الإسرائيليات
لفظ الإسرائيليات وإن كان يدل بظاهره على اللون اليهودي للتفسير، وما كان للثقافة اليهودية من أثر ظاهر فيه ، إلا أنا نريد به ما هو أوسع من ذلك وأشمل ، فنريد به ما يعم اللون اليهودي واللون النصراني للتفسير ، وما تأثر به التفسير من الثقافتين اليهودية والنصرانية0
وإنما أطلقنا على جميع ذلك لفظ الإسرائيليات ، من باب التغليب للجانب اليهودي على الجانب النصراني ؛ فإن الجانب اليهودي هو الذي اشتهر أمره فكثر النقل عنه ؛ وذلك لكثرة أهله ، وظهور أمرهم ، وشدة اختلاطهم بالمسلمين من مبدأ ظهور الإسلام إلى أن بسط رواقه عن كثير من بلاد العالم ودخل الناس في دين الله أفواجا0
كان لليهود ثقافة دينية ، وكان للنصاري ثقافة دينية كذلك ، وكلتا الثقافتين كان لها أثر في التفسير إلى حد ما0
أما اليهود ، فإن ثقافتهم تعتمد أول ما تعتمد على التوراة التي أشار إليها القرآ بقوله : " إنا أنزلنا التوراة فيها هدي ونور" [ في الآية 44 من سورة المائدة ] ، ودل على بعض ما جاء فيها من أحكام بقوله : " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص " [ في الآية 45 من سورة المائدة ] 0
وكثيرا ما يستعمل المسلمون واليهود أنفسهم لفظ التوراة ويطلقونه على كل الكتب المقدسة عند اليهود فيشمل الزبور وغيره 0 وتسمي التوراة بما اشتملت عليه من الأسفار الموسوية وغيرها : العهد القديم0
وكان لليهود بجانب التوراة سنن ونصائح وشروح لم تؤخذ عن موسي بطريق الكتابة ، وإنما تحملوها ونقلوها بطريق المشافهة0 ثم نمت على مرور الزمن وتعاقب الأجيال ، ثم دونت وعرفت باسم التلمود ، ووجد بجوار ذلك كثير من الأدب اليهودي ، والقصص ، والتاريخ ، والتشريع ، والأساطير0
وأما النصاري فكانت ثقافتهم تعتمد ـ في الغالب الأعم ـ على الإنجيل وقد أشار القرآن إلى أنه من كتب السماء التى نزلت على الرسل فقال : " ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسي بن مريم وآتيناه الإنجيل [ في الآية 72 من سورة الحديد ] وغير هذا كثير من آيات القرآن التي تشهد له بذلك0
والأناجيل المعتبرة عند النصاري يطلق عليها وعلى ما انضم إليها من رسائل الرسل 0 اسم : العهد الجديد 0 والكتاب المقدس لدي النصاري يشمل : التوراة والإنجيل ويطلق عليه : العهد القديم والعهد الجديد0
وكان طبيعيا أن يشرح الإنجيل بشروح مختلفة ، كانت فيما بعد منبعا من منابع الثقافة النصرانية ، كما وجد بجوار ذلك ما زاده النصاري من القصص ، والأخبار ، والتعاليم ، التي زعموا أنهم تلقوها عن عيسي عليه السلام ، وهذا كله كان من ينابيع هذه الثقافة النصرانية0
إذا فقد كانت التوراة المصدر الأول لثقافة اليهود الدينية ، كما كان الإنجيل المصدر الأهم لثقافة النصاري الدينية 0
وإذا نحن أجلنا النظر في التوراة والإنجيل نجد أنها قد اشتملا على كثير مما اشتمل عليه القرآن الكريم ، وبخاصة ما كان له تعلق بقصص الأنبياء عليهم السلام ، وذلك على اختلاف في الإجمال والتفصيل ، فالقرآن إذا عرض لقصة من قصص الأنبياء ـ مثلا ـ فإنه ينحو فيها ناحية يخالف بها منحي التوراة أو الإنجيل ، فتراه يقتصر على مواضع العظة ، ولا يتعرض لتفصيل جزئيات المسائل ، فلا يذكر تاريخ الوقائع ، ولا أسماء البلدان التي حصلت فيها كما أنه لا يذكر في الغالب أسماء الأشخاص الذين جرت علي أيديهم بعض الحوادث 0 ويدخل في تفاصيل الجزئيات ، بل يتخير من ذلك ما يمس جوهر الموضوع ، وما يتعلق بموضع العبرة0
وإذا نحن تتبعنا هذه الموضوعات التي اتفق في ذكرها القرآن والتوراة ، أو القرآن والإنجيل، ثم أخذنا موضوعا منها ، وقارنا بين ما جاء في الكتابين وجدنا اختلاف المسلك ظاهرا جليا 0
فمثلا قصة آدم عليه السلام ، ورد ذكرها في التوراة ، كما وردت في القرآن في مواضع كثيرة ، أطولها ما ورد في سورة البقرة ، وما ورد في سورة الأعراف ، وبالنظر في هذه الآيات من السورتين ، نجد أن القرآن لم يتعرض لمكان الجنة ، ولا لنوع الشجرة التي نهيي آدم وزوجه عن الأكل منها ، ولا بين الحيوان الذي تقمصه الشيطان فدخل الجنة ليزل آدم وزوجه 0 كما لم يتعرض للبقعة التي هبط إليها آدم وزوجه وأقام بها بعد خروجهما من الجنة 000 إلى آخر ما يتعلق بهذه القصة من تفاصيل وتوضيح0
ولكن نظرة واحدة يجيلها الإنسان في التوراة يجد بعدها أنها قد تعرضت لكل ذلك وأكثر منه ، فأبانت أن الجنة في عدن شرقا ، وأن الشجرة التي نهيا عنها كانت في وسط الجنة ، وأنها شجرة الحياة ، وأنها شجرة معرفة الخير والشر ، وأن الذي خاطب حواء هو الحية ، وذكرت ما انتقم الله به من الحية التي تقمصها إبليس ، بأن جعلها تسعي على بطنها وتأكل التراب ، وانتقم من حواء بتعبها هي ونسلها في حبلها 000 الخ ما ذكر فيها مما يتعلق بهذه القصة 0
ومثلا نجد القرآن الكريم قد اشتمل علي موضوعات وردت في الإنجيل فمن ذلك قصة عيسي ومريم ، ومعجزات عيسي عليه السلام ، كل ذلك جاء به القرآن في أسلوب موجز ، يقتصر على موضع العظة ومكان العبرة ، فلم يتعرض القرآن لنسب عيسي مفصلا ، ولا لكيفية ولادته ، ولا للمكان الذي ولد فيه ، ولا لذكر الشخص الذي قذفت به مريم ، كما لم يتعرض لنوع الطعام الذي نزلت به مائدة السماء ، ولا لحوادث جزئية من إبراء عيسي للأكمه والأبرص وإحياء الموتي000
