من البسطة والمكنة ونفوذ الأمر وعلو القدر وشهرة الذكر ما يتجاوز الوصف والحصر فحضرت المائدة والطعام فلما أكلنا نام وانصرفنا ولما انتبه من نومه طلب جماعة منا وقال امضوا الساعة إلى عقبة النجارين وسلوا عن الشيخ منجم أعور كان يقعد هناك فإن كان حيا فأحضروه وإن كان قد توفي فسلوا عن أولاده واكشفوا أمرهم قال فمضينا إلى هناك وسألنا عنه فوجدناه قد مات وترك بنتين إحداهما متزوجة والأخرى عاتق فرجعنا إلى كافور وأخبرناه بذلك فسير في الحال واشترى لكل واحدة منهما دارا وأعطاهما مالا جزيلا وكسوة فاخرة وزوج العاتق وأجرى على كل واحدة منهما رزقا وأظهر أنهما من المتعلقين به لرعاية أمورهما فلما فعل ذلك وبالغ فيه ضحك وقال أتعلمون سبب هذا قلنا لا فقال اعلموا أني مررت يوما بوالدهما المنجم وأنا في ملك ابن عباس الكاتب وأنا بحالة رثة فوقفت عليه فنظر إلي واستجلبني وقال أنت تصير إلى رجل جليل القدر وتبلغ منه مبلغا كبيرا وتنال خيرا ثم طلب مني شيئا فأعطيته درهمين كانا معي ولم يكن معي غيرهما فرمى بهما إلي وقال أبشرك بهذه البشارة وتعطيني درهمين ثم قال وأزيدك أنت والله تملك هذا البلد وأكثر منه فاذكرني إذا صرت إلى الذي وعدتك به ولا تنس فقلت له نعم فقال عاهدني أنك تفي لي ولا يشغلك ذلك عن افتقادي معاهدته ولم يأخذ مني الدرهمين ثم إني شغلت عنه بما تجدد لي من الأمور والأحوال وصرت إلى هذه المنزلة ونسيت ذلك فلما أكلنا اليوم ونمت رأيته في المنام قد دخل علي وقال لي أين الوفاء بالعهد الذي بيني وبينك وإتمام وعدك لا تغدر فيغدر بك فاستيقظت وفعلت ما رأيتم ثم زاد في إحسانه إلى بنات المنجم وفاء لوالدهما بما وعده) (2).

(1) ((المستطرف)) للأبشيهي (1/ 438).
(2) ((المستطرف)) للأبشيهي (1/ 431).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،أمثال في الوفاء
1 - يقال في المثل: أوفى من فكيهة:
وهي امرأة من بني قيس بن ثعلبة، كان من وفائها أن السليك بن سلكة غزا بكر بن وائل، فلم يجد غفلة يلتمسها، فخرج جماعة من بكر فوجدوا أثر قدم على الماء فقالوا: إن هذا الأثر قدم ورد الماء، فقصدوا له، فلما وافى حملوا عليه فعدا حتى ولج قبة فكيهة فاستجار بها، فأدخلته تحت درعها فانتزعوا ضمارها فنادت إخوتها فجاءوا عشرة، فمنعوهم منها (1).
2 - ويقال أوفى من أم جميل:
وهي من رهط ابن أبي بردة من دوس، وكان من وفائها أن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي قتل رجلاً من الأزد فبلغ ذلك قومه بالسراة فوثبوا على ضرار بن الخطاب الفهري ليقتلوه فعدا حتى دخل بيت أم جميل وعاذ بها، فقامت في وجوههم ودعت قومها فمنعوه لها (2).
3 - ويقال: أوفى من السموأل بن عاديا:
وقصته مرت معنا في قصص في الوفاء.
4 - ويقال: أوفى من الحارث بن عباد:
وكان من وفائه أنه أسر عدي بن ربيعة ولم يعرفه، فقال له: دلني على عدي بن ربيعة ولك الأمان، فقال: أنا آمن أن دللتك عليه، قال: نعم. قال: فأنا عدي بن ربيعة فخلاه (3).

(1) ((المحاسن والأضداد)) للجاحظ (ص: 47).
(2) ((المحاسن والأضداد)) للجاحظ (ص: 47).
(3) ((المحاسن والأضداد)) للجاحظ (ص: 48).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،الوفاء في واحة الشعر ..
قال الشاعر
ذهب الوفاء ذهاب أمس الذاهب ... فالناس بين مختال وموارب
يغشون بينهم المودة والصفا ... وقلوبهم محشوة بعقارب (1).
وقال آخر:
مات الوفاء فلا رفد ولا طمع ... في الناس لم يبق إلا اليأس والجزع
فاصبر على ثقة بالله وارض به ... فالله أكرم من يرجى ويتبع
لا تركنن إلى من لا وفاء له ... الذئب من طبعه إن يقتدر يثب
وقال آخر:
عش ألف عام للوفاء وقلما ... ساد امرؤ إلا بحفظ وفائه
لصلاح فاسده وشعب صدوعه ... وبيان مشكله وكشف غطائه
وقال آخر:
ما أهون الإنسان إن وفاءه ... إما اتقاء أذى، وإما مغنم
عظمت على أخلاقه أكلافه ... وهو المصيَّر في الحياة المرغم
نقص التراب الضعف في أعراقه ... وابن التراب الصاغر المستسلم
وقال آخر:
إن الوفاء على الكريم فريضة ... واللؤم مقرون بذي الإخلاف
وترى الكريم لمن يعاشر منصفاً ... وترى اللئيم مجانب الإنصاف
وقال آخر:
ذهب التكرم والوفاء من الورى ... وتقرضا إلا من الأشعار
وفشت خيانات الثقات وغيرهم ... حتى اتهمنا رؤية الأبصار
وقال الرِّياشيّ:
إذا ذَهَب التكرُّم والوَفاء ... وباد رِجالُه وبَقِي الغُثَاءُ
وأَسْلَمني الزَّمانُ إلى رِجالٍ ... كأمْثال الذِّئاب لها عُواء
صَديق كلَّما استَغْنيت عنهم ... وأَعْداء إذا جَهَدَ البَلاء
إذا ما جئتهم يَتدافَعوني ... كأنِّي أجربٌ آذاه داء
أقولُ ولا ألاَم على مَقال على ... الإخوان كُلِّهم العَفاء
وقال آخر:
إذا قلت في شيء نعم فأتمه ... فأن نعم دين على الحر واجب
وإلا فقل لا تسترح وترح بها ... لئلا يقول الناس إنك كاذب
وقال آخر:
لا كلف الله نفسا فوق طاقتها ... ولا تجود يد إلا بما تجد
فلا تعد عدة إلا وفيت بها ... واحذر خلاف مقال للذي تعد ...

(1) ((غرر الخصائص الواضحة)) لمحمد بن إبراهيم بن يحيى (ص 587).