الاثنين، 9 أبريل 2012

موسوعة علوم الحديث - علم الجرح والتعديل : العدالة


العدالة

        العدالة : مصدر عدل ـ بضم الدال ـ يقال عدل فلان عدالة وعدولة فهو عدل ، أي : رضا ومقنع في الشهادة . والعدل يطلق على الواحد وغيره ، يقال : هو عدل وهما عدل وهم عدل ، ويجوز أن يطابق ، فيقال : هما عدلان وهم عدول ، وقد يطابق في التأنيث فيقال : امرأة عدلة .
        وأما العدل الذي هو ضد الجور فهو مصدر قولك عدل ـ بفتح الدال ـ في الأمر فهو عادل . وتعديل الشئ تقويمه . وتعديل الشاهد نسبته إلى العدالة .
        وللعلماء في تفسير العدالة آراء نذكر بعضا منها :
1ـ العدالة:
        صفة توجب مراعاتها الاحتراز عما يخل بالمروءة عادة ظاهرا ، فالمرة الواحدة من صغائر الهفوات وتحريف الكلام لا تخل بالمروءة ظاهرا ؛ لاحتمال الغلط والنسيان ، والتأويل ، بخلاف ما إذا عر منه ذلك وتكرر فيكون الظاهر الإخلال.
        والمروءة ـ التي في تعريف العدالة ـ هي آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق ، وجميل العادات . وقيل : هي صون النفس عن الأدناس ، ورفعها عما يشين عند الناس.
2ـ العدالة :
        الاستقامة . وليس لكمال الاستقامة حد يوقف عنده ، فاعتبر فيها أمر واحد ، وهو رجحان جهة الدين والعقل ، على طريق الشهوة والهوى ، فمن ارتكب كبيرة سقطت عدالته وقل الوثوق بقوله ، وكذلك من أصر على صغيرة ، فأما من أتى بشئ من الصغائر من غير إصرار فعدل بلا شبهة .
3ـ العدالة المطلوبة في صفة الشاهد والمخبر ، هي :
        العدالة الراجعة إلى استقامة دينه ، وسلامة مذهبه ، وسلامته من الفسق ، وما يجري مجراه .
4ـ العدالة:
        ملكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ، والمراد بالتقوى : اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة .
        هذا في العدالة ، أما العدل ففي تفسيره يأتي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
        أخرج الخطيب في الكفاية ( ص 136) بسنده عن الإمام الحسين بن علي ـ رضى الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ؛ فهو ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته ، ووجبت أخوته ، وحرمت غيبته " (1).
        وللعلماء في تفسيره أقوال ، منها :
1ـ سئل عبد الله بن المبارك عن العدل ، فقال : ( من كان فيه خمس خصال : يشهد الجماعة ، ولا يشرب هذا الشراب ، ولا تكون في دينه خربة ، ولا يكذب ، ولا يكون في عقله شئ ).
2ـ وقال إبراهيم : ( العدل في المسلمين من لم يظن به ريبة ) .
3ـ وقال سعيد بن المسيب : " ليس من شريف ولا عالم ولا ذي سلطان إلا وفيه عيب لابد ، ولكن من الناس من لا تذكر عيوبه ، من كان فضله أكثر من نقصه ، وهب نقصه لفضله " .
4ـ وقال الشافعي : ( لا أعلم أحدا أعطى طاعة الله حتى لم يخلطها بمعصية الله إلا يحيى بن زكريا عليه السلام ، ولا عصى الله فلم يخلط بطاعة ، فإذا كان الأغلب الطاعة فهو المعدل ، وإذا كان الأغلب المعصية فهو المجرح ).
5ـ وجمهور العلماء على أن العدل هو : المسلم ، البالغ ، العاقل ، الذي سلم من أسباب الفسق ، وخوارم المروءة ، ( تقدم معنى المروءة ).
        وهكذا يتضح أن العدل هو : من سلمت عقيدته ، وصحت عبادته ، واستقام سلوكه على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
        فعقيدته على الكتاب والسنة ، ليس مبتدعا ، ولا صاحب هوى .
        وعبادته وفق شرع الله تعالى ، كما جاء في الكتاب والسنة ، فهو منته عما نهى الله عنه ؛ مؤتمر بما أمر الله به ، لا يفعل كبيرة ، ولا يصر على صغيرة ، فإن زلت قدمه ؛ بادر بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى .
        إنه يسير على هدى القرآن والسنة ، دون تبديل أو تغيير ، ودون مخالفة لنهى ، أو تقصير في أمر.
        وكذلك الحال في أخلاقه ، فهو على هدى القرآن والسنة .
         ومن هنا يتَّضح قدر العدل ، وأنه بمنأى عن الكذب ، بعيد عن الزور ، إنه صاحب عقيدة تمنعه من الكذب على الناس ، فما بالك بالكذب على الله !! إنه يتقي الله في كل لفظة ، ويخاف الله في كل حركة ، ومن هنا فإنه لا ينطق إلا بالصدق ، ولا يقبل أبدا إلا ما يرضي الله تعالى .
        واستقامة العبادة وسمو الخلق تجعل المسلم خيرا ، لا يقبل الباطل ، وإنما هو حق وخير.
         فإذا أضيف إلى ذلك الضبط ـ والذي سيأتي الكلام عنه إن شاء الله تعالى ـ والذي:
هو قوة الذاكرة ، بحيث إذا سمع شيئا حفظه ، واستطاع استحضاره في أي وقت ، أو إذا كتب أتقن ودقق ، وحفظ كتابه من أن تمتد إليه يد بتغيير ، إذا أضيف هذا الضبط إلى العدالة فإنه يبين لنا صفة من تقبل أخباره في الإسلام ، وأنه المسلم التقي الذكي ، الذي لا يقول إلا الصدق ، وهو متقن حافظ.
..................................
المراجع والحواشي السفلية
1ـ وأخرجه أبو نعيم في ذكر أخبار أصبهان 2/300.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
ما تثبت به العدالة
        تثبت العدالة بأحد أمور :
1ـ الشهادة بها : -
        فمن شهد له بالعدالة فهو عدل ، إلا أنه اختلف في عدد الشاهد ؛ فذهب بعض العلماء إلى أنه يجب أن يكون اثنين فأكثر ، فمن شهد له عدلان فأكثر بأنه عدل ثبتت عدالته وذلك قياسا على الشهادة على حقوق الآدميين ، إذ هي لا تثبت بأقل من عدلين . وجمهور العلماء على أنه يكفي في إثبات عدالة الراوي شهادة عدل واحد بها ، قالوا : حيث إنه يقبل خبره فيجب أن تقبل تزكيته ، بل هي من باب أولى ، إذ أن الصفة تثبت بأقل مما يثبت به الحكم ، كما يثبت الإحصان بشهادة اثنين ، ولا يثبت الرجم إلا بشهادة أربع ، فإذا اشترطنا أكثر من واحد في التزكية في حين أننا نقبل خبر الواحد ، فإنا نكون قد أثبتنا الصفة بأعلى مما يثبت به الحكم ، وهذا عكس المتفق عليه ، إذ المتفق عليه أن الذي تثبت به الصفة التي بثبوتها يثبت الحكم أنقص في الرتبة من الذي يثبت به الحكم . وآخر نقلي ؛ وهو قبول عمر بن الخطاب تزكية الواحد ، إذ قبل في تزكية سنين أبي جميلة قول عريفه ، وهو واحد.
        أخرج الخطيب ( كفاية 161) بسنده عن سنين قال : "وجدت منبوذًا على عهد عمر بن الخطاب فذكر عريفي لعمر فأرسل فدعاني والعريف عنده ، فلما رآني مقبلاً قال : " عسى الغوير أبؤسا" (1) قال العريف له : يا أمير المؤمنين ! إنه ليس بمتهم ، قال : على ما أخذت هذا ؟ قال : وجدت نفسًا مضيعة فأحببت أن يأجرني الله فيها . قال : ( هو حرٌ ، وولاؤه لك وعلينا رضاعه )" .
        قال الخطيب ( ص 161) : ( والذي نستحبه أن يكون من يزكي المحدث اثنين للاحتياط . فإن اقتصر على تزكية واحد أجزأ ) .
        وإذا كان تعديل الواحد كاف ، فهل هو يشمل تعديل المرأة والعبد ؟ خلاف بين العلماء .
        حكم تعديل المرأة :-
اختلف في تعديل المرأة على عدة أوجه :
1ـ فأكثر العلماء من أهل المدينة وغيرهم على أنه لا يقبل في التعديل النساء ، لا في الرواية ، ولا في الشهادة .
2ـ وذهب القاضي أبو بكر الباقلاني إلى أنه تقبل تزكية المرأة في الرواية والشهادة ، لا تزكيتها في الحكم ، الذي لا تقبل شهادتها فيه .
3ـ وذهب الفخر الرازي وغيره إلى قبول تزكيتها مطلقا ، مستدلين بتزكية بريرة للسيدة عائشة ، وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كما في قصة الإفك.
        حكم تعديل العبد : -
        اختلف في هذا :
1ـ ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني إلى أنه يجب قبول تزكيته في الخبر دون الشهادة ؛ لأن خبره مقبول وتزكيته مردودة .
2ـ وذهب الفخر الرازي وغيره إلى قبول تزكيته في الخبر وفي الشهادة .
3ـ هذا والذي عليه المعول أن عدالة الراوي تثبت بتزكية عدل واحد له ، حرا كان أو عبدا ، ذكرا أو امرأة ؛ لأنه إن كان ينقل هذه التزكية فهي خبر ، والخبر يقبل عن الواحد ، وإن كان باجتهاد منه فهو حكم ولا يشترط في الحاكم تعدد.
        بيد أنه يشترط في هذا العدل الذي يزكي الراوي شروط سوف نعرض لها بعد قليل إن شاء الله ، فتجب مراعاتها فقد يكون عدلا لكن لا خبرة له بالرجال ، فمثل هذا لا تقبل تزكيته.
        ومما يجدر التنبيه إليه أنه وإن كانت عدالة الراوي تثبت بتزكية عدلٍ ـ أو عدلين ـ فإنها لا تثبت برواية عدل ـ أو عدلين ـ عنه وما روى عن قوم بصحة ذلك فهو مردود.
        قال الخطيب : ( احتج من زعم أن رواية العدل عن غيره تعديل له بأن العدل لو كان يعلم فيه جرحا لذكره ، وهذا باطل ؛ لأنه يجوز أن يكون العدل لا يعرف عدالته فلا تكون روايته عنه تعديلا ولا خبرا عن صدقه ، بل يروي عنه لأغراض يقصدها ، كيف وقد وجد جماعة من العدول الثقات رووا عن قوم أحاديث أمسكوا في بعضها عن ذكر أحوالهم مع علمهم بأنها غير مرضية ، وفي بعضها شهدوا عليهم بالكذب في الرواية وبفساد الآراء والمذاهب ) ، وسرد لكل ذلك أمثلة.
" راجع الكافية ص 150 ـ 154".
2ـ الاستفاضة والشهرة بالعدالة بين أهل العلم :
        فمن اشتهرت عدالته ، وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة بين أهل العلم ، فإنه لا يحتاج إلى بينة شاهدة بعدالته تنصيصا ، بل عدالته تثبت بذلك ، وهو فوق من تثبت عدالته بتزكية عدل أو عدلين.
        ولقد عقد الخطيب في الكفاية ص 147 ( باب في المحدث المشهور بالعدالة والثقة والأمانة لا يحتاج إلى تزكية المعدل ) ذكر فيه أن مثل مالك بن أنس ، والسفيانين ـ الثوري وابن عيينة ـ وأحمد بن حنبل ، وعلي بن المديني ، ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر ، والاشتهار بالصدق والبصيرة والفهم ، لا يسأل عن عدالتهم ، وإنما يسأل عن عدالة من كان في عداد المجهولين ، أو أشكل أمره على الطالبين .
        وذكر عن القاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني قوله : ( والشاهد والمخبر إنما يحتاجان إلى التزكية متى لم يكونا مشهوري العدالة والرضا ، وكان أمرهما ملتبسا ، ومجوزا فيه العدالة وغيرها ، والدليل على ذلك أن العلم بظهور سترهما ، واشتهار عدالتهما أقوى في النفوس من تعديل واحد واثنين يجوز عليهما الكذب والمحاباة في تعديله وأغراض داعية لهما إلى وصفه بغير صفته ، وبالرجوع إلى النفوس يعلم أن ظهور ذلك من حاله أقوى في النفس من تزكية المعدل لهما ) . اهـ
        وهذا مذهب شائع بين الأئمة قديما ، يدل على ذلك ما روى أن أحمد بن حنبل سئل عن إسحاق بن راهويه ، فقال : ( مثل إسحاق يسأل عنه ؟ إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين )..
        وكذا يحيى بن معين ، فلقد سئل عن أبي عبيد ، فقال : ( مثلي يسأل عن أبي عبيد ؟ أبو عبيد يسأل عن الناس ) ـ وأبو عبيد هو القاسم بن سلام صاحب التصانيف النافعة ، توفى سنة أربع وعشرين ومائتين .
3ـ العناية بطلب الحديث :
        قال ابن عبد البر : كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره أبدا على العدالة حتى يتبين جرحه .
        واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين" (2).
        فكل من اشتهر بين الحفاظ بأنه من أصحاب الحديث ، وأنه معروف بالعناية بهذا الشأن ، ثم كشفوا عن أخباره فما وجدوا فيه تبيينا ولا اتفق لهم علم بأن أحدا وثقه ، فهو مقبول الحديث إلى أن يلوح فيه جرح .
        وقال بهذا أيضا مع ابن عبد البر جماعة ، منهم السابق ، واللاحق ، بيد أن ابن عبد البر هو الذي أشهره وأشاعه ، فلذا نسب إليه ، من هؤلاء : إسماعيل بن إسحاق القاضي ، والمزي ، وابن الجزري ، وابن المواق ، وابن سيد الناس ، والذهبي ، ومنهم أيضا النووي ، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ كلامه .
        ويستأنس لهذا بما جاء بسند جيد أن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ كتب إلى أبي موسى رضى الله عنه : ( المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد ، أو مجربا عليه شهادة زور ، أو ظنينا في ولاء أو نسب ).
        وأيضًا ما رُوىَ عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر : ( لا يؤخذ العلم إلا عمن شهد له بطلب الحديث ) (3) قال أبو زرعة : ( فسمعت أبا مسهر يقول : إلا جليس العالم ، فإن ذلك طلبه ).
        قال الخطيب : ( أراد أبو مسهر بهذا القول أن من عرفت مجالسته للعلماء ، وأخذه عنهم أغنى ظهور ذلك من أمره أن يسأل عن حاله ) .
        وأيضًا ما رُوِى عن عبد الله بن عون : ( لا نأخذ هذا العلم إلا عمن شهد له عندنا بالطلب ) .
        إلا أنه لم يجمع على هذا الأمر ـ ثبوت العدالة بالعناية بالطلب ـ فقد خالف القائلين بذلك جمع من الأئمة منهم ابن الصلاح ، إذ قال ـ بعد أن ذكر هذا الرأي عازيه إلى ابن عبد البر وحده ـ : ( وفيما قاله اتساع غير مرضي ) .
        وأجاب رافضوا هذا الرأي على حديث : " يحمل هذا العلم . . . الحديث " ، بأنه من كل طرقه ضعيف ، وعلى فرض أنه يصح الاستدلال به ، فإنما يصح الاستدلال به لو كان خبرا ، ولا يصح حمله على الخبر ، لوجود من يحمل العلم وهو غير عدل وغير ثقة ، فلم يبق له محمل إلا على الأمر ، ومعناه أنه أمر الثقات بحمل العلم ؛ لأن العلم إنما يقبل عن الثقات ، ويؤيد هذا ما جاء في إحدى طرقه عند ابن أبي حاتم " ليحمل " بلام الأمر.
        وأجاب القائلون بهذا الرأي بأن الفساق إذا عرفوا شيئا من العلم ، فليس هذا بعلم حقيقة.
        قال النووي ـ تهذيب الأسماء واللغات 1/1/17 ـ في الحديث عن فضل تابعي التابعين ومن بعدهم : ( وجعلهم ـ أي النبي صلى الله عليه وسلم ـ عدولا فأمرهم بالتبليغ عنه فقال صلى الله عليه وسلم : " ليبلغ الشاهد منكم الغائب" ، وفي الحديث الآخر : " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " ، وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بصيانة العلم وحفظه ، وعدالة ناقليه ، وأن الله تعالى يوفق له في كل عصر خلفا من العدول يحملونه ، وينفون عنه التحريف وما بعده فلا يضيع ، وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر ، وهكذا وقع ولله الحمد ، وهذا من أعلام النبوة ، ولا يضر مع هذا كون بعض الفساق يعرف شيئا من العلم ، فإن الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه ، لا أن غيرهم لا يعرف شيئا منه ـ والله أعلم ) . اهـ
        وإني لأسلم لابن عبد البر ومن معه في هذا الرأي إذ جعلوا الشهرة بطلب الحديث مرجحا لأحد الجانبين ، فكل راو يجوز أن يكون عدلا ، وأن يكون مجروحا ، فحيث لم يظهر فيه جرح ، ولم يوجد من يوثقه ، فإن شهرته بالطلب تجعل جانب التوثيق راجحًا ، فنحكم بعدالته ، حتى يظهر فيه جرح ، فإذا لم يظهر جرح فهو عدل ، وهذا معنى كلام ابن عبد البر : ( كل حامل علم معروف العناية به ، فهو عدل محمول في أمره أبدا على العدالة ، حتى يتبين جرحه ) ، ولقد قال بذلك ابن حجر كما سيتضح في العنصر الرابع.
4ـ رواية الجلة عنه :
        ذهب بعض الأئمة إلى أن مما تثبت به عدالة الراوي رواية جماعة من الجلة عنه ، قال بذلك البزار ، وابن القطان ، والذهبي ، وابن حبان ، بل ادعى الذهبي أنه رأى الجمهور ، فلقد سار البزار في مسنده على هذه الطريق ، وجنح ابن القطان إليها ، أما الذهبي فقال ـ في الميزان ـ في ترجمة مالك ابن الخير ـ بالمثناة ـ الزبادي ـ بالموحدة ـ وقد نقل عن ابن القطان أنه ممن لم تثبت عدالته ، قال : ( يريد أنه ما نص أحد على أنه ثقة ) ، ثم قال : ( وفي رواة الصحيحين عدد كثير ما علمنا أن أحدا نص على توثيقهم ، والجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ، ولم يأت بما ينكر عليه أن حديثه صحيح).
        وتعقبه ابن حجر بقوله : ( ما نسبه للجمهور لم يصرح به أحد من أئمة النقاد إلا ابن حبان ، نعم هو حق فيمن كان مشهورا بطلب الحديث والانتساب إليه).
        والناظر يجد أن ابن حجر يرى ثبوت عدالة الشيخ إذا كان مشهورا بالطلب ، وروى الجلة عنه . فكأنه جمع سببي العدالة ـ السابق وما هنا ـ في سبب واحد ، أما كلام النووي ـ السابق ـ ، والذهبي ـ هنا ـ فيفيدان أن السببين كل منهما مستقل ، يفيد العدالة وحده ، وبينهما فارق ، فتثبت عدالة الراوي بالشهرة بالطلب ، وتثبت أيضا برواية الجلة عنه .
ويظهر لنا ـ والله أعلم ـ أنهما سببان مستقلان ، كل منهما يفيد العدالة ـ والله أعلم .
.................................
المراجع والحواشي السفلية
1- هذا مثل قديم يقال عند التهمة ، وأصل هذا المثل أنه كان غار فيه ناس فانهار عليهم وأتاهم فيه عدو فقتلهم فصار مثلا لكل شئ يخاف أن يأتي منه شر ، وأراد عمر بالمثل : لعلك زنيت بأمه وادعيته لقيطا فلما شهد له بالستر تركه ـ والغوير ـ بضم وفتح ـ راجع النهاية في غريب الحديث ج3 ، -صلى الله عليه وسلم- 394 ، 395 ففيها مزيد من هذا .
2ـ والحديث أخرجه ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل ، وابن عدي في مقدمة الكامل من عدة طرق وفيه اختلاف بين الأئمة شديد فمن مصحح له إلى حاكم بالوضع . راجع مقدمة الكامل في الضعفاء لابن عدي -صلى الله عليه وسلم- 190 ، 232 ، وفتح المغيث للسخاوي 1/275 ، وفتح المغيث للعراقي 2/6، والتقييد والإيضاح -صلى الله عليه وسلم- 138 ، 139.
3- راجع الكفاية -صلى الله عليه وسلم- 149 ، ومقدمة الكامل لابن عدي -ص 242.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
تفسير العدالة
        تقدَّم أن ممَّا تثبت به العدالة شهادة عدل بها ، فهل تكفي شهادته أن هذا الراوي عدلٌ فقط؟ أم لابدَّ أن يفسر العدالة أي يذكر سببها ؟
        ذهب بعض الأئمة إلى أنه لابد من ذكر سبب العدالة ، وذلك لأمرين :
        الأول : أنه قد يزكَّي بناء على أمر لا يصح سببًا للعدالة ، كما قيل لأحمد بن يونس : عبد الله العمري ضعيف ، فقال : إنما يضعفه رافضي مبغض لآبائه ، ولو رأيت لحيته وخضابه وهيئته لعرفت أنه ثقة . فاحتج أحمد بن يونس على أن عبد الله العمري ثقة بما ليس حجة ؛ لأن حسن الهيأة مما يشترك فيه العدل والمجروح.
        الثاني : أن أسباب العدالة مما يكثر التَّصنع فيها ، فيتسارع الناس إلى الثناء على الظاهر ، فهذا الإمام مالك مع شدة نقله وتحريه قيل له في الرواية عن عبد الكريم بن أبي المخارق ، فقال : ( غرني بكثرة جلوسه في المسجد) ، يعني لما ورد من كونه بيت كل تقي.
        وذهب بعضهم إلى أنه لا يجب ذكر سبب العدالة ، بل يقبل على الجملة تعديل المزكي ، وذلك لأمرين :
        الأول : إجماع الأمة على أنه لا يرجع في التعديل إلا إلى قول عدل ، رضا ، عارف بما يصير به العدل عدلا والمجروح مجروحا ، فلو أوجبنا مطالبته بذكر سبب العدالة لكان ذلك قدحا في معرفته بأحوال المزكي وما به تحصل العدالة وما به يحصل الجرح .
        الثاني : أن أسباب العدالة كثيرة متعددة ، فإذا أوجبنا ذكر سبب العدالة كان على المزكي أن يذكر لنا كل ما يفعله الراوي ، مما يوافق الشرع ، وكل ما يتركه الراوي مما يخالف الشرع ، وفي ذلك ما فيه . وهذا الرأي هو الذي أميل إليه ، فإن دليلي الفريق الأول يزولا حينما تتوافر في المزكي الشروط التي اعتبرها الأئمة كي يقبلوا شهادته وتزكيته ، ولسوف نذكرها لك إن شاء الله تعالى . وهذا الرأي أيضا هو الذي قال به الخطيب ، إذ قال: ( وقال قوم : لا يجب ذكر سبب العدالة ، بل يقبل على الجملة تعديل المخبر والشاهد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
شروط المعدل
        اشترط الأئمة شروطا في المزكي بحيث إذا وجدت قبلوا قوله في الرجال ، وإلا فلا ، وهذه الشروط هي :
1ـ أن يكون عدلا ، أي : مسلما ، بالغا ، عاقلا ، سالما من أسباب الفسق وخوارم المروء ة.
2ـ أن يكون له شديد اعتناء بالطلب ، والفحص عن أحوال الرجال.
3ـ أن يكون عالما بالأسباب التي تجعل الراوي عدلا والتي تجعله مجروحا ، ولا يحكم إلا بعد تثبته من وجودها فيمن زكاه .
4ـ أن لا يكون متعصبا لمن عدله أو متعصبا ضده ، فيعدل أو يجرح لعصبية عقدية أو مذهبية أو إقليمية .
        وهذه طائفة من أقوال الأئمة تبين لك ما استنبطناه من شروط :
ـ قال التاج السبكي :
        ( من لا يكون عالما بأسبابهما ـ أي : الجرح والتعديل ـ لا يقبلان منه ، لا بإطلاقه ولا بتقييد.
ـ وقال الحافظ ابن حجر :
        ( تقبل التزكية من عارف بأسبابها ، لا من غير عارف) .
ـ وقال الخطيب :
        ( ما يعرف به صحة المحدث العدل الذي يلزم خبره ـ يعني ما تعرف به عدالة الراوي ـ على ضربين : فضرب منه يشترك في معرفته الخاصة والعامة ، وهو : الصحة في بيعه وشرائه وأمانته ، ورد الودائع ، وإقامة الفرائض ، وتجنب المآثم ، فهذا ونحوه اشترك الناس في علمه ، والضرب الآخر هو : العلم بما يجب كونه عليه من الضبط والتيقظ ، والمعرفة بأداء الحديث وشرائطه ، والتحرز من أن يدخل عليه ما لم يسمعه ، ووجوه التحرز في الرواية ، ونحو ذلك مما لا يعرفه إلا أهل العلم بهذا الشأن ، فلا يجوز الرجوع فيه إلى قول العامة ، بل التعويل فيه على مذاهب النقاد للرجال ).
ـ وقال الحافظ الذهبي :
        ( ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقلة الأخبار ويجرحهم جهبذا إلا بإدمان الطلب ، والفحص عن هذا الشأن ، وكثرة المذاكرة ، والسهر ، والتيقظ ، والفهم ، مع التقوى ، والدين المتين ، والإنصاف ، والتردد إلى مجالس العلماء ، والتحري ، والإتقان ، وإلا تفعل :
فدع عنك الكتابة لست منها        ولو سودت وجهك بالمداد
قال الله تعالى عز وجل : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } فإن آنست يا هذا من نفسك فهما وصدقا ودينا وورعا ، وإلا فلا تتعن ، وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب ، فبالله لا تتعب ، وإن عرفت أنك مخلط مخبط مهمل لحدود الله ؛ فأرحنا منك ، فبعد قليل ينكشف البهرج وينكب الزغل ، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ، فقد نصحتك ) . اهـ " تذكرة1/4".
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
مراتب التعديل
        لما كانت درجات الرواة في العدالة والضبط متفاوتة ، استعمل الأئمة ألفاظا تدل على ذلك ، وها أنذا أذكر لك مراتب التعديل(1) قد رتبتها من الأعلى إلى الأدنى ، والله المستعان :
المرتبة الأولى :
        ما كان بصيغة " أفعل" من ألفاظ التعديل العليا : ( أوثق الناس ، أثبت الناس ، أتقن من أدركت ) ، ويلتحق بها : ( إليه المنتهى في التثبت) ، ويحتمل أن يلتحق بها : ( لا أعرف له نظيرا في الدنيا ).
المرتبة الثانية :
        ما يفيد اشتهار الراوي بالعدالة والرضا : ( فلان يسأل عن مثله ، مثلي يسأل عن فلان ؟ ! ، مثل فلان يسأل عنه ؟ ! ، فلان يسأل عن الناس).
المرتبة الثالثة :
        تكرار لفظ التوثيق الذي هو من ألفاظ التعديل العليا : (ثقة ثبت ، ثقة متقن ، ثبت حجة ، ثبت حافظ ، ثقة ثقة ، ثبت ثبت ) ، ونحو ذلك إذ التأكيد الحاصل بالتكرار فيه زيادة على الكلام الخالي منه ، وعليه فما زاد على مرتين فهو أعلى منها ، وهكذا . ويلتحق بذلك : ( عدل ضابط ، عدل متقن ، عدل حافظ ) .
المرتبة الرابعة :
        ما كان بلفظ من ألفاظ التعديل العليا : ( ثقة ، ثبت ، متقن ، حجة ) ، وكذا إذا قيل في العدل : ( حافظ ، ضابط ) (2).
المرتبة الخامسة :
        ( ليس به بأس ، لا بأس به ، صدوق (3) ، مأمون ، خيار ، خيار الخلق ).
المرتبة السادسة :
        ( محله الصدق ، رووا عنه ، روى الناس عنه ، يروي عنه ، إلى الصدق ما هو (4) ، شيخ وسط ، وسط ، شيخ ، صالح الحديث ، يعتبر به ( أي في المتابعات والشواهد ) ، يكتب حديثه ، مقارب الحديث (5) ، جيد الحديث ، حسن الحديث ، مقارب الحديث (6) ، ما أقرب حديثه ، صويلح ، صدوق إن شاء الله ، أرجوا أنه لا بأس به ، ما أعلم به بأسا ) .
ويمكن تقسيم المرتبة السادسة إلى أكثر من واحدة ، ولعل العراقي قد فعل ذلك ، فإنه بعد ذكر اللفظين الأخيرين ( أرجو أنه لا بأس به ) ، و( ما أعلم به بأسا) قال : ( والأولى أرفع ؛ لأنه لا يلزم من عدم حصول العلم حصول الرجاء بذلك).
        أما الإمام النووي فصريح كلامه أنها مرتبتان ، والسيوطي معه في هذا ، فإن الإمام النووي في تقريبه جعل ( شيخ ) مرتبة ، وذكر السيوطي ـ نقلا عن العراقي ـ معها ( محله الصدق ) ، و ( إلى الصدق ما هو ، شيخ وسط ، جيد الحديث ، حسن الحديث ) ، ونقلا عن ابن حجر : ( صدوق سيئ الحفظ ، صدوق يهم ، صدوق له أوهام ، صدوق تغير بآخره ) ، ثم قال : ويلحق بذلك من رمى بنوع بدعة كالتشيع ، والقدر ، والنصب ، والإرجاء ، والتجهم .
        وجعل ـ أي النووي في تقريبه ـ ( صالح الحديث ) مرتبة وذكر السيوطي معها نقلا عن العراقي : ( صدوق إن شاء الله ، أرجو أن لا بأس به ، صويلح ) ، ونقلا عن ابن حجر : ( مقبول) .
        قلت : فعلى كلام العراقي والنووي يمكن جعل هذه المرتبة ثلاث مراتب ، الأولى والثانية من كلام النووي ، والثالثة هي : ( ما أعلم به بأسا ) التي هي أنزل شئ عند العراقي ، إلا أن هذا الخلاف من جعلها مرتبة أو مرتبتين أو ثلاث مراتب غير مؤثر ، فيمكن جعل كل كلمة منها مرتبة تلي سابقتها في الدرجة ، ويمكن جعل هذه الكلمات كلها تحت مرتبة واحدة ، وهي في نفسها مرتبة ، وقد رتبتها لك في ضوء كلام الأئمة من الأعلى إلى الأدنى جهد الطاقة ، وفق الله وسدد.
قال السخاوي : ( والضابط لأدنى مراتب التعديل ؛ كل ما أشعر بالقرب من أسهل التجريح ).
        وهذا الترتيب جرى عليه جمهور أهل الحديث(7) ، وهناك من خالفه منهم مخالفة يسيرة ؛ كابن معين ، ودحيم ، وابن مهدي ، فيجب التنبيه هنا لشيئ ، ألا وهو :
         إن هذه المراتب إنما هي لجمهور أئمة الجرح والتعديل ، وهي التي استقر عليها الاصطلاح ، وهذا لا يمنع أن يكون لإمام آخر مصطلح يختلف عن هذا المنهج العام ، فيجب مراعاة مصطلح كل إمام حينما نترجم لأحد الرواة .
        فمثلاً حينما نترجم لراو فنجد فيه كلاما لأبي حاتم الرازي ، فإنه يجب هنا أن نعرف مصطلحه الذي يسير عليه ، فإن كان مع الجمهور كما هنا ، عرفنا رتبة الراوي بسهولة ، أما إذا كان له مصطلحات أخرى ، فيجب أن يفهم كلامه في ضوئها ، وهذا مما عز في زماننا .
        وإليك مصطلحات لبعض الأئمة ، ممن خالف اصطلاح الجمهور : ـ
1ـ يحيى بن معين :
        فظاهر كلامه يقتضي التسوية بين (ثقة ) ـ التي هي من المرتبة الرابعة ـ وبين ( ليس به بأس ) ـ التي هي من المرتبة الخامسة .
        قال أبو خيثمة : قلت ليحيى بن معين : إنك تقول : ( فلان ليس به بأس ) ، و ( فلان ضعيف ) ؟ قال : إذا قلت لك : ( ليس به بأس ) فهو ثقة ، وإذا قلت لك : ( هو ضعيف ) فليس هو بثقة لا تكتب حديثه .
2ـ عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم :
        فلقد نقل عنه أيضا توثيق من قال فيه : ( لا بأس به ) مع الفارق في الرتبة بين : ( ثقة ) و ( لا بأس به ) ، قال أبو زرعة الدمشقي : قلت لعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم : ما تقول في علي بن حوشب الفزاري ؟ قال : ( لا بأس به ) ، قال : فقلت : ولم لا تقول : ( ثقة ) ، ولا نعلم إلا خيرا ؟ قال : قد قلت لك إنه ثقة .
        ولقد أجاب العلماء عما قالاه ـ ابن معين ودحيم ـ بجوابين كما يفهم من كلام مجموعهم :
        الأول : إن أحدا منهما لم يقل إن قولي ( ليس به بأس ) كقولي ( ثقة ) حتى يلزم منه التساوي بين اللفظين ، وإنما قال : إن من قال فيه لا بأس به فهو ثقة ، وللثقة مراتب ، فالتعبير عنه بقولهم ثقة أرفع من التعبير عنه بأنه لا بأس به ، وإن اشتركا في مطلق الثقة .
        قلت : فكأنه يفيد أن ( لا بأس به ) التي هي من المرتبة الرابعة تفيد التوثيق ، وهذا متفق عليه كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
الثاني : إن هذا رأي لهما فقط ، ومن ثم نجد نسبة هذا القول إليهما ظاهرة ، فابن معين يقول : ( إذا قلت لك ليس به بأس فهو ثقة ) ، أي أن هذا رأيه هو ، ولو كان رأيا عامًّا ، لقال : إن ( ليس به بأس ) كـ ( ثقة ) ، أو ما شابه ذلك ، مما يفيد كونه رأيا عاما كتعبير ابن مهدي وابن حنبل حينما كانا يرويان رأيا عاما فقد قال ابن مهدي : حدثنا خلدة ، فقيل له : أكان ثقة ؟ فقال : كان صدوقًا ، وكان مأمونًا ، وكان خيِّرًا ( وفي رواية خيارًا ) الثقة : شعبة وسفيان ، وابن حنبل . سئل : عبــــــد الوهاب بن عطاء ثقة ؟ قال : تدري ما الثقة ؟ إنما الثقة يحيى بن سعيد القطان . فهذا القول من عبد الرحمن بن مهدي ومن أحمد بن حنبل دليل على أن (ثقة) أرفع ، وأن هذا رأى الجمهور.
3- عبد الرحمن بن مهدي :
        فلقد قيل إنه يسوي بين ( صدوق) والتي هي من المرتبة الخامسة ، وبين "صالح الحديث" ، وهي من المرتبة السادسة ، بدليل ما روى عن أبي جعفر أحمد ابن سنان ، قال : كان عبد الرحمن بن مهدي ربما جرى ذكر حديث الرجل فيه ضعف ، وهو رجل صدوق فيقول : رجل صالح الحديث . ولقد حمل الأئمة هذا منه على أنه يخالف الجمهور في هاتين اللفظتين .
        وأرى والله أعلم أن هذه ليست مخالفة للجمهور في مراتب التعديل ، إنما هي مخالفة لمن حكم على الرجل ، فحكم بعضهم بأنه صدوق ، وحكم ابن مهدي بأنه صالح الحديث ، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ مزيد بيان لذلك ، وعلى كل فغاية ما فيه أن يكون هذا اصطلاحا خاصا بابن مهدي ، والله أعلم .
حكم هذه المراتب : ـ
        وإذا كنت قد بينت لك ألفاظ التعديل ، وأنها مراتب بعضها أعلى من بعض ، وقسمتها لك إلى ست مراتب ، وبينت أنه يمكن تقسيمها إلى أكثر من ذلك فإنه يبقى أن أذكر حكم هذه المراتب من حيث الاحتجاج بأحاديث أهلها فأقول وبالله التوفيق :
        أما المراتب من الأولى إلى الرابعة : فإنه يحتج بحديث أهلها ، إذ هم جميعا يشتركون في أنهم ثقات ، وقد تقول إذا كانوا جميعا ثقات ، فهلا كانت هذه المراتب مرتبة واحدة ؟ ! والجواب: إن حكمة التقسيم الترجيح عن التعارض ، فإذا اختلف ألفاظ روايتي حديث واحد ؛ إحداهما عن أوثق الناس ، والأخرى عن ثقة ، رجحت التي عن أوثق الناس ؛ إذ هو أعلى في عدالته وضبطه عن الثقة .
        وحديث أهل هذه المرتب حديث صحيح ، منه ما هو صحيح ، ومنه ما هو أصح.
        وحديث الصحيحين من هذه المراتب.
        أما المرتبة الخامسة : فحديث أهلها يحتج به (8) ، ومرتبته تلي مرتبة حديث الثقة ، وحديث أهلها "حسن" ، إنها مرتبة تشعر بالصدق ، وسلامة الدين ، لكنها لا تشعر بتمام الضبط ، ومن ثم نزلت عن رتبة تمام الضبط ( ثقة ) ، فحديث أهلها "حسن" .
        وأحاديث أهل هذه المرتبة كثير في كتب السنن : سنن أبي داود ، وسن الترمذي ، وسنن النسائي ، وسنن ابن ماجه ، وسنن البيهقي وغيرها .
        أما المرتبة السادسة : فحديث أهلها ضعيف يعتبر به ، بمعنى أنه يبحث له عن مقو يقويه ، من آية قرآنية ، أو حديث آخر ، أو قول صحابي . . . إلخ ، فإذا وجدنا له مقويا ارتفع عن رتبة الضعف إلى الحسن لغيره ، أما إذا لم نجد له مقويا فإنه يستفاد به في غير العقائد والأحكام ، فيؤخذ به في الفضائل ، والترغيب والترهيب ، والزهد ، والآداب ، وحديث أهل هذه المراتب كثير في المصنفات ، والمعاجم ، والأجزاء.
..................................
المراجع والحواشي السفلية
1- الأولى أن يقال : " مراتب التوثيق " ؛ لأن هذه المراتب مراعى فيها العدالة والضبط ، ووجه جواز " مراتب التعديل " ، أن التعديل عند المحدثين يشمل العدالة والضبط ، وإنما استعملت غير الأولى مراعاة لما سار عليه الأئمة في كتبهم مع التنبيه على الأولى .
2- وإنما كانت " ضابط " مع أنها لعدل أقل من "عدل ضابط " ؛ لأن الثانية صرح الإمام فيها بالأمرين معا ، فكانت أعلى من التي لم يصرح فيها .
3- وصف بالصدق على طريق المبالغة ، ولذا كانت أعلى من " محله الصدق".
4- ليس بعيدا عن الصدق .
5- بكسر الراء ، أي : حديثه مقارب لحديث غيره من الثقات ؛ أي هو وسط .
6- بفتح الراء ، أي : حديثه تقارب حديث غيره ؛ أي هو وسط .
7- يستثنى من ذلك الخلاف في التقسيم ، ولقد سرت على نهج السخاوي في التقسيم ، أما الحافظ ابن حجر والسيوطي وغيرهما ، فأدخلوا المرتبة الثانية هنا في الأولى ، وجعلوا السادسة هنا مرتبتين خامسة وسادسة ، والخامسة من أول : "محله الصدق" ، إلى : " شيخ" ، والسادسة من : "صالح الحديث" ، إلى النهاية . راجع تدريب الراوي 1/342 ، وفتح المغيث للسخاوي 1/336 ، وراجع الرفع والتكميل في عدة مواطن .
8- قد تجد في بعض الكتب أن حديث أهل هذه المرتبة ضعيف ؛ لفقد شريطة الضبط ، وربما شجع القائلين بذلك ما روى عن ابن أبي حاتم الرازي من قوله : ومنهم ـ أي الرواة ـ الصدوق الورع ، المغفل الغالب عليه ، الوهم والخطأ ، والغلط والسهو ، فهذا يكتب من حديثه الترغيب والترهيب ، والزهد ، والأداب ، ولا يحتج بحديثه في الحلال والحرام اهـ كلامه ، وليس الأمر كذلك كذلك ؛ فكلام ابن أبي حاتم هذا ينطبق على الطبقات التالية لذلك ، أما الطبقة التي معنا فهي التي قال فيها ابن أبي حاتم : ومنهم ـ أي الرواة ـ الصدوق الورع ، الثبت الذي يهم أحيانا ، وقد قبله الجهابذة النقاد ، فهذا يحتج بحديثه . راجع الجرح (1/10) ، والواقع يؤيد ذلك ، فإن الثقة حديثه صحيح ، أما من نزل عن رتبة الثقة قليلا ـ وهم أهل هذه المرتبة ـ فيتعين أن يكون حديثهم حسنا ، وإلا انقسم الحديث إلى صحيح وضعيف .
=======================
من كتاب : علم الجرح والتعدبل ( قواعده وأئمته )
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