مع أننا لو نظرنا في الإنجيل لوجدناه قد تعرض لنسب عيسي ، ولكيفية ولادة مريم له ، ولذكر الشخص الذي قذفت به مريم ، ولنوع الطعام الذي نزلت به مائدة السماء ، ولحوادث جزئية من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتي ، ولكثير من مثل هذا التفصيل الموسع الذي أعرض عنه القرآن فلم يذكره لنا0
وبعد 000 فهل يجد المسلمون هذا الإيجاز في كتابهم ، ويجدون بجانب ذلك تفصيلا لهذا الإيجاز في كتب الديانات الأخري ، ثم لا يقتبسون منها بقدر ما يرون أنه شارح لهذا الإيجاز وموضح لما فيه من غموض ؟ 00 هذا ما نريد أن نعرض له في هذا البحث ، ليتبين لنا كيف دخلت الإسرائيليات في التفسير ، وكيف تطور هذا الدخول ، وإلى أي حد تأثر التفسير بالتعاليم اليهودية والنصرانية 0
وإنما أطلقنا على جميع ذلك لفظ الإسرائيليات ، من باب التغليب للجانب اليهودي على الجانب النصراني ؛ فإن الجانب اليهودي هو الذي اشتهر أمره فكثر النقل عنه ؛ وذلك لكثرة أهله ، وظهور أمرهم ، وشدة اختلاطهم بالمسلمين من مبدأ ظهور الإسلام إلى أن بسط رواقه عن كثير من بلاد العالم ودخل الناس في دين الله أفواجا0
كان لليهود ثقافة دينية ، وكان للنصاري ثقافة دينية كذلك ، وكلتا الثقافتين كان لها أثر في التفسير إلى حد ما0
أما اليهود ، فإن ثقافتهم تعتمد أول ما تعتمد على التوراة التي أشار إليها القرآ بقوله : " إنا أنزلنا التوراة فيها هدي ونور" [ في الآية 44 من سورة المائدة ] ، ودل على بعض ما جاء فيها من أحكام بقوله : " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص " [ في الآية 45 من سورة المائدة ] 0
وكثيرا ما يستعمل المسلمون واليهود أنفسهم لفظ التوراة ويطلقونه على كل الكتب المقدسة عند اليهود فيشمل الزبور وغيره 0 وتسمي التوراة بما اشتملت عليه من الأسفار الموسوية وغيرها : العهد القديم0
وكان لليهود بجانب التوراة سنن ونصائح وشروح لم تؤخذ عن موسي بطريق الكتابة ، وإنما تحملوها ونقلوها بطريق المشافهة0 ثم نمت على مرور الزمن وتعاقب الأجيال ، ثم دونت وعرفت باسم التلمود ، ووجد بجوار ذلك كثير من الأدب اليهودي ، والقصص ، والتاريخ ، والتشريع ، والأساطير0
وأما النصاري فكانت ثقافتهم تعتمد ـ في الغالب الأعم ـ على الإنجيل وقد أشار القرآن إلى أنه من كتب السماء التى نزلت على الرسل فقال : " ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسي بن مريم وآتيناه الإنجيل [ في الآية 72 من سورة الحديد ] وغير هذا كثير من آيات القرآن التي تشهد له بذلك0
والأناجيل المعتبرة عند النصاري يطلق عليها وعلى ما انضم إليها من رسائل الرسل 0 اسم : العهد الجديد 0 والكتاب المقدس لدي النصاري يشمل : التوراة والإنجيل ويطلق عليه : العهد القديم والعهد الجديد0
وكان طبيعيا أن يشرح الإنجيل بشروح مختلفة ، كانت فيما بعد منبعا من منابع الثقافة النصرانية ، كما وجد بجوار ذلك ما زاده النصاري من القصص ، والأخبار ، والتعاليم ، التي زعموا أنهم تلقوها عن عيسي عليه السلام ، وهذا كله كان من ينابيع هذه الثقافة النصرانية0
إذا فقد كانت التوراة المصدر الأول لثقافة اليهود الدينية ، كما كان الإنجيل المصدر الأهم لثقافة النصاري الدينية 0
وإذا نحن أجلنا النظر في التوراة والإنجيل نجد أنها قد اشتملا على كثير مما اشتمل عليه القرآن الكريم ، وبخاصة ما كان له تعلق بقصص الأنبياء عليهم السلام ، وذلك على اختلاف في الإجمال والتفصيل ، فالقرآن إذا عرض لقصة من قصص الأنبياء ـ مثلا ـ فإنه ينحو فيها ناحية يخالف بها منحي التوراة أو الإنجيل ، فتراه يقتصر على مواضع العظة ، ولا يتعرض لتفصيل جزئيات المسائل ، فلا يذكر تاريخ الوقائع ، ولا أسماء البلدان التي حصلت فيها كما أنه لا يذكر في الغالب أسماء الأشخاص الذين جرت علي أيديهم بعض الحوادث 0 ويدخل في تفاصيل الجزئيات ، بل يتخير من ذلك ما يمس جوهر الموضوع ، وما يتعلق بموضع العبرة0
وإذا نحن تتبعنا هذه الموضوعات التي اتفق في ذكرها القرآن والتوراة ، أو القرآن والإنجيل، ثم أخذنا موضوعا منها ، وقارنا بين ما جاء في الكتابين وجدنا اختلاف المسلك ظاهرا جليا 0
فمثلا قصة آدم عليه السلام ، ورد ذكرها في التوراة ، كما وردت في القرآن في مواضع كثيرة ، أطولها ما ورد في سورة البقرة ، وما ورد في سورة الأعراف ، وبالنظر في هذه الآيات من السورتين ، نجد أن القرآن لم يتعرض لمكان الجنة ، ولا لنوع الشجرة التي نهيي آدم وزوجه عن الأكل منها ، ولا بين الحيوان الذي تقمصه الشيطان فدخل الجنة ليزل آدم وزوجه 0 كما لم يتعرض للبقعة التي هبط إليها آدم وزوجه وأقام بها بعد خروجهما من الجنة 000 إلى آخر ما يتعلق بهذه القصة من تفاصيل وتوضيح0
ولكن نظرة واحدة يجيلها الإنسان في التوراة يجد بعدها أنها قد تعرضت لكل ذلك وأكثر منه ، فأبانت أن الجنة في عدن شرقا ، وأن الشجرة التي نهيا عنها كانت في وسط الجنة ، وأنها شجرة الحياة ، وأنها شجرة معرفة الخير والشر ، وأن الذي خاطب حواء هو الحية ، وذكرت ما انتقم الله به من الحية التي تقمصها إبليس ، بأن جعلها تسعي على بطنها وتأكل التراب ، وانتقم من حواء بتعبها هي ونسلها في حبلها 000 الخ ما ذكر فيها مما يتعلق بهذه القصة 0
