نزول القرآن الكريم
جاء التعبير بمادة نزول القرآن وما تصرف منها في الكتاب والسنة، ومن أمثلته قوله سبحانه في سورة الإسراء : { وبالحق أنزلناه وبالحق نزل }. وقوله صلى الله عليه وسلم : "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف" . وهو حديث مشهور بل قيل فيه بالتواتر كما سيأتي .
لكن النزول في استعمال اللغة يطلق ويراد به الحلول في مكان والأوي به ، ومنه قولهم "نزل الأمير المدينة" . والمتعدي منه وهو الإنزال يكون معناه إحلال الغير في مكان وإيواءه به ، ومنه قوله جل ذكره { رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين } ويطلق النزول إطلاقا آخر في اللغة على انحدار الشئ من علو إلى سفل نحو نزل فلان من الجبل" . والمتعدي منه يكون معناه تحريك الشئ من علو إلى سفل ومنه قوله سبحانه : { أنزل من السماء ماء } .
ولا ريب أن كلا هذين المعنيين لا يليق إرادته هنا في إنزال الله للقرآن ، ولا في نزول القرآن من الله ، لما يلزم هذين المعنيين من المكانية والجسمية . والقرآن ليس جسما حتى يحل في مكان أو ينحدر من علو إلى سفل ، سواء أردنا به الصفة القديمة المتعلقة بالكلمات الغيبية الأزلية ، أم أردنا به نفس تلك الكلمات ، أم أردنا به اللفظ المعجز ؛ لما علمت من تنزه الصفة القديمة ومتعلقها وهو الكلمات الغيبية عن الحوادث وأعراض الحوادث ، ولما تعرفه من أن الألفاظ أعراض سيالة تنقضي بمجرد النطق بها، كما يقولون .
إذن فنحن بحاجة إلى التجوز ، والمجاز بابه واسع وميدانه فسيح. وليكن المعنى المجازي لإنزال القرآن هو الإعلام في جميع إطلاقاته . أما على أن المراد بالقرآن الصفة القديمة أو متعلقها، فإنزاله : الإعلام به بواسطة ما يدل عليه من النقوش بالنسبة إنزاله في اللوح المحفوظ وفي بيت العزة من السماء الدنيا، وبواسطة ما يدل عليه من الألفاظ الحقيقية بالنسبة لإنزاله على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، والعلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي هي اللزوم؛ لأن إنزال شئ إلى شئ يستلزم إعلام من أنزل إليه ذلك الشئ به إن كان عاقلا، ويستلزم إعلام من يطلع عليه من الخلق به مطلقا، وإذن فالمجاز مرسل.
وأما على أن المراد بالقرآن اللفظ المعجز ، فمعنى إنزاله الإعلام به أيضا، ولكن بوساطة إثباته هو أو إثبات دالةه فإثباته هو بالنسبة لإنزاله على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، وإثبات داله بالنسبة إلى اللوح المحفوظ وبيت العزة، والعلاقة اللزوم كذلك ، والمجاز مرسل كسابقه .
ويمكن أن يكون هذا التجوز من قبيل الاستعارة التصريحية الأصلية، بأن يشبه إعلام السيد لعبده بإنزال الشئ من علو إلى سفل، بجامع أن في كل من طرفي التشبيه صدورا من جانب أعلى إلى جانب أسفل، وإن كان العلو والسفل في وجه الشبه حسيا بالنسبة إلى المشبه به ، ومعنويا بالنسبة إلى المشبه .
وأنت خبير بأن النزول مطاوع الإنزال ، فما يجري من التجوز في أحدهما يجري نظيره في الآخر. وقيل مثل ذلك في التنزيل والتنزل.
وكأن وجه اختيار التعبير بمادة الإنزال وما تصرف منها أو التلقي معها، هو التنويه بشرف ذلك الكتاب، نظرا إلى ما تشير إليه هذه المادة من علو صاحب هذا الكتاب المنزل علوا كبيرا، كما قال تعالى في سورة الزخرف : { حم والكتاب المبين، إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ، وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}.
ثم إن تأويل الإنزال بالإعلام على ما رأيت هو الأقرب والأوفق بالمقام، وذلك من وجوه ثلاثة :
أحدها : أن تعلق الكلام تعلق دلالة وإفهام ، ولا ريب أن القرآن كلام، فتأويل إنزاله بالإعلام، رجوع إلى ما هو معلوم من تعلقه، ومفهوم من تحققه .
ثانيها: أن المقصود من ثبوت القرآن في اللوح وفي سماء الدنيا وفي قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، هو إعلام الخلق في العالمين العلوي والسفلي بما شاء الله دلالة عليه من هذا الحق.
ثالثها : أن تفسير الإنزال بالإعلام، ينسجم مع القرآن بأي إطلاق من إطلاقاته، وعلى أي تنزل من تنزلاته
لكن النزول في استعمال اللغة يطلق ويراد به الحلول في مكان والأوي به ، ومنه قولهم "نزل الأمير المدينة" . والمتعدي منه وهو الإنزال يكون معناه إحلال الغير في مكان وإيواءه به ، ومنه قوله جل ذكره { رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين } ويطلق النزول إطلاقا آخر في اللغة على انحدار الشئ من علو إلى سفل نحو نزل فلان من الجبل" . والمتعدي منه يكون معناه تحريك الشئ من علو إلى سفل ومنه قوله سبحانه : { أنزل من السماء ماء } .
ولا ريب أن كلا هذين المعنيين لا يليق إرادته هنا في إنزال الله للقرآن ، ولا في نزول القرآن من الله ، لما يلزم هذين المعنيين من المكانية والجسمية . والقرآن ليس جسما حتى يحل في مكان أو ينحدر من علو إلى سفل ، سواء أردنا به الصفة القديمة المتعلقة بالكلمات الغيبية الأزلية ، أم أردنا به نفس تلك الكلمات ، أم أردنا به اللفظ المعجز ؛ لما علمت من تنزه الصفة القديمة ومتعلقها وهو الكلمات الغيبية عن الحوادث وأعراض الحوادث ، ولما تعرفه من أن الألفاظ أعراض سيالة تنقضي بمجرد النطق بها، كما يقولون .
إذن فنحن بحاجة إلى التجوز ، والمجاز بابه واسع وميدانه فسيح. وليكن المعنى المجازي لإنزال القرآن هو الإعلام في جميع إطلاقاته . أما على أن المراد بالقرآن الصفة القديمة أو متعلقها، فإنزاله : الإعلام به بواسطة ما يدل عليه من النقوش بالنسبة إنزاله في اللوح المحفوظ وفي بيت العزة من السماء الدنيا، وبواسطة ما يدل عليه من الألفاظ الحقيقية بالنسبة لإنزاله على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، والعلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي هي اللزوم؛ لأن إنزال شئ إلى شئ يستلزم إعلام من أنزل إليه ذلك الشئ به إن كان عاقلا، ويستلزم إعلام من يطلع عليه من الخلق به مطلقا، وإذن فالمجاز مرسل.
وأما على أن المراد بالقرآن اللفظ المعجز ، فمعنى إنزاله الإعلام به أيضا، ولكن بوساطة إثباته هو أو إثبات دالةه فإثباته هو بالنسبة لإنزاله على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، وإثبات داله بالنسبة إلى اللوح المحفوظ وبيت العزة، والعلاقة اللزوم كذلك ، والمجاز مرسل كسابقه .
ويمكن أن يكون هذا التجوز من قبيل الاستعارة التصريحية الأصلية، بأن يشبه إعلام السيد لعبده بإنزال الشئ من علو إلى سفل، بجامع أن في كل من طرفي التشبيه صدورا من جانب أعلى إلى جانب أسفل، وإن كان العلو والسفل في وجه الشبه حسيا بالنسبة إلى المشبه به ، ومعنويا بالنسبة إلى المشبه .
وأنت خبير بأن النزول مطاوع الإنزال ، فما يجري من التجوز في أحدهما يجري نظيره في الآخر. وقيل مثل ذلك في التنزيل والتنزل.
وكأن وجه اختيار التعبير بمادة الإنزال وما تصرف منها أو التلقي معها، هو التنويه بشرف ذلك الكتاب، نظرا إلى ما تشير إليه هذه المادة من علو صاحب هذا الكتاب المنزل علوا كبيرا، كما قال تعالى في سورة الزخرف : { حم والكتاب المبين، إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ، وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}.
ثم إن تأويل الإنزال بالإعلام على ما رأيت هو الأقرب والأوفق بالمقام، وذلك من وجوه ثلاثة :
أحدها : أن تعلق الكلام تعلق دلالة وإفهام ، ولا ريب أن القرآن كلام، فتأويل إنزاله بالإعلام، رجوع إلى ما هو معلوم من تعلقه، ومفهوم من تحققه .
ثانيها: أن المقصود من ثبوت القرآن في اللوح وفي سماء الدنيا وفي قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، هو إعلام الخلق في العالمين العلوي والسفلي بما شاء الله دلالة عليه من هذا الحق.
ثالثها : أن تفسير الإنزال بالإعلام، ينسجم مع القرآن بأي إطلاق من إطلاقاته، وعلى أي تنزل من تنزلاته
كيفية نزول القرآن الكريم
قال الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ) وقال: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) اختلف في كيفية إنزاله من اللوح المحفوظ على ثلاثة أقوال:
أحدها وهو الأصح الأشهر: أنه نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة ثم نزل بعد ذلك منجماً في عشرين سنة أو ثلاثة وعشرين أو خمسة وعشرين على حسب الخلاف في مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة بعد البعثة.
أخرج الحاكم والبيهقي وغيرهما من طريق منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى سماء الدنيا وكان بمواقع النجوم وكان الله ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضه في أثر بعض.
وأخرج الحاكم والبيهقي أيضاً والنسائي أيضاً من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك بعشرين سنة ثم قرأ (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) (وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) وأخرجه ابن أبي حاتم من هذا الوجه وفي آخره: فكان المشركون إذا أحدثوا شيئاً أحدث الله لهم جواباً.
القول الثاني: أنه نزل إلى سماء الدنيا في عشرين ليلة قدر وثلاث وعشرين أو خمس وعشرين في كل ليلة ما يقدر الله إنزاله في كل السنة ثم أنزل بعد ذلك منجماً في جميع السنة.
وهذا القول ذكره الإمام فخر الدين الرازي بحثاً فقال: يحتمل أنه كان ينزل في كل ليلة قدر ما يحتاج الناس إلى إنزاله إلى مثلها من اللوح إلى السماء الدنيا ثم توقف هل هذا أولى أو الأول.
قال ابن كثير: وهذا الذي جعله احتمالاً نقله القرطبي عن مقاتل ابن حيان وحكى الإجماع على أنه نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا.
قلت: وممن قال بقول مقاتل الحليمي والماوردي ويوافقه قول ابن شهاب آخر القرآن عهداً بالعرش آية الدين.
القول الثالث: أنه ابتدأ إنزاله في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجماً في أوقات مختلفة من سائر الأوقات وبه قال الشعبي.
قال ابن حجر في شرح البخاري: والأول هو الصحيح المعتمد.
قال: وقد حكى الماوردي قولاً رابعاً: أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة وأن جبريل نجمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة وهذا أيضاً غريب، والمعتمد أن جبريل كان يعارضه في رمضان بما ينزل به في طول السنة.
وقال أبو شامة: كأن صاحب هذا القول أراد الجمع بين القولين الأول والثاني.
قلت: هذا الذي حكاه الماوردي أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: نزل القرآن جملة واحدة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل عشرين ليلة ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة.
تنبيهات: الأول: قيل السر في إنزاله جملة إلى السماء تفخيم أمره وأمر من نزل عليه وذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم قد قريناه إليهم لننزله عليهم ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجماً بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله ولكن الله باين بينه وبينها فجعل له الأمرين إنزاله جملة ثم إنزاله تشريفاً للمنزل عليه؛ ذكر ذلك أبو شامة في المرشد الوجيز.
وقال الحكيم الترمذي: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا تسليماً منه للأمة ما كان أبرز لهم من الحظ بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم وذلك أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانت رحمة فلما خرجت الرحمة بفتح الباب جاءت بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن فوضع القرآن ببيت العزة في السماء الدنيا ليدخل في حد الدنيا ووضعت النبوة في قبل محمد وجاء جبريل بالرسالة ثم الوحي كأنه أراد تعالى أن يسلم هذه الرحمة التي كانت حظ هذه الأمة من الله إلى الأمة.
وقال السخاوي في جمال القراء: في نزوله إلى السماء جملة تكريم بني آدم وتعظيم شأنهم عند الملائكة وتعريفهم عناية الله بهم ورحمته لهم ولهذا المعنى أمر سبعين ألفاً من الملائكة أن تشيع سورة الأنعام وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل بإملائه على السفرة الكرام وإنساخهم إياه وتلاوتهم له.
قال: وفيه أيضاً التسوية بين نبينا صلى الله عليه وسلم وبين موسى عليه السلام في إنزاله كتابه جملة والتفضيل لمحمد في إنزاله عليه منجماً ليحفظه.
وقال أبو شامة: فإن قلت: فقوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) من جملة القرآن الذي نزل جملة أم لا فإن لم يكن منه فما نزل جملة وإن كان منه فما وجه صحة هذه العبارة قلت: وجهان.
أحدهما: أن يكون معنى الكلام أنا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر وقضيناه وقدرناه في الأزل.
والثاني: أن لفظه لفظ الماضي ومعناه الاستقبال: أي ننزله جملة في ليلة القدر انتهى.
الثاني: قال أبو شامة أيضاً: الظاهر أن نزوله جملة إلى سماء الدنيا قبل ظهور نبوته صلى الله عليه وسلم، قال: ويحتمل أن يكون بعدها.
قلت: الظاهر هو الثاني وسياق الآثار السابقة عن ابن عباس صريح فيه.
وقال ابن حجر في شرح البخاري: قد خرج أحمد والبيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنزلت التوراة لست مضين من رمضان والإنجيل لثلاث عشر خلت منه والزبور لثمان عشرة خلت منه والقرآن لأربع وعشرين خلت منه وفي رواية وصحف إبراهيم لأول ليلة قال: وهذا الحديث مطابق لقوله تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ولقوله: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) فيحتمل أن يكون ليلة القدر في تلك السنة كانت تلك الليلة فأنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين إلى الأرض أول اقرأ باسم ربك قلت: لكن يشكل على هذا ما اشتهر من أنه صلى الله عليه وسلم بعث في شهر ربيع.
ويجاب عن هذا بما ذكروه أنه نبي أولاً بالرؤيا في شهر مولده ثم كانت مدتها ستة أشهر ثم أوحى إليه في اليقظة.
ذكره البيهقي وغيره: نعم يشكل على الحديث السابق ما أخرجه ابن أبي شيبة في فضائل القرآن عن أبي قلابة قال: أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع وعشرين من رمضان.
الثالث: قال أبو شامة أيضاً: فإن قيل ما السر في نزوله منجماً وهلا أنزل كسائر الكتب جملة قلنا: هذا سؤال قد تولى الله جوابه فقال تعالى وقال الذين كفروا لولا أنزل الله عليه القرآن جملة واحدة يعنون كما أنزل على من قبله من الرسل فأجابهم تعالى بقوله: (كذلك) أي أنزلناه كذلك مفرقاً (لنثبت به فؤادك) أي لنقوي به قلبك فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى بالقلب وأشد عناية بالمرسل إليه ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه وتجدد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقياه جبريل.
وقيل معنى لنثبت به فؤادك: أي لتحفظه فإنه عليه الصلاة والسلام كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ففرق عليه ليثبت عنده حفظه بخلاف غيره من الأنبياء فإنه كان كاتباً قارئاً فيمكنه حفظ الجميع.
وقال ابن فورك: قيل أنزلت التوراة جملة لأنها نزلت على نبي يكتب ويقرأ وهوموسى وأنزل الله القرآن مفرقاً لأنه أنزل غير مكتوب على نبي أميّ.
وقال غيره: إنما لم ينزل جملة واحدة لأن منه الناسخ والمنسوخ ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرقاً.
ومنه ما هو جواب لسؤال ومنه ما هو إنكار على قول قيل أو فعل فعل وقد تقدم ذلك في قول ابن عباس: ونزله جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم وفسر به قوله (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق) أخرجه عنه ابن أبي حاتم، فالحاصل أن الآية تضمنت حكمتين لإنزاله مفرقاً.
تذنيب: ما تقدم في كلام هؤلاء من أن سائر الكتب أنزلت جملة هو مشهور في كلام العلماء على ألسنتهم حتى كاد أن يكون إجماعاً، وقد رأيت بعض فضلاء العصر أنكر ذلك وقال: إنه لا دليل عليه بل الصواب أنها نزلت مفرقة كالقرآن، وأقول: الصواب الأول، ومن الأدلة على ذلك آية الفرقان السابقة.
أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قالت اليهود: يا أبا القاسم لولا أنزل هذا القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى فنزلت، وأخرجه من وجه آخر عنه بلفظ: قال المشركون، وأخرج نحوه عن قتادة والسدى.
فإن قلت: ليس في القرآن التصريح بذلك وإنما هو على تقدير ثبوته قول الكفار، قلت: سكوته تعالى عن الرد عليهم في ذلك وعدوله إلى بيان حكمته دليل على صحته ولو كانت الكتب كلها نزلت مفرقة لكان يكفي في الرد عليهم أن يقول: إن ذلك سنة الله في الكتب التي أنزلها على الرسل السابقة كما أجاب بمثل ذلك قولهم: (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) فقال: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) وقولهم: (أبعث الله بشراً رسولاً) فقال: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم) وقولهم كيف يكون رسولاً ولا هم له إلا النساء فقال: (ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية) إلى غير ذلك.
ومن الأدلة على ذلك أيضاً قوله تعالى في إنزاله التوراة على موسى يوم الصعقة (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء فخذها بقوة) (وألقى الألواح) (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة) (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة) فهذه الآيات كلها دالة على إتيانه في التوراة جملة.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أعطى موسى التوراة في سبعة ألواح من زبرجد فيها تبيان لكل شيء وموعظة فلما جاء بها فرأى بني إسرائيل عكوفاً على عبادة العجل رمى بالتوراة من يده فتحطمت فرفع الله منها ستة أسباع وأبقى منها سبعاً.
وأخرج من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده رفعه قال: الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة كان طول اللوح اثني عشر ذراعاً.
وأخرج النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث النتوق قال: أخذ موسى الألواح بعد ما سكن عنه الغضب فأمرهم بالذي أمر الله أن يبلغهم من الوظائف فثقلت عليهم وأبوا أن يقروا بها حتى نتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم فأقروا بها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ثابت بن الحجاج قال: جاءتهم التوراة جملة واحدة فكبر عليهم فأبوا أن يأخذوه حتى ظلل الله عليهم الجبل فأخذوه عند ذلك.
فهذه آثار صحيحة صريحة في إنزال التوراة جملة، ويؤخذ من الأثر الأخير منها حكمة أخرى لإنزال القرآن مفرقاً فإنه ادعى إلى قبوله إذا نزل على التدريج بخلاف ما لو نزل جملة واحدة فإنه كان ينفر من قبوله كثير من الناس لكثرة ما فيه من الفرائض والمناهي.
ويوضح ذلك ما أخرجه البخاري عن عائشة قالت: إنما نزل أول ما نزل سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبداً ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنى أبداً ثم رأيت هذه الحكمة مصرحاً بها في الناسخ والمنسوخ لمكي.
فرع الذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها أن القرآن كان ينزل بحسب الحاجة خمس آيات وعشر آيات وأكثر وأقل وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملة وصح نزول عشر آيات من أول المؤمنين جملة وصح نزول: (غير أولي الضرر) وحدها وهي بعض آية.
وكذا قوله: (وإن خفتم عيلة) إلى آخر الآية نزلت بعد نزول أول الآية كما حررناه في أسباب النزول وذلك بعض آية.
وأخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف عن عكرمة في قوله: (بمواقع النجوم) قال: أنزل الله القرآن نجوماً ثلاث آيات وأربع آيات وخمس آيات، وقال النكزاوي في كتاب الوقف: كان القرآن ينزل مفرقاً الآية والآيتين والثلاث والأربع وأكثر من ذلك.
وما أخرجه ابن عساكر من طريق أبي نضرة قال: كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة وخمس آيات بالعشي ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات، وما أخرجه البيهقي في الشعب من طريق أبي خلدة عن عمر قال: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن جبريل كان ينزل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم خمساً خمساً، ومن طريق ضعيف عن علي قال: أنزل القرآن خمساً خمساً إلا سورة الأنعام ومن حفظ خمساً خمساً لم ينسه.
فالجواب أن معناه إن صح إلقاؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا القدر حتى يحفظه ثم يلقي إليه الباقي لا إنزاله بهذا القدر خاصة، ويوضح ذلك ما أخرجه البيهقي أيضاً عن خالد بن دينار قال: قال لنا أبو العالية: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذه من جبريل خمساً خمساً.
المسألة الثانية: في كيفية الإنزال والوحي:
قال الأصفهاني أوائل تفسيره: اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلام الله منزل واختلفوا في معنى الإنزال، فمنهم من قال: إظهار القراءة، ومنهم من قال: إن الله تعالى ألهم كلامه جبريل وهو في السماء وهو عال من المكان وعلمه قراءته ثم جبريل أداه في الأرض وهو يهبط في المكان.
وفي التنزيل طريقان:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل.
والثاني: أن الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذه الرسول منه والأول أصعب الحالين انتهى.
وقال الطيبي: لعل نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلقفه الملك من الله تعالى تلقفاً روحانياً أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به إلى الرسول فيلقيه عليه، وقال القطب الرازي في حواشي الكشاف: والإنزال لغة بمعنى الإيواء وبمعنى تحريك الشيء من العلو إلى أسفل وكلاهما يتحققان في الكلام فهو مستعمل فيه في معنى مجازي فمن قال: القرآن معنى قائم بذات الله تعالى فإنزاله أن يوجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ، ومن قال: القرآن هو الألفاظ فإنزاله مجرد إثباته في اللوح المحفوظ وهذا المعنى مناسب لكونه منقولاً عن المعنيين اللغويين.
ويمكن أن يكون المراد بإنزاله إثباته في السماء الدنيا بعد الإثبات في اللوح المحفوظ وهذا مناسب للمعنى الثاني، والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تلقفاً روحانياً أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيها عليهم أهـ.
وقد ذكر العلماء للوحي كيفيات:
إحداها: أن يأتيه الملك في مثل صلصلة الجرس كما في الصحيح.
وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمر سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل تحس بالوحي فقال: أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى إلىّ إلا ظننت أن نفسي تقبض، قال الخطابي: والمراد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يثبته أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد، وقيل هو صوت خفق أجنحة الملك، والحكمة في تقدمه أن يفرغ سمعه للوحي فلا يبقى فيه مكاناً لغيره.
وقيل: هو صوت خفق أجنحة الملك، والحكمة في تقدمه أن يفرغ سمعه للوحي فلا يبقى فيه مكاناً لغيره، وفي الصحيح أن هذه الحالة أشد حالات الوحي عليه، وقيل: إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد.
الثانية: أن ينفث في روعه الكلام نفثاً كما قال صلى الله عليه وسلم إن روح القدس نفث في روعي أخرجه الحاكم، وهذا قد يرجع إلى الحالة الأولى والتي بعدها بأن يأتيه في إحدى الكيفيتين وينفث في روعه.
والثالثة: أن يأتيه في صورة الرجل فيكلمه كما في الصحيح وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول، زاد أبو عوانه في صحيحه وهو أهونه عليّ.
الرابعة: أن يأتيه الملك في النوم وعدّ قوم من هذا سورة الكوثر.
الخامسة: أن يكلمه الله إما في اليقظة كما في ليلة الإسراء أو في النوم كما في حديث معاذ أتاني ربي فقال: "فيم يختصم الملأ الأعلى ..." الحديث وليس في القرآن من هذا النوع شيء فيما أعلم.
نعم يمكن أن يعد منه آخر سورة البقرة لما تقدم وبعض سورة الضحى و (ألم نشرح) فقد أخرج ابن أبي حاتم من حديث عدي بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته قلت: أي رب اتخذت إبراهيم خليلاً، وكلمت موسى تكليماً فقال: يا محمد ألم أجدك يتيماً فآويت، وضالاً فهديت، وعائلاً فأغنيت، وشرحت لك صدرك، وحططت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك فلا أذكر إلا ذكرت معي".
فائدة أخرج الإمام أحمد في «تاريخه» من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي قال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل عليه القرآن على لسانه فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة.
قال ابن عساكر: والحكمة في توكيل إسرافيل به أنه الموكل بالصور الذي فيه هلاك الخلق وقيام الساعة ونبوته صلى الله عليه وسلم مؤذنة بقرب الساعة وانقطاع الوحي كما وكل بذي القرنين ريافيل الذي يطوي الأرض وبخالد بن سنان مالك خازن النار.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن سابط قال: في أم الكتاب كل شيء هو كائن إلى يوم القيامة فوكل ثلاثة بحفظه إلى يوم القيامة من الملائكة فوكل جبريل بالكتب والوحي إلى الأنبياء وبالنصر عند الحروب وبالهلكات إذا أراد الله أن يهلك قوماً ووكل ميكائيل بالقطر والنبات ووكل ملك الموت بقبض الأنفس فإذا كان يوم القيامة عارضوا بين حفظهم وبين ما كان في أم الكتاب فيجدونه سواء.
وأخرج أيضاً عن عطاء بن السائب قال: أول ما يحاسب جبريل لأنه كان أمين الله على رسله، فائدة ثانية أخرج الحاكم والبيهقي عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزل القرآن بالتفخيم كهيئته عذراً نذراً و الصدفين و (ألا له الخلق والأمر) وأشباه هذا.
قلت: أخرجه ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء فبين أن المرفوع منه أنزل القرآن بالتفخيم فقط وأن الباقي مدرج من كلام عمار بن عبد الملك أحد رواة الحديث.
فائدة أخرى: أخرج ابن سعد عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يغط في رأسه ويتبرد وجهه: أي يتغير لونه بالجريذة ويجد برداً في ثناياه ويعرق حتى يتحدر منه مثل الجمان.
المسألة الثالثة: في الأحرف السبعة التي نزل القرآن عليها.
قلت: ورد حديث نزل القرآن على سبة أحرف من رواية جمع من الصحابة: أبيّ بن كعب وأنس وحذيفة بن اليمان وزيد بن أرقم وسمرة بن جندب وسلمان ابن صرد وابن عباس وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعمر بن الخطاب وعمرو بن أبي سلمة وعمرو بن العاص ومعاذ بن جبل وهشام بن حكيم وأبي بكرة وأبي جهم وأبي سعيد الخدري وأبي طلحة الأنصاري وأبي هريرة وأبي أيوب فهؤلاء أحد وعشرون صحابياً وقد نص أبو عبيد على تواتره.
وأخرج أبو يعلى في «مسنده» أن عثمان قال على المنبر: أذكر الله رجلاً سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف لما قام فقاموا حتى لم يحصدوا فشهدوا بذلك فقال: وأنا أشهد معهم وسأسوق من رواتهم ما يحتاج إليه.
فأقول: اختلف في معنى هذا الحديث على نحو أربعين قولا:
أحدها: أنه من المشكل الذي لا يدري معناه لأن الحرف يصدق لغة على حرف الهجاء وعلى الكلمة وعلى المعنى وعلى الجهة قال ابن سعدان النحوي.
الثاني: أنه ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد بل المراد التيسير والتسهيل والسعة ولفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد كما يطلق السبعون في العشرات والسبعمائة في المئين ولا يراد العدد المعين وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه.
ويرده ما في حديث ابن عباس في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف" وفي حديث أبيّ عند «مسلم»: "إن ربي أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هون على أمتي فأرسل إلي أن أقرأه على حرفين فرددت إليه أن هون على أمتي فأرسل إلي أن أقرأه على سبعة أحرف".
وفي لفظ عنه عند النسائي: "إن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف" وفي حديث أبي بكرة: "اقرأه فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة" فهذا يدل على إرادة حقيقية العدد وانحصاره.
الثالث: أن المراد بها سبع قراءات وتعقب بأنه لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا القليل مثل: (عبد الطاغوت) و (ولا تقل لهما أف) وأجيب بأن المراد أن كل كلمة تقرأ بوجه أو وجهين أو ثلاثة أو أكثر إلى سبعة، ويشكل على هذا أن في الكلمات ما قرئ على أكثر وهذا يصلح أن يكون قولاً رابعاً.
الخامس: أن المراد بها الأوجه التي يقع بها التغاير ذكره ابن قتيبة قال: فأولها: ما يتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته مثل: (ولا يضار كاتب) بالفتح والرفع وثانيهما: ما يتغير بالفعل مثل: بعد وباعد بلفظ الطلب والماضي وثالثها: ما يتغير باللفظ مثل (ننشزها) ورابعها: ما يتغير بإبدال حرف قريب المخرج مثل: (طلح منضود) وطلع وخامسها: ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل: (وجاءت سكرة الموت بالحق) وسكرة الحق بالموت وسادسها: ما يتغير بزيادة أو نقصان مثل الذكر والأنثى: (وما خلق الذكر والأنثى) وسابعها: ما يتغير بإبدال كلمة بأخرى مثل: (كالعهن المنفوش) وكالصوف المنفوش.
وتعقب هذا قاسم بن ثابت بأن الرخصة وقعت وأكثرهم يومئذ لا يكتب ولا يعرف الرسم وإنما كانوا يعرفون الحروف ومخارجها، وأجيب: بأنه لا يلزم من ذلك توهين ما قاله ابن قتيبة لاحتمال أن يكون الانحصار المذكور في ذلك وقع اتفاقاً وإنما اطلع عليه بالاستقراء، وقال أبو الفضل الرازي في «اللوائح»: الكلام لا يخرج عن سبعة أوجه في الاختلاف.
الأول: اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث.
والثاني: اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر.
الثالث: وجوه الإعراب.
الرابع: النقص والزيادة.
الخامس: التقديم والتأخير.
السادس: الإبدال.
السابع: اختلاف اللغات كالفتح والإمالة والترقيق والتفخيم والإدغام والإظهار ونحو ذلك.
وقال بعضهم: المراد بها كيفية النطق بالتلاوة من إدغام وإظهار وتفخيم وترقيق وإمالة وإشباع ومد وقصر وتشديد وتخفيف وتليين وتحقيق وهذا هو القول السابع.
وقال ابن الجزري: قد تتبع تصحيح القراءات وشاذها وضعيفها ومنكرها فإذا هي يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه لا يخرج عنها وذلك إما في الحركات بلا تغير في المعنى والصورة نحو البخل بأربعة ويحسب بوجهين أو متغير في المعنى فقط نحو: (فتلقى آدم من ربه كلمات) وإما في الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحو (تبلو) (وتتلو) وعكس ذلك نحو: (الصراط) والسراط أو بتغيرهما نحو: (فامضوا) (فاسعوا) وإما في التقديم والتأخير نحو: (فيقتلون) (ويقتلون) أو في الزيادة والنقصان نحو (أوصى) (ووصى) فهذه سبعة لا يخرج الاختلاف عنها.
قال: وأما نحو اختلاف الإظهار والإدغام والروم والإشمام والتخفيف والتسهيل والنقل والإبدال فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع في اللفظ والمعنى لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظاً واحداً انتهى؛ وهذا هو القول الثامن.
قلت: ومن أمثلة التقديم والتأخير قراءة الجمهور و: (كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) وقرأ ابن مسعود على قلب كل متكبر.
التاسع: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة نحو: أقبل وتعالى وعلم وعجل وأسرع؛ وإلى هذا ذهب سفيان بن عيينة وابن جرير وابن وهب وخلائق ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء ويدل له ما أخرجه أحمد والطبراني من حديث أبي بكرة: "أن جبريل قال: يا محمد اقرأ القرآن على حرف قال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف قال: كل شاف كاف ما لم تخلط آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب نحو قولك تعال وأقبل وهلم واذهب وأسرع وعجل" هذا اللفظ رواية أحمد وإسناده جيد.
وأخرج أحمد والطبراني أيضاً عن ابن مسعود نحوه، وعند أبي داود عن أبيّ قلت: سميعاً عليماً عزيزاً حكيماً ما لم تخلط آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب.
وعند أحمد من حديث أبي هريرة: "أنزل القرآن على سبعة أحرف عليماً حكيماً غفوراً رحيماً" وعنده أيضاً من حديث عمر بأن: "القرآن كله صواب ما لم تجعل مغفرة عذاباً وعذاباً مغفرة" أسانيدها جياد.
قال ابن عبد البر: إنما أراد بهذا ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها أنها معان متفق مفهومها مختلف مسموعها لا يكون في شيء منها معنى وضده ولا وجه يخالف معنى وجه خلافاً ينفيه ويضاده كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده، ثم أسند عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرأ: (كلما أضاء لهم مشوا فيه) مروا فيه سمعوا فيه، وكان ابن مسعود يقرأ: (للذين آمنوا انظرونا) أمهلونا أخرونا.
قال الطحاوي: وإنما كان ذلك رخصة لما كان يتعسر على كثير منهم التلاوة بلفظ واحد لعدم علمهم بالكتابة والضبط وإتقان الحفظ ثم نسخ بزوال العذر وتيسر الكتابة والحفظ وكذا قال ابن عبد البر والباقلاني وآخرون، وفي فضائل أبي عبيد من طريق عون بن عبد الله أن ابن مسعود اقرأ رجلاً: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) فقال الرجل: طعام اليتيم فردها عليه فلم يستقم بها لسانه فقال: أتستطيع أن تقول طعام الفاجر قال نعم قال: فافعل.
القول العاشر: أن المراد سبع لغات:وإلى هذا
ذهب أبو عبيد وثعلب والزهري وآخرون واختاره ابن عطية وصححه البيهقي في الشعب، وتعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة.
وأجيب بأن المراد أفصحها فجاء عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن على سبع لغات منها خمس بلغة العجز من الهوازن، قال: والعجز سعد بن بكر وجشم بن بكر ونصر بن معاوية وثقيف وهؤلاء كلهم من هوازن ويقال لهم عليا هوازن؛ ولهذا قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب علياً هوازن وسفلي تميم: يعني بني دارم.
وأخرج أبو عبيد من وجه آخر عن ابن عباس قال: نزل القرآن بلغة الكعبين: كعب قريش وكعب خزاعة قيل: وكيف ذاك قال: لأن الدار واحدة: يعني أن خزاعة كانوا جيران قريش فسهلت عليهم لغتهم، وقال أبو حاتم السجستاني: نزل بلغة قريش وهزيل وتميم والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر، واستنكر ذلك ابن قتيبة وقال: لم ينزل القرآن إلا بلغة قريش ورده بقوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) فعلى هذا تكون اللغات السبع في بطون قريش وبذلك جزم أبو علي الأهوازي.
وقال أبو عبيد: ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات بل اللغات السبع مفرقة فيه فبعضه بلغة قريش وبعضه بلغة هذيل وبعضه بلغة هوازن وبعضه بلغة اليمن وغيرهم، قال: وبعض اللغات أسعد به من بعض وأكثر نصيباً، وقيل: نزل بلغة مضر خاصة لقول عمر: نزل القرآن بلغة مضر، وعين بعضهم فيما حكاه ابن عبد البر السبع من مضر أنهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسد بن خزيمة وقريش فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات.
ونقل أبو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال: أنزل القرآن أولاً بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها عن اختلافهم في الألفاظ والإعراب ولم يكلف أحداً منهم الانتقال عن لغته إلى لغة أخرى للمشقة ولما كان فيهم من الحمية ولطلب تسهيل فهم المراد.
وزاد غيره أن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي بأن يغير كل أحد الكلمة بمرادفها في لغته بل المرعي في ذلك السماع من النبي صلى الله عليه وسلم، واستشكل بعضهم هذا بأنه يلزم عليه أن جبريل كان يلفظ باللفظ الواحد سبع مرات، وأجيب بأنه يلزم هذا لو اجتمعت الأحرف السبعة في لفظ واحد ونحن قلنا: كان جبريل يأتي في كل عرضة بحرف إلى أن تمت سبعة وبعد هذا كله رد القول بأن عمر بن الخطاب وهشام ابن حكيم كلاهما قرشي من لغة واحدة وقد اختلفت قراءتهما ومحال أن ينكر عليه عمر لغته فدل على أن المراد بالأحرف السبعة غير اللغات.
القول الحادي عشر: أن المراد سبعة أصناف والأحاديث السابقة ترده والقائلون به اختلفوا في تعيين السبعة فقيل أمر ونهي وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال.
واحتجوا بما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد وعلى حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال الحديث".
وقد أجاب عنه قوم بأنه ليس المراد بالأحرف السبعة التي تقدم ذكرها في الأحاديث الأخرى لأن سياق تلك الأحاديث يأبى حملها على هذا بل في ظاهره في أن المراد أن الكلمة تقرأ على وجهين وثلاثة إلى سبعة تيسيراً وتهويناً والشيء الواحد لا يكون حلالاً حراماً في آية واحدة.
قال البيهقي: المراد بالسبعة الأحرف هنا: الأنواع التي نزل عليها والمراد بها في تلك الأحاديث، اللغات التي يقرأ بها، وقال غيره: من أول السبعة الأحرف بهذا فهو فاسد لأنه محال أن يكون الحرف منها حراماً لا ما سواه وحلالاً ما سواه ولأنه لا يجوز أن يكون القرآن يقرأ على أنه حلال كله أوحرام كله أو أمثال كله.
وقال ابن عطية: هذا القول ضعيف لأن الإجماع على أن التوسعة لم تقع في تحريم حلال ولا تحليل حرام ولا في تغيير شيء من المعاني المذكورة، وقال الماوردي: هذا القول خطأ لأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى جواز القراءة بكل واحد من الحروف وإبدال حرف بحرف وقد أجمع المسلمون على تحريم إبدال آية أمثال بآية أحكام.
وقال أبو علي الأهوازي أبو العلاء والهمذاني: قوله في الحديث: "زاجر وأمر ... " الخ استئناف كلام آخر: أي هو زاجر: أي القرآن ولم يرد به تفسير الأحرف السبعة وإنما توهم ذلك من جهة الاتفاق في العدد.
ويؤيده أن في بعض طرقه زجراً وأمراً بالنصب: أي نزل على هذه الصفة في الأبواب السبعة، وقال أبو شامة: يحتمل أن يكون التفسير المذكور للأبواب لا للأحرف: أي هي سبعة أبواب من أبواب الكلام وأقسامه: أي أنزله الله على هذه الأصناف لم يقتصر منها على صنف واحد كغيره من الكتب.
وقيل المراد بها المطلق والمقيد والعام والخاص والنص والمؤول والناسخ والمنسوخ والمجمل والمفسر والاستثناء وأقسامه حكاه شيدلة عن الفقهاء، وهذا هو القول الثاني عشر.
وقيل المراد بها الحذف والصلة والتقديم والتأخير والاستعارة والتكرار والكناية والحقيقة والمجاز والمجمل والمفسر والظاهر والغريب حكاه عن أهل اللغة، وهذا هو القول الثالث عشر.
وقيل المراد بها التذكير والتأنيث والشرط والجزاء والتصريف والإعراب والأقسام وجوابها والجمع والإفراد والتصغير والتعظيم واختلاف الأدوات حكاه عن النحاة، وهذا هو القول الرابع عشر.
وقيل المراد بها سبعة أنواع من المعاملات: الزهد والقناعة مع اليقين والجزم والخدمة مع الحياء والكرم والفتوة مع الفقر والمجاهدة والمراقبة مع الخوف والرجاء والتضرع والاستغفار مع الرضا والشكر والصبر مع المحاسبة والمحبة والشوق مع المشاهدة حكاه عن الصوفية، وهذا هو القول الخامس عشر.
القول السادس عشر: أن المراد بها سبعة علوم: علم الإنشاء والإيجاد وعلم التوحيد والتنزيه وعلم صفات الذات وعلم صفات الفعل وعلم جميع القرآن قبلها وإن كان قد حضرها من لم يجمع غيرها الجمع الكثير.
الثامن: أن المراد بجمعه السمع والطاعة له والعمل بموجبه.
وقد أخرج أحمد في الزهد من طريق أبي الزاهرية أن رجلاً أتى أبا الدرداء فقال: إن ابني جمع القرآن فقال: الهم غفراً إنما جمع القرآن من سمع له وأطاع، قال ابن حجر: وفي غالب هذه الاحتمالات تكلف ولا سيما الأخير، قال: وقد ظهر لي احتمال آخر وهو أن المراد بإثبات ذلك للخزرج دون الأوس فقط فلا ينفي ذلك عن غير القبيلتين من المهاجرين لأنه قال ذلك في معرض المفاخرة بين الأوس والخزرج؛ كما أخرجه ابن جرير من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس قال: افتخر الحيان الأوس والخزرج فقال الأوس: منا أربعة: من اهتز له العرش سعد بن معاذ، ومن عدلت شهادته شهادة رجلين خزيمة بن أبي ثابت، ومن غسلته الملائكة حنظلة بن أبي عامر، ومن حمته الدبر عاصم بن أبي ثابت: أي ابن أبي الأفلح، فقال الخزرج: منا أربعة جمعوا القرآن لم يجمعه غيرهم فذكرهم.
قال: والذي يظهر من كثير من الأحاديث أن أبا بكر كان يحفظ القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيح أنه بنى مسجداً بفناء داره فكان يقرأ فيه القرآن، وهو محمول على ما كان نزل منه إذ ذاك.
قال: وهذا مما لا يرتاب فيه مع شدة حرص أبي بكر على تلقي القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وفراغ باله له وهما بمكة وكثرة ملازمة كل منهما للآخر حتى قالت عائشة: إنه صلى الله عليه وسلم كان يأتيهم بكرة وعشياً، وقد صح حديث: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله" وقد قدمه صلى الله عليه وسلم في مرضه إماماً للمهاجرين والأنصار فدل على أنه كان أقرأهم أهـ، وسبقه إلى نحو ذلك ابن كثير.
قلت: لكن أخرج ابن أشتة في المصاحف بسند صحيح عن محمد بن سيرين قال: مات أبو بكر ولم يجمع القرآن وقتل عمر ولم يجمع القرآن، قال ابن أشتة: قال بعضهم: يعني لم يقرأ جميع القرآن حفظاً، وقال بعضهم: هو جمع المصاحف، قال ابن حجر: وقد ورد عن عليّ أنه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم؛ أخرجه ابن أبي داود.
وأخرج النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمر قال: جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اقرأه في شهر... الحديث.
وأخرج ابن أبي داود بسند حسن بن محمد بن كعب القرظي قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبيّ بن كعب، وأبو الدرداء، وأبو أيوب الأنصاري.
وأخرج البيهقي في «المدخل» عن ابن سيرين قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة لا يختلف فيهم: معاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب، وأبو زيد واختلفوا في رجلين من ثلاثة: أبي الدرداء، وعثمان وقيل: عثمان، وتميم الداري.
وأخرج هو وابن أبي داود عن الشعبي قال: جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ستة: أبيّ، ومعاذ، وأبو الدرداء، وسعيد بن عبيد، وأبو زيد، ومجمع بن جارية وقد أخذه إلا سورتين أو ثلاثة، وقد ذكر أبو عبيد في كتاب القراءات: القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعد من المهاجرين الخلفاء الأربعة: وطلحة، وسعد.
الثلاثون: أمهات الهجاء الألف والباء والجيم والدال والراء والسين والعين لأن عليها تدور جوامع كلام العرب.
الحادي والثلاثون: أنها في أسماء الرب مثل الغفور الرحيم السميع البصير العليم الحكيم.
الثاني والثلاثون: هي آية في صفات الذات وآية تفسيرها في آية أخرى وآية بيانها في السنة الصحيحة وآية في قصة الأنبياء والرسل وآية في خلق الأشياء وآية في وصف الجنة وآية في وصف النار.
الثالث والثلاثون: في وصف الصانع وآية في إثبات الوحدانية له وآية في إثبات صفاته: وآية في إثبات رسله وآية في إثبات كتبه وآية في إثبات الإسلام وآية في نفي الكفر.
الرابع والثلاثون: سبع جهات من صفات الذات لله التي لا يقع عليها التكييف.
الخامس والثلاثون: الإيمان بالله ومجانبة الشرك وإثبات الأوامر ومجانبة الزواجر والثبات على الإيمان وتحريم ما حرم الله وطاعة رسوله.
قال ابن حبان: فهذه خمسة وثلاثون قولاً لأهل العلم واللغة في معنى إنزال القرآن على سبعة أحرف وهي أقاويل يشبه بعضها بعضاً وكلها محتملة ويحتمل غيرها.
وقال المرسي: هذه الوجوه أكثرها متداخلة ولا أدري مستندها ولا عمن نقلت ولا أدري لم خص كل واحد منهم هذه الأحرف السبعة بما ذكر مع أن كلها موجودة في القرآن فلا أدري معنى التخصص.
ومنها الأشياء لا أفهم معناها على الحقيقة وأكثرها معارضة حديث عمر وهشام بن حكيم الذي في الصحيح فإنهما لم يختلفا في تفسيره ولا أحكامه وإنما اختلفا في قراءة حروفه وقد ظن كثير من العوام أن المراد بها القراءات السبعة وهو جهل قبيح.
تنبيه اختلف هل المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة فذهب جماعة من الفقهاء والقراء والمتكلمين إلى غير ذلك وبنوا عليه أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء منها وقد أجمع الصحابة على نقل المصاحف العثمانية من الصحف التي كتبها أبو بكر وأجمعوا على ترك ما سوى ذلك.
وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أنها مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل متضمنة لها لم تترك حرفاً منها، قال ابن الجزري: وهذا هو الذي يظهر صوابه.
ويجاب عن الأول بما ذكره ابن جرير أن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبة على الأمة وإنما كان جائزاً لهم ومرخصاً لهم فيه فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف إذا لم يجمعوا على حرف واحد اجتمعوا على ذلك إجماعاً شائعاً وهم معصومون من الضلالة ولم يكن في ذلك ترك واجب ولا فعل حرام ولاشك أن القرآن نسخ منه العرضة الأخيرة بالفعل المبني للمجهول فاتفق رأي الصحابة على أن كتبوا ما تحققوا أنه قرآن مستقر في العرضة الأخيرة وتركوا ما سوى ذلك.
وأخرج ابن أشتة في المصاحف وابن أبي شيبة في فضائله من طريق ابن سيرين عن عبيدة السلماني قال: القراءة التي عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قبض فيه هي القراءة التي يقرؤها الناس اليوم.
وأخرج ابن أشتة عن ابن سيرين قال: كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم كل سنة في شهر رمضان مرة فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين فيمكن أن تكون قراءتنا هذه على العرضة الأخيرة.
وقال البغوي في شرح السنة: يقال إن زيد ابن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بين فيها ما نسخ وما بقي وكتبها الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأها عليه وكان يقرئ الناس بها حتى مات ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر وجمعه وولاه عثمان كتب المصاحف.
أحدها وهو الأصح الأشهر: أنه نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة ثم نزل بعد ذلك منجماً في عشرين سنة أو ثلاثة وعشرين أو خمسة وعشرين على حسب الخلاف في مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة بعد البعثة.
أخرج الحاكم والبيهقي وغيرهما من طريق منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى سماء الدنيا وكان بمواقع النجوم وكان الله ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضه في أثر بعض.
وأخرج الحاكم والبيهقي أيضاً والنسائي أيضاً من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك بعشرين سنة ثم قرأ (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) (وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) وأخرجه ابن أبي حاتم من هذا الوجه وفي آخره: فكان المشركون إذا أحدثوا شيئاً أحدث الله لهم جواباً.
