موسوعة علوم القرآن - التفسير : المفسرون من التابعين وأهم مدارسهم

المفسرون من التابعين وأهم مدارسهم

اشتهر بعض أعلام الصحابة في التفسير : اشتهر بعض أعلام التابعين ، الذين أخذوا عنهم من تلاميذهم بالتفسير كذلك معتمدين في مصادره على المصادر التي جاءت في العصر السابق بالإضافة إلى ما كان لهم من اجتهاد ونظر 

قال الأستاذ محمد حسين الذهبي : "وقد اعتمد هؤلاء المسفرون في فهمهم لكتاب الله تعالي على ما جاء في الكتاب نفسه 0 وعلى ما رووه عن الصحابة عن رسول الله صلي الله عليه وسلم 0 وعلى مارووه عن الصحابة من تفسيرهم أنفسهم0 وعلى ما أخذوه من أهل الكتاب مما جاء في كتبهم 0 وعلى ما يفتح الله به عليهم من طريق الاجتهاد والنظر في كتاب الله تعالي 0
       اتسعت الفتوحات الإسلامية ، وانتقل كثير من أعلام الصحابة إلى الأمصار المفتوحة ، ولدي كل واحد منهم علم 0وعلى يد هؤلاء تلقي تلاميذهم من التابعين علمهم ، وأخذوا عنهم ، ونشأت مدارس متعددة 0
       ففي مكة نشأت مدرسة ابن عباس ، واشتهر من تلاميذه بمكة : سعيد بن جبير ، ومجاهد وعكرمة مولي ابن عباس ، وطاوس بن كيسان اليماني ، وعطاء بن أبي رباح0
       وهؤلاء جميعا من الموالي ، وهم يختلفون في الرواية عن ابن عباس قلة وكثرة ، كما اختلف العماء في مقدار الثقة بهم والركون إليهم ، والذي ورد فيه شئ ذو بال هو عكرمة ، فإن العلماء يختلفون في توثيقه وإن كانوا يشهدون له بالعلم والