علم التأويل
التأويل من المصطلحات المختلف عليها في علوم الدين والقرآن عند المسلمين فمنهم من قال:يطلق في القرآن والسنة ويراد به التفسير، كما يراد به الحقيقة التي يؤول إليها الأمر أو الخبر.[1] تأويل الكلام هو الرجوع به إلى مراد المتكلم، وهو على قسمين: الأول: بيان مراد المتكلم، وهذا هو التفسير. الثاني: الموجود الذي يؤول إليه الكلام، أي ظهور المتكلم به إلى الواقع المحسوس.[2] وهناك من قال بأن التفسير غير التأويل مثل قول (الثعلبي):التفسير بيان وضع اللفظ إما حقيقة أو مجازاً، والتأويل تفسير باطن اللفظ[3].
مصطلح التأويل
التأويل في اللغة هو الارجاع. أوّلَ الشئ أي أرجعه، وآل إليه الشئ أي رجع إليه [4]. إذن فكلمة (آل) (إيالاً) و(أيلولةً) و(مآلاً) تعني رجع وصار و(آل) عنه تعني إرتد. و(آل) على القوم تعني ولي عليهم فهم رعاياه ويرجعون اليه وهو مسئول عنهم. و(أوّل) الشئ اليه أرجعه، و(أوّل) الكلام يعني فسره... فكأن التأويل هو إرجاع للكلمة المرادة إلى أصل أبعد من المعنى الحرفي لها. أي أن التأويل إرجاع أبعد من إرجاع المفردة العادية، أو، قل، هو إرجاع ثنائي، أولا يتم إرجاع الكلمة إلى الذهن لمعرفة معناها، ثم يتم إرجاع المعنى إلى ما وراء المعنى المصطلح عليه للتوصل إلى (معنى المعنى)[5].
ولعله لا توجد كلمة في العربية أثارت جدلا بين الباحثين مثل كلمة تأويل. فهي الكلمة التي إمتازت بفتح الأفق واكتشاف المثير والجديد، كما أنها هي نفسها التي أظهرت الطوائف الإسلامية باختلافها الموضوعي وغير الموضوعي الذي وصل حد الاقتتال، كما هي بذاتها التي أخرجت المدارس النقدية والفكرية والفنية المتميزة ودارت حولها أفكارها ومفاهيمها، وهي (هي) التي تثير جدلا واسعا الآن بين مفكري العصر الحديث، وهي (هي) التي عن طريقها يبلغ الاديب والفقيه ذروة غاياته.
ولمعرفة التأويل أكثر لا بد من التطرق لعدد من المصطلحات اللغوية التي تتبع لكلمة تأويل مثل (الدلالة) و(التفسير) و(اللغة).
ماهية اللغة
ولكي نعرِّف التأويل تعريفا وافيا لا بد أن نتحدث عن الحقل الذي تعمل فيه الكلمة وهو اللغة: اللغة إشارة عن طريق المفردات يتضح بها معنى في ذهن المخاطب، ولكن الطريف في الامر أن هذا المعنى المراد لا يتحدد الا عن طريق الممارسة العملية للمخاطَب والمخاطِب. واللغة الصرفة في حد ذاتها تأويل ـ هكذا ـ بغض النظر عن أي نص معين أو محدد. وهذا يتضح من أمرين..
أولهما: عمل اللغة الأساسي ودلالة مفرداتها، فعند اللفظ بكلمة ما من شخص ما إلى شخص آخر فإنه تتم عملية إرجاعية سريعة للكلمة في ذهن المخاطَب فتختلط بالممارسة وعندها يتحدد المفهوم. وهذا الأمر نفسه يحدث للمخاطِب ولكن بطريقة عكسية إذ تحدد الممارسة أولا شكل الكلمة التي يريد إخراجها وبعدها يخرج اللفظ محددا بممارسته. والملاحظ هنا انه وحتى يتم التفاهم بين الطرفين لابد وأن تتقارب ممارستهما للكلمة المعينة، وما اختلاف الرأي إلا اختلاف ممارسة[6]. إذن فاللغة أو بالأصح العبارة يتم فهمها عن طريق الارجاع للكلمة في مدركات وتجارب الذهن. وثانيهما: معنى التأويل في اللغة العربية.
== بين التأويل والدلالة والتفسير == (دلّ) على الشئ واليه (دَِلالة) بكسر الدال وفتحها، تعني أرشد، فهو دال والشئ مدلول عليه واليه. و(الدلالة) هي الإرشاد، وما يدل عليه اللفظ عند إطلاقه ـ أي ما يرشد اليه ـ واستدل بالشئ على الشئ إتخذه دليلا عليه يعني إشارة. والدليل هو المرشد[7]. ونحن نستخدم جمع (دليل) في محل جمع (الدلالة) فنقول لما يوجد على المتهم (أدلة) والصحيح أن نقول (دلائل) أو(دلالات) ـ حسب الموضع ـ لأن (الأدلة)جمع لعاقل ومفردها دليل. وبما أن الدلالة تعني ما يرشد عليه اللفظ عند إطلاقه ـ هكذا ـ دون حاجة إلى تفسير خاص أو تأويل معين، فكأن ببروز كلمة دلالة قد تحدد معنى جديد(للتفسير). فالتفسير لا يكون الا لما استعصى على الفهم، أي ان التفسير هو توضيح ما لم يمكن فهمه دون توضيح. أما الإشارة المحضة التي يفهم منها شيئا ما فهي ليست تفسير. لنقرأ معا معنى تفسير القرآن من المعجم إذ يقول:فسر الشئ أي وضحه، وآيات القرآن الكريم أي شرحها ووضح ما تنطوي عليه من معان واسرار واحكام. إذن فالتفسير هو توضيح (ما إنطوت) عليه من (معان) و(أسرار)، وليس شرح ما هو ظاهر وواضح لأن هذا ما تدل عليه الكلمات أي أنه عمل الدلالة لا التفسير. لأن الكلمة متعلقة بما سواها عن طريق الممارسة. فعندما نقول (أسد) فهي إشارة لشكل محدد نعرفه من خلال التجربة، وهذا أمر لا يحتاج لاكثر من الإشارة ـ اي الدلالة ولكن وفي حال وجد شخص لا يعرف ما هو شكل الاسد.. ولا ماهية الاسد أصلا، عندها يتم تفسير الكلمة بوصف الشكل والنوع والخصائص الخ..وأما تأويل كلمة أسد فيقع إذا ذكرت الكلمة بقرينة مانعة لاستخدامها المتعارف عليه. فكل مفردات اللغة في حالة التجريد هي دلالة لشئ ما موجود في الذهن عن طريق الممارسة، فإذا قلت ممارسة الشخص برز دور التفسير، فهناك من يحتاج لتفسير كلمة حاجة لا تكون لغيره الذي يقنع بمجرد الإشارة فقط.
هكذا فإن المفردة يختلف عملها باختلاف الاشخاص، فإذا كان عالم بها فهي دلالة، وإن كان جاهل بها فهو في حاجة للتفسير.
التأويل نشأته وعمله
نشأته
كلمة تأويل يُظن بأنها لم تستخدم الا في عصر الإسلام ولكننا لا نتفق وهذا الظن إذ هنالك شواهد على استخدام الكلمة مثل ما ذكره ابن هشام في السيرة : (أن ربيعة بن نصر ملك اليمن رأى رؤيا هالته فدعى الكهنة وقال لهم: إني رأيت رؤيا هالتني فأخبروني بتأويلها...الخ...)[8]. ولقد وردت لفظة تأويل في هذه القصة أكثر من ثلاث مرات وهي قصة حدثت قبل الإسلام بأكثر من مائة عام. ولكننا نعتقد أن الكلمة وجدت رواجا في عصر الإسلام أكثر من أي عصر سابق كما أنها قد إكتسبت شكلا اصطلاحيا جديدا في عهده.
عمله
عمل التأويل الأساسي يكون في الجمل والمعاني عكس التفسير الذي يتعلق بشرح الالفاظ والمفردات[9]، وهذا ما أشرنا له سابقا، لهذا فقد إصطلحنا على الأول (وهو تأويل اللغة الصرفة) على أنه تفسير. كما إصطلحنا على الثاني(وهو إرجاع المعنى...) على أنه تأويل.
ويبرز هنا سؤال مهم وهو: ما الحاجة إلى التأويل في الأساس بمعناه الثاني!؟
ولعل الحاجة اليه تكمن في حقيقة وخصائص اللغة العربية نفسها، فهي تمتلك خصائص لا توجد في أغلب لغات العالم التي نعرفها.. وأول هذه الخصائص تعلق المعنى بكلمة واحدة وتعلق الكلمة بمعنى واحد. فكل كلمة في العربية يقابلها معنى واحد لا تشترك معها فيه كلمة أخرى. ولقد إهتم الناطقين بالعربية القدماء بخلق مفردات جديدة لكل ما يحدث حولهم ـ أو لا يحدث. فالسير عندهم غير المشي، والجلوس لا ينطبق على القعود وكان لولع العرب بالبلاغة أكبر الأثر في تفجير طاقات اللغة العربية وإخراج فنونها المختلفة فظهر التشبيه بأنواعه ثم تطور التشبيه إلى استعارة ثم المجاز فالكناية الخ.. وكانوا في كل فن يخرج من اللغة مباشرة متقدمين على من سواهم من الاجناس فبرعوا في الشعر حتى صار صفة لهم وبالغوا في الرجز واهتموا بالخطابة والرسائل الخ.. والتأويل قبل كل شيء هو فن مجيد يضفي على المعنى اللغوي روحا وعلى السامع اللبيب طربا لا يدانيه طرب. وماكان لهم-اي العرب ـ وهم كذلك ـ أن يتوانوا عن إيجاده واللغة عندهم تحتمل ـ بما ذكرنا ـ ما لا تحتمله سواها. الحقيقة التي يجب توضيحها هي أن اللغة العربية بقواعدها ونحوها وبلاغتها وبكل خصائصها هي لغة جمالية في المقام الأول، لغة تهتم بالشكل اهتماما يفوق أي لغة أخرى.
وعمل التأويل أصلا في النص لا في المفردة المنفصلة، فإن كان النص مترابطا كوحدة موضوعية لزم أن يكون التأويل مترابطا فلا يخرج عن السياق العام للنص. وأكبر مثال لذلك النص القرآني فيجب على المأول أن ينتهج نهجا مترابطا لا يختلف والنصوص القرآنية المختلفة. وقد تضلل دلالة الآيات عن المعنى المراد، فلا ينفع العمل بها، ولا العمل بالتفسير الذي قد يصبح متحاملا على اللغة حتى أنه قد يلجأ إلى طرق هي أبعد عن العقل ولا تقنع ذي لب ولا جاهل، وتصبح حينئذ حاجة النص للتاويل حاجة حياة أو موت. فلا بد حينها إبعاد الدلالة الحقيقية للنص والذهاب إلى الدلالة المجازية وهذا هو بالضبط مفهوم التأويل عند (أبن رشد)[10].
التأويل عند الجماعات الإسلامية
ظهر صراع التأويل بين الجماعات الإسلامية بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فكان أول خلافاتهم في ذلك موقف الخليفة الأول أبي بكر الصديق من مانعي الزكاة فرأى بعضهم عدم محاربتهم وكان على رأسهم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب والخليفة الرابع علي بن أبي طالب وجمهور منهم وتفرد الخليفة الأول برأيه بمحاربتهم إذ رأى أنه التأويل السليم. ومن خلافاتهم في ذلك موقف الخليفة الثاني من المؤلفة قلوبهم وهم قوم يستحقون الزكاة بنص قرآني صريح لكي يؤمن شرهم ويرغبوا في الإسلام ولكن عمر رفض إعطائهم ذلك وكان له تأويل خالف به جمهور الصحابة..[11] ولكن الطوائف الإسلامية بصورة واسعة قد ظهرت بعد حروب علي بن أبي طالب ابن عم النبي محمد مع معاوية بن أبي سفيان وبعد مقتل عثمان بن عفان الخليفة الثالث، فظهرت طوائف المسلمين الكبرى (السنة والشيعة والخوارج) ومن بعدهم ظهرت طائفة (المعتزلة) التي تختلف مع الطوائف موضوعيا في قضايا تأويلية. وظهرت طائفة مهمة للتأويل وهي طائفة (الصوفية) وهم من حيث الموقف أقرب إلى الشيعة ومن حيث الموضوع أقرب إلى أهل السنة ولكنهم في خلاف كبير مع الخوارج والمعتزلة وخصوصا مع الأولى.
التأويل عند أهل السنة
إتخذ التأويل في المفهوم الإسلامي بعد القرن الثاني الهجري مفهوما أيدلوجيا، وخلافا حادا بين معترف به ورافض له.. وأكثر القضايا الإسلامية التي احتاجت إلى تأويل هي قضية الجبر والاختيار أو التسيير والتخيير، وهي من القضايا التي تفرق تفريقا كبيرا بين (أهل السنة والمتصوفة) من جهة وبين المعتزلة من جهة أخرى وسنتعرض لها لاحقا.. أما أهل السنة ومن يدعي الانتماء اليهم مثل (ابن كثير ،وابن قيم الجوزية، وابن تيمية...) فهم لايرحبون بالتأويل... ولقد رفضه الصغاني في كتابه(ترجيح اساليب القران على اساليب اليونان) وابن تيمية في كتابه(درء تعارض العقل والنقل) وكذلك السيوطي، ولكن الجرجاني يوافق عليه بشرط ان يكون موافقا للكتاب والسنة[12]. وعلى العموم فإن أهل السنة وان كانوا لا يرحبون بالتأويل كقاعدة عامة لهم الا انهم قد مارسوا التأويل فعلا ومثال لذلك ما قاله ابن عباس في قول القرآن(أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) قال : الماء هو القرآن والأودية قلوب العباد[13].. وهذا ليس بتفسير بل تأويل للمعنى الذي تعطيه اللغة ويعطيه التفسير، وهي معتمدة بهذا التأويل عند ابن كثير والقرطبي. كما أن هناك تفسيرا لمحمد بن جرير الطبري عنوانه(جامع البيان في تأويل آي القرآن) ورغم أن الكتاب لا يحتوي على تأويل، بذاك المفهوم الذي أوردناه، للتأويل إلا ان اعتماد التأويل في حد ذاته من الطبري يعد اعترافا به رغم اختلاف المفاهيم.
التأويل عند المعتزلة
تعتبر مشكلة التخيير والتسيير من المشاكل الأولى التي طرأت على الفكر الإسلامي بعد فترة ما يسمى بالفتنة الكبرى. وكان لاعتزال واصل بن عطاءالله للحسن البصري أكبر دور في تفجير هذه المشكلة. من الواضح تماما أن نصوص القرآن تمتلئ بتسيير الإنسان، كما توجد إشارات أخرى لتخييره. ولقد بنى المعتزلة موقفهم ضد التسيير على فكرة العدل الالهي التي هي أحد أهم الاصول الخمسة للمعتزلة. والعدل الالهي يتطلب -حسب مفهوم المعتزلة له- أن لا يجبر الله عبدا على فعل ما ثم يحاسبه عليه. وهذه الفكرة، (مع الاربع الباقيات)، كانت بمثابة نظرية عامة للمعتزلة في النظر إلى كافة النصوص القرآنية وكذلك النصوص النبوية.. ولأن المعتزلة أصحاب نظرية في النص لهذا نجد أن تأويل المعتزلة كان ـ بلا شك ـ أكثر ترابطا من تفسير أهل السنة.. ولكنه ـ في ذات الوقت ـ وبناء على النص نفسه ـ كان قليل الإقناع بالمقارنة مع تأويل فلاسفة المتصوفة الذين يعتمدون على نظرية مغايرة ومختلفة تماما مع نظرية المعتزلة. فنظرة التخيير المطلقة جعلت المعتزلة في مطب حاولوا الفكاك منه بشتى الطرق والوسائل، حتى انهم عمدوا إلى تغيير دلالة النص الظاهرة شكلا لعدم تمكنهم من تأويل بعض النصوص وفق نظريتهم. ولقد قاموا بانكار النصوص النبوية التي لا تتماشى مع فلسفتهم في التاويل... وهذا بخلاف العمل في التأويل الذي لا يعمد إلى تغيير الدلالة الواضحة بل إلى ترقيتها. ففي المثال الأول قاموا بتغيير سورة الفلق عند قول القران : {قل أعوذ برب الفلق* من شرِ ما خلق} إلى (من شرٍ ما خلق). وبوضع تنوين على كلمة (شر) أصبحت (ما) هنا نافية، وهذا بخلاف إجماع أهل القرآن في هذا النص [14] ولم يتم هذا التغيير على أساس مرجعي أو نقلي، وإنما قام على أساس النظرية العامة التي ترفض خلق الله للشر وأنه حادث من صنع الإنسان... ولو تابعنا هذه الفكرة لوجدناها أشبه بفكرة تعدد الآلهة الإغريقية فهناك اله للخير وآخر للشر وثالث للحب الخ.. وفي المثال الثاني فلقد رفض المعتزلة كل الاحاديث التي تدعم فكرة التسيير، لا طعنا في رواتها، ولا في أسانيدها، بل طعنا في بنيتها ـ أي المتن ـ إذ لا يتماشى أيضا والنظرية العامة لهم.
التأويل عند الصوفية
رغم أن المتصوفة هم الأقرب لأهل السنة من المعتزلة الا انهم ظلوا محل حرب ماسمي بالفقهاء المتواصل، (ولا نعني هنا الفقهاء بالمعنى اللغوي للكلمة بل نعني بهم اصطلاحا الذين يمتهنون مهنة الفقه)، بل وصل الامر بهم إلى التآمر مع الخلفاء لقتلهم، كما فعلوا بالسهروردي إذ دفعوا (الناصر الايوبي) إلى قتله في قضية هي من المضحكات[15]. وكما تآمروا على محي الدين بن عربي في مصر وحاولوا قتله لولا أن ساعده الشيخ (البجائي) على الهرب[16] . وكما فعلوا بالحلاج المشهور فعلوا أيضا نفس الشئ مع عبد الحق بن سبعين إذ دسوا له السم بتحريض من (الملك المظفر) ملك اليمن[17]، والتاريخ مليئ بعداء الفقهاء للمتصوفة القدماء والمحدثين. ولعل السبب الأساسي الذي يخلق هذا العداء بين الفقهاء والمتصوفة (سنيين وفلاسفة) هو مقدرة الصوفية على التأويل بطريقة مترابطة هي أكثر إقناعا وجذبا للناس من غيرهم... وهناك سبب آخر هو التأويل نفسه دون حاجة لترابطه أو إقناعه، ولهذا السبب كان حظ المعتزلة من التعذيب لا يغفل رغم أنه كان أقل من المتصوفة، وهذا رغم أن التصوف بشكله المتكامل قد ظهر بعد الاعتزال بمدة طويلة. وفي قضية التسيير يرى المتصوفة ومن منطلق تأويلهم للنصوص أن الإنسان مسير بلا شك، وان القول بغير ذلك توهم لإرادة غير موجودة ومن المستحسن أن نورد بعض الشواهد هنا: جاء في كتاب أخبار الحلاج أن (عبد الله بن طاهر الأزدي قال: كنت أخاصم يهوديا في سوق بغداد. وجرى على لفظي أن قلت له ياكلب. فمر بي الحسين بن منصور ونظر الي شزرا وقال: لا تنبح كلبك. وذهب سريعا، فلما فرغت من المخاصمة قصدته فدخلت عليه فأعرض عني بوجهه، فاعتذرت إليه فرضى ثم قال: يا بني الأديان كلها لله عز وجل، شغل بكل دين طائفة لا اختيارا فيهم بل اختيارا عليهم، فمن لام أحدا ببطلان ما هو عليه فقد حكم أنه أختار ذلك لنفسه، وهذا مذهب القدريةـ والقدرية مجوس هذه الأمةـ وأعلم أن اليهودية والنصرانية والإسلام وغير ذلك من الأديان هي ألقاب مختلفة وأسام متغايرة، والمقصود منها لا يتغير ولا يختلف...)[18]. ويقول ابن عربي:فاعلم أن العبد تارة يقيمه الحق في معصيته، وتارة يقيمه في طاعته.
ثم أنشد في هذا المعنى: (اذا عصى الله قد وفى حقيقته
وان اطاع فقـ د وفى طريقته)[19]
ويقول ابن عطاء الله السكندري صاحب الحكم في حكمه:
(من لم يأتي لله بالإذعان سيق اليه بسلاسل الامتحان)
وقال السري السقطي: "اليقين سكونك عند جولان الموارد في صدرك، لتيقنك أن حركتك فيها لا تنفعك ولا ترد عنك مقضيا".
هذه بعض أقوالهم في أمر التسيير وهم إذ يقررون هذا الأمر لا يقرونه من منطلق يبعد الدلالة عن مرادها في اللغة القرآنية والدينية عموما بل لهم شواهد تأويلية لطيفة تتسق ونظريتهم حول التسيير.. خصوصا وأنهم يفضون تعارضا دلاليا في بعض النصوص بشواهد من التأويل تعيد للنص قوته وبعده المعرفي. ولمزيد من التوسع يوصى بمراجعة:
- تفسير ابن عربي/دار صادر بيروت/د.ت.
- لطائف الإشارات للقشيري/ الهيئة المصرية العامة للكتاب2000م/ إدارة التراث
- الفتوحات المكية في معرفة الأسرار المالكية والملكية/الشيخ محي الدين بن عربي
- رد المتشابه إلى المحكم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية/محي الدين بن عربي
التأويل الإسلامي الحديث
إن التأويل (حركة) متصاعدة لا تتوقف فإذا توقفت تحتم وجود تجاوز زمكاني للنص لهذا فإن النص لا يعيش الا في ظل التأويل.. ومن هنا ظهرت في العصر الحديث حركات إسلامية (فردية)عديدة تبنت مفهوما جديدا للنص القرآني كما ظهر مفكرون أصحاب وجهات نظر مغايرة لمألوف التراث الإسلامي ولعل تاريخ هذه الحركة الفكرية الجديدة قد استهلت بالامام محمد عبده الذي قاد هجمة شرسة على مؤسسة الدين الرسمية في البلاد (الأزهر) ومما قاله عن الأزهر (مكثت عشرة أعوام أنظف رأسي عن قاذوراته ولم أستطع).. ولعل هذه القطيعة العجيبة بين شيخ أزهري وبجدته[20] كان سببها الرئيس هي تأويلاته الحداثوية التي لاقت اعتراضا شرسا من اصحاب العمامات. يقاسم الشيخ محمد عبده ريادته الاستاذ الدكتور طه حسين الذي أحدث ثورة في عالم الفكر الديني ومن أشهر مظاهر ثورته كتابه (في الشعر الجاهلي) الذي رفض فيه ما نحل للشعراء الجاهليين من أشعار من قبل المفسرين وكتاب السيرة. وهناك أيضا محمد عمارة الذي تأثر بأفكار المعتزلة وحقق لهم الكثير من الكتب المهمة ومن أهم كتبه (التراث في ضوء العقل). وهناك الكاتب (علي حرب) الذي تناول أزمة الحداثة والفكر الإسلامي، وهناك أيضا الكاتبة فاطمة المرنيسي. وهناك أيضا الدكتور نصر حامد أبو زيد الذي كاد أن يكلفه تأويله حياته الزوجية ففر وزوجته إلى المهجر..
ولكن يمكننا أن نقول بأن أشهر دعاة التأويل في العصر الحديث وأهمهم هو الأستاذ محمود محمد طه وتأتي أهمية طه من أنه الوحيد من كل دعاة التجديد والتنوير الذي أصبغ على أفكاره صفة التنظيمية فانشأ جماعة الاخوان الجمهوريين التي انتشرت في السودان منذ منتصف القرن الماضي. كما أن طه قد إمتاز بتأويله المترابط للنص الديني وربطه لذلك التأويل بالحياة العامة فهو رجل دين ينظر للحياة الحديثة من داخل الدين. ويتحدث عن رؤيته الحديثة في شأن الدولة وسياستها واقتصادها وحكمها من منظور تأويلي تجديدي لاقى استحسان العديدين في الاوساط التنويرية ولكنه أيضا قوبل باستهجان وغضب الكثيرين في الدوائر الدينية الرسمية مثل الأزهر ورابطة العالم الإسلامي[21].
مراجع
- ^ معنى التأويل الذي لا يعلمه إلا الله والتأويل المذكور في كلام المتأخرين موقع ابن تيمية
- ^ من رسالة مفهوم التفسير للشيخ مساعد الطيار
- ^ http://www.hqw7.com/Default.aspx?pages=abhas&inc=textitem&page=a2&id=11
- ^ المعجم الوجيز :ص30
- ^ قصي مجدي سليم:بحث التأويل وتطور مفهومه في النص الديني والأدبي
- ^ قصي مجدي سليم: التأويل وتطور مفهومه في النص الديني والأدبي- بحث
- ^ المعجم الوجيز
- ^ السيرة النبوية، ابن هشام، المكتبة التوفيقية القاهرة/تحقيق دكتور محمد فهمي السرجاني. د.ت. ص18
- ^ الموسوعة الفلسفية العربية، عاطف العراقي، كلمة تأويل، ص207، معهد النماء العربي/الطبعة الأولى1986م/رئيس التحرير د. معن زيادة.الجزء الأول
- ^ الموسوعة الفلسفية العربية، ص207
- ^ لمزيد من التوسع-تاريخ الطبري/دار المعارف/تحقيق محمدأبو الفضل إبراهيم/ط2
- ^ الموسوعة الفلسفية العربية، ص208
- ^ راجع تفسير القرطبي/ سورة الرعد/ آية رقم 17
- ^ فتح القدير/محمد بن علي الشوكاني/دار إحياء التراث العربي بيروت/د.ت./ المجلد الخامس/ص520
- ^ كان سبب قتله الأساسي سؤالهم له هل الله قادر على خلق نبي بعد محمد؟ فقال نعم
- ^ الفتوحات المكية في معرفة الأسرار المالكية والملكية/الشيخ محي الدين بن عربي/دار احياء التراث العربي بيروت/الطبعة الأولى 1998م./المجلد الأول/ص11
- ^ ابن سبعين وفلسفة الصوفية/د أبو الوفا الغنيمي التفتازي/ دار الكتاب اللبناني بيروت/الطبعة الأولى 1973/ ص65
- ^ أخبار الحلاج والطواسين/تقديم وتعليق وتصحيح :عبد الحفيظ محمد مدني الهاشمي/الناشر: مكتبة الجندي/ الطبعة الثانية1970م/ص54
- ^ الفتوحات المكية/المجلد الثالث/ص73
- ^ تعني هنا بني جلدته- والبجدة هي الأرض
- ^ لمزيد من التوسع راجع كتب الاستاذ محمود محمد طه بموقع الفكرة الجمهورية
ملحوظة
هذه المقالة محل نقاش