القول الثاني: أنه نزل إلى سماء الدنيا في عشرين ليلة قدر وثلاث وعشرين أو خمس وعشرين في كل ليلة ما يقدر الله إنزاله في كل السنة ثم أنزل بعد ذلك منجماً في جميع السنة.
وهذا القول ذكره الإمام فخر الدين الرازي بحثاً فقال: يحتمل أنه كان ينزل في كل ليلة قدر ما يحتاج الناس إلى إنزاله إلى مثلها من اللوح إلى السماء الدنيا ثم توقف هل هذا أولى أو الأول.
قال ابن كثير: وهذا الذي جعله احتمالاً نقله القرطبي عن مقاتل ابن حيان وحكى الإجماع على أنه نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا.
قلت: وممن قال بقول مقاتل الحليمي والماوردي ويوافقه قول ابن شهاب آخر القرآن عهداً بالعرش آية الدين.
القول الثالث: أنه ابتدأ إنزاله في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجماً في أوقات مختلفة من سائر الأوقات وبه قال الشعبي.
قال ابن حجر في شرح البخاري: والأول هو الصحيح المعتمد.
قال: وقد حكى الماوردي قولاً رابعاً: أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة وأن جبريل نجمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة وهذا أيضاً غريب، والمعتمد أن جبريل كان يعارضه في رمضان بما ينزل به في طول السنة.
وقال أبو شامة: كأن صاحب هذا القول أراد الجمع بين القولين الأول والثاني.
قلت: هذا الذي حكاه الماوردي أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: نزل القرآن جملة واحدة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل عشرين ليلة ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة.
تنبيهات: الأول: قيل السر في إنزاله جملة إلى السماء تفخيم أمره وأمر من نزل عليه وذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم قد قريناه إليهم لننزله عليهم ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجماً بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله ولكن الله باين بينه وبينها فجعل له الأمرين إنزاله جملة ثم إنزاله تشريفاً للمنزل عليه؛ ذكر ذلك أبو شامة في المرشد الوجيز.
وقال الحكيم الترمذي: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا تسليماً منه للأمة ما كان أبرز لهم من الحظ بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم وذلك أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانت رحمة فلما خرجت الرحمة بفتح الباب جاءت بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن فوضع القرآن ببيت العزة في السماء الدنيا ليدخل في حد الدنيا ووضعت النبوة في قبل محمد وجاء جبريل بالرسالة ثم الوحي كأنه أراد تعالى أن يسلم هذه الرحمة التي كانت حظ هذه الأمة من الله إلى الأمة.
وقال السخاوي في جمال القراء: في نزوله إلى السماء جملة تكريم بني آدم وتعظيم شأنهم عند الملائكة وتعريفهم عناية الله بهم ورحمته لهم ولهذا المعنى أمر سبعين ألفاً من الملائكة أن تشيع سورة الأنعام وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل بإملائه على السفرة الكرام وإنساخهم إياه وتلاوتهم له.
قال: وفيه أيضاً التسوية بين نبينا صلى الله عليه وسلم وبين موسى عليه السلام في إنزاله كتابه جملة والتفضيل لمحمد في إنزاله عليه منجماً ليحفظه.
وقال أبو شامة: فإن قلت: فقوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) من جملة القرآن الذي نزل جملة أم لا فإن لم يكن منه فما نزل جملة وإن كان منه فما وجه صحة هذه العبارة قلت: وجهان.
أحدهما: أن يكون معنى الكلام أنا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر وقضيناه وقدرناه في الأزل.
والثاني: أن لفظه لفظ الماضي ومعناه الاستقبال: أي ننزله جملة في ليلة القدر انتهى.
الثاني: قال أبو شامة أيضاً: الظاهر أن نزوله جملة إلى سماء الدنيا قبل ظهور نبوته صلى الله عليه وسلم، قال: ويحتمل أن يكون بعدها.
قلت: الظاهر هو الثاني وسياق الآثار السابقة عن ابن عباس صريح فيه.
وقال ابن حجر في شرح البخاري: قد خرج أحمد والبيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنزلت التوراة لست مضين من رمضان والإنجيل لثلاث عشر خلت منه والزبور لثمان عشرة خلت منه والقرآن لأربع وعشرين خلت منه وفي رواية وصحف إبراهيم لأول ليلة قال: وهذا الحديث مطابق لقوله تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ولقوله: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) فيحتمل أن يكون ليلة القدر في تلك السنة كانت تلك الليلة فأنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين إلى الأرض أول اقرأ باسم ربك قلت: لكن يشكل على هذا ما اشتهر من أنه صلى الله عليه وسلم بعث في شهر ربيع.
ويجاب عن هذا بما ذكروه أنه نبي أولاً بالرؤيا في شهر مولده ثم كانت مدتها ستة أشهر ثم أوحى إليه في اليقظة.
ذكره البيهقي وغيره: نعم يشكل على الحديث السابق ما أخرجه ابن أبي شيبة في فضائل القرآن عن أبي قلابة قال: أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع وعشرين من رمضان.
الثالث: قال أبو شامة أيضاً: فإن قيل ما السر في نزوله منجماً وهلا أنزل كسائر الكتب جملة قلنا: هذا سؤال قد تولى الله جوابه فقال تعالى وقال الذين كفروا لولا أنزل الله عليه القرآن جملة واحدة يعنون كما أنزل على من قبله من الرسل فأجابهم تعالى بقوله: (كذلك) أي أنزلناه كذلك مفرقاً (لنثبت به فؤادك) أي لنقوي به قلبك فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى بالقلب وأشد عناية بالمرسل إليه ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه وتجدد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقياه جبريل.
وقيل معنى لنثبت به فؤادك: أي لتحفظه فإنه عليه الصلاة والسلام كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ففرق عليه ليثبت عنده حفظه بخلاف غيره من الأنبياء فإنه كان كاتباً قارئاً فيمكنه حفظ الجميع.
وقال ابن فورك: قيل أنزلت التوراة جملة لأنها نزلت على نبي يكتب ويقرأ وهوموسى وأنزل الله القرآن مفرقاً لأنه أنزل غير مكتوب على نبي أميّ.
وقال غيره: إنما لم ينزل جملة واحدة لأن منه الناسخ والمنسوخ ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرقاً.
ومنه ما هو جواب لسؤال ومنه ما هو إنكار على قول قيل أو فعل فعل وقد تقدم ذلك في قول ابن عباس: ونزله جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم وفسر به قوله (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق) أخرجه عنه ابن أبي حاتم، فالحاصل أن الآية تضمنت حكمتين لإنزاله مفرقاً.
تذنيب: ما تقدم في كلام هؤلاء من أن سائر الكتب أنزلت جملة هو مشهور في كلام العلماء على ألسنتهم حتى كاد أن يكون إجماعاً، وقد رأيت بعض فضلاء العصر أنكر ذلك وقال: إنه لا دليل عليه بل الصواب أنها نزلت مفرقة كالقرآن، وأقول: الصواب الأول، ومن الأدلة على ذلك آية الفرقان السابقة.
أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قالت اليهود: يا أبا القاسم لولا أنزل هذا القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى فنزلت، وأخرجه من وجه آخر عنه بلفظ: قال المشركون، وأخرج نحوه عن قتادة والسدى.
فإن قلت: ليس في القرآن التصريح بذلك وإنما هو على تقدير ثبوته قول الكفار، قلت: سكوته تعالى عن الرد عليهم في ذلك وعدوله إلى بيان حكمته دليل على صحته ولو كانت الكتب كلها نزلت مفرقة لكان يكفي في الرد عليهم أن يقول: إن ذلك سنة الله في الكتب التي أنزلها على الرسل السابقة كما أجاب بمثل ذلك قولهم: (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) فقال: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) وقولهم: (أبعث الله بشراً رسولاً) فقال: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم) وقولهم كيف يكون رسولاً ولا هم له إلا النساء فقال: (ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية) إلى غير ذلك.
ومن الأدلة على ذلك أيضاً قوله تعالى في إنزاله التوراة على موسى يوم الصعقة (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء فخذها بقوة) (وألقى الألواح) (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة) (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة) فهذه الآيات كلها دالة على إتيانه في التوراة جملة.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أعطى موسى التوراة في سبعة ألواح من زبرجد فيها تبيان لكل شيء وموعظة فلما جاء بها فرأى بني إسرائيل عكوفاً على عبادة العجل رمى بالتوراة من يده فتحطمت فرفع الله منها ستة أسباع وأبقى منها سبعاً.
وأخرج من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده رفعه قال: الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة كان طول اللوح اثني عشر ذراعاً.
وأخرج النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث النتوق قال: أخذ موسى الألواح بعد ما سكن عنه الغضب فأمرهم بالذي أمر الله أن يبلغهم من الوظائف فثقلت عليهم وأبوا أن يقروا بها حتى نتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم فأقروا بها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ثابت بن الحجاج قال: جاءتهم التوراة جملة واحدة فكبر عليهم فأبوا أن يأخذوه حتى ظلل الله عليهم الجبل فأخذوه عند ذلك.
فهذه آثار صحيحة صريحة في إنزال التوراة جملة، ويؤخذ من الأثر الأخير منها حكمة أخرى لإنزال القرآن مفرقاً فإنه ادعى إلى قبوله إذا نزل على التدريج بخلاف ما لو نزل جملة واحدة فإنه كان ينفر من قبوله كثير من الناس لكثرة ما فيه من الفرائض والمناهي.
ويوضح ذلك ما أخرجه البخاري عن عائشة قالت: إنما نزل أول ما نزل سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبداً ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنى أبداً ثم رأيت هذه الحكمة مصرحاً بها في الناسخ والمنسوخ لمكي.
فرع الذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها أن القرآن كان ينزل بحسب الحاجة خمس آيات وعشر آيات وأكثر وأقل وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملة وصح نزول عشر آيات من أول المؤمنين جملة وصح نزول: (غير أولي الضرر) وحدها وهي بعض آية.
وكذا قوله: (وإن خفتم عيلة) إلى آخر الآية نزلت بعد نزول أول الآية كما حررناه في أسباب النزول وذلك بعض آية.
وأخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف عن عكرمة في قوله: (بمواقع النجوم) قال: أنزل الله القرآن نجوماً ثلاث آيات وأربع آيات وخمس آيات، وقال النكزاوي في كتاب الوقف: كان القرآن ينزل مفرقاً الآية والآيتين والثلاث والأربع وأكثر من ذلك.
وما أخرجه ابن عساكر من طريق أبي نضرة قال: كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة وخمس آيات بالعشي ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات، وما أخرجه البيهقي في الشعب من طريق أبي خلدة عن عمر قال: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن جبريل كان ينزل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم خمساً خمساً، ومن طريق ضعيف عن علي قال: أنزل القرآن خمساً خمساً إلا سورة الأنعام ومن حفظ خمساً خمساً لم ينسه.
فالجواب أن معناه إن صح إلقاؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا القدر حتى يحفظه ثم يلقي إليه الباقي لا إنزاله بهذا القدر خاصة، ويوضح ذلك ما أخرجه البيهقي أيضاً عن خالد بن دينار قال: قال لنا أبو العالية: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذه من جبريل خمساً خمساً.
المسألة الثانية: في كيفية الإنزال والوحي:
قال الأصفهاني أوائل تفسيره: اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلام الله منزل واختلفوا في معنى الإنزال، فمنهم من قال: إظهار القراءة، ومنهم من قال: إن الله تعالى ألهم كلامه جبريل وهو في السماء وهو عال من المكان وعلمه قراءته ثم جبريل أداه في الأرض وهو يهبط في المكان.
وفي التنزيل طريقان:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل.
والثاني: أن الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذه الرسول منه والأول أصعب الحالين انتهى.
وقال الطيبي: لعل نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلقفه الملك من الله تعالى تلقفاً روحانياً أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به إلى الرسول فيلقيه عليه، وقال القطب الرازي في حواشي الكشاف: والإنزال لغة بمعنى الإيواء وبمعنى تحريك الشيء من العلو إلى أسفل وكلاهما يتحققان في الكلام فهو مستعمل فيه في معنى مجازي فمن قال: القرآن معنى قائم بذات الله تعالى فإنزاله أن يوجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ، ومن قال: القرآن هو الألفاظ فإنزاله مجرد إثباته في اللوح المحفوظ وهذا المعنى مناسب لكونه منقولاً عن المعنيين اللغويين.
ويمكن أن يكون المراد بإنزاله إثباته في السماء الدنيا بعد الإثبات في اللوح المحفوظ وهذا مناسب للمعنى الثاني، والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تلقفاً روحانياً أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيها عليهم أهـ.
وقد ذكر العلماء للوحي كيفيات:
إحداها: أن يأتيه الملك في مثل صلصلة الجرس كما في الصحيح.
وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمر سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل تحس بالوحي فقال: أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى إلىّ إلا ظننت أن نفسي تقبض، قال الخطابي: والمراد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يثبته أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد، وقيل هو صوت خفق أجنحة الملك، والحكمة في تقدمه أن يفرغ سمعه للوحي فلا يبقى فيه مكاناً لغيره.
وقيل: هو صوت خفق أجنحة الملك، والحكمة في تقدمه أن يفرغ سمعه للوحي فلا يبقى فيه مكاناً لغيره، وفي الصحيح أن هذه الحالة أشد حالات الوحي عليه، وقيل: إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد.
الثانية: أن ينفث في روعه الكلام نفثاً كما قال صلى الله عليه وسلم إن روح القدس نفث في روعي أخرجه الحاكم، وهذا قد يرجع إلى الحالة الأولى والتي بعدها بأن يأتيه في إحدى الكيفيتين وينفث في روعه.
والثالثة: أن يأتيه في صورة الرجل فيكلمه كما في الصحيح وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول، زاد أبو عوانه في صحيحه وهو أهونه عليّ.
الرابعة: أن يأتيه الملك في النوم وعدّ قوم من هذا سورة الكوثر.
الخامسة: أن يكلمه الله إما في اليقظة كما في ليلة الإسراء أو في النوم كما في حديث معاذ أتاني ربي فقال: "فيم يختصم الملأ الأعلى ..." الحديث وليس في القرآن من هذا النوع شيء فيما أعلم.
نعم يمكن أن يعد منه آخر سورة البقرة لما تقدم وبعض سورة الضحى و (ألم نشرح) فقد أخرج ابن أبي حاتم من حديث عدي بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته قلت: أي رب اتخذت إبراهيم خليلاً، وكلمت موسى تكليماً فقال: يا محمد ألم أجدك يتيماً فآويت، وضالاً فهديت، وعائلاً فأغنيت، وشرحت لك صدرك، وحططت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك فلا أذكر إلا ذكرت معي".
فائدة أخرج الإمام أحمد في «تاريخه» من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي قال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل عليه القرآن على لسانه فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة.
قال ابن عساكر: والحكمة في توكيل إسرافيل به أنه الموكل بالصور الذي فيه هلاك الخلق وقيام الساعة ونبوته صلى الله عليه وسلم مؤذنة بقرب الساعة وانقطاع الوحي كما وكل بذي القرنين ريافيل الذي يطوي الأرض وبخالد بن سنان مالك خازن النار.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن سابط قال: في أم الكتاب كل شيء هو كائن إلى يوم القيامة فوكل ثلاثة بحفظه إلى يوم القيامة من الملائكة فوكل جبريل بالكتب والوحي إلى الأنبياء وبالنصر عند الحروب وبالهلكات إذا أراد الله أن يهلك قوماً ووكل ميكائيل بالقطر والنبات ووكل ملك الموت بقبض الأنفس فإذا كان يوم القيامة عارضوا بين حفظهم وبين ما كان في أم الكتاب فيجدونه سواء.
وأخرج أيضاً عن عطاء بن السائب قال: أول ما يحاسب جبريل لأنه كان أمين الله على رسله، فائدة ثانية أخرج الحاكم والبيهقي عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزل القرآن بالتفخيم كهيئته عذراً نذراً و الصدفين و (ألا له الخلق والأمر) وأشباه هذا.
قلت: أخرجه ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء فبين أن المرفوع منه أنزل القرآن بالتفخيم فقط وأن الباقي مدرج من كلام عمار بن عبد الملك أحد رواة الحديث.
فائدة أخرى: أخرج ابن سعد عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يغط في رأسه ويتبرد وجهه: أي يتغير لونه بالجريذة ويجد برداً في ثناياه ويعرق حتى يتحدر منه مثل الجمان.
المسألة الثالثة: في الأحرف السبعة التي نزل القرآن عليها.
قلت: ورد حديث نزل القرآن على سبة أحرف من رواية جمع من الصحابة: أبيّ بن كعب وأنس وحذيفة بن اليمان وزيد بن أرقم وسمرة بن جندب وسلمان ابن صرد وابن عباس وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعمر بن الخطاب وعمرو بن أبي سلمة وعمرو بن العاص ومعاذ بن جبل وهشام بن حكيم وأبي بكرة وأبي جهم وأبي سعيد الخدري وأبي طلحة الأنصاري وأبي هريرة وأبي أيوب فهؤلاء أحد وعشرون صحابياً وقد نص أبو عبيد على تواتره.
وأخرج أبو يعلى في «مسنده» أن عثمان قال على المنبر: أذكر الله رجلاً سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف لما قام فقاموا حتى لم يحصدوا فشهدوا بذلك فقال: وأنا أشهد معهم وسأسوق من رواتهم ما يحتاج إليه.
فأقول: اختلف في معنى هذا الحديث على نحو أربعين قولا:
أحدها: أنه من المشكل الذي لا يدري معناه لأن الحرف يصدق لغة على حرف الهجاء وعلى الكلمة وعلى المعنى وعلى الجهة قال ابن سعدان النحوي.
الثاني: أنه ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد بل المراد التيسير والتسهيل والسعة ولفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد كما يطلق السبعون في العشرات والسبعمائة في المئين ولا يراد العدد المعين وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه.
ويرده ما في حديث ابن عباس في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف" وفي حديث أبيّ عند «مسلم»: "إن ربي أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هون على أمتي فأرسل إلي أن أقرأه على حرفين فرددت إليه أن هون على أمتي فأرسل إلي أن أقرأه على سبعة أحرف".
وفي لفظ عنه عند النسائي: "إن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف" وفي حديث أبي بكرة: "اقرأه فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة" فهذا يدل على إرادة حقيقية العدد وانحصاره.
الثالث: أن المراد بها سبع قراءات وتعقب بأنه لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا القليل مثل: (عبد الطاغوت) و (ولا تقل لهما أف) وأجيب بأن المراد أن كل كلمة تقرأ بوجه أو وجهين أو ثلاثة أو أكثر إلى سبعة، ويشكل على هذا أن في الكلمات ما قرئ على أكثر وهذا يصلح أن يكون قولاً رابعاً.
الخامس: أن المراد بها الأوجه التي يقع بها التغاير ذكره ابن قتيبة قال: فأولها: ما يتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته مثل: (ولا يضار كاتب) بالفتح والرفع وثانيهما: ما يتغير بالفعل مثل: بعد وباعد بلفظ الطلب والماضي وثالثها: ما يتغير باللفظ مثل (ننشزها) ورابعها: ما يتغير بإبدال حرف قريب المخرج مثل: (طلح منضود) وطلع وخامسها: ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل: (وجاءت سكرة الموت بالحق) وسكرة الحق بالموت وسادسها: ما يتغير بزيادة أو نقصان مثل الذكر والأنثى: (وما خلق الذكر والأنثى) وسابعها: ما يتغير بإبدال كلمة بأخرى مثل: (كالعهن المنفوش) وكالصوف المنفوش.
وتعقب هذا قاسم بن ثابت بأن الرخصة وقعت وأكثرهم يومئذ لا يكتب ولا يعرف الرسم وإنما كانوا يعرفون الحروف ومخارجها، وأجيب: بأنه لا يلزم من ذلك توهين ما قاله ابن قتيبة لاحتمال أن يكون الانحصار المذكور في ذلك وقع اتفاقاً وإنما اطلع عليه بالاستقراء، وقال أبو الفضل الرازي في «اللوائح»: الكلام لا يخرج عن سبعة أوجه في الاختلاف.
الأول: اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث.
والثاني: اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر.
الثالث: وجوه الإعراب.
الرابع: النقص والزيادة.
الخامس: التقديم والتأخير.
السادس: الإبدال.
السابع: اختلاف اللغات كالفتح والإمالة والترقيق والتفخيم والإدغام والإظهار ونحو ذلك.
وقال بعضهم: المراد بها كيفية النطق بالتلاوة من إدغام وإظهار وتفخيم وترقيق وإمالة وإشباع ومد وقصر وتشديد وتخفيف وتليين وتحقيق وهذا هو القول السابع.
وقال ابن الجزري: قد تتبع تصحيح القراءات وشاذها وضعيفها ومنكرها فإذا هي يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه لا يخرج عنها وذلك إما في الحركات بلا تغير في المعنى والصورة نحو البخل بأربعة ويحسب بوجهين أو متغير في المعنى فقط نحو: (فتلقى آدم من ربه كلمات) وإما في الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحو (تبلو) (وتتلو) وعكس ذلك نحو: (الصراط) والسراط أو بتغيرهما نحو: (فامضوا) (فاسعوا) وإما في التقديم والتأخير نحو: (فيقتلون) (ويقتلون) أو في الزيادة والنقصان نحو (أوصى) (ووصى) فهذه سبعة لا يخرج الاختلاف عنها.
قال: وأما نحو اختلاف الإظهار والإدغام والروم والإشمام والتخفيف والتسهيل والنقل والإبدال فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع في اللفظ والمعنى لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظاً واحداً انتهى؛ وهذا هو القول الثامن.
قلت: ومن أمثلة التقديم والتأخير قراءة الجمهور و: (كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) وقرأ ابن مسعود على قلب كل متكبر.
التاسع: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة نحو: أقبل وتعالى وعلم وعجل وأسرع؛ وإلى هذا ذهب سفيان بن عيينة وابن جرير وابن وهب وخلائق ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء ويدل له ما أخرجه أحمد والطبراني من حديث أبي بكرة: "أن جبريل قال: يا محمد اقرأ القرآن على حرف قال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف قال: كل شاف كاف ما لم تخلط آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب نحو قولك تعال وأقبل وهلم واذهب وأسرع وعجل" هذا اللفظ رواية أحمد وإسناده جيد.
وأخرج أحمد والطبراني أيضاً عن ابن مسعود نحوه، وعند أبي داود عن أبيّ قلت: سميعاً عليماً عزيزاً حكيماً ما لم تخلط آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب.
وعند أحمد من حديث أبي هريرة: "أنزل القرآن على سبعة أحرف عليماً حكيماً غفوراً رحيماً" وعنده أيضاً من حديث عمر بأن: "القرآن كله صواب ما لم تجعل مغفرة عذاباً وعذاباً مغفرة" أسانيدها جياد.
قال ابن عبد البر: إنما أراد بهذا ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها أنها معان متفق مفهومها مختلف مسموعها لا يكون في شيء منها معنى وضده ولا وجه يخالف معنى وجه خلافاً ينفيه ويضاده كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده، ثم أسند عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرأ: (كلما أضاء لهم مشوا فيه) مروا فيه سمعوا فيه، وكان ابن مسعود يقرأ: (للذين آمنوا انظرونا) أمهلونا أخرونا.
قال الطحاوي: وإنما كان ذلك رخصة لما كان يتعسر على كثير منهم التلاوة بلفظ واحد لعدم علمهم بالكتابة والضبط وإتقان الحفظ ثم نسخ بزوال العذر وتيسر الكتابة والحفظ وكذا قال ابن عبد البر والباقلاني وآخرون، وفي فضائل أبي عبيد من طريق عون بن عبد الله أن ابن مسعود اقرأ رجلاً: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) فقال الرجل: طعام اليتيم فردها عليه فلم يستقم بها لسانه فقال: أتستطيع أن تقول طعام الفاجر قال نعم قال: فافعل.
القول العاشر: أن المراد سبع لغات:وإلى هذا
ذهب أبو عبيد وثعلب والزهري وآخرون واختاره ابن عطية وصححه البيهقي في الشعب، وتعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة.
وأجيب بأن المراد أفصحها فجاء عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن على سبع لغات منها خمس بلغة العجز من الهوازن، قال: والعجز سعد بن بكر وجشم بن بكر ونصر بن معاوية وثقيف وهؤلاء كلهم من هوازن ويقال لهم عليا هوازن؛ ولهذا قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب علياً هوازن وسفلي تميم: يعني بني دارم.
وأخرج أبو عبيد من وجه آخر عن ابن عباس قال: نزل القرآن بلغة الكعبين: كعب قريش وكعب خزاعة قيل: وكيف ذاك قال: لأن الدار واحدة: يعني أن خزاعة كانوا جيران قريش فسهلت عليهم لغتهم، وقال أبو حاتم السجستاني: نزل بلغة قريش وهزيل وتميم والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر، واستنكر ذلك ابن قتيبة وقال: لم ينزل القرآن إلا بلغة قريش ورده بقوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) فعلى هذا تكون اللغات السبع في بطون قريش وبذلك جزم أبو علي الأهوازي.
وقال أبو عبيد: ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات بل اللغات السبع مفرقة فيه فبعضه بلغة قريش وبعضه بلغة هذيل وبعضه بلغة هوازن وبعضه بلغة اليمن وغيرهم، قال: وبعض اللغات أسعد به من بعض وأكثر نصيباً، وقيل: نزل بلغة مضر خاصة لقول عمر: نزل القرآن بلغة مضر، وعين بعضهم فيما حكاه ابن عبد البر السبع من مضر أنهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسد بن خزيمة وقريش فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات.
ونقل أبو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال: أنزل القرآن أولاً بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها عن اختلافهم في الألفاظ والإعراب ولم يكلف أحداً منهم الانتقال عن لغته إلى لغة أخرى للمشقة ولما كان فيهم من الحمية ولطلب تسهيل فهم المراد.
وزاد غيره أن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي بأن يغير كل أحد الكلمة بمرادفها في لغته بل المرعي في ذلك السماع من النبي صلى الله عليه وسلم، واستشكل بعضهم هذا بأنه يلزم عليه أن جبريل كان يلفظ باللفظ الواحد سبع مرات، وأجيب بأنه يلزم هذا لو اجتمعت الأحرف السبعة في لفظ واحد ونحن قلنا: كان جبريل يأتي في كل عرضة بحرف إلى أن تمت سبعة وبعد هذا كله رد القول بأن عمر بن الخطاب وهشام ابن حكيم كلاهما قرشي من لغة واحدة وقد اختلفت قراءتهما ومحال أن ينكر عليه عمر لغته فدل على أن المراد بالأحرف السبعة غير اللغات.
القول الحادي عشر: أن المراد سبعة أصناف والأحاديث السابقة ترده والقائلون به اختلفوا في تعيين السبعة فقيل أمر ونهي وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال.
واحتجوا بما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد وعلى حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال الحديث".
وقد أجاب عنه قوم بأنه ليس المراد بالأحرف السبعة التي تقدم ذكرها في الأحاديث الأخرى لأن سياق تلك الأحاديث يأبى حملها على هذا بل في ظاهره في أن المراد أن الكلمة تقرأ على وجهين وثلاثة إلى سبعة تيسيراً وتهويناً والشيء الواحد لا يكون حلالاً حراماً في آية واحدة.
قال البيهقي: المراد بالسبعة الأحرف هنا: الأنواع التي نزل عليها والمراد بها في تلك الأحاديث، اللغات التي يقرأ بها، وقال غيره: من أول السبعة الأحرف بهذا فهو فاسد لأنه محال أن يكون الحرف منها حراماً لا ما سواه وحلالاً ما سواه ولأنه لا يجوز أن يكون القرآن يقرأ على أنه حلال كله أوحرام كله أو أمثال كله.
وقال ابن عطية: هذا القول ضعيف لأن الإجماع على أن التوسعة لم تقع في تحريم حلال ولا تحليل حرام ولا في تغيير شيء من المعاني المذكورة، وقال الماوردي: هذا القول خطأ لأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى جواز القراءة بكل واحد من الحروف وإبدال حرف بحرف وقد أجمع المسلمون على تحريم إبدال آية أمثال بآية أحكام.
وقال أبو علي الأهوازي أبو العلاء والهمذاني: قوله في الحديث: "زاجر وأمر ... " الخ استئناف كلام آخر: أي هو زاجر: أي القرآن ولم يرد به تفسير الأحرف السبعة وإنما توهم ذلك من جهة الاتفاق في العدد.
ويؤيده أن في بعض طرقه زجراً وأمراً بالنصب: أي نزل على هذه الصفة في الأبواب السبعة، وقال أبو شامة: يحتمل أن يكون التفسير المذكور للأبواب لا للأحرف: أي هي سبعة أبواب من أبواب الكلام وأقسامه: أي أنزله الله على هذه الأصناف لم يقتصر منها على صنف واحد كغيره من الكتب.
وقيل المراد بها المطلق والمقيد والعام والخاص والنص والمؤول والناسخ والمنسوخ والمجمل والمفسر والاستثناء وأقسامه حكاه شيدلة عن الفقهاء، وهذا هو القول الثاني عشر.
وقيل المراد بها الحذف والصلة والتقديم والتأخير والاستعارة والتكرار والكناية والحقيقة والمجاز والمجمل والمفسر والظاهر والغريب حكاه عن أهل اللغة، وهذا هو القول الثالث عشر.
وقيل المراد بها التذكير والتأنيث والشرط والجزاء والتصريف والإعراب والأقسام وجوابها والجمع والإفراد والتصغير والتعظيم واختلاف الأدوات حكاه عن النحاة، وهذا هو القول الرابع عشر.
وقيل المراد بها سبعة أنواع من المعاملات: الزهد والقناعة مع اليقين والجزم والخدمة مع الحياء والكرم والفتوة مع الفقر والمجاهدة والمراقبة مع الخوف والرجاء والتضرع والاستغفار مع الرضا والشكر والصبر مع المحاسبة والمحبة والشوق مع المشاهدة حكاه عن الصوفية، وهذا هو القول الخامس عشر.
القول السادس عشر: أن المراد بها سبعة علوم: علم الإنشاء والإيجاد وعلم التوحيد والتنزيه وعلم صفات الذات وعلم صفات الفعل وعلم جميع القرآن قبلها وإن كان قد حضرها من لم يجمع غيرها الجمع الكثير.
الثامن: أن المراد بجمعه السمع والطاعة له والعمل بموجبه.
وقد أخرج أحمد في الزهد من طريق أبي الزاهرية أن رجلاً أتى أبا الدرداء فقال: إن ابني جمع القرآن فقال: الهم غفراً إنما جمع القرآن من سمع له وأطاع، قال ابن حجر: وفي غالب هذه الاحتمالات تكلف ولا سيما الأخير، قال: وقد ظهر لي احتمال آخر وهو أن المراد بإثبات ذلك للخزرج دون الأوس فقط فلا ينفي ذلك عن غير القبيلتين من المهاجرين لأنه قال ذلك في معرض المفاخرة بين الأوس والخزرج؛ كما أخرجه ابن جرير من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس قال: افتخر الحيان الأوس والخزرج فقال الأوس: منا أربعة: من اهتز له العرش سعد بن معاذ، ومن عدلت شهادته شهادة رجلين خزيمة بن أبي ثابت، ومن غسلته الملائكة حنظلة بن أبي عامر، ومن حمته الدبر عاصم بن أبي ثابت: أي ابن أبي الأفلح، فقال الخزرج: منا أربعة جمعوا القرآن لم يجمعه غيرهم فذكرهم.
قال: والذي يظهر من كثير من الأحاديث أن أبا بكر كان يحفظ القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيح أنه بنى مسجداً بفناء داره فكان يقرأ فيه القرآن، وهو محمول على ما كان نزل منه إذ ذاك.
قال: وهذا مما لا يرتاب فيه مع شدة حرص أبي بكر على تلقي القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وفراغ باله له وهما بمكة وكثرة ملازمة كل منهما للآخر حتى قالت عائشة: إنه صلى الله عليه وسلم كان يأتيهم بكرة وعشياً، وقد صح حديث: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله" وقد قدمه صلى الله عليه وسلم في مرضه إماماً للمهاجرين والأنصار فدل على أنه كان أقرأهم أهـ، وسبقه إلى نحو ذلك ابن كثير.
قلت: لكن أخرج ابن أشتة في المصاحف بسند صحيح عن محمد بن سيرين قال: مات أبو بكر ولم يجمع القرآن وقتل عمر ولم يجمع القرآن، قال ابن أشتة: قال بعضهم: يعني لم يقرأ جميع القرآن حفظاً، وقال بعضهم: هو جمع المصاحف، قال ابن حجر: وقد ورد عن عليّ أنه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم؛ أخرجه ابن أبي داود.
وأخرج النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمر قال: جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اقرأه في شهر... الحديث.
وأخرج ابن أبي داود بسند حسن بن محمد بن كعب القرظي قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبيّ بن كعب، وأبو الدرداء، وأبو أيوب الأنصاري.
وأخرج البيهقي في «المدخل» عن ابن سيرين قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة لا يختلف فيهم: معاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب، وأبو زيد واختلفوا في رجلين من ثلاثة: أبي الدرداء، وعثمان وقيل: عثمان، وتميم الداري.
وأخرج هو وابن أبي داود عن الشعبي قال: جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ستة: أبيّ، ومعاذ، وأبو الدرداء، وسعيد بن عبيد، وأبو زيد، ومجمع بن جارية وقد أخذه إلا سورتين أو ثلاثة، وقد ذكر أبو عبيد في كتاب القراءات: القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعد من المهاجرين الخلفاء الأربعة: وطلحة، وسعد.
الثلاثون: أمهات الهجاء الألف والباء والجيم والدال والراء والسين والعين لأن عليها تدور جوامع كلام العرب.
الحادي والثلاثون: أنها في أسماء الرب مثل الغفور الرحيم السميع البصير العليم الحكيم.
الثاني والثلاثون: هي آية في صفات الذات وآية تفسيرها في آية أخرى وآية بيانها في السنة الصحيحة وآية في قصة الأنبياء والرسل وآية في خلق الأشياء وآية في وصف الجنة وآية في وصف النار.
الثالث والثلاثون: في وصف الصانع وآية في إثبات الوحدانية له وآية في إثبات صفاته: وآية في إثبات رسله وآية في إثبات كتبه وآية في إثبات الإسلام وآية في نفي الكفر.
الرابع والثلاثون: سبع جهات من صفات الذات لله التي لا يقع عليها التكييف.
الخامس والثلاثون: الإيمان بالله ومجانبة الشرك وإثبات الأوامر ومجانبة الزواجر والثبات على الإيمان وتحريم ما حرم الله وطاعة رسوله.
قال ابن حبان: فهذه خمسة وثلاثون قولاً لأهل العلم واللغة في معنى إنزال القرآن على سبعة أحرف وهي أقاويل يشبه بعضها بعضاً وكلها محتملة ويحتمل غيرها.
وقال المرسي: هذه الوجوه أكثرها متداخلة ولا أدري مستندها ولا عمن نقلت ولا أدري لم خص كل واحد منهم هذه الأحرف السبعة بما ذكر مع أن كلها موجودة في القرآن فلا أدري معنى التخصص.
ومنها الأشياء لا أفهم معناها على الحقيقة وأكثرها معارضة حديث عمر وهشام بن حكيم الذي في الصحيح فإنهما لم يختلفا في تفسيره ولا أحكامه وإنما اختلفا في قراءة حروفه وقد ظن كثير من العوام أن المراد بها القراءات السبعة وهو جهل قبيح.
تنبيه اختلف هل المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة فذهب جماعة من الفقهاء والقراء والمتكلمين إلى غير ذلك وبنوا عليه أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء منها وقد أجمع الصحابة على نقل المصاحف العثمانية من الصحف التي كتبها أبو بكر وأجمعوا على ترك ما سوى ذلك.
وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أنها مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل متضمنة لها لم تترك حرفاً منها، قال ابن الجزري: وهذا هو الذي يظهر صوابه.
ويجاب عن الأول بما ذكره ابن جرير أن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبة على الأمة وإنما كان جائزاً لهم ومرخصاً لهم فيه فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف إذا لم يجمعوا على حرف واحد اجتمعوا على ذلك إجماعاً شائعاً وهم معصومون من الضلالة ولم يكن في ذلك ترك واجب ولا فعل حرام ولاشك أن القرآن نسخ منه العرضة الأخيرة بالفعل المبني للمجهول فاتفق رأي الصحابة على أن كتبوا ما تحققوا أنه قرآن مستقر في العرضة الأخيرة وتركوا ما سوى ذلك.
وأخرج ابن أشتة في المصاحف وابن أبي شيبة في فضائله من طريق ابن سيرين عن عبيدة السلماني قال: القراءة التي عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قبض فيه هي القراءة التي يقرؤها الناس اليوم.
وأخرج ابن أشتة عن ابن سيرين قال: كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم كل سنة في شهر رمضان مرة فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين فيمكن أن تكون قراءتنا هذه على العرضة الأخيرة.
وقال البغوي في شرح السنة: يقال إن زيد ابن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بين فيها ما نسخ وما بقي وكتبها الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأها عليه وكان يقرئ الناس بها حتى مات ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر وجمعه وولاه عثمان كتب المصاحف.
تنزلات القرآن الكريم
شرف الله هذا القرآن بأن جعل له ثلاثة تنزلات : ـ
1ـ التنزل الأول إلى اللوح المحفوظ . ودليله قول سبحانه : { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ } . وكان هذا الوجود في اللوح بطريقة وفي وقت لا يعلمها إلا الله تعالى ، ومن أطلعه على غيبه. وكان جملة لا مفرقا، لأنه الظاهر من اللفظ عند الإطلاق، ولا صارف عنه، ولأن أسرار تنجيم القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم لا يعقل تحققها في هذا التنزل.
وحكمة هذا النزول ، ترجع إلى الحكمة العامة من وجود اللوح نفسه ، وإقامته سجلا جامعا لكل ما قضى الله وقدر، وكل ما كان وما يكون من عوالم الإيجاد والتكوين . فهو شاهد ناطق، ومظهر من أروع المظاهر، الدالة على عظمة الله ، وعلمه وإرادته ، وحكمته، وواسع سلطانه وقدرته . ولا ريب أن الإيمان به يقوي إيمان العبد بربه من هذه النواحي، ويبعث الطمأنينة إلى نفسه، والثقة بكل ما يظهره الله لخلقه، من ألوان هدايته وشرائعه وكتبه وسائر أقضيته وشؤونه في عباده، كما يحمل الناس على الكون والرضا، تحت سلطان القدر والضاء، ومن هنا تهون عليهم ا لحياة بضرائها، وسرائها، كما قال ـ جل شأنه ـ { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ، إن ذلك على الله يسير . لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ، والله لا يحب كل مختال فخور } اهـ من سورة الحديد . وللإيمان باللوح وبالكتابة فيه ، أثر صالح في استقامة المؤمن على الجادة ، وتفانيه في طاعة الله ومراضيه، وبعده عن مساخطه ومعاصيه، لاعتقاده أنها مسطورة عند الله في لوحه. مسجلة لديه في كتابه . كما قال ـ جل ذكره ـ : { وكل صغير وكبير مستطر} اهـ من سورة القمر .
ب ـ التنزل الثاني للقرآن . كان هذا التنزل الثاني إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، والدليل عليه قوله سبحانه في سورة الدخان { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } وفي سورة القدر { إنا أنزلناه في ليلة القدر } . وفي سورة البقرة { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } .
دلت هذه الآيات الثلاث على أن القرآن أنزل في ليلة واحدة ، توصف بأنها مباركة أخذا من آية الدخان، وتسمى ليلة القدر أخذا من آية سورة القدر، وهي من ليالي شهر رمضان أخذا من آية البقرة . وإنما قلنا ذلك جمعا بين هذه النصوص في العمل بها، ودفعا للتعارض فيما بينها: ومعلوم بالأدلة القاطعة ـ كما يأتي ـ أن القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقا لا في ليلة واحدة، بل في مدى سنين عددا، فتعين أن يكون هذا النزول الذي نوهت به هذه الآيات الثلاث نزولا آخر غير النزول على النبي صلى الله عليه وسلم . وقد جاءت الأخبار الصحيحة مبينة لمكان هذا النزول وأنه في بيت العزة من السماء الدنيا، كما تدل الروايات الآتية :
1ـ أخرج الحاكم بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : "فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم " .
2ـ وأخرج النسائي والحاكم والبيهقي من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : "أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة " ثم قرأ { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } . { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا } .
3ـ وأخرج الحاكم والبيهقي وغيرهما من طريق منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ، وكان بمواقع النجوم ، وكان الله ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض".
4ـ وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود فقال : أوقع في قلبي الشك قوله تعالى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } وقوله : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } . وهذا أنزل في شوال ، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة ، وفي المحرم ، وصفر ، وشهر ربيع . فقال ابن عباس : " إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة ، ثم أنزل على مواقع النجوم رسلا في الشهور والأيام" . قال أبو شامة : رسلا أي رفقا . وعلى مواقع النجوم أي على مثل مساقطها. يريد أنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة ، ثم أنزل على مواقع النجوم مفرقا ، يتلو بعضه بعضا على تؤدة ورفق .
هذه أحاديث أربعة من جملة أحاديث ذكرت في هذا الباب ، وكلها صحيحة كما قال السيوطي ، وهي أحاديث موقوفة على ابن عباس ، غير أن لها حكم المرفوع لي النبي صلى الله عليه وسلم ، لما هو مقرر من أن قول الصحابي ما لا مجال للرأي فيه ولم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات ، حكمه حكم المرفوع. ولا ريب أن نزول القرآن إلى بيت العزة من أنباء الغيب التي لا تعرف إلا من المعصوم، وابن عباس لم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات ، فثبت الاحتجاج بها .
وكان هذا النزول جملة واحدة في ليلة واحدة هي ليلة القدر كما علمت ؛ لأنه المتبادر من نصوص الآيات الثلاث السابقة ، وللتنصيص على ذلك في الأحاديث التي عرضناها عليك . بل ذكر السيوطي أن القرطبي نقل حكاية الإجماع على نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا .
وهناك قول ثان بنزول القرآن إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر، أو ثلاث وعشرين ، أو خمس وعشرين ينزل في كل ليلة قدر منها ما يقدر الله إنزاله في كل السنة، ثم ينزل بعد ذلك منجما في جميع السنة على النبي صلى الله عليه وسلم .
وثمة قول ثالث : أنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر؛ ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأزمان على النبي صلى الله عليه وسلم . وكأن صاحب هذا القول ينفي النزول جملة إلى بيت العزة في ليلة القدر.
وذكروا قولا رابعا أيضا هو أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة، وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة، وأن جبريل نجمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة .
ولكن هذه الأقوال الثلاثة الأخيرة بمعزل عن التحقيق، وهي محجوجة بالأدلة التي سقناها بين يديك تأييدا للقول الأول.
والحكمة في النزول ، على ما ذكره السيوطي نقلا عن أبي شامة ـ هي تفخيم أمره ( أي القرآن ) وأمر من نزل عليه ، بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم ، وبإنزاله مرتين ، مرة جملة ومرة مفرقا . بخلاف الكتب السابقة ، فقد كانت تنزل جملة مرة واحدة .
وذكر بعضهم أن النزول إلى السماء الدنيا إلهابا لشوق النبي صلى الله عليه وسلم إليه إلى حد قول القائل :
1ـ التنزل الأول إلى اللوح المحفوظ . ودليله قول سبحانه : { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ } . وكان هذا الوجود في اللوح بطريقة وفي وقت لا يعلمها إلا الله تعالى ، ومن أطلعه على غيبه. وكان جملة لا مفرقا، لأنه الظاهر من اللفظ عند الإطلاق، ولا صارف عنه، ولأن أسرار تنجيم القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم لا يعقل تحققها في هذا التنزل.
وحكمة هذا النزول ، ترجع إلى الحكمة العامة من وجود اللوح نفسه ، وإقامته سجلا جامعا لكل ما قضى الله وقدر، وكل ما كان وما يكون من عوالم الإيجاد والتكوين . فهو شاهد ناطق، ومظهر من أروع المظاهر، الدالة على عظمة الله ، وعلمه وإرادته ، وحكمته، وواسع سلطانه وقدرته . ولا ريب أن الإيمان به يقوي إيمان العبد بربه من هذه النواحي، ويبعث الطمأنينة إلى نفسه، والثقة بكل ما يظهره الله لخلقه، من ألوان هدايته وشرائعه وكتبه وسائر أقضيته وشؤونه في عباده، كما يحمل الناس على الكون والرضا، تحت سلطان القدر والضاء، ومن هنا تهون عليهم ا لحياة بضرائها، وسرائها، كما قال ـ جل شأنه ـ { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ، إن ذلك على الله يسير . لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ، والله لا يحب كل مختال فخور } اهـ من سورة الحديد . وللإيمان باللوح وبالكتابة فيه ، أثر صالح في استقامة المؤمن على الجادة ، وتفانيه في طاعة الله ومراضيه، وبعده عن مساخطه ومعاصيه، لاعتقاده أنها مسطورة عند الله في لوحه. مسجلة لديه في كتابه . كما قال ـ جل ذكره ـ : { وكل صغير وكبير مستطر} اهـ من سورة القمر .
ب ـ التنزل الثاني للقرآن . كان هذا التنزل الثاني إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، والدليل عليه قوله سبحانه في سورة الدخان { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } وفي سورة القدر { إنا أنزلناه في ليلة القدر } . وفي سورة البقرة { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } .
دلت هذه الآيات الثلاث على أن القرآن أنزل في ليلة واحدة ، توصف بأنها مباركة أخذا من آية الدخان، وتسمى ليلة القدر أخذا من آية سورة القدر، وهي من ليالي شهر رمضان أخذا من آية البقرة . وإنما قلنا ذلك جمعا بين هذه النصوص في العمل بها، ودفعا للتعارض فيما بينها: ومعلوم بالأدلة القاطعة ـ كما يأتي ـ أن القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقا لا في ليلة واحدة، بل في مدى سنين عددا، فتعين أن يكون هذا النزول الذي نوهت به هذه الآيات الثلاث نزولا آخر غير النزول على النبي صلى الله عليه وسلم . وقد جاءت الأخبار الصحيحة مبينة لمكان هذا النزول وأنه في بيت العزة من السماء الدنيا، كما تدل الروايات الآتية :
1ـ أخرج الحاكم بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : "فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم " .
2ـ وأخرج النسائي والحاكم والبيهقي من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : "أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة " ثم قرأ { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } . { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا } .
3ـ وأخرج الحاكم والبيهقي وغيرهما من طريق منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ، وكان بمواقع النجوم ، وكان الله ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض".
4ـ وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود فقال : أوقع في قلبي الشك قوله تعالى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } وقوله : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } . وهذا أنزل في شوال ، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة ، وفي المحرم ، وصفر ، وشهر ربيع . فقال ابن عباس : " إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة ، ثم أنزل على مواقع النجوم رسلا في الشهور والأيام" . قال أبو شامة : رسلا أي رفقا . وعلى مواقع النجوم أي على مثل مساقطها. يريد أنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة ، ثم أنزل على مواقع النجوم مفرقا ، يتلو بعضه بعضا على تؤدة ورفق .
هذه أحاديث أربعة من جملة أحاديث ذكرت في هذا الباب ، وكلها صحيحة كما قال السيوطي ، وهي أحاديث موقوفة على ابن عباس ، غير أن لها حكم المرفوع لي النبي صلى الله عليه وسلم ، لما هو مقرر من أن قول الصحابي ما لا مجال للرأي فيه ولم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات ، حكمه حكم المرفوع. ولا ريب أن نزول القرآن إلى بيت العزة من أنباء الغيب التي لا تعرف إلا من المعصوم، وابن عباس لم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات ، فثبت الاحتجاج بها .
وكان هذا النزول جملة واحدة في ليلة واحدة هي ليلة القدر كما علمت ؛ لأنه المتبادر من نصوص الآيات الثلاث السابقة ، وللتنصيص على ذلك في الأحاديث التي عرضناها عليك . بل ذكر السيوطي أن القرطبي نقل حكاية الإجماع على نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا .
وهناك قول ثان بنزول القرآن إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر، أو ثلاث وعشرين ، أو خمس وعشرين ينزل في كل ليلة قدر منها ما يقدر الله إنزاله في كل السنة، ثم ينزل بعد ذلك منجما في جميع السنة على النبي صلى الله عليه وسلم .
وثمة قول ثالث : أنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر؛ ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأزمان على النبي صلى الله عليه وسلم . وكأن صاحب هذا القول ينفي النزول جملة إلى بيت العزة في ليلة القدر.
وذكروا قولا رابعا أيضا هو أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة، وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة، وأن جبريل نجمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة .
ولكن هذه الأقوال الثلاثة الأخيرة بمعزل عن التحقيق، وهي محجوجة بالأدلة التي سقناها بين يديك تأييدا للقول الأول.
والحكمة في النزول ، على ما ذكره السيوطي نقلا عن أبي شامة ـ هي تفخيم أمره ( أي القرآن ) وأمر من نزل عليه ، بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم ، وبإنزاله مرتين ، مرة جملة ومرة مفرقا . بخلاف الكتب السابقة ، فقد كانت تنزل جملة مرة واحدة .
وذكر بعضهم أن النزول إلى السماء الدنيا إلهابا لشوق النبي صلى الله عليه وسلم إليه إلى حد قول القائل :
أقول : وفي تعدد النزول وأماكنه، مرة في اللوح، وأخرى في بيت العزة، وثالثة على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، في ذلك التعدد مبالغة في نفي الشك عن القرآن وزيادة للإيمان وباعث على الثقة فيه ، لأن الكلام إذا سجل في سجلات متعددة ، وصحت له وجودات كثيرة، كان ذلك أنفى للريب عنه وأدعى إلى تسليم ثبوته ، وأدنى إلى وفرة الإيقان به ، مما لو سجل في سجل واحد، أو كان له وجود واحد.
ج ـ التنزل الثالث للقرآن هذا هو واسطة عقد التنزلات، لأنه المرحلة الأخيرة التي منها شع النور على العالم، ووصلت هداية الله إلى الخلق ، وكان هذا النزول بواسطة أمين الوحي جبريل يهبط به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم . ودليله قول الله تعالى في سورة الشعراء مخاطبا لرسوله عليه الصلاة والسلام : { نزل به الروح الأمين . على قلبك لتكون من المنذرين . بلسان عربي مبين } .
كيفية أخذ جبريل للقرآن ، وعمن أخذ ؟
ـ
هذا من أنباء الغيب . فلا يطمئن الإنسان إلى رأي فيه إلا إن ورد بدليل صحيح عن المعصوم، وكل ما عثرنا عليه أقوال منثورة هنا وهناك ، نجمعها لك فيما يأتي مع إبداء رأينا في كل منها :
أولها : قال الطيبي : " لعل نزول القرآن على الملك أن يتلقفه تلقفا روحانيا أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم فيلقيه إليه" اهـ.
وأنت خبير بأن كلمة ( لعل) هنا لا تشفي غليلا ، ولا تهدينا إلى المقصود سبيلا، ولا نستطيع أن نأخذ منها دليلا.
ثانيها : حكى الماوردي أن الحفظة نجمت القرآن على جبريل في عشرين ليلة؛ وأن جبريل نجمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة اهـ . ومعنى هذا أن جبريل أخذ القرآن عن الحفظة نجوما عشرين . ولكنا لا نعرف لصاحب هذا الرأي دليلا ولا شبه دليل.
ثالثها : قال البيهقي في معنى قوله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر} "يريد ـ والله أعلم ـ إنا أسمعنا الملك وأفهمناه إياه وأنزلناه بما سمع" اهـ . ومعنى هذا أن جبريل أخذ القرآن عن الله سماعا . وذلك فيما أرى أمثل الأقوال من ناحية أخذ جبريل عن الله لا من ناحية تأويل النزول في الآية بابتداء النزول. ويؤيده ما أخرجه الطبراني من حديث النواس بن سمعان مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم " إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله ، فإذا سمع أهل الدنيا صعقوا وخروا سجدا فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله بوحيه بما أراد ، فينتهي به إلى الملائكة فكلما مر بسماء سأله أهلها : ما قال ربنا ؟ قال : الحق، فينتهي به حيث أمر " .
وأيا ما تكن هذه الأقوال ، فإن هذا الموضوع لا يتعلق به كبير غرض، ما دمنا نقطع بأن مرجع التنزيل هو الله تعالى وحده
ما الذي نزل به جبريل
ولتعلم في هذا المقام ، أن الذي نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن باعتبار أنه الألفاظ المعجزة من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس. وتلك الألفاظ هي كلام الله وحده، لا دخل لجبريل ولا لمحمد في إنشائها وترتيبها، بل الذي رتبها ، أولا هو الله سبحانه وتعالى ، ولذلك تنسب له دون سواه، وإن نطق بها جبريل ومحمد ، وملايين الخلق بعد جبريل ومحمد، من لدن نزول القرآن إلى يوم الساعة . وذلك كما ينسب الكلام البشري إلى من أنشأه ورتبه في نفسه أولا دون غيره ، ولو نطق به آلاف الخلائق ، في آلاف الأيام والسنين إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين .
فالله ـ جلت حكمته ـ هو الذي أبرز ألفاظ القرآن وكلماته مرتبة على وفق ترتيب كلماته النفسية لأجل التفهيم والتفهم، كما تبرز نحن كلامنا اللفظي على وفق كلامنا النفسي لأجل التفهيم والتفهم، ولا ينسب الكلام بحال إلا من رتبه في نفسه أولا، دون من انتصر على حكايته وقراءته، ولذلك لا يجوز إضافة القرآن على سبيل الإنشاء إلى جبريل أو محمد، ولا لغير جبريل ومحمد، كما لا يجوز نسبة كلام أنشأه شخص ورتبه في نفسه أولا إلى شخص آخر حكاه وقرأه حين اطلع عليه أو سمعه .
وقد أسف بعض الناس فزعم أن جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بمعاني القرآن ، والرسول يعبر عنها بلغة العرب. وزعم آخرون أن اللفظ لجبريل وأن الله كان يوحي إليه المعنى فقط ، وكلاهما قول باطل أثيم ، مصادم لصريح الكتاب والسنة والإجماع، ولا يساوي قيمة المداد الذي يكتب به . وعقيدتي أنه مدسوس على المسلمين في كتبهم . وإلا فكيف ، يكون القرآن حينئذ معجزا واللفظ لمحمد أو لجبريل ؟ ثم كيف تصح نسبته إلى الله واللفظ ليس لله ؟ مع أن الله يقول : { حتى يسمع كلام الله } ، إلى غير ذلك مما يطول بنا تفصيله .
والحق أنه ليس لجبريل في هذا القرآن سوى حكايته للرسول وإيحائه إليه ، وليس للرسول صلى الله عليه وسلم في هذا القرآن سوى وعيه وحفظه، ثم حكايته وتبليغه ، ثم بيانه وتفسيره ، ثم تطبيقه وتنفيذه . نقرأ في القرآن نفسه أنه ليس من إنشاء جبريل ولا محمد نحو { وإنك لتلقي القرآن من لدن حكيم عليم } ونحو { وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها . قل أتبع ما يوحى إلى من ربي } . ونحو { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله . قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلى إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم }. ونحو { ولو تقول علينا بعض الأقاويل . لأخذنا منه باليمين . ثم لقطعنا منه الوتين . فما منكم من أحد عنه حاجزين } .
ثم إن ما ذكرناه هو تحقيق ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن ، وإن كان قد نزل عليه أيضا غير القرآن ؛ نقل السيوطي عن الجويني أنه قال : "كلام الله المنزل قسمان : (قسم) قال الله لجبريل : قل للنبي الذي أنت مرسل إليه : إن الله يقول افعل كذا وكذا ، وأمر بكذا وكذا ففهم جبريل ما قاله ربه ثم نزل على ذلك النبي ، وقال له ما قاله ربه . ولم تكن العبارة تلك العبارة ، كما يقول الملك لمن يثق به : قل لفلان يقول لك الملك : اجتهد في الخدمة واجمع جندك للقتال، فإن قال الرسول : يقول لك الملك : لا تتهاون في خدمتي ، ولا تترك الجند يتفرق، وحثهم على المقاتلة ، لا ينسب إلى كذب ولا تقصير في أداء الرسالة. (وقسم آخر ) قال الله لجبريل : اقرأ على النبي هذا الكتاب فنزل به جبريل من الله من غير تغيير ، كما يكتب المكل كتابا ويسلمه إلى أمين ، ويقول اقرأه على فلان، فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفا" اهـ .
قال السيوطي بعد ذلك : قلت : "القرآن هو القسم الثاني والقسم الأول هو السنة ، كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن ، ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى؛ لأن جبريل أداها بالمعنى . ولم تجز القراءة بالمعنى لأن جبريل أدى القرآن باللفظ ، ولم يبح له أداؤه بالمعنى . والسر في ذلك أن المقصود منه التعبد بلفظه والإعجاز به ، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ مقامه، وأن تحت كل حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه. والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزل إليهم على قسمين : قسم يروونه بلفظ الموحى به وقسم يروونه بالمعنى . ولو جعل كله مما يروى باللفظ لشق، أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف فتأمل" اهـ .
أقول : وهذا كلام نفيس ، بيد أنه لا دليل أمامنا على أن جبريل كان يتصرف في الألفاظ الموحاة إليه في غير القرآن . وما ذكره الجويني فهو احتمال عقلي لا يكفي في هذا الباب. ثم إن هذا التقسيم خلا من قسيم ثالث للكتاب والسنة، وهو الحديث القدسي الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم حاكيا عن الله تعالى ، فهو كلام الله تعالى أيضا ، غير أنه ليست فيه خصائص القرآن التي امتاز بها عن كل ما سواه . ولله تعالى حكمة في أن يجعل من كلامه المنزل معجزا وغير معجز، لمثل ما سبق في حكمة التقسيم الآنف، من إقامة حجة للرسول ولدين الحق بكلام الله المعجز، ومن التخفيف على الأمة بغير المعجز، لأنه تصح روايته بالمعنى، وقراءة الجنب وحمله له ومسه إياه ، إلى غير ذلك .
وصفوة القول في هذا المقام أن القرآن أوحيت ألفاظه من الله اتفاقا، وأن الحديث القدسي أوحيت ألفاظه من الله على المشهور، والحديث النبوي أوحيت معانيه في غير ما اجتهد فيه الرسول والألفاظ من الرسول صلى الله عليه وسلم بيد أن القرآن له خصائصه من الإعجاز والتعبد به ووجوب المحافظة على أدائه بلفظه ونحو ذلك، وليس للحديث القدسي والنبوي شئ من هذه الخصائص. والحكمة في هذا التفريق أن الإعجاز منوط بألفاظ القرآن ، فلو أبيح أداؤه بالمعنى لذهب إعجازه، وكان مظنة للتغيير والتبديل، واختلاف الناس في أصل التشريع والتنزيل. أما الحديث القدسي والحديث النبوي فليست ألفاظهما مناط إعجاز، ولهذا أباح الله روايتهما بالمعنى ، ولم يمنحهما تلك الخصائص والقداسة الممتازة التي منحها القرآن الكريم ، تخفيفا على الأمة، ورعاية لمصالح الخلق في الحالين من منح ومنع { إن الله بالناس لرءوف رحيم } .
فالله ـ جلت حكمته ـ هو الذي أبرز ألفاظ القرآن وكلماته مرتبة على وفق ترتيب كلماته النفسية لأجل التفهيم والتفهم، كما تبرز نحن كلامنا اللفظي على وفق كلامنا النفسي لأجل التفهيم والتفهم، ولا ينسب الكلام بحال إلا من رتبه في نفسه أولا، دون من انتصر على حكايته وقراءته، ولذلك لا يجوز إضافة القرآن على سبيل الإنشاء إلى جبريل أو محمد، ولا لغير جبريل ومحمد، كما لا يجوز نسبة كلام أنشأه شخص ورتبه في نفسه أولا إلى شخص آخر حكاه وقرأه حين اطلع عليه أو سمعه .
وقد أسف بعض الناس فزعم أن جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بمعاني القرآن ، والرسول يعبر عنها بلغة العرب. وزعم آخرون أن اللفظ لجبريل وأن الله كان يوحي إليه المعنى فقط ، وكلاهما قول باطل أثيم ، مصادم لصريح الكتاب والسنة والإجماع، ولا يساوي قيمة المداد الذي يكتب به . وعقيدتي أنه مدسوس على المسلمين في كتبهم . وإلا فكيف ، يكون القرآن حينئذ معجزا واللفظ لمحمد أو لجبريل ؟ ثم كيف تصح نسبته إلى الله واللفظ ليس لله ؟ مع أن الله يقول : { حتى يسمع كلام الله } ، إلى غير ذلك مما يطول بنا تفصيله .
والحق أنه ليس لجبريل في هذا القرآن سوى حكايته للرسول وإيحائه إليه ، وليس للرسول صلى الله عليه وسلم في هذا القرآن سوى وعيه وحفظه، ثم حكايته وتبليغه ، ثم بيانه وتفسيره ، ثم تطبيقه وتنفيذه . نقرأ في القرآن نفسه أنه ليس من إنشاء جبريل ولا محمد نحو { وإنك لتلقي القرآن من لدن حكيم عليم } ونحو { وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها . قل أتبع ما يوحى إلى من ربي } . ونحو { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله . قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلى إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم }. ونحو { ولو تقول علينا بعض الأقاويل . لأخذنا منه باليمين . ثم لقطعنا منه الوتين . فما منكم من أحد عنه حاجزين } .
ثم إن ما ذكرناه هو تحقيق ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن ، وإن كان قد نزل عليه أيضا غير القرآن ؛ نقل السيوطي عن الجويني أنه قال : "كلام الله المنزل قسمان : (قسم) قال الله لجبريل : قل للنبي الذي أنت مرسل إليه : إن الله يقول افعل كذا وكذا ، وأمر بكذا وكذا ففهم جبريل ما قاله ربه ثم نزل على ذلك النبي ، وقال له ما قاله ربه . ولم تكن العبارة تلك العبارة ، كما يقول الملك لمن يثق به : قل لفلان يقول لك الملك : اجتهد في الخدمة واجمع جندك للقتال، فإن قال الرسول : يقول لك الملك : لا تتهاون في خدمتي ، ولا تترك الجند يتفرق، وحثهم على المقاتلة ، لا ينسب إلى كذب ولا تقصير في أداء الرسالة. (وقسم آخر ) قال الله لجبريل : اقرأ على النبي هذا الكتاب فنزل به جبريل من الله من غير تغيير ، كما يكتب المكل كتابا ويسلمه إلى أمين ، ويقول اقرأه على فلان، فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفا" اهـ .
قال السيوطي بعد ذلك : قلت : "القرآن هو القسم الثاني والقسم الأول هو السنة ، كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن ، ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى؛ لأن جبريل أداها بالمعنى . ولم تجز القراءة بالمعنى لأن جبريل أدى القرآن باللفظ ، ولم يبح له أداؤه بالمعنى . والسر في ذلك أن المقصود منه التعبد بلفظه والإعجاز به ، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ مقامه، وأن تحت كل حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه. والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزل إليهم على قسمين : قسم يروونه بلفظ الموحى به وقسم يروونه بالمعنى . ولو جعل كله مما يروى باللفظ لشق، أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف فتأمل" اهـ .
أقول : وهذا كلام نفيس ، بيد أنه لا دليل أمامنا على أن جبريل كان يتصرف في الألفاظ الموحاة إليه في غير القرآن . وما ذكره الجويني فهو احتمال عقلي لا يكفي في هذا الباب. ثم إن هذا التقسيم خلا من قسيم ثالث للكتاب والسنة، وهو الحديث القدسي الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم حاكيا عن الله تعالى ، فهو كلام الله تعالى أيضا ، غير أنه ليست فيه خصائص القرآن التي امتاز بها عن كل ما سواه . ولله تعالى حكمة في أن يجعل من كلامه المنزل معجزا وغير معجز، لمثل ما سبق في حكمة التقسيم الآنف، من إقامة حجة للرسول ولدين الحق بكلام الله المعجز، ومن التخفيف على الأمة بغير المعجز، لأنه تصح روايته بالمعنى، وقراءة الجنب وحمله له ومسه إياه ، إلى غير ذلك .
وصفوة القول في هذا المقام أن القرآن أوحيت ألفاظه من الله اتفاقا، وأن الحديث القدسي أوحيت ألفاظه من الله على المشهور، والحديث النبوي أوحيت معانيه في غير ما اجتهد فيه الرسول والألفاظ من الرسول صلى الله عليه وسلم بيد أن القرآن له خصائصه من الإعجاز والتعبد به ووجوب المحافظة على أدائه بلفظه ونحو ذلك، وليس للحديث القدسي والنبوي شئ من هذه الخصائص. والحكمة في هذا التفريق أن الإعجاز منوط بألفاظ القرآن ، فلو أبيح أداؤه بالمعنى لذهب إعجازه، وكان مظنة للتغيير والتبديل، واختلاف الناس في أصل التشريع والتنزيل. أما الحديث القدسي والحديث النبوي فليست ألفاظهما مناط إعجاز، ولهذا أباح الله روايتهما بالمعنى ، ولم يمنحهما تلك الخصائص والقداسة الممتازة التي منحها القرآن الكريم ، تخفيفا على الأمة، ورعاية لمصالح الخلق في الحالين من منح ومنع { إن الله بالناس لرءوف رحيم } .
مدة هذا النزول
وابتدأ هذا الإنزال من مبعثه عليه الصلاة والسلام ، وانتهى بقرب انتهاء حياته الشريفة ، وتقدر هذه المدة بعشرين أو ثلاثة وعشرين أو خمسة وعشرين عاما، تبعا للخلاف في مدة إقامته صلى الله عليه وسلم في مكة بعد البعثة، أكانت عشر سنين أم ثلاث عشرة أم خمس عشرة سنة . أما مدة إقامته بالمدينة فعشر سنين إتفاقا . كذلك قال السيوطي .
ولكن بعض محققي تاريخ التشريع الإسلامي يذكر أن مدة مقامه صلى الله عليه وسلم بمكة اثنتا عشرة سنة وخمسة عشر يوما من 17 رمضان سنة 41 من مولده الشريف إلى أول ربيع الأول سنة 54 منه . أما مدة إقامته في المدينة بعد الهجرة فهي تسع سنوات وتسعة أشهر وتسعة أيام من أول ربيع الأول سنة 54 من مولده إلى تاسع ذي الحجة سنة 63منه . ويوافق ذلك سنة عشر من الهجرة. وهذا التحقيق قريب من القول بأن مدة إقامته صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة وفي المدينة عشر سنين، وأن مدة الوحي بالقرآن ثلاثة وعشرون عاما.
لكن هذا التحقيق لا يزال في حاجة إلى تحقيقات ثلاثة ؛ ذلك لأنه أهمل من حسابه باكورة الوحي إليه صلى الله عليه وسلم عن طريق الرؤيا الصادقة ستة أشهر، على حين أنها ثابتة في الصحيح . ثم جرى فيه على أن ابتداء نزول القرآن كان ليلة السابع عشر من رمضان وهي ليلة القدر على بعض الآراء، غير أنه يخالف المشهور الذي يؤيده الصحيح ثم ذهب فيه مذهب القائلين بأن آخر ما نزل من القرآن هو آية { اليوم أكملت لكم دينكم } وذلك في تاسع ذي الحجة سنة عشر من الهجرة ، وسترى في مبحث آخر ما نزل من القرآن أن هذا المذهب غير صحيح.
ولكن بعض محققي تاريخ التشريع الإسلامي يذكر أن مدة مقامه صلى الله عليه وسلم بمكة اثنتا عشرة سنة وخمسة عشر يوما من 17 رمضان سنة 41 من مولده الشريف إلى أول ربيع الأول سنة 54 منه . أما مدة إقامته في المدينة بعد الهجرة فهي تسع سنوات وتسعة أشهر وتسعة أيام من أول ربيع الأول سنة 54 من مولده إلى تاسع ذي الحجة سنة 63منه . ويوافق ذلك سنة عشر من الهجرة. وهذا التحقيق قريب من القول بأن مدة إقامته صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة وفي المدينة عشر سنين، وأن مدة الوحي بالقرآن ثلاثة وعشرون عاما.
لكن هذا التحقيق لا يزال في حاجة إلى تحقيقات ثلاثة ؛ ذلك لأنه أهمل من حسابه باكورة الوحي إليه صلى الله عليه وسلم عن طريق الرؤيا الصادقة ستة أشهر، على حين أنها ثابتة في الصحيح . ثم جرى فيه على أن ابتداء نزول القرآن كان ليلة السابع عشر من رمضان وهي ليلة القدر على بعض الآراء، غير أنه يخالف المشهور الذي يؤيده الصحيح ثم ذهب فيه مذهب القائلين بأن آخر ما نزل من القرآن هو آية { اليوم أكملت لكم دينكم } وذلك في تاسع ذي الحجة سنة عشر من الهجرة ، وسترى في مبحث آخر ما نزل من القرآن أن هذا المذهب غير صحيح.
دليل تنجيم هذا النزول
والدليل على تفرق هذا النزول وتنجيمه ، قول الله تعالت حكمته ـ في سورة الإسراء : { وقرآنا فرقناه لتقرآه على الناس على مكث ، ونزلناه تنزيلا } وقوله في سورة الفرقان : { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة . كذلك لنثبت به فؤادك ، ورتلناه ترتيلا .
ولا يأتونك بمثل إلا جئنا بالحق وأحسن تفسيرا} روى أن الكفار من يهود ومشركين عابوا على النبي صلى الله عليه وسلم نزول القرآن مفرقا ، واقترحوا عليه أن ينزل جملة ، فأنزل الله هاتين الآيتين ردا عليهم، وهذا الرد يدل على أمرين :
أحدهما : أن القرآن نزل مفرقا على النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني: أن الكتب السماوية من قبله نزلت جملة، كما اشتهر ذلك بين جمهور العلماء حتى كاد يكون إجماعا.
ووجه الدلالة على هذين الأمرين ، أن الله تعالى لم يكذبهم فيما ادعوه من نزول الكتب السماوية جملة، بل أجابهم ببيان الحكمة في نزول القرآن مفرقا، ولو كان نزول الكتب السماوية مفرقا كالقرآن لرد عليهم بالتكذيب، وبإعلان أن التنجيم هو سنة الله فيما أنزل على الأنبياء من قبل، كما رد عليهم بقوله : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} .
حين طعنوا على الرسول وقالوا : { ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } ؟ . اهـ من سورة الفرقان .
ولا يأتونك بمثل إلا جئنا بالحق وأحسن تفسيرا} روى أن الكفار من يهود ومشركين عابوا على النبي صلى الله عليه وسلم نزول القرآن مفرقا ، واقترحوا عليه أن ينزل جملة ، فأنزل الله هاتين الآيتين ردا عليهم، وهذا الرد يدل على أمرين :
أحدهما : أن القرآن نزل مفرقا على النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني: أن الكتب السماوية من قبله نزلت جملة، كما اشتهر ذلك بين جمهور العلماء حتى كاد يكون إجماعا.
ووجه الدلالة على هذين الأمرين ، أن الله تعالى لم يكذبهم فيما ادعوه من نزول الكتب السماوية جملة، بل أجابهم ببيان الحكمة في نزول القرآن مفرقا، ولو كان نزول الكتب السماوية مفرقا كالقرآن لرد عليهم بالتكذيب، وبإعلان أن التنجيم هو سنة الله فيما أنزل على الأنبياء من قبل، كما رد عليهم بقوله : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} .
حين طعنوا على الرسول وقالوا : { ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } ؟ . اهـ من سورة الفرقان .
لتنجيم نزول القرآن الكريم أسرار عدة وحكم كثيرة، نستطيع أن نجملها في أربع حكم رئيسية : ـ
الحكمة الأولى
تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ، وتقويه قلبه، وذلك من وجوه خمسة :
الوجه الأول : أن في تجدد الوحي، وتكرار نزول الملك به من جانب الحق إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، سرورا يملأ قلب الرسول ، وغبطة تشرح صدره، وكلاهما يتجدد عليه بسبب ما يشعر به من هذه العناية الإلهية، وتعهد مولاه إياه في كل نوبة من نوبات هذا النزول.
الوجه الثاني : أن في التنجيم تيسيرا عليه من الله في حفظه وفهمه، ومعرفة أحكامه وحكمه، وذلك مطمئن له على وعي ما يوحى إليه حفظا وفهما وأحكاما وحكما، كما أن فيه تقوية لنفسه الشريفة على ضبط ذلك كله .
الوجه الثالث : أن في كل نوبة من نوبات هذا النزول المنجم معجزة جديدة غالبا حيث تحداهم كل مرة أن يأتوا بمثل نوبة من نوب التنزيل، فظهر عجزهم عن المعارضة، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ولا شك أن المعجزة تشد أزره وترهف عزمه، باعتبارها مؤيدة له ولحزبه. خاذلة لأعدائه ولخصمه.
الوجه الرابع : أن في تأييد حقه ودحض باطل عدوه ـ المرة بعد الأخرى ـ تكرارا للذة فوزه وفلجه بالحق والصواب، وشهوده لضحايا الباطل في كل مهبط للوحي والكتاب. وإن كل ذلك إلا مشجع للنفس مقو للقلب والفؤاد ، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله ، هو الفرق بين الشئ وأثره، أو الملزوم ولازمه ، فالمعجزة من حيث إنها قوة للرسول ومؤيدة له مطمئنة له ومثبتة لفؤاده ، بقطع النظر عن أثر انتصاره وهزيمة خصمه بها . ثم إن هذا الأثر العظيم وحده مطمئن لقلبه الكريم ومثبت لفؤاده أيضا ، أشبه شئ بالسلاح: وجوده في يد الإنسان مطمئن له ولو لم يستعمله في خصمه ثم انتصار الإنسان وهزيمة خصمه به إذا أعمل فيه مطمئن للفؤاد مريح للقلب مرة أخرى .
الوجه الخامس : تعهد الله إياه عند اشتداد الخصام بينه وبين أعدائه بما يهون عليه هذه الشدائد ، ولا ريب أن تلك الشدائد كانت تحدث في أوقات متعددة، فلا جرم كانت التسلية تحدث هي الأخرى في مرات متكافئة . فكلما أحرجه خصمه، سلاه ربه . وتجئ تلك التسلية تارة عن طريق قصص الأنبياء والمرسلين، التي لها في القرآن عرض طويل، وفيها يقول الله : { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } من سورة هود . وتارة تجئ التسلية عن طريق وعد الله لرسوله بالنصر والتأييد والحفظ ، كما في قوله سبحانه في سورة الطور : { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } وقوله في سورة المائدة { والله يعصمك من الناس } ونحو ما في سورتي الضحى وألم نشرح من الوعود الكريمة ، والعطايا العظيمة. وطورا تأتيه التسلية عن طريق إبعاد أعدائه وإنذارهم نحو قوله تعالى في سورة القمر: {سيهزم الجمع ويولون الدبر } وقوله سبحانه في سورة فصلت : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } . وطورا آخر ترد التسلية في صورة الأمر الصريح بالصبر نحو قوله جل شأنه في سورة الأحقاف : { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } أو في صورة النهي عن التفجع عليهم ؛ والحزن منهم. نحو قول الله في سورة فاطر { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون } ونحو قوله سبحانه في خواتم سورة النحل : { واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون } .
ومن موارد تسلية الله لرسوله أن يخوفه عواقب حزنه من كفر أعدائه نحو : { ولعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين } في فاتحة سورة الشعراء . ومنها أن يؤيسه منهم ليستريح ويتسلى عنهم نحو : { وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية . ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين . إنما يستجيب الذين يسمعون . والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون } من سورة الأنعام .
ويمكن أن تندرج هذه الحكمة بوجوهها الخمسة تحت قول الله في بيان الحكمة من تنجيم القرآن { كذلك لنثبت به فؤادك } من سورة الفرقان .
الحكمة الثانية
ـ
التدرج في تربية هذه الأمة الناشئة علما وعملا، وينضوي تحت هذا الإجمال أمور خمسة أيضا :
أولها : تيسير حفظ القرآن على الأمة العربية ، وهي كما علمت كانت أمة أمية. وأدوات الكتابة لم تكن ميسورة لدى الكاتبين منهم على ندرتهم، وكانت مشتغلة بمصالحها المماشية ، وبالدفاع عن دينها الجديد بالحديد والدم، فلو نزل القرآن جملة واحدة لعجزوا عن حفظه ، فاقتضت الحكمة العليا أن ينزله الله إليهم مفرقا ليسهل عليهم حفظه ، ويتهيأ لهم استظهاره.
ثانيا : تسهيل فهمه عليهم كذلك ، مثل ما سبق في توجيه التيسير في حفظه.
ثالثها : التمهيد لكمال تخليهم عن عقائدهم الباطلة ، وعباداتهم الفاسدة، وعاداتهم المرذولة. وذلك بأن يراضوا على هذا التخلي شيئا فشيئا ، بسبب نزول القرآن عليهم كذلك شيئا فشيئا ، فكلما نجح الإسلام معهم في هدم الباطل، انتقل بهم إلى هدم آخر ، وهكذا يبدأ بالأهم ثم بالمهم ، حتى انتهى بهم آخر الأمر عن تلك الأرجاس كلها فطهرهم منها وهم لا يشعرون بعنت ولا حرج، وفطمهم عنها دون أن يرتكسوا في سابق فتنة أو عادة. وكانت هذه سياسة رشيدة ، لابد منها في تربية هذه الأمة المجيدة، لا سيما أنها كانت أبية معاندة ، تتحمس لموروثاتها، وتستميت في الدفاع عما تعتقده من شرفها؛ وتتهور في سفك الدماء وشن الغارات ، لأتفه الأسباب .
رابعها : التمهيد لكمال تحليهم بالعقائد الحقة، والعبادات الصحيحة. والأخلاق الفاضلة، بمثل تلك السياسة الرشيدة السابقة. ولهذا بدأ الإسلام بفطامهم عن الشرك والإباحة ، وإحياء قلوبهم بعقائد التوحيد والجزاء، من جراء ما فتح عيونهم عليه من أدلة التوحيد، وبراهين البعث بعد الموت، وحجج الحساب والمسئولية والجزاء. ثم انتقل بهم بعد هذه المرحلة إلى العبادات فبدأهم بفرضية الصلاة قبل الهجرة ، وثنى بالزكاة وبالصوم في السنة الثانية من الهجرة، وختم بالحج في السنة السادسة منها . وكذلك كان الشأن في العادات : زجرهم عن الكبائر وشدد النكير عليهم فيها ، ثم نهاهم عن الصغائر في شئ من الرفق ، وتدرج بهم في تجريم ما كان مستأصلا فيهم كالخمر .. تدرجا حكيما حقق الغاية ، وأنقذهم من كابوسها في النهاية. وكان الإسلام في انتهاج هذه الخطة المثلى أبعد نظرا ، وأهدى سبيلا، وأنجح تشريعا، وأنجع سياسة ، من تلكم الأمم المتمدينة المتحضرة التي أفلست في تحريم الخمر على شعوبها أفظع إفلاس ، وفشلت أمر فشل. وما عهد أمريكا في مهزلة تحريمها الخمر ببعيد !
أليس ذلك إعجازا للإسلام في سياسة الشعوب، وتهذيب الجماعات ، وتربية الأمم ؟ بلى ، والتاريخ على ذلك من الشاهدين !!
خامسها : تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين، بسبب ما كان يقصه القرآن عليهم الفينة بعد الفينة والحين بعد الحين، من قصص الأنبياء والمرسلين وما كان لهم ولأتباعهم مع الأعداء والمخالفين ، وما وعد الله به عباده الصالحين، من النصر والأجر والتأييد والتمكين . والآيات في ذلك كثيرة حسبك منها قول العلي الكبير في سورة النور : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } . وقد صدق الله وعده ونصر عبده وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده { فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } .
ويمكن أن تندرج هذه الحكمة الثانية بما انضوى تحتها في قول الله تعالى في سورة الإسراء { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث } كما يمكن أن يفسر بها قوله تعالى في سورة الفرقان في بيان أسرار التنجيم { ورتلناه ترتيلا} باعتبار أن التنوين للتعظيم إشارة إلى المعاني المنطوية تحت هذا الترتيل.
الحكمة الثالثة
ـ
مسايرة الحوادث والطوارئ في تجددها وتفرقها ، فكلما جد منهم جديد ، نزل من القرآن ما يناسبه ، وفضل الله لهم من أحكامه ما يوافقه . وتنتظم هذه الحكمة أمورا أربعة : ـ
أولها : إجابة السائلين على أسئلتهم عند ما يوجهونها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم . سواء أكانت تلك الأسئلة لغرض التثبت من رسالته. كما قال الله تعالى في جواب سؤال أعدائه إياه : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } في سورة الإسراء ، وقوله : { ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا } الخ الآيات في هذا الموضوع من سورة الكهف. أم كانت لغرض التنور ومعرفة حكم الله كقوله تعالى في سورة البقرة : {ويسألونك ماذا ينفقون ؟ قل العفو } . { ويسألونك عن اليتامى ؟ قل : إصلاح لهم خير . وإن تخالطوهم فإخوانكم } .
ولا ريب أن تلك الأسئلة كانت ترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة ، وعلى نوبات متعددة، حاكية أنهم سألوا ولا يزالون يسألون . فلا بدع أن ينزل الجواب عليها كذلك في أوقاتها المختلفة ، ونوباتها المتعددة .
ثانيها : مجاراة الأقضية والوقائع في حينها ببيان حكم الله فيها عند حدوثها ووقوعها، ومعلوم أن تلك الأقضية والوقائع لم تقع جملة ، بل وقعت تفصيلا وتدريجا، فلا مناص إذن من فصل الله فيها بنزول القرآن على طبقها تفصيلا وتدريجا . والأمثلة على هذا كثيرة، منها قوله سبحانه في سورة النور : { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم } إلى قوله سبحانه { أولئك مبرأون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم } وهن عشر آيات نزلن في أروع الحوادث : هو اتهام السيدة الجليلة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالإفك . وفيها دروس اجتماعية لا تزال تقرأ على الناس كما لا تزال تسجل براءة هذه الحصان الطاهرة من فوق سبع سموات.
ومن الأمثلة قوله تعالى في مفتتح سورة المجادلة : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما ، إن الله سميع بصير } إلى قوله تعالى : { وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم } . وهن ثلاث آيات نزلن عند ما رفعت خولة بنت ثعلبة شكواها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن زوجها أوس بن الصامت ظاهر منها ، وجادلت الرسول بأن معها صبية صغارا إن ضمتهم إلى زوجها ضاعوا ، وإن ضمتهم إليها جاعوا .
ثالثها : لفت أنظار المسلمين إلى تصحيح أغلاطهم التي يخطئون فيها، وإرشادهم إلى شاكلة الصواب في الوقت نفسه . ولا ريب أن تلك الأغلاط كانت في أزمان متفرقة ، فمن الحكمة أن يكون القرآن النازل في إصلاحها ، متكافئا معها في زمانها . اقرأ إن شئت قوله سبحانه في سورة آل عمران : { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } إلى آيات كثيرة بعدها ، وكلها نزلت في غزوة أحد إرشادا للمسلمين إلى مواضع أخطائهم في هذا الموقف الرهيب والمأزق العصيب. وكذلك اقرأ قوله سبحانه في سورة التوبة : { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين : ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم } وهي آيات تردع المؤمنين عن رذيلة الإعجاب والاغترار في يوم من أيام الله ، وتلفت نظرهم إلى مقدار تدارك الله لهم في شدتهم، وإلى وجوب أن يثوبوا إلى رشدهم، ويتوبوا إلى ربهم .
رابعها : كشف حال أعداء الله المنافقين ، وعتك أستارهم وسرائرهم للنبي والمسلمين ، كيما يأخذوا منهم حذرهم فيأمنوا شرهم . حتى يتوب من شاء منهم ، اقرأ ـ إن شئت ـ قوله تعالى في سورة البقرة : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } إلى قوله : { والله على كل شئ قدير } وهن ثلاث عشرة آية فضحت المنافقين ، كما فضحتهم سورة التوبة في كثير من الآيات، وكما كشف القرآن أستارهم في كثير من المناسبات. ويمكن أن تندرج هذه الحكمة الثالثة بمضامينها الأربعة في قول الله تعالى في تلك الآية من سورة الفرقان : { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } .
الحكمة الرابعة
ـ
الإرشاد إلى مصدر القرآن ، وأنه كلام الله وحده، وأنه لا يمكن أن يكون كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا كلام مخلوق سواه .
وبيان ذلك : أن القرآن الكريم تقرؤه من أوله إلى آخره ، فإذا هو محكم السرد، دقيق السبك، متين الأسلوب، قوي الاتصال، آخذ بعضه برقاب بعض في سوره وآياته وجمله ، يجري دم الإعجاز فيه كله من ألفه إلى يائه كأنه سبيكة واحدة، ولا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك ولا تخاذل كأنه حلقة مفرغة ! أو كأنه سمط وحيد وعقد فريد يأخذ بالأبصار : نظمت حروفه وكلماته ، ونسقت جمله وآياته، وجاء آخره مساوفا لأوله، وبدا أوله مواتيا لآخره !! .
وهنا نتساءل : كيف اتسق للقرآن هذا التألف المعجز ؟ وكيف استقام له هذا التناسق المدهش ؟ على حين أنه يتنزل جملة واحدة بل تنزل آحادا مفرقة تفرق الوقائع والحوادث في أكثر من عشرين عاما !! .
الجواب : أننا نلمح هنا سرا جديدا من أسرار الإعجاز، ونشهد سمة فذة من سمات الربوبية ، ونقرأ دليلا ساطعا على مصدر القرآن ، وأنه كلام الواحد الديان {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }.
وإلا فحدثني ـ بربك ـ كيف تستطيع أنت ؟ أم كيف يستطيع الخلق جميعا أن يأتوا بكتاب محكم الاتصال والترابط ، متين النسج والسرد، متآلف البدايات والنهايات، مع خضوعه في التألف لعوامل خارجة عن مقدور البشر، وهي وقائع الزمن وأحداثه التي يجئ كل جزء من أجزاء هذا الكتاب تبعا لها ، ومتحدثا عنها : سببا بعد بب ، وداعية إثر داعية ، مع اختلاف ما بين هذه الدواعي، وتغاير ما بين تلك الأسباب ، ومع تراخي زمان هذا التألف ، وتطاول آماد هذه النجوم، إلى أكثر من عشرين عاما .
لا ريب أن هذا الانفصال الزماني ، وذاك الاختلاف الملحوظ بين هاتيك الدواعي ، يستلزمان في مجرى العادة التفكك والانحلال ، ولا يدعان مجالا للارتباط والاتصال بين نجوم هذا الكلام .
أما القرآن الكريم فقد خرق العادة في هذه الناحية أيضا . نزل مفرقا منجما ، ولكنه تم مترابطا محكما . وتفرقت نجومه تفرق الأسباب ، ولكن اجتمع نظمه اجتماع شمل الأحباب ، ولم يتكامل نزوله إلا بعد عشرين عاما ، ولكن تكامل انسجامه بداية وختاما !!
أليس ذلك برهانا ساطعا على أنه كلام خالق القوى والقدر، ومالك الأسباب والمسببات ، ومدبر الخلق والكائنات ، وقيوم الأرض والسموات ، العليم بما كان وما سيكون ، الخبير بالزمان وما يحدث فيه من شئون ؟ ؟
لاحظ فوق ما أسلفنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه آية أو آيات ، قال " ضعوها في مكان كذا من سورة كذا " وهو بشر لا يدري (طبعا) ما ستجئ به الأيام ، ولا يعلم ما سيكون في مستقبل الزمان ، ولا يدرك ما سيحدث من الدواعي والأحداث فضلا عما سينزل من الله فيها . وهكذا يمضي العمر الطويل والرسول على هذا العهد، يأتيه الوحي بالقرآن نجما بعد نجم، وإذا القرآن كله بعد هذا العمر الطويل يكمل ويتم ، وينتظم ويتآخى ويأتلف ويلتئم ، ولا يؤخذ عليه أدنى تخاذل ولا تفاوت ، بل يعجز الخلق طرا بما فيه من انسجام ووحدة وترابط : { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } !!
وإنه ليستبين سر هذا الإعجاز ، إذا ما علمت أن محاولة مثل هذا الاتساق والانسجام لن يمكن أن يأتي على هذا النمط الذي نزل به القرآن ولا على قريب من هذا النمط ، لا في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كلام غيره من البلغاء وغير البلغاء .
خذ مثلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ما هو في روعته وبلاغته، وطهره وسموه : لقد قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في مناسبات مختلفة ، لدواع متباينة ، في أزمان متطاولة فهل في مكنتك ومكنة ابشر معك ، أن ينظموا من هذا السرد الشتيت وحده، كتابا واحدا يصقله الاسترسال والوحدة، من غير أن ينقصوا منه أو يتزيدوا عليه أو يتصرفوا فيه ؟ ؟ .
ذلك ما لن يكون ، ولا يمكن أن يكون ، ومن حاول ذلك فإنما يحاول العبث ويخرج للناس بثوب مرقع ، وكلام ملفقم ينقصه الترابط والانسجام وتعوزه الوحدة والاسترسال وتمجه الأسماع والأفهام .
إذن : فالقرآن الكريم ينطق نزوله منجما بأنه كلام الله وحده . وتلك حكمة جليلة الشأن ، تدل الخلق على الحق في مصدر القرآن ! : { قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما }
الحكمة الأولى
تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ، وتقويه قلبه، وذلك من وجوه خمسة :
الوجه الأول : أن في تجدد الوحي، وتكرار نزول الملك به من جانب الحق إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، سرورا يملأ قلب الرسول ، وغبطة تشرح صدره، وكلاهما يتجدد عليه بسبب ما يشعر به من هذه العناية الإلهية، وتعهد مولاه إياه في كل نوبة من نوبات هذا النزول.
الوجه الثاني : أن في التنجيم تيسيرا عليه من الله في حفظه وفهمه، ومعرفة أحكامه وحكمه، وذلك مطمئن له على وعي ما يوحى إليه حفظا وفهما وأحكاما وحكما، كما أن فيه تقوية لنفسه الشريفة على ضبط ذلك كله .
الوجه الثالث : أن في كل نوبة من نوبات هذا النزول المنجم معجزة جديدة غالبا حيث تحداهم كل مرة أن يأتوا بمثل نوبة من نوب التنزيل، فظهر عجزهم عن المعارضة، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ولا شك أن المعجزة تشد أزره وترهف عزمه، باعتبارها مؤيدة له ولحزبه. خاذلة لأعدائه ولخصمه.
الوجه الرابع : أن في تأييد حقه ودحض باطل عدوه ـ المرة بعد الأخرى ـ تكرارا للذة فوزه وفلجه بالحق والصواب، وشهوده لضحايا الباطل في كل مهبط للوحي والكتاب. وإن كل ذلك إلا مشجع للنفس مقو للقلب والفؤاد ، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله ، هو الفرق بين الشئ وأثره، أو الملزوم ولازمه ، فالمعجزة من حيث إنها قوة للرسول ومؤيدة له مطمئنة له ومثبتة لفؤاده ، بقطع النظر عن أثر انتصاره وهزيمة خصمه بها . ثم إن هذا الأثر العظيم وحده مطمئن لقلبه الكريم ومثبت لفؤاده أيضا ، أشبه شئ بالسلاح: وجوده في يد الإنسان مطمئن له ولو لم يستعمله في خصمه ثم انتصار الإنسان وهزيمة خصمه به إذا أعمل فيه مطمئن للفؤاد مريح للقلب مرة أخرى .
الوجه الخامس : تعهد الله إياه عند اشتداد الخصام بينه وبين أعدائه بما يهون عليه هذه الشدائد ، ولا ريب أن تلك الشدائد كانت تحدث في أوقات متعددة، فلا جرم كانت التسلية تحدث هي الأخرى في مرات متكافئة . فكلما أحرجه خصمه، سلاه ربه . وتجئ تلك التسلية تارة عن طريق قصص الأنبياء والمرسلين، التي لها في القرآن عرض طويل، وفيها يقول الله : { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } من سورة هود . وتارة تجئ التسلية عن طريق وعد الله لرسوله بالنصر والتأييد والحفظ ، كما في قوله سبحانه في سورة الطور : { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } وقوله في سورة المائدة { والله يعصمك من الناس } ونحو ما في سورتي الضحى وألم نشرح من الوعود الكريمة ، والعطايا العظيمة. وطورا تأتيه التسلية عن طريق إبعاد أعدائه وإنذارهم نحو قوله تعالى في سورة القمر: {سيهزم الجمع ويولون الدبر } وقوله سبحانه في سورة فصلت : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } . وطورا آخر ترد التسلية في صورة الأمر الصريح بالصبر نحو قوله جل شأنه في سورة الأحقاف : { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } أو في صورة النهي عن التفجع عليهم ؛ والحزن منهم. نحو قول الله في سورة فاطر { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون } ونحو قوله سبحانه في خواتم سورة النحل : { واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون } .
ومن موارد تسلية الله لرسوله أن يخوفه عواقب حزنه من كفر أعدائه نحو : { ولعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين } في فاتحة سورة الشعراء . ومنها أن يؤيسه منهم ليستريح ويتسلى عنهم نحو : { وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية . ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين . إنما يستجيب الذين يسمعون . والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون } من سورة الأنعام .
ويمكن أن تندرج هذه الحكمة بوجوهها الخمسة تحت قول الله في بيان الحكمة من تنجيم القرآن { كذلك لنثبت به فؤادك } من سورة الفرقان .
الحكمة الثانية
ـ
التدرج في تربية هذه الأمة الناشئة علما وعملا، وينضوي تحت هذا الإجمال أمور خمسة أيضا :
أولها : تيسير حفظ القرآن على الأمة العربية ، وهي كما علمت كانت أمة أمية. وأدوات الكتابة لم تكن ميسورة لدى الكاتبين منهم على ندرتهم، وكانت مشتغلة بمصالحها المماشية ، وبالدفاع عن دينها الجديد بالحديد والدم، فلو نزل القرآن جملة واحدة لعجزوا عن حفظه ، فاقتضت الحكمة العليا أن ينزله الله إليهم مفرقا ليسهل عليهم حفظه ، ويتهيأ لهم استظهاره.
ثانيا : تسهيل فهمه عليهم كذلك ، مثل ما سبق في توجيه التيسير في حفظه.
ثالثها : التمهيد لكمال تخليهم عن عقائدهم الباطلة ، وعباداتهم الفاسدة، وعاداتهم المرذولة. وذلك بأن يراضوا على هذا التخلي شيئا فشيئا ، بسبب نزول القرآن عليهم كذلك شيئا فشيئا ، فكلما نجح الإسلام معهم في هدم الباطل، انتقل بهم إلى هدم آخر ، وهكذا يبدأ بالأهم ثم بالمهم ، حتى انتهى بهم آخر الأمر عن تلك الأرجاس كلها فطهرهم منها وهم لا يشعرون بعنت ولا حرج، وفطمهم عنها دون أن يرتكسوا في سابق فتنة أو عادة. وكانت هذه سياسة رشيدة ، لابد منها في تربية هذه الأمة المجيدة، لا سيما أنها كانت أبية معاندة ، تتحمس لموروثاتها، وتستميت في الدفاع عما تعتقده من شرفها؛ وتتهور في سفك الدماء وشن الغارات ، لأتفه الأسباب .
رابعها : التمهيد لكمال تحليهم بالعقائد الحقة، والعبادات الصحيحة. والأخلاق الفاضلة، بمثل تلك السياسة الرشيدة السابقة. ولهذا بدأ الإسلام بفطامهم عن الشرك والإباحة ، وإحياء قلوبهم بعقائد التوحيد والجزاء، من جراء ما فتح عيونهم عليه من أدلة التوحيد، وبراهين البعث بعد الموت، وحجج الحساب والمسئولية والجزاء. ثم انتقل بهم بعد هذه المرحلة إلى العبادات فبدأهم بفرضية الصلاة قبل الهجرة ، وثنى بالزكاة وبالصوم في السنة الثانية من الهجرة، وختم بالحج في السنة السادسة منها . وكذلك كان الشأن في العادات : زجرهم عن الكبائر وشدد النكير عليهم فيها ، ثم نهاهم عن الصغائر في شئ من الرفق ، وتدرج بهم في تجريم ما كان مستأصلا فيهم كالخمر .. تدرجا حكيما حقق الغاية ، وأنقذهم من كابوسها في النهاية. وكان الإسلام في انتهاج هذه الخطة المثلى أبعد نظرا ، وأهدى سبيلا، وأنجح تشريعا، وأنجع سياسة ، من تلكم الأمم المتمدينة المتحضرة التي أفلست في تحريم الخمر على شعوبها أفظع إفلاس ، وفشلت أمر فشل. وما عهد أمريكا في مهزلة تحريمها الخمر ببعيد !
أليس ذلك إعجازا للإسلام في سياسة الشعوب، وتهذيب الجماعات ، وتربية الأمم ؟ بلى ، والتاريخ على ذلك من الشاهدين !!
خامسها : تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين، بسبب ما كان يقصه القرآن عليهم الفينة بعد الفينة والحين بعد الحين، من قصص الأنبياء والمرسلين وما كان لهم ولأتباعهم مع الأعداء والمخالفين ، وما وعد الله به عباده الصالحين، من النصر والأجر والتأييد والتمكين . والآيات في ذلك كثيرة حسبك منها قول العلي الكبير في سورة النور : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } . وقد صدق الله وعده ونصر عبده وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده { فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } .
ويمكن أن تندرج هذه الحكمة الثانية بما انضوى تحتها في قول الله تعالى في سورة الإسراء { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث } كما يمكن أن يفسر بها قوله تعالى في سورة الفرقان في بيان أسرار التنجيم { ورتلناه ترتيلا} باعتبار أن التنوين للتعظيم إشارة إلى المعاني المنطوية تحت هذا الترتيل.
الحكمة الثالثة
ـ
مسايرة الحوادث والطوارئ في تجددها وتفرقها ، فكلما جد منهم جديد ، نزل من القرآن ما يناسبه ، وفضل الله لهم من أحكامه ما يوافقه . وتنتظم هذه الحكمة أمورا أربعة : ـ
أولها : إجابة السائلين على أسئلتهم عند ما يوجهونها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم . سواء أكانت تلك الأسئلة لغرض التثبت من رسالته. كما قال الله تعالى في جواب سؤال أعدائه إياه : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } في سورة الإسراء ، وقوله : { ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا } الخ الآيات في هذا الموضوع من سورة الكهف. أم كانت لغرض التنور ومعرفة حكم الله كقوله تعالى في سورة البقرة : {ويسألونك ماذا ينفقون ؟ قل العفو } . { ويسألونك عن اليتامى ؟ قل : إصلاح لهم خير . وإن تخالطوهم فإخوانكم } .
ولا ريب أن تلك الأسئلة كانت ترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة ، وعلى نوبات متعددة، حاكية أنهم سألوا ولا يزالون يسألون . فلا بدع أن ينزل الجواب عليها كذلك في أوقاتها المختلفة ، ونوباتها المتعددة .
ثانيها : مجاراة الأقضية والوقائع في حينها ببيان حكم الله فيها عند حدوثها ووقوعها، ومعلوم أن تلك الأقضية والوقائع لم تقع جملة ، بل وقعت تفصيلا وتدريجا، فلا مناص إذن من فصل الله فيها بنزول القرآن على طبقها تفصيلا وتدريجا . والأمثلة على هذا كثيرة، منها قوله سبحانه في سورة النور : { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم } إلى قوله سبحانه { أولئك مبرأون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم } وهن عشر آيات نزلن في أروع الحوادث : هو اتهام السيدة الجليلة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالإفك . وفيها دروس اجتماعية لا تزال تقرأ على الناس كما لا تزال تسجل براءة هذه الحصان الطاهرة من فوق سبع سموات.
ومن الأمثلة قوله تعالى في مفتتح سورة المجادلة : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما ، إن الله سميع بصير } إلى قوله تعالى : { وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم } . وهن ثلاث آيات نزلن عند ما رفعت خولة بنت ثعلبة شكواها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن زوجها أوس بن الصامت ظاهر منها ، وجادلت الرسول بأن معها صبية صغارا إن ضمتهم إلى زوجها ضاعوا ، وإن ضمتهم إليها جاعوا .
ثالثها : لفت أنظار المسلمين إلى تصحيح أغلاطهم التي يخطئون فيها، وإرشادهم إلى شاكلة الصواب في الوقت نفسه . ولا ريب أن تلك الأغلاط كانت في أزمان متفرقة ، فمن الحكمة أن يكون القرآن النازل في إصلاحها ، متكافئا معها في زمانها . اقرأ إن شئت قوله سبحانه في سورة آل عمران : { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } إلى آيات كثيرة بعدها ، وكلها نزلت في غزوة أحد إرشادا للمسلمين إلى مواضع أخطائهم في هذا الموقف الرهيب والمأزق العصيب. وكذلك اقرأ قوله سبحانه في سورة التوبة : { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين : ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم } وهي آيات تردع المؤمنين عن رذيلة الإعجاب والاغترار في يوم من أيام الله ، وتلفت نظرهم إلى مقدار تدارك الله لهم في شدتهم، وإلى وجوب أن يثوبوا إلى رشدهم، ويتوبوا إلى ربهم .
رابعها : كشف حال أعداء الله المنافقين ، وعتك أستارهم وسرائرهم للنبي والمسلمين ، كيما يأخذوا منهم حذرهم فيأمنوا شرهم . حتى يتوب من شاء منهم ، اقرأ ـ إن شئت ـ قوله تعالى في سورة البقرة : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } إلى قوله : { والله على كل شئ قدير } وهن ثلاث عشرة آية فضحت المنافقين ، كما فضحتهم سورة التوبة في كثير من الآيات، وكما كشف القرآن أستارهم في كثير من المناسبات. ويمكن أن تندرج هذه الحكمة الثالثة بمضامينها الأربعة في قول الله تعالى في تلك الآية من سورة الفرقان : { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } .
الحكمة الرابعة
ـ
الإرشاد إلى مصدر القرآن ، وأنه كلام الله وحده، وأنه لا يمكن أن يكون كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا كلام مخلوق سواه .
وبيان ذلك : أن القرآن الكريم تقرؤه من أوله إلى آخره ، فإذا هو محكم السرد، دقيق السبك، متين الأسلوب، قوي الاتصال، آخذ بعضه برقاب بعض في سوره وآياته وجمله ، يجري دم الإعجاز فيه كله من ألفه إلى يائه كأنه سبيكة واحدة، ولا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك ولا تخاذل كأنه حلقة مفرغة ! أو كأنه سمط وحيد وعقد فريد يأخذ بالأبصار : نظمت حروفه وكلماته ، ونسقت جمله وآياته، وجاء آخره مساوفا لأوله، وبدا أوله مواتيا لآخره !! .
وهنا نتساءل : كيف اتسق للقرآن هذا التألف المعجز ؟ وكيف استقام له هذا التناسق المدهش ؟ على حين أنه يتنزل جملة واحدة بل تنزل آحادا مفرقة تفرق الوقائع والحوادث في أكثر من عشرين عاما !! .
الجواب : أننا نلمح هنا سرا جديدا من أسرار الإعجاز، ونشهد سمة فذة من سمات الربوبية ، ونقرأ دليلا ساطعا على مصدر القرآن ، وأنه كلام الواحد الديان {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }.
وإلا فحدثني ـ بربك ـ كيف تستطيع أنت ؟ أم كيف يستطيع الخلق جميعا أن يأتوا بكتاب محكم الاتصال والترابط ، متين النسج والسرد، متآلف البدايات والنهايات، مع خضوعه في التألف لعوامل خارجة عن مقدور البشر، وهي وقائع الزمن وأحداثه التي يجئ كل جزء من أجزاء هذا الكتاب تبعا لها ، ومتحدثا عنها : سببا بعد بب ، وداعية إثر داعية ، مع اختلاف ما بين هذه الدواعي، وتغاير ما بين تلك الأسباب ، ومع تراخي زمان هذا التألف ، وتطاول آماد هذه النجوم، إلى أكثر من عشرين عاما .
لا ريب أن هذا الانفصال الزماني ، وذاك الاختلاف الملحوظ بين هاتيك الدواعي ، يستلزمان في مجرى العادة التفكك والانحلال ، ولا يدعان مجالا للارتباط والاتصال بين نجوم هذا الكلام .
أما القرآن الكريم فقد خرق العادة في هذه الناحية أيضا . نزل مفرقا منجما ، ولكنه تم مترابطا محكما . وتفرقت نجومه تفرق الأسباب ، ولكن اجتمع نظمه اجتماع شمل الأحباب ، ولم يتكامل نزوله إلا بعد عشرين عاما ، ولكن تكامل انسجامه بداية وختاما !!
أليس ذلك برهانا ساطعا على أنه كلام خالق القوى والقدر، ومالك الأسباب والمسببات ، ومدبر الخلق والكائنات ، وقيوم الأرض والسموات ، العليم بما كان وما سيكون ، الخبير بالزمان وما يحدث فيه من شئون ؟ ؟
لاحظ فوق ما أسلفنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه آية أو آيات ، قال " ضعوها في مكان كذا من سورة كذا " وهو بشر لا يدري (طبعا) ما ستجئ به الأيام ، ولا يعلم ما سيكون في مستقبل الزمان ، ولا يدرك ما سيحدث من الدواعي والأحداث فضلا عما سينزل من الله فيها . وهكذا يمضي العمر الطويل والرسول على هذا العهد، يأتيه الوحي بالقرآن نجما بعد نجم، وإذا القرآن كله بعد هذا العمر الطويل يكمل ويتم ، وينتظم ويتآخى ويأتلف ويلتئم ، ولا يؤخذ عليه أدنى تخاذل ولا تفاوت ، بل يعجز الخلق طرا بما فيه من انسجام ووحدة وترابط : { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } !!
وإنه ليستبين سر هذا الإعجاز ، إذا ما علمت أن محاولة مثل هذا الاتساق والانسجام لن يمكن أن يأتي على هذا النمط الذي نزل به القرآن ولا على قريب من هذا النمط ، لا في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كلام غيره من البلغاء وغير البلغاء .
خذ مثلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ما هو في روعته وبلاغته، وطهره وسموه : لقد قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في مناسبات مختلفة ، لدواع متباينة ، في أزمان متطاولة فهل في مكنتك ومكنة ابشر معك ، أن ينظموا من هذا السرد الشتيت وحده، كتابا واحدا يصقله الاسترسال والوحدة، من غير أن ينقصوا منه أو يتزيدوا عليه أو يتصرفوا فيه ؟ ؟ .
ذلك ما لن يكون ، ولا يمكن أن يكون ، ومن حاول ذلك فإنما يحاول العبث ويخرج للناس بثوب مرقع ، وكلام ملفقم ينقصه الترابط والانسجام وتعوزه الوحدة والاسترسال وتمجه الأسماع والأفهام .
إذن : فالقرآن الكريم ينطق نزوله منجما بأنه كلام الله وحده . وتلك حكمة جليلة الشأن ، تدل الخلق على الحق في مصدر القرآن ! : { قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما }
ما نزل مفرقا وما نزل مجمعا
من أمثلة ما نزل مفرقا وهو غالب القرآن:
من السور القصار: (اقرأ) أول ما نزل منها إلى قوله: (ما لم يعلم) والضحى أول ما نزل منها إلى قوله: (فترضى) كما في حديث الطبراني.
ومن أمثلة ما نزل جمعا: سورة الفاتحة، والإخلاص، و الكوثر، و (تبت)، و (لم يكن)، والنصر، والمعوذتان نزلتا معاً ومنه في السور الطوال المرسلات.
ففي المستدرك عن ابن مسعود قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار فنزلت عليه: (والمرسلات عرفاً...) فأخذتها من فيه وإن فاه رطب بها فلا أدري بأيها ختم: (فبأي حديث بعده يؤمنون) أو (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون).
ومنه سورة الصف ويدل له ما أخرجه الحاكم وغيره عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا: لونعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه فأنزل الله سبحانه: (سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم * يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون) حتى ختمها قال عبد الله: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها.
ومنه سورة الأنعام فقد أخرج أبو عبيد والطبراني عن ابن عباس قال: نزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملة حولها سبعون ألف ملك.
وأخرج الطبراني عن مجاهد قال: نزلت الأنعام كلها جملة واحدة معها خمسمائة ملك، وأخرج عن عطاء قال: أنزلت الأنعام جميعاً ومعها سبعون ألف ملك، فهذه شواهد يقوي بعضها بعضاً.
وقال ابن الصلاح في فتاويه: الحديث الوارد أنها نزلت جملة رويناه من طريق أبيّ بن كعب وفي إسناده ضعف ولم نر له إسناداً صحيحاً وقد روي ما يخالفه فروى أنها لم تنزل جملة واحدة بل نزلت آيات منها بالمدينة اختلفوا في عددها فقيل: ثلاث وقيل: ست وقيل غير ذلك
من السور القصار: (اقرأ) أول ما نزل منها إلى قوله: (ما لم يعلم) والضحى أول ما نزل منها إلى قوله: (فترضى) كما في حديث الطبراني.
ومن أمثلة ما نزل جمعا: سورة الفاتحة، والإخلاص، و الكوثر، و (تبت)، و (لم يكن)، والنصر، والمعوذتان نزلتا معاً ومنه في السور الطوال المرسلات.
ففي المستدرك عن ابن مسعود قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار فنزلت عليه: (والمرسلات عرفاً...) فأخذتها من فيه وإن فاه رطب بها فلا أدري بأيها ختم: (فبأي حديث بعده يؤمنون) أو (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون).
ومنه سورة الصف ويدل له ما أخرجه الحاكم وغيره عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا: لونعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه فأنزل الله سبحانه: (سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم * يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون) حتى ختمها قال عبد الله: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها.
ومنه سورة الأنعام فقد أخرج أبو عبيد والطبراني عن ابن عباس قال: نزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملة حولها سبعون ألف ملك.
وأخرج الطبراني عن مجاهد قال: نزلت الأنعام كلها جملة واحدة معها خمسمائة ملك، وأخرج عن عطاء قال: أنزلت الأنعام جميعاً ومعها سبعون ألف ملك، فهذه شواهد يقوي بعضها بعضاً.
وقال ابن الصلاح في فتاويه: الحديث الوارد أنها نزلت جملة رويناه من طريق أبيّ بن كعب وفي إسناده ضعف ولم نر له إسناداً صحيحاً وقد روي ما يخالفه فروى أنها لم تنزل جملة واحدة بل نزلت آيات منها بالمدينة اختلفوا في عددها فقيل: ثلاث وقيل: ست وقيل غير ذلك
ما نزل مشيعاً وما نزل مفرداً
قال ابن حبيب وأتبعه ابن النقيب: من القرآن ما نزل مشيعاً وهو سورة الأنعام شيعها سبعون ألف ملك، وفاتحة الكتاب نزلت ومعها ثمانون ألف ملك، وآية الكرسي نزلت ومعها ثلاثون ألف ملك، وسورة يونس نزلت ومعها ثلاثون ألف ملك (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا...) [الزخرف: 45] نزلت ومعها عشرون ألف ملك، وسائر القرآن نزل به جبريل مفرداً بلا تشييع.
قلت: أما سورة الأنعام فقد أخرج أبو عبيد والطبراني عن ابن عباس قال: نزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملة حولها سبعون ألف ملك، وأخرج الطبراني من طريق يوسف بن عطية الصفار وهو متروك عن ابن عوف عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك"، وأخرج عن مجاهد قال: نزلت الأنعام كلها جملة واحدة معها خمسمائة ملك، وأخرج عن عطاء قال: أنزلت الأنعام جميعاً ومعها سبعون ألف ملك.
ومن طرقه أيضاً ما أخرجه البيهقي في الشعب والطبراني بسند ضعيف عن أنس مرفوعاً: "نزلت سورة الأنعام ومعها موكب من الملائكة يسد ما بين الخافقين لهم زجل بالتقديس والتسبيح والأرض ترتج".
وأخرج الحاكم والبيهقي من حديث جابر قال: لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول اله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق" قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، لكن قال الذهبي: فيه انقطاع وأظنه موضوعاً.
وأما الفاتحة وسورة يس (واسأل من أرسلنا...) فلم أقف على حديث فيها بذلك ولا أثر.
وأما آية الكرسي فقد ورد فيها وفي جميع آيات البقرة حديث، أخرجه أحمد في مسنده عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البقرة سنام القرآن وذروته نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً، واستخرجت (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ...) [البقرة: 255] من تحت العرش فوصلت بها".
وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن الضحاك بن مزاحم قال: خواتيم سورة البقرة جاء بها جبريل ومعه من الملائكة ما شاء الله.
وبقي سور أخرى: منها سورة الكهف، قال ابن الضريس في فضائله: أخبرنا يزيد بن عبد العزيز الطيالسي حدثنا إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن رافع قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بسورة ملء عظمتها ما بين السماء والأرض شيعها سبعون ألف ملك سورة الكهف".
تنبيه لينظر في التوفيق بين ما مضى وبين ما أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: ما جاء جبريل بالقرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة، وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث إليه الملك بعث ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه أن يتشبه الشيطان على صورة الملك.
فائدة قال ابن الضريس: أخبرنا محمود بن غيلان عن يزيد بن هارون أخبرني الوليد: يعني ابن جميل عن القاسم عن أبي أمامة قال: أربع آيات نزلت من كنز العرش لم ينزل منه شيء غيرهن: (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ ...) وآية الكرسي، وخاتمة سورة البقرة، والكوثر.
قلت: أما الفاتحة فقد أخرج البيهقي في الشعب من حديث أنس مرفوعاً: "إن الله أعطاني فيما من به عليّ: إني أعطيتك فاتحة الكتاب وهي من كنوز عرشي"، وأخرج الحاكم عن معقل بن يسار مرفوعاً: "أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش".
وأخرج ابن راهويه في مسنده عن عليّ أنه سئل عن فاتحة الكتاب فقال: حدثنا نبي الله صلى الله عليه وسلم: "أنها نزلت من كنز العرش"، وأما آخر البقرة فأخرج الدرامي في مسنده عن أيفع الكلاعي قال: قال رجل: يا رسول الله أي آية تحب أن تصيبك وأمتك قال: "آخر سورة البقرة فإنها من كنز الرحمة من تحت عرش الله".
وأخرج أحمد وغيره من حديث عقبة بن عامر مرفوعاً: "اقرءوا هاتين الآيتين فإن ربي أعطانيهما من تحت العرش"، وأخرج من حديث حذيفة: "أعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطها نبي قبليّ"، وأخرج من حديث أبي ذر: "أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي"، وله طرق كثيرة عن عمر وعليّ وابن مسعود وغيرهم.
وأما آية الكرسي فتقدمت في حديث معقل ابن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البقرة سنام القرآن وذروته نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً، واستخرجت (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ...) [البقرة: 255] من تحت العرش فوصلت بها.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ آية الكرسي ضحك وقال: "إنها من كنز الرحمن تحت العرش"، وأخرج أبو عبيدة عن عليّ قال: آية الكرسي أعطيها نبيكم من كنز تحت العرش ولم يعطها أحد قبل نبيكم.
وأما سورة الكوثر فلم أقف فيها على حديث وقول أبي أمامة في ذلك يجري مجرى المرفوع، وقد أخرجه أبو الشيخ ابن حبان والديلمي وغيرهما من طريق محمد بن عبد الملك بن الدقيقي عن يزيد بن هارون بإسناده السابق عن أبي أمامة مرفوعاً قال: "أربع آيات نزلت من كنز العرش لم ينزل منه شيء غيرهن: (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ...) وآية الكرسي، وخاتمة سورة البقرة، والكوثر
قلت: أما سورة الأنعام فقد أخرج أبو عبيد والطبراني عن ابن عباس قال: نزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملة حولها سبعون ألف ملك، وأخرج الطبراني من طريق يوسف بن عطية الصفار وهو متروك عن ابن عوف عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك"، وأخرج عن مجاهد قال: نزلت الأنعام كلها جملة واحدة معها خمسمائة ملك، وأخرج عن عطاء قال: أنزلت الأنعام جميعاً ومعها سبعون ألف ملك.
ومن طرقه أيضاً ما أخرجه البيهقي في الشعب والطبراني بسند ضعيف عن أنس مرفوعاً: "نزلت سورة الأنعام ومعها موكب من الملائكة يسد ما بين الخافقين لهم زجل بالتقديس والتسبيح والأرض ترتج".
وأخرج الحاكم والبيهقي من حديث جابر قال: لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول اله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق" قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، لكن قال الذهبي: فيه انقطاع وأظنه موضوعاً.
وأما الفاتحة وسورة يس (واسأل من أرسلنا...) فلم أقف على حديث فيها بذلك ولا أثر.
وأما آية الكرسي فقد ورد فيها وفي جميع آيات البقرة حديث، أخرجه أحمد في مسنده عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البقرة سنام القرآن وذروته نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً، واستخرجت (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ...) [البقرة: 255] من تحت العرش فوصلت بها".
وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن الضحاك بن مزاحم قال: خواتيم سورة البقرة جاء بها جبريل ومعه من الملائكة ما شاء الله.
وبقي سور أخرى: منها سورة الكهف، قال ابن الضريس في فضائله: أخبرنا يزيد بن عبد العزيز الطيالسي حدثنا إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن رافع قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بسورة ملء عظمتها ما بين السماء والأرض شيعها سبعون ألف ملك سورة الكهف".
تنبيه لينظر في التوفيق بين ما مضى وبين ما أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: ما جاء جبريل بالقرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة، وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث إليه الملك بعث ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه أن يتشبه الشيطان على صورة الملك.
فائدة قال ابن الضريس: أخبرنا محمود بن غيلان عن يزيد بن هارون أخبرني الوليد: يعني ابن جميل عن القاسم عن أبي أمامة قال: أربع آيات نزلت من كنز العرش لم ينزل منه شيء غيرهن: (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ ...) وآية الكرسي، وخاتمة سورة البقرة، والكوثر.
قلت: أما الفاتحة فقد أخرج البيهقي في الشعب من حديث أنس مرفوعاً: "إن الله أعطاني فيما من به عليّ: إني أعطيتك فاتحة الكتاب وهي من كنوز عرشي"، وأخرج الحاكم عن معقل بن يسار مرفوعاً: "أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش".
وأخرج ابن راهويه في مسنده عن عليّ أنه سئل عن فاتحة الكتاب فقال: حدثنا نبي الله صلى الله عليه وسلم: "أنها نزلت من كنز العرش"، وأما آخر البقرة فأخرج الدرامي في مسنده عن أيفع الكلاعي قال: قال رجل: يا رسول الله أي آية تحب أن تصيبك وأمتك قال: "آخر سورة البقرة فإنها من كنز الرحمة من تحت عرش الله".
وأخرج أحمد وغيره من حديث عقبة بن عامر مرفوعاً: "اقرءوا هاتين الآيتين فإن ربي أعطانيهما من تحت العرش"، وأخرج من حديث حذيفة: "أعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطها نبي قبليّ"، وأخرج من حديث أبي ذر: "أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي"، وله طرق كثيرة عن عمر وعليّ وابن مسعود وغيرهم.
وأما آية الكرسي فتقدمت في حديث معقل ابن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البقرة سنام القرآن وذروته نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً، واستخرجت (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ...) [البقرة: 255] من تحت العرش فوصلت بها.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ آية الكرسي ضحك وقال: "إنها من كنز الرحمن تحت العرش"، وأخرج أبو عبيدة عن عليّ قال: آية الكرسي أعطيها نبيكم من كنز تحت العرش ولم يعطها أحد قبل نبيكم.
وأما سورة الكوثر فلم أقف فيها على حديث وقول أبي أمامة في ذلك يجري مجرى المرفوع، وقد أخرجه أبو الشيخ ابن حبان والديلمي وغيرهما من طريق محمد بن عبد الملك بن الدقيقي عن يزيد بن هارون بإسناده السابق عن أبي أمامة مرفوعاً قال: "أربع آيات نزلت من كنز العرش لم ينزل منه شيء غيرهن: (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ...) وآية الكرسي، وخاتمة سورة البقرة، والكوثر
ما نزل من القرآن على بعض الأنبياء
نتحدث هنا عن ما نزل من القرآن على بعض الأنبياء وما لم ينزل منه على أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم من الثاني: الفاتحة وآية الكرسي وخاتمة البقرة كما تقدم في الأحاديث قريباً.
وروى مسلم عن ابن عباس أتى النبي صلى الله عليه وسلم ملك فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة.
وأخرج الطبراني عن عقبة بن عامر قال: ترددوا في الآيتين من آخر سورة البقرة آمن الرسول إلى خاتمتها فإن الله اصطفى بها محمداً.
وأخرج أبو عبيد في فضائله عن كعب قال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم أعطى أربع آيات لم يعطهن موسى وإن موسى أعطى آية لم يعطها محمد.
قال: والآيات التي أعطيهن محمد لله ما في السموات وما في الأرض حتى ختم البقرة فتلك ثلاث آيات وآية الكرسي.
والآية التي أعطيها موسى: اللهم لا تولج الشيطان في قلوبنا وخلصنا منه من أجل أن لك الملكوت والأبد والسلطان والملك والحمد والأرض والسماء والدهر الداهر أبداً أبداً آمين آمين.
وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: السبع الطوال لم يعطهن أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى موسى منها اثنتين.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً أعطيت أمتي شيئاً لم يعطه أحد من الأمم ومن أمثلة الأول: ما أخرجه الحاكم عن ابن عباس قال: لما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال صلى الله عليه وسلم: كلها في صحف إبراهيم وموسى فلما نزلت والنجم إذا هوى فبلغ وإبراهيم الذي وفى قال: وفى (ألا تزر وازرة وزر أخرى( إلى قوله (هذا نذير من النذر الأولى) وقال سعيد بن منصور: حدثنا خالد ابن عبد الله بن عطاء بن السائب عن عكرمة قال ابن عباس: قال هذه السورة في صحف إبراهيم وموسى.
وأخرجه ابن أبي حاتم بلفظ نسخ من صحف إبراهيم وموسى.
وأخرج عن السدى قال: إن هذه السورة في صحف إبراهيم وموسى مثل ما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الفرياني: أنبأنا سفيان عن أبيه عن عكرمة إن هذا لفي الصحف الأولى قال: هؤلاء الآيات.
وأخرج الحاكم من طريق القاسم عن أبي أمامة قال: أنزل الله على إبراهيم مما أنزل على محمد {التائبون العابدون} إلى قوله {وبشر المؤمنين} و {قد أفلح المؤمنون} إلى قوله {فيها خالدون} {وإن المسلمين والمسلمات} الآية.
والتي في سأل {الذين هم على صلاتهم دائمون} إلى قوله {قائمون} فلم يف بهذا السهام إلا إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج البخاري (عن عبد الله بن عمروبن العاص قال: إنه يعني النبي صلى الله عليه وسلم لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأمين الحديث).
وأخرج ابن الضريس وغيره عن كعب قال: فتحت التوراة ب {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} وختم ب {الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً} إلى قوله {وكبره تكبيراً} وأخرج أيضاً عنه قال: فاتحة هود {فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون}.
وأخرج من وجه آخر عنه قال: أول ما أنزل في التوراة عشر آيات من سورة الأنعام قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى آخرها.
وأخرج أبو عبيد عنه قال: أول ما أنزل الله في التوراة عشر آيات من سورة الأنعام بسم الله الرحمن الرحيم. قل تعالوا أتل الآيات.
قال بعضهم: يعني أن هذه الآيات اشتملت على الآيات العشر التي كتبها الله لموسى في التوراة أول ما كتب وهي توحيد الله والنهي عن الشرك واليمين الكاذبة والعقوق والقتل والزنى والسرقة والزور ومد العين إلى ما في يد الغير والأمر بتعظيم السبت.
وأخرج الدار قطني من حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري: بسم الله الرحمن الرحيم.
وروى البيهقي عن ابن عباس قال: أغفل الناس آية من كتاب الله لم تنزل على أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون سليمان بن داود: بسم الله الرحمن الرحيم وأخرج الحاكم عن أبي ميسرة أن هذه الآية مكتوبة في التوراة بسبعمائة آية يسبح له ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم أول سورة الجمعة.
فائدة يدخل في هذا النوع ما أخرجه ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: البرهان الذي أرى يوسف ثلاث آيات من كتاب الله وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون وقوله {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن} الآية وقوله {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} زاد غيره آية أخرى ولا تقربوا الزنى.
وأخرج ابن أبي حاتم أيضاً عن ابن عباس في قوله {لولا أن رأى برهان ربه} قال: رأى آية من كتاب الله نهته مثلت له في جدار الحائط.
وروى مسلم عن ابن عباس أتى النبي صلى الله عليه وسلم ملك فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة.
وأخرج الطبراني عن عقبة بن عامر قال: ترددوا في الآيتين من آخر سورة البقرة آمن الرسول إلى خاتمتها فإن الله اصطفى بها محمداً.
وأخرج أبو عبيد في فضائله عن كعب قال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم أعطى أربع آيات لم يعطهن موسى وإن موسى أعطى آية لم يعطها محمد.
قال: والآيات التي أعطيهن محمد لله ما في السموات وما في الأرض حتى ختم البقرة فتلك ثلاث آيات وآية الكرسي.
والآية التي أعطيها موسى: اللهم لا تولج الشيطان في قلوبنا وخلصنا منه من أجل أن لك الملكوت والأبد والسلطان والملك والحمد والأرض والسماء والدهر الداهر أبداً أبداً آمين آمين.
وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: السبع الطوال لم يعطهن أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى موسى منها اثنتين.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً أعطيت أمتي شيئاً لم يعطه أحد من الأمم ومن أمثلة الأول: ما أخرجه الحاكم عن ابن عباس قال: لما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال صلى الله عليه وسلم: كلها في صحف إبراهيم وموسى فلما نزلت والنجم إذا هوى فبلغ وإبراهيم الذي وفى قال: وفى (ألا تزر وازرة وزر أخرى( إلى قوله (هذا نذير من النذر الأولى) وقال سعيد بن منصور: حدثنا خالد ابن عبد الله بن عطاء بن السائب عن عكرمة قال ابن عباس: قال هذه السورة في صحف إبراهيم وموسى.
وأخرجه ابن أبي حاتم بلفظ نسخ من صحف إبراهيم وموسى.
وأخرج عن السدى قال: إن هذه السورة في صحف إبراهيم وموسى مثل ما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الفرياني: أنبأنا سفيان عن أبيه عن عكرمة إن هذا لفي الصحف الأولى قال: هؤلاء الآيات.
وأخرج الحاكم من طريق القاسم عن أبي أمامة قال: أنزل الله على إبراهيم مما أنزل على محمد {التائبون العابدون} إلى قوله {وبشر المؤمنين} و {قد أفلح المؤمنون} إلى قوله {فيها خالدون} {وإن المسلمين والمسلمات} الآية.
والتي في سأل {الذين هم على صلاتهم دائمون} إلى قوله {قائمون} فلم يف بهذا السهام إلا إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج البخاري (عن عبد الله بن عمروبن العاص قال: إنه يعني النبي صلى الله عليه وسلم لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأمين الحديث).
وأخرج ابن الضريس وغيره عن كعب قال: فتحت التوراة ب {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} وختم ب {الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً} إلى قوله {وكبره تكبيراً} وأخرج أيضاً عنه قال: فاتحة هود {فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون}.
وأخرج من وجه آخر عنه قال: أول ما أنزل في التوراة عشر آيات من سورة الأنعام قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى آخرها.
وأخرج أبو عبيد عنه قال: أول ما أنزل الله في التوراة عشر آيات من سورة الأنعام بسم الله الرحمن الرحيم. قل تعالوا أتل الآيات.
قال بعضهم: يعني أن هذه الآيات اشتملت على الآيات العشر التي كتبها الله لموسى في التوراة أول ما كتب وهي توحيد الله والنهي عن الشرك واليمين الكاذبة والعقوق والقتل والزنى والسرقة والزور ومد العين إلى ما في يد الغير والأمر بتعظيم السبت.
وأخرج الدار قطني من حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري: بسم الله الرحمن الرحيم.
وروى البيهقي عن ابن عباس قال: أغفل الناس آية من كتاب الله لم تنزل على أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون سليمان بن داود: بسم الله الرحمن الرحيم وأخرج الحاكم عن أبي ميسرة أن هذه الآية مكتوبة في التوراة بسبعمائة آية يسبح له ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم أول سورة الجمعة.
فائدة يدخل في هذا النوع ما أخرجه ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: البرهان الذي أرى يوسف ثلاث آيات من كتاب الله وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون وقوله {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن} الآية وقوله {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} زاد غيره آية أخرى ولا تقربوا الزنى.
وأخرج ابن أبي حاتم أيضاً عن ابن عباس في قوله {لولا أن رأى برهان ربه} قال: رأى آية من كتاب الله نهته مثلت له في جدار الحائط.
أول وآخر ما نزل من القرآن الكريم
للقرآن الكريم تنـزلات ثلاثة : الأول إلى اللوح المحفوظ والثاني إلى بيت العزة والثالث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان هذا التنـزل الأخير على النبي صلى الله عليه سلم منجّماً لم ينزل دفعة واحدة وإنما نزل على مدى ثلاث وعشرين سنة .ولهذا التنـزل الأخير ـ وهو نزول القرآن الكريم منجّماً ـ فوائد وحكم سنذكرها إن شاء الله تعالى .
وهذا ما دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع والله سبحانه وتعالى هو الموفق .
ما يترتب على معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل :
لهذا الموضوع أهمية كبيرة وفوائد عظيمة :
أولها: معرفة الناسخ والمنسوخ من القرآن الكريم فإذا كان هناك آيتان متعارضتان ظاهراً وتعذر التوفيق بينهما وعرفت أُولاهما نزولاً وأُخراهما نزولاً أمكننا أن نحكم بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة .
ثانيها: معرفة تاريخ التشريع الإسلامي.
ثالثها: معرفة التدرج في تشريع الأحكام والوصول من وراء ذلك إلى حكمة الإسلام وسياسته في أخذ الناس بالهوادة والرفق وذلك كالآيات الواردة في حكم الخمر . ( 1 )
رابعها: هي إظهار مدى العناية التي أحيط بها القرآن الكريم حتى عرف فيه أول ما نزل وآخر ما نزل مكية ومدنية وسفرية وحضرية إلى غير ذلك . ( 2 )
سبب الخلاف في أول وآخر ما نزل :
اختلف العلماء في تعيين أول وآخر ما نزل من القرآن الكريم لأن بعضاً منهم استند إلى أول ما نزل مطلقاً وآخر ما نزل مطلقاً وبعضهم استند إلى أول ما نزل مخصوصاً وآخر ما نزل مخصوصاً .
لمحة عن أول وآخر ما نزل مطلقاً :
اختلف العلماء في تعيين أول وآخر ما نزل من القرآن الكريم مطلقاً على عدة أقوال وسيأتي الحديث عنها مفصّلاً مع الأدلة وبيان القول الراجح .
لمحة عن أوائل وأواخر مخصوصة :
ثم إن أولية النزول وآخريته تارة تكون بالنسبة لما ورد من الآيات في موضوع خاص كتحريم الخمر وتحريم الربا وفرضية الجهاد وغير ذلك من الموضوعات التي اشتمل عليها القرآن , وتارة تكون الأولية والآخرية بالنسبة إلى القرآن كله وقد أشرنا إليها سابقاً وسيأتي الحديث عنها مفصّلاً .
وأما أوليته وآخريته بالنسبة لموضوع خاص فهذا أمر يطول الكلام فيه ويحتاج إلى تتبع الروايات الكثيرة التي وردت في ذلك . ( 3 )
ويكفي أن نمثل له بمثالين في هذا المدخل:
1- أول ما نزل في الخمر : روى الطيالسي في مسنده عن ابن عمر قال: نزل في الخمر ثلاث آيات فأول شيءٍ :
يسألونك عن الخمر والميسر ( 4 ) ، فقيل حرمت الخمر فقالوا يا رسول الله دعنا ننتفع بها كما قال الله فسكت عنهم ثم نزلت هذه الآية لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى (5) فقيل حرمت الخمر قالوا يا رسول الله لا نشربها قرب الصلاة فسكت عنهم ثم نزلت يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ( 6 ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(حرمت الخمر ) ( 7 )
2- ما نزل في أمر الجهاد والدفاع : شرع الله القتال دفاعاً في السنة الثانية من الهجرة يقول الله تعالى: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ------ إلى ----- ولله عاقبة الأمور ( 8 ) ثم حضّ الله عليه حضّاً شديداً في آخر الأمر فنزلت سورة براءة وهي من آخر ما نزل من القرآن وفيها قوله سبحانه: وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة ( 9 ) وسيأتي الكلام عليها مفصّلاً مع استيفاء ذكرها جميعاً إن شاء الله تعالى . ( 10 )
لماذا كانت آية اقرأ باسم ربك أول ما نزل وآية واتقوا يوماً آخر ما نزل :
إن من يتأمل أول آية نزلت اقرأ باسم ربك الذي خلق ( 11 ) يجد أن الإسلام دين العلم وأن القرآن قد حضّ على القراءة والتعلم , فالكلمة النورانية الأولى هي اقرأ للدلالة على أن نور العلم سيمحي بإذن الله جهالة الشرك والمشركين , وبعد هذه الآية تتابع نزول القرآن وكانت الهداية للبشرية إلى أن شاء الله أن يختتم تنزيل كتابه بقوله: واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ( 12 ) ليقول لنا إن العلم الذي أمرتم به ينبغي أن يكون نافعاً ليوصلكم في نهاية المطاف إلى تقوى الله عز وجل والاستعداد للقائه , كما أن الآية الأولى تُثبِت أن لهذا الكون خالقاً وهو الله والآية الثانية فيها إثباتٌ للمعاد والحشر , وتحت هذين الشيئين الإيمان بالله و اليوم الآخر تنطوي تعاليم ديننا الحنيف .
هل الاعتماد في تحديد أول وآخر ما نزل على النقل والتوقيف أم على العقل :
مدار هذا البحث على النقل والتوقيف ولا مجال للعقل فيه إلا بالترجيح بين الأدلة أو الجمع بينهما فيما ظاهره التعارض منها . ( 13 )
==================
المراجـع:
1- الوحي والقرآن الكريم – للدكتور : محمد حسين الذهبي - مكتبة وهبة - الطبعة الأولى .
2- مناهل العرفان في علوم القرآن – للأستاذ الشيخ : محمد عبد العظيم الزرقاني - دار المعرفة – بيروت – لبنان – الطبعة الثانية .
3- الإتقان في علوم القرآن – للإمام : جلال الدين السيوطي – حققه وعلق عليه وعمل فهارسه : عصام فارس الحرستاني – خرج أحاديثه : محمد أبو صعليك – دار الجيل –بيروت – الطبعة الأولى .
4- البرهان في علوم القرآن للإمام : - بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي – تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم – طبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه .
============
( 1 ) انظر كتاب الوحي والقرآن للدكتور محمد حسين الذهبي ص 111 .
( 2 ) انظر كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن جزء 1، ص 88 .
( 3 ) انظر كتاب الوحي والقرآن للدكتور محمد حسين الذهبي ص 111 .
( 4 ) سورة البقرة [الآية: 219]
( 5 ) سورة النساء[ الآية: 43]
( 6 ) سورة المائدة [الآية: 90-91]
( 7 ) انظر كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن جزء 1 ، ص 96 والإتقان في علوم القرآن جزء 1 ، ص 87 .
( 8 ) سورة الحج [الآية: 39-41 ]
( 9 ) سورة التوبة [الآية: 36]
( 10 ) انظر كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن جزء 1 ، ص 97 .
( 11 ) سورة العلق [ الآية :1]
( 12 ) سورة البقرة [الآية: 281 ]
( 13 ) انظر كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن جزء 1، ص 88 .
وهذا ما دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع والله سبحانه وتعالى هو الموفق .
ما يترتب على معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل :
لهذا الموضوع أهمية كبيرة وفوائد عظيمة :
أولها: معرفة الناسخ والمنسوخ من القرآن الكريم فإذا كان هناك آيتان متعارضتان ظاهراً وتعذر التوفيق بينهما وعرفت أُولاهما نزولاً وأُخراهما نزولاً أمكننا أن نحكم بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة .
ثانيها: معرفة تاريخ التشريع الإسلامي.
ثالثها: معرفة التدرج في تشريع الأحكام والوصول من وراء ذلك إلى حكمة الإسلام وسياسته في أخذ الناس بالهوادة والرفق وذلك كالآيات الواردة في حكم الخمر . ( 1 )
رابعها: هي إظهار مدى العناية التي أحيط بها القرآن الكريم حتى عرف فيه أول ما نزل وآخر ما نزل مكية ومدنية وسفرية وحضرية إلى غير ذلك . ( 2 )
سبب الخلاف في أول وآخر ما نزل :
اختلف العلماء في تعيين أول وآخر ما نزل من القرآن الكريم لأن بعضاً منهم استند إلى أول ما نزل مطلقاً وآخر ما نزل مطلقاً وبعضهم استند إلى أول ما نزل مخصوصاً وآخر ما نزل مخصوصاً .
لمحة عن أول وآخر ما نزل مطلقاً :
اختلف العلماء في تعيين أول وآخر ما نزل من القرآن الكريم مطلقاً على عدة أقوال وسيأتي الحديث عنها مفصّلاً مع الأدلة وبيان القول الراجح .
لمحة عن أوائل وأواخر مخصوصة :
ثم إن أولية النزول وآخريته تارة تكون بالنسبة لما ورد من الآيات في موضوع خاص كتحريم الخمر وتحريم الربا وفرضية الجهاد وغير ذلك من الموضوعات التي اشتمل عليها القرآن , وتارة تكون الأولية والآخرية بالنسبة إلى القرآن كله وقد أشرنا إليها سابقاً وسيأتي الحديث عنها مفصّلاً .
وأما أوليته وآخريته بالنسبة لموضوع خاص فهذا أمر يطول الكلام فيه ويحتاج إلى تتبع الروايات الكثيرة التي وردت في ذلك . ( 3 )
ويكفي أن نمثل له بمثالين في هذا المدخل:
1- أول ما نزل في الخمر : روى الطيالسي في مسنده عن ابن عمر قال: نزل في الخمر ثلاث آيات فأول شيءٍ :
يسألونك عن الخمر والميسر ( 4 ) ، فقيل حرمت الخمر فقالوا يا رسول الله دعنا ننتفع بها كما قال الله فسكت عنهم ثم نزلت هذه الآية لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى (5) فقيل حرمت الخمر قالوا يا رسول الله لا نشربها قرب الصلاة فسكت عنهم ثم نزلت يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ( 6 ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(حرمت الخمر ) ( 7 )
2- ما نزل في أمر الجهاد والدفاع : شرع الله القتال دفاعاً في السنة الثانية من الهجرة يقول الله تعالى: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ------ إلى ----- ولله عاقبة الأمور ( 8 ) ثم حضّ الله عليه حضّاً شديداً في آخر الأمر فنزلت سورة براءة وهي من آخر ما نزل من القرآن وفيها قوله سبحانه: وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة ( 9 ) وسيأتي الكلام عليها مفصّلاً مع استيفاء ذكرها جميعاً إن شاء الله تعالى . ( 10 )
لماذا كانت آية اقرأ باسم ربك أول ما نزل وآية واتقوا يوماً آخر ما نزل :
إن من يتأمل أول آية نزلت اقرأ باسم ربك الذي خلق ( 11 ) يجد أن الإسلام دين العلم وأن القرآن قد حضّ على القراءة والتعلم , فالكلمة النورانية الأولى هي اقرأ للدلالة على أن نور العلم سيمحي بإذن الله جهالة الشرك والمشركين , وبعد هذه الآية تتابع نزول القرآن وكانت الهداية للبشرية إلى أن شاء الله أن يختتم تنزيل كتابه بقوله: واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ( 12 ) ليقول لنا إن العلم الذي أمرتم به ينبغي أن يكون نافعاً ليوصلكم في نهاية المطاف إلى تقوى الله عز وجل والاستعداد للقائه , كما أن الآية الأولى تُثبِت أن لهذا الكون خالقاً وهو الله والآية الثانية فيها إثباتٌ للمعاد والحشر , وتحت هذين الشيئين الإيمان بالله و اليوم الآخر تنطوي تعاليم ديننا الحنيف .
هل الاعتماد في تحديد أول وآخر ما نزل على النقل والتوقيف أم على العقل :
مدار هذا البحث على النقل والتوقيف ولا مجال للعقل فيه إلا بالترجيح بين الأدلة أو الجمع بينهما فيما ظاهره التعارض منها . ( 13 )
==================
المراجـع:
1- الوحي والقرآن الكريم – للدكتور : محمد حسين الذهبي - مكتبة وهبة - الطبعة الأولى .
2- مناهل العرفان في علوم القرآن – للأستاذ الشيخ : محمد عبد العظيم الزرقاني - دار المعرفة – بيروت – لبنان – الطبعة الثانية .
3- الإتقان في علوم القرآن – للإمام : جلال الدين السيوطي – حققه وعلق عليه وعمل فهارسه : عصام فارس الحرستاني – خرج أحاديثه : محمد أبو صعليك – دار الجيل –بيروت – الطبعة الأولى .
4- البرهان في علوم القرآن للإمام : - بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي – تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم – طبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه .
============
( 1 ) انظر كتاب الوحي والقرآن للدكتور محمد حسين الذهبي ص 111 .
( 2 ) انظر كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن جزء 1، ص 88 .
( 3 ) انظر كتاب الوحي والقرآن للدكتور محمد حسين الذهبي ص 111 .
( 4 ) سورة البقرة [الآية: 219]
( 5 ) سورة النساء[ الآية: 43]
( 6 ) سورة المائدة [الآية: 90-91]
( 7 ) انظر كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن جزء 1 ، ص 96 والإتقان في علوم القرآن جزء 1 ، ص 87 .
( 8 ) سورة الحج [الآية: 39-41 ]
( 9 ) سورة التوبة [الآية: 36]
( 10 ) انظر كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن جزء 1 ، ص 97 .
( 11 ) سورة العلق [ الآية :1]
( 12 ) سورة البقرة [الآية: 281 ]
( 13 ) انظر كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن جزء 1، ص 88 .