ومثلا نجد القرآن الكريم قد اشتمل علي موضوعات وردت في الإنجيل فمن ذلك قصة عيسي ومريم ، ومعجزات عيسي عليه السلام ، كل ذلك جاء به القرآن في أسلوب موجز ، يقتصر على موضع العظة ومكان العبرة ، فلم يتعرض القرآن لنسب عيسي مفصلا ، ولا لكيفية ولادته ، ولا للمكان الذي ولد فيه ، ولا لذكر الشخص الذي قذفت به مريم ، كما لم يتعرض لنوع الطعام الذي نزلت به مائدة السماء ، ولا لحوادث جزئية من إبراء عيسي للأكمه والأبرص وإحياء الموتي000
مع أننا لو نظرنا في الإنجيل لوجدناه قد تعرض لنسب عيسي ، ولكيفية ولادة مريم له ، ولذكر الشخص الذي قذفت به مريم ، ولنوع الطعام الذي نزلت به مائدة السماء ، ولحوادث جزئية من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتي ، ولكثير من مثل هذا التفصيل الموسع الذي أعرض عنه القرآن فلم يذكره لنا0
وبعد 000 فهل يجد المسلمون هذا الإيجاز في كتابهم ، ويجدون بجانب ذلك تفصيلا لهذا الإيجاز في كتب الديانات الأخري ، ثم لا يقتبسون منها بقدر ما يرون أنه شارح لهذا الإيجاز وموضح لما فيه من غموض ؟ 00 هذا ما نريد أن نعرض له في هذا البحث ، ليتبين لنا كيف دخلت الإسرائيليات في التفسير ، وكيف تطور هذا الدخول ، وإلى أي حد تأثر التفسير بالتعاليم اليهودية والنصرانية 0
مبدأ دخول الإسرائيليات في التفسير وتطوره
نستطيع أن نقول : إن دخول الإسرائيليات في التفسير ، أمر يرجع إلى عهد الصحابة رضي الله عنهم ، وذلك نظرا لاتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل في ذكر بعض المسائل كما تقدم ، مع فارق واحد ؛ هو الإيجاز في القرآن ، والبسط والإطناب في التوراة والإنجيل 0 وسبق لنا القول بأن الرجوع إلى أهل الكتاب، كان مصدرا من مصادر التفسير عند الصحابة ، فكان الصحابي إذا مر على قصة من قصص القرآن يجد من نفسه ميلا إلى أن يسأل عن بعض ما طواه القرآن منها ولم يتعرض له ، فلا يجد من يجيبه على سؤاله سوي هؤلاء النفر الذين دخلوا في الإسلام ، وحملوا إلى أهله ما معهم من ثقافة دينية ، فألقوا إليهم ما ألقوا من الأخبار والقصص الديني
غير أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ لم يسألوا أهل الكتاب عن كل شئ ، ولم يقبلوا منهم كل شئ ، بل كانوا يسألون عن أشياء لا تعدو أن تكون توضيحا للقصة وبيانا لما أجمله القرآن منها ، مع توقفهم فيما يلقي إليهم ، فلا يحكمون عليه بصدق أو بكذب ما دام يحتمل كلا الأمرين ، امتثالا لقول الرسول صلي الله عليه وسلم : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولا آمنا بالله وما أنزل إلينا 000 الآية
غير أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ لم يسألوا أهل الكتاب عن كل شئ ، ولم يقبلوا منهم كل شئ ، بل كانوا يسألون عن أشياء لا تعدو أن تكون توضيحا للقصة وبيانا لما أجمله القرآن منها ، مع توقفهم فيما يلقي إليهم ، فلا يحكمون عليه بصدق أو بكذب ما دام يحتمل كلا الأمرين ، امتثالا لقول الرسول صلي الله عليه وسلم : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولا آمنا بالله وما أنزل إلينا 000 الآية
كما أنهم لم يسألوهم عن شئ مما يتعلق بالعقيدة أو يتصل بالأحكام ، اللهم إلا إذا كان على جهة الاستشهاد والتقوية لما جاء به القرآن 0 كذلك كانوا لا يعدلون عما ثبت عن الرسول صلي الله عليه وسلم من ذلك إلى سؤال أهل الكتاب ، لأنه إذا ثبت الشئ عن الرسول صلي الله عليه وسلم فليس لهم أن يعدلوا عنه إلى غيره ، كما كانوا لا يسألون عن الأشياء التي يشبه أن يكون السؤال عنها نوعا من اللهو والعبث ، كالسؤال عن لون كلب أهل الكهف ، والبعض الذي ضرب به القتيل من البقرة ، ومقدار سفينة نوح ، ونوع خشبها ، واسم الغلام الذي قتله الخضر 000 وغير ذلك ، ولهذا قال الدهلوي بعد أن بين أن السؤال عن مثل هذا تكلف ما لا يعني : " وكانت الصحابة رضي الله عنهم يعدون مثل ذلك قبيحا من قبيل تضييع الأوقات "
كذلك كان الصحابة لا يصدقون اليهود فيما يخالف الشريعة أو يتنافي مع العقيدة ، بل بلغ بهم الأمر أنهم كانوا إذا سألوا أهل الكتاب عن شئ فأجابوا عنه خطأ ، ردوا عليهم خطأهم ، وبينوا لهم وجه الصواب فيه ، فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال : فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالي شيئا إلا أعطاه إياه 0 وأشار بيده يقللها 0
فقد اختلف السلف في تعيين هذه الساعة ، وهل هي باقية أو رفعت ؟ وإذا كانت باقية ، فهل هي في جمعة واحدة من السنة أو في كل جمعة منها ؟ فنجد أبا هريرة رضي الله عنه يسأل كعب الأحبار عن ذلك ، فيجيبه كعب : بأنه في جمعة واحدة من السنة ، فيرد عليه أبو هريرة قوله هذا ويبين له : أنها في كل جمعة فيرجع كعب إلى التوراة ، فيري الصواب مع أبي هريرة فيرجع إليه ، كما نجد أبا هريرة أيضا يسأل عبد الله بن سلام عن تحديد هذه الساعة ويقول له : أخبرني ولا تضن على ، فيجيبه عبد الله بن سلام بأنها آخر ساعة في يوم الجمعة ، فيرد عليه أبو هريرة بقوله : كيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي " وتلك الساعة لا يصلي فيها ؟ ، فيجيبه عبد الله بن سلام بقوله : ألم يقل رسول الله صلي الله عليه وسلم : من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي ؟ 000 الحديث.
فمثل هذه المراجعة التي كانت بين أبي هريرة وكعب تارة ، وبينه وبين ابن سلام تارة أخري ، تدلنا على أن الصحابة كانوا لا يقبلون كل ما يقال لهم ، بل كانوا يتحرون الصواب ما استطاعوا ، ويردون على أهل الكتاب أقوالهم إن كانت لا توافق وجه الصواب0
ومهما يكن من شئ فإن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم يخرجوا عن دائرة الجواز التي حدها لهم رسول الله صلي الله عليه وسلم وعما فهموه من الإباحة في قوله عليه السلام " بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " 0
كما أنهم لم يخالفوا قول رسول الله صلي الله عليه وسلم " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولا آمنا بالله وما أنزل إلينا 00 الآية ، ولا تعرض بين هذين الحديثين ، لأن الأول أباح لهم أن يحدثوا عما وقع لبني إسرائيل من الأعاجيب ، لما فيها من العبرة والعظة ، وهذا بشرط أن يعلموا أنه ليس مكذوبا ، لأن الرسول صلي الله عليه وسلم لا يعقل أن يبيح لهم رواية المكذوب0
قال الحافظ بن حجر في الفتح عند شرحه لهذا الحديث : وقال الشافعي : من المعلوم أن النبي صلي الله عليه وسلم لا يجيز التحدث بالكذب ، فالمعنى : حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه ، وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم 0 وهو نظير قوله : إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم 0 ولم يرد الإذن ولا المنع من التحدث بما يقطع بصدقه " اهـ 0
وأما الحديث الثاني ، فيراد منه التوقف فيما يحدث به أهل الكتاب ، مما يكون محتملا للصدق والكذب ، لأنه ربما كان صدقا فيكذبونه ، أو كذبا فيصدقونه ، فيقعون بذلك في الحرج 0 أما ما خالف شرعنا فنحن في حل من تكذيبه ، وأما ما وافقه فنحن في حل من تصديقه0
قال الحافظ بن حجر في الفتح عند شرحه لهذا الحديث : وقال الشافعي : من المعلوم أن النبي صلي الله عليه وسلم لا يجيز التحدث بالكذب ، فالمعنى : حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه ، وأما ما تجوزونه فلا حرج علكم ولا تكذبوهم : ولم يرد الإذن ولا المنع بما يقطع بصدقه " اهـ
وأما الحديث الثاني ، فيراد منه التوقف فيما يحدث به أهل الكتاب، مما يكون محتملا للصدق والكذب ، لأنه ربما كان صدقا فيكذبونه ، أو كذبا فيصدقونه ، فيقعون بذلك في الحرج 0 أما ما خالف شرعنا فنحن في حل من تكذيبه ، وأما ما وافقه فنحن في حل من تصديقه 0
قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " أي إذا كان ما يخبرونكم به محتملا ، لئلا يكون في نفس الأمر صدقا فتكذبوه ، أو كذبا فتصدقوه ، فتقعوا في الحرج ، ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه ، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه 0 نبه على ذلك الشافعي رحمه الله " 000 ثم قال : وعلى هذا نحمل ما جاء عن السلف من ذلك0
وأما ما أخرجه الإمام أحمد ، وابن أبي شيبة ، والبزار ، من حديث جابر بن عبد الله ، أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلي الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب ، فقرأه عليه فغضب فقال : أمتهوكون فيها يا بن الخطاب ؟ والذي نفسي بيده ، لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فتكذبوا به ، أو بباطل فتصدقوا به 0 والذي نفسي بيده ، لو أن موسى صلي الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " ، فلا يعارض ما قلناه من الجواز ، لأن النهي الوارد هنا كان في مبدأ الإسلام وقبل استقرار الأحكام ، والإباحة بعد أن عرفت الأحكام واستقرت ، وذهب خوف الاختلاط قال الحافظ ابن حجر في الفتح " وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية ، والقواعد الدينية خشية الفتنة ، لما زال المحذور وقع الأذن في ذلك ، لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار " اهـ 0
ويمكن أن ندفع ما يتوهم من التعارض بما نقله ابن بطال عن المهلب أنه قال " هذا النهي إنما هو في سؤالهم عما لا نص فيه ، لأن شرعنا مكتف بنفسه ، فإذا لم يوجد فيه نص ففي النظر والاستدلال غني عن سؤالهم ، ولا يدخل في النهي سؤالهم عن الأخبار المصدقة لشرعنا ، والأخبار عن الأمم السالفة " 0
ومن هذا كله يتبين لنا : أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث الثلاثة ، كما يتبين لنا المقدار الذي أباحه الشارع من الرواية عن أهل الكتاب0
ولسنا بعد ما فهمناه من هذه الأحاديث ، وما عرفناه من حرص الصحابة على امتثال ما أمرهم به الرسول صلي الله عليه وسلم ، نستطيع أن نقر الأستاذ جولد زيهر والأستاذ أحمد أمين على هذا الاتهام الذي وجهاه إلى ابن عباس خاصة ، وإلى الصحابة عامة ، من رجوعهم إلى الكتاب في كل شئ ، وقبولهم لما نهي الرسول عن أخذه من أهل الكتاب ، وقد ذكرنا كلامهما ورددنا عليه عند الكلام عن ابن عباس ، كما ذكرنا الأثر الذي أخرجه البخاري عن ابن عباس ، وفيه يشدد ـ رضي الله عنه ـ النكير على من يأخذون من أهل الكتاب ويصدقونه في كل شئ ، فهل يعقل بعد هذا ، وبعد ما عرفناه من عدالة الصحابة وحرصهم على امتثال أوامر الله ورسوله ، ومراجعة أبي هريرة لكعب الأحبار وعبد الله ابن سلام ، أن نعترف بتهاون الصحابة ومخالفتهم لتعاليم رسول الله صلي الله عليه وسلم !! ؟ اللهم إنا لا نقر ذلك ولا نرضاه0
وأما ما ذكره الأستاذ جولد زيهر : من أن ابن عباس كان يرجع لرجل يسمي أبا الجلد غيلان بن فروة الأزدي في تفسير القرآن ، فعلي فرض صحة ذلك 0 فإنا لا نكاد نصدق أن ابن عباس كان يرجع إليه في كل شئ ، بل كان يرجع إليه فيسأله عن أشياء لا تعدو دائرة الجواز ، وليس من شك في ذلك بعد ما عرفت من شدة نكير ابن عباس على من كان يرجع لأهل الكتاب ويأخذ عنهم0
وأما ما اعتمد عليه هذا المستشرق في دعواه هذه ، من أن الطبري عند تفسيره للفظ البرق في قوله تعالي في الآية (12) من سورة الرعد " هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا " نسب إلى ابن عباس أنه قال : إن أبا الجلد يقول : إن معناه المطر فهو اعتماد لا يكاد ينهض بهذه الدعوى ؛ لأن ما رواه ابن جرير رواه عن المثني ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا موسي بن سالم أبو جهضم مولي ابن عباس قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن البرق فقال : البرق : الماء00 ) وهذا إسناد منقطع ، لأن موسي بين سالم أبا جهضم لم يدرك ابن عباس ، ولم يكن مولي له ، وإنما كان مولي العباسيين ، وروي عن أبي جعفر الباقر الذي كان بعد ابن عباس بمدة طويلة ، ولعل ما قاله ابن جرير من أنه مولي ابن عباس سهو منه ، أو لعله خطأ وقع أثناء الطبع0
ثم إن سؤال ابن عباس عن معنى البرق ، ليس سؤالا عن أمر يتعلق بالعقيدة أو الأحكام ، وإنما هو سؤال يرجع إلي تعرف بعض ظواهر الكون الطبيعية ، وليس في هذا ما يجر إلى مخالفة الرسول صلي الله عليه وسلم في نهيه عن سؤال أهل الكتاب 0 على أن الحديث ليس فيه ما يدل على أن ابن عباس صدق أبا الجلد فيما قال ، وكل ما فيه : أنه حكي قوله في البرق0
وأما ما نسب لعبد الله بن عمرو بن العاص من أنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب اليهود فكان يحدث منهما ، فليس على إطلاقه ، بل كان يحدث منهما في حدود ما فهمه من الإذن في قوله عليه السلام ( حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) كما نص على ذلك ابن تيمية
هذا هو مبلغ رجوع الصحابة إلى أهل الكتاب وأخذهم عنهم 0 أما التابعون فقد توسعوا في الأخذ عن أهل الكتاب ، فكثرت على عهدهم الروايات الإسرائيلية في التفسير ، ويرجع ذلك لكثرة من دخل من أهل الكتاب في الإسلام ، وميل نفوس القوم لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن من أحداث يهودية أو نصرانية ، فظهرت في هذا العهد جماعة من المفسرين أرادوا أن يسدوا هذه الثغرات القائمة في التفسير بما هو موجود عند اليهود والنصاري ؛ فحشوا التفسير بكثير من القصص المتناقض ، ومن هؤلاء : مقاتل بن سليمان المتوفي سنة 150هـ الذي نسبه أبو حاتم إلى أنه استقي علومه بالقرآن من اليهود والنصاري وجعلها موافقة لما في كتبهم ، بل ونجد بعض المفسرين في هذا العصر ـ عصر التابعين ـ يصل بهم الأمر إلى أن يصلوا بين القرآن وما يتعلق بالإسلام في مستقبله ، فيشرحوا القرآن بما يشبه التكهن عن المستقبل ، والتنبؤ بما يطويه الغيب ، فهذا مقاتل بن سليمان ، كان يري أن قوله تعالي " وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا " يرجع إلى فتح القسطنطينية ، وتدمير الأندلس وغيرها من البلاد ، فقد جاء عنه أنه قال : وجدت في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها " أما مكة فتخربها الحبشة ، وتهلك المدينة بالجوع ، والبصرة بالغرق ، والكوفة بالترك ، والجبال بالصواعق والرواجف ، وأما خراسان فهلاكها ضروب 000 ثم ذكرا بلدا 0 وروي عن وهب بن منبه : أن الجزيرةآمنة من الخراب حتى تخرب أمينية ، وأرمينية آمنة حتى تخرب مصر ، ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة ، ولا تكون الملحمة الكبري حتى تخرب الكوفة ، فإذا كانت الملحمة الكبري ، فتحت قسطنطينية على يد رجل من بني هاشم ، وخراب الأندلس من قبل الزنج ، وخراب أفريقية من قبل الأندس ، وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها ، وخراب العراق من الجوع ، وخراب الكوفة من قبل عدو يحصرهم ويمنعهم من الشراب من الفرات ، وخراب البصرة من قبل العراق [ العراق ] ، وخراب الأيلة من عدو يحصرهم برا وبحرا ، وخراب الري من الديلم ، وخراب خراسان من قبل التبت ، وخراب التبت من قبل الصين ، وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان ، وخراب مكة من الحبشة ، وخراب المدينة من قبل الجوع " اهـ 0
ثم جاء بعد عصر التابعين من عظم شغفه بالإسرائيليات ، وأفرط في الأخذ منها إلى درجة جعلتهم لا يردون قولا 0 ولا يحجمون عن أن يلصقوا بالقرآن كل ما يروي لهم وإن كان لا يتصوره العقل !! 0 واستمر هذا الشغف بالإسرائيليات ، والولع بنقل هذه الأخبار التي أصبح الكثير منها نوعا من الخرافة إلى أن جاء دور التدوين للتفسير ، فوجد من المفسرين من حشوا كتبهم بهذا القصص الإسرائيلي ، الذي كاد يصد الناس عن النظر فيها والركون إليها 0
كذلك كان الصحابة لا يصدقون اليهود فيما يخالف الشريعة أو يتنافي مع العقيدة ، بل بلغ بهم الأمر أنهم كانوا إذا سألوا أهل الكتاب عن شئ فأجابوا عنه خطأ ، ردوا عليهم خطأهم ، وبينوا لهم وجه الصواب فيه ، فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال : فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالي شيئا إلا أعطاه إياه 0 وأشار بيده يقللها 0
فقد اختلف السلف في تعيين هذه الساعة ، وهل هي باقية أو رفعت ؟ وإذا كانت باقية ، فهل هي في جمعة واحدة من السنة أو في كل جمعة منها ؟ فنجد أبا هريرة رضي الله عنه يسأل كعب الأحبار عن ذلك ، فيجيبه كعب : بأنه في جمعة واحدة من السنة ، فيرد عليه أبو هريرة قوله هذا ويبين له : أنها في كل جمعة فيرجع كعب إلى التوراة ، فيري الصواب مع أبي هريرة فيرجع إليه ، كما نجد أبا هريرة أيضا يسأل عبد الله بن سلام عن تحديد هذه الساعة ويقول له : أخبرني ولا تضن على ، فيجيبه عبد الله بن سلام بأنها آخر ساعة في يوم الجمعة ، فيرد عليه أبو هريرة بقوله : كيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي " وتلك الساعة لا يصلي فيها ؟ ، فيجيبه عبد الله بن سلام بقوله : ألم يقل رسول الله صلي الله عليه وسلم : من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي ؟ 000 الحديث.
فمثل هذه المراجعة التي كانت بين أبي هريرة وكعب تارة ، وبينه وبين ابن سلام تارة أخري ، تدلنا على أن الصحابة كانوا لا يقبلون كل ما يقال لهم ، بل كانوا يتحرون الصواب ما استطاعوا ، ويردون على أهل الكتاب أقوالهم إن كانت لا توافق وجه الصواب0
ومهما يكن من شئ فإن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم يخرجوا عن دائرة الجواز التي حدها لهم رسول الله صلي الله عليه وسلم وعما فهموه من الإباحة في قوله عليه السلام " بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " 0
كما أنهم لم يخالفوا قول رسول الله صلي الله عليه وسلم " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولا آمنا بالله وما أنزل إلينا 00 الآية ، ولا تعرض بين هذين الحديثين ، لأن الأول أباح لهم أن يحدثوا عما وقع لبني إسرائيل من الأعاجيب ، لما فيها من العبرة والعظة ، وهذا بشرط أن يعلموا أنه ليس مكذوبا ، لأن الرسول صلي الله عليه وسلم لا يعقل أن يبيح لهم رواية المكذوب0
قال الحافظ بن حجر في الفتح عند شرحه لهذا الحديث : وقال الشافعي : من المعلوم أن النبي صلي الله عليه وسلم لا يجيز التحدث بالكذب ، فالمعنى : حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه ، وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم 0 وهو نظير قوله : إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم 0 ولم يرد الإذن ولا المنع من التحدث بما يقطع بصدقه " اهـ 0
وأما الحديث الثاني ، فيراد منه التوقف فيما يحدث به أهل الكتاب ، مما يكون محتملا للصدق والكذب ، لأنه ربما كان صدقا فيكذبونه ، أو كذبا فيصدقونه ، فيقعون بذلك في الحرج 0 أما ما خالف شرعنا فنحن في حل من تكذيبه ، وأما ما وافقه فنحن في حل من تصديقه0
قال الحافظ بن حجر في الفتح عند شرحه لهذا الحديث : وقال الشافعي : من المعلوم أن النبي صلي الله عليه وسلم لا يجيز التحدث بالكذب ، فالمعنى : حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه ، وأما ما تجوزونه فلا حرج علكم ولا تكذبوهم : ولم يرد الإذن ولا المنع بما يقطع بصدقه " اهـ
وأما الحديث الثاني ، فيراد منه التوقف فيما يحدث به أهل الكتاب، مما يكون محتملا للصدق والكذب ، لأنه ربما كان صدقا فيكذبونه ، أو كذبا فيصدقونه ، فيقعون بذلك في الحرج 0 أما ما خالف شرعنا فنحن في حل من تكذيبه ، وأما ما وافقه فنحن في حل من تصديقه 0
قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " أي إذا كان ما يخبرونكم به محتملا ، لئلا يكون في نفس الأمر صدقا فتكذبوه ، أو كذبا فتصدقوه ، فتقعوا في الحرج ، ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه ، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه 0 نبه على ذلك الشافعي رحمه الله " 000 ثم قال : وعلى هذا نحمل ما جاء عن السلف من ذلك0
وأما ما أخرجه الإمام أحمد ، وابن أبي شيبة ، والبزار ، من حديث جابر بن عبد الله ، أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلي الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب ، فقرأه عليه فغضب فقال : أمتهوكون فيها يا بن الخطاب ؟ والذي نفسي بيده ، لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فتكذبوا به ، أو بباطل فتصدقوا به 0 والذي نفسي بيده ، لو أن موسى صلي الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " ، فلا يعارض ما قلناه من الجواز ، لأن النهي الوارد هنا كان في مبدأ الإسلام وقبل استقرار الأحكام ، والإباحة بعد أن عرفت الأحكام واستقرت ، وذهب خوف الاختلاط قال الحافظ ابن حجر في الفتح " وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية ، والقواعد الدينية خشية الفتنة ، لما زال المحذور وقع الأذن في ذلك ، لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار " اهـ 0
ويمكن أن ندفع ما يتوهم من التعارض بما نقله ابن بطال عن المهلب أنه قال " هذا النهي إنما هو في سؤالهم عما لا نص فيه ، لأن شرعنا مكتف بنفسه ، فإذا لم يوجد فيه نص ففي النظر والاستدلال غني عن سؤالهم ، ولا يدخل في النهي سؤالهم عن الأخبار المصدقة لشرعنا ، والأخبار عن الأمم السالفة " 0
ومن هذا كله يتبين لنا : أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث الثلاثة ، كما يتبين لنا المقدار الذي أباحه الشارع من الرواية عن أهل الكتاب0
ولسنا بعد ما فهمناه من هذه الأحاديث ، وما عرفناه من حرص الصحابة على امتثال ما أمرهم به الرسول صلي الله عليه وسلم ، نستطيع أن نقر الأستاذ جولد زيهر والأستاذ أحمد أمين على هذا الاتهام الذي وجهاه إلى ابن عباس خاصة ، وإلى الصحابة عامة ، من رجوعهم إلى الكتاب في كل شئ ، وقبولهم لما نهي الرسول عن أخذه من أهل الكتاب ، وقد ذكرنا كلامهما ورددنا عليه عند الكلام عن ابن عباس ، كما ذكرنا الأثر الذي أخرجه البخاري عن ابن عباس ، وفيه يشدد ـ رضي الله عنه ـ النكير على من يأخذون من أهل الكتاب ويصدقونه في كل شئ ، فهل يعقل بعد هذا ، وبعد ما عرفناه من عدالة الصحابة وحرصهم على امتثال أوامر الله ورسوله ، ومراجعة أبي هريرة لكعب الأحبار وعبد الله ابن سلام ، أن نعترف بتهاون الصحابة ومخالفتهم لتعاليم رسول الله صلي الله عليه وسلم !! ؟ اللهم إنا لا نقر ذلك ولا نرضاه0
وأما ما ذكره الأستاذ جولد زيهر : من أن ابن عباس كان يرجع لرجل يسمي أبا الجلد غيلان بن فروة الأزدي في تفسير القرآن ، فعلي فرض صحة ذلك 0 فإنا لا نكاد نصدق أن ابن عباس كان يرجع إليه في كل شئ ، بل كان يرجع إليه فيسأله عن أشياء لا تعدو دائرة الجواز ، وليس من شك في ذلك بعد ما عرفت من شدة نكير ابن عباس على من كان يرجع لأهل الكتاب ويأخذ عنهم0
وأما ما اعتمد عليه هذا المستشرق في دعواه هذه ، من أن الطبري عند تفسيره للفظ البرق في قوله تعالي في الآية (12) من سورة الرعد " هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا " نسب إلى ابن عباس أنه قال : إن أبا الجلد يقول : إن معناه المطر فهو اعتماد لا يكاد ينهض بهذه الدعوى ؛ لأن ما رواه ابن جرير رواه عن المثني ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا موسي بن سالم أبو جهضم مولي ابن عباس قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن البرق فقال : البرق : الماء00 ) وهذا إسناد منقطع ، لأن موسي بين سالم أبا جهضم لم يدرك ابن عباس ، ولم يكن مولي له ، وإنما كان مولي العباسيين ، وروي عن أبي جعفر الباقر الذي كان بعد ابن عباس بمدة طويلة ، ولعل ما قاله ابن جرير من أنه مولي ابن عباس سهو منه ، أو لعله خطأ وقع أثناء الطبع0
ثم إن سؤال ابن عباس عن معنى البرق ، ليس سؤالا عن أمر يتعلق بالعقيدة أو الأحكام ، وإنما هو سؤال يرجع إلي تعرف بعض ظواهر الكون الطبيعية ، وليس في هذا ما يجر إلى مخالفة الرسول صلي الله عليه وسلم في نهيه عن سؤال أهل الكتاب 0 على أن الحديث ليس فيه ما يدل على أن ابن عباس صدق أبا الجلد فيما قال ، وكل ما فيه : أنه حكي قوله في البرق0
وأما ما نسب لعبد الله بن عمرو بن العاص من أنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب اليهود فكان يحدث منهما ، فليس على إطلاقه ، بل كان يحدث منهما في حدود ما فهمه من الإذن في قوله عليه السلام ( حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) كما نص على ذلك ابن تيمية
هذا هو مبلغ رجوع الصحابة إلى أهل الكتاب وأخذهم عنهم 0 أما التابعون فقد توسعوا في الأخذ عن أهل الكتاب ، فكثرت على عهدهم الروايات الإسرائيلية في التفسير ، ويرجع ذلك لكثرة من دخل من أهل الكتاب في الإسلام ، وميل نفوس القوم لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن من أحداث يهودية أو نصرانية ، فظهرت في هذا العهد جماعة من المفسرين أرادوا أن يسدوا هذه الثغرات القائمة في التفسير بما هو موجود عند اليهود والنصاري ؛ فحشوا التفسير بكثير من القصص المتناقض ، ومن هؤلاء : مقاتل بن سليمان المتوفي سنة 150هـ الذي نسبه أبو حاتم إلى أنه استقي علومه بالقرآن من اليهود والنصاري وجعلها موافقة لما في كتبهم ، بل ونجد بعض المفسرين في هذا العصر ـ عصر التابعين ـ يصل بهم الأمر إلى أن يصلوا بين القرآن وما يتعلق بالإسلام في مستقبله ، فيشرحوا القرآن بما يشبه التكهن عن المستقبل ، والتنبؤ بما يطويه الغيب ، فهذا مقاتل بن سليمان ، كان يري أن قوله تعالي " وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا " يرجع إلى فتح القسطنطينية ، وتدمير الأندلس وغيرها من البلاد ، فقد جاء عنه أنه قال : وجدت في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها " أما مكة فتخربها الحبشة ، وتهلك المدينة بالجوع ، والبصرة بالغرق ، والكوفة بالترك ، والجبال بالصواعق والرواجف ، وأما خراسان فهلاكها ضروب 000 ثم ذكرا بلدا 0 وروي عن وهب بن منبه : أن الجزيرةآمنة من الخراب حتى تخرب أمينية ، وأرمينية آمنة حتى تخرب مصر ، ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة ، ولا تكون الملحمة الكبري حتى تخرب الكوفة ، فإذا كانت الملحمة الكبري ، فتحت قسطنطينية على يد رجل من بني هاشم ، وخراب الأندلس من قبل الزنج ، وخراب أفريقية من قبل الأندس ، وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها ، وخراب العراق من الجوع ، وخراب الكوفة من قبل عدو يحصرهم ويمنعهم من الشراب من الفرات ، وخراب البصرة من قبل العراق [ العراق ] ، وخراب الأيلة من عدو يحصرهم برا وبحرا ، وخراب الري من الديلم ، وخراب خراسان من قبل التبت ، وخراب التبت من قبل الصين ، وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان ، وخراب مكة من الحبشة ، وخراب المدينة من قبل الجوع " اهـ 0
ثم جاء بعد عصر التابعين من عظم شغفه بالإسرائيليات ، وأفرط في الأخذ منها إلى درجة جعلتهم لا يردون قولا 0 ولا يحجمون عن أن يلصقوا بالقرآن كل ما يروي لهم وإن كان لا يتصوره العقل !! 0 واستمر هذا الشغف بالإسرائيليات ، والولع بنقل هذه الأخبار التي أصبح الكثير منها نوعا من الخرافة إلى أن جاء دور التدوين للتفسير ، فوجد من المفسرين من حشوا كتبهم بهذا القصص الإسرائيلي ، الذي كاد يصد الناس عن النظر فيها والركون إليها 0
أقطاب الروايات الإسراءيلية
يتصفح الإنسان كتب التفسير 00 فلا يلبث أن يلحظ أن غالب ما يروي فيها من الإسرائيليات : يكاد يدور على أربعة أشخاص 00
هم :
عبد الله بن سلام
وكعب الأحبار
ووهب بن منبه
وعبد الله بن جريج
وهؤلاء الأربعة ، اختلفت أنظار الناس في الحكم عليهم والثقة بهم 0
فمنهم ، من ارتفع بهم عن حد التهمة 0
ومنهم 00 من رماهم بالكذب وعدم التثبت في الرواية
هم :
عبد الله بن سلام
وكعب الأحبار
ووهب بن منبه
وعبد الله بن جريج
وهؤلاء الأربعة ، اختلفت أنظار الناس في الحكم عليهم والثقة بهم 0
فمنهم ، من ارتفع بهم عن حد التهمة 0
ومنهم 00 من رماهم بالكذب وعدم التثبت في الرواية
الموقف عموماً من الإسرائيليات
وربما كان الاختلاف فيما لا فائدة فيه ولا حاجة بنا إلى معرفته مما وقع فيه بعض المفسرين في نقل إسرائيليات عن أهل الكتاب ، كاختلافهم في أسماء أصحاب الكهف ، ولون كلبهم ، وعددهم (34) ، وقد قال الله تعالي ( قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ) [ 22 ـ الكهف ] واختلافهم في قدر سفينة نوح وخشبها ، وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر وفي أسماء الطيور التي أحياها الله لابراهيم ، وفي نوع شجرة عصا موسي ، ونحو ذلك0 فهذه الأمور طريق العلم بها النقل 0 فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلي الله عليه وسلم قبل ، وإلا توقفنا عنه ، وإن كانت النفس تسكن إلى ما نقل عن الصحابة ، لأن نقلهم عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين
علمنا أن كثرة النقل عن أهل الكتاب بدون تفرقة بين الصحيح والعليل دسيسة دخلت في ديننا واستفحل خطرها ، كما علمنا أن قوله صلي الله عليه وسلم " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم" قاعدة مقررة لا يصح العدول عنها بأي حال من الأحوال ، وبعد هذا وذاك نقول : إنه يجب على المفسر أن يكون يقظا إلى أبعد حدود اليقظة ، ناقدا إلى نهاية ما يصل إليه النقاد من دقة وروية حتى يستطيع أن يستخلص من هذا الهشيم المركوم من الإسرائيليات ما يناسب روح القرآن ، ويتفق مع العقل والنقل ، كما يجب عليه أن لا يرتكب النقل عن أهل الكتاب إذا كان في سنة نبينا صلي الله عليه وسلم بيان لمجمل القرآن ، فمثلا حيث وجد لقوله تعالي " ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب" مجمل في السنة النبوية الصحيحة وهو قصة ترك (إن شاء الله) والمؤاخذة عليه فلا يرتكب قصة صخر المارد0
كذلك يجب على المفسر أن يلحظ أن الضروري يتقدر بقدر الحاجة ، فلا يذكر في تفسيره شيئا من ذلك إلا بقدر ما يقتضيه بيان الإجمال ؛ ليحصل التصديق بشهادة القرآن فكيف اللسان عن الزيادة0
نعم ، إذا اختلف المتقدمون في شئ من هذا القبيل وكثرت أقوالهم ونقولهم ، فلا مانع من نقل المفسر لهذه الأقوال جميعا ، على أن ينبه على الصحيح منها ، ويبطل الباطل ، وليس له أن يحكي الخلاف ويطلقه ، ولا ينبه على الصحيح من الأقوال ؛ لأن مثل هذا اعمل يعد ناقصا لا فائدة فيه ما دام قد خلط الصحيح بالعليل ، ووضع أمام القارئ من الأقوال المختلفة ما يسبب له الحيرة والاضطراب 0
على أن من الخير للمفسر أن يعرض كل الإعراض عن هذه الإسرائيليات وأن يمسك عما لا طائل تحته مما يعد صارفا عن القرآن ، وشاغلا عن التدبر في حكمه وأحكامه ، وبدهي أن هذا أحكم وأسلم0
هذا ، وقد يشير إلى ما قلناه من جواز نقل الخلاف عن المتقدمين على شريطة استيفاء الأقوال وتزييف الزائف منها وتصحيح الصحيح ، وأن من الخير أن يمسك الإنسان عن الخوض فيما لا طائل تحته ، ما جاء في الآية 22 من سورة الكهف من قوله تعالي " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراءا ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا " ، فقد اشتملت هذه الآية الكريمة ـ كما يقول ابن تيمية ـ على الأدب في هذا المقام ، وتعليم ما ينبغي في مثل هذا ، فإنه تعالي أخبر عنهم بثلاثة أقوال ضعف القولين الأولين ، وسكت عن الثالث، فدل على صحته ، إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما ، ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته ، فيقال في مثل هذا ( قل ربي أعلم بعدتهم ) فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه ، فلهذا قال ( فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ) أى لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته ، ولا تسألهم عن ذلك ؛ فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب
كذلك يجب على المفسر أن يلحظ أن الضروري يتقدر بقدر الحاجة ، فلا يذكر في تفسيره شيئا من ذلك إلا بقدر ما يقتضيه بيان الإجمال ؛ ليحصل التصديق بشهادة القرآن فكيف اللسان عن الزيادة0
نعم ، إذا اختلف المتقدمون في شئ من هذا القبيل وكثرت أقوالهم ونقولهم ، فلا مانع من نقل المفسر لهذه الأقوال جميعا ، على أن ينبه على الصحيح منها ، ويبطل الباطل ، وليس له أن يحكي الخلاف ويطلقه ، ولا ينبه على الصحيح من الأقوال ؛ لأن مثل هذا اعمل يعد ناقصا لا فائدة فيه ما دام قد خلط الصحيح بالعليل ، ووضع أمام القارئ من الأقوال المختلفة ما يسبب له الحيرة والاضطراب 0
على أن من الخير للمفسر أن يعرض كل الإعراض عن هذه الإسرائيليات وأن يمسك عما لا طائل تحته مما يعد صارفا عن القرآن ، وشاغلا عن التدبر في حكمه وأحكامه ، وبدهي أن هذا أحكم وأسلم0
هذا ، وقد يشير إلى ما قلناه من جواز نقل الخلاف عن المتقدمين على شريطة استيفاء الأقوال وتزييف الزائف منها وتصحيح الصحيح ، وأن من الخير أن يمسك الإنسان عن الخوض فيما لا طائل تحته ، ما جاء في الآية 22 من سورة الكهف من قوله تعالي " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراءا ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا " ، فقد اشتملت هذه الآية الكريمة ـ كما يقول ابن تيمية ـ على الأدب في هذا المقام ، وتعليم ما ينبغي في مثل هذا ، فإنه تعالي أخبر عنهم بثلاثة أقوال ضعف القولين الأولين ، وسكت عن الثالث، فدل على صحته ، إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما ، ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته ، فيقال في مثل هذا ( قل ربي أعلم بعدتهم ) فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه ، فلهذا قال ( فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ) أى لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته ، ولا تسألهم عن ذلك ؛ فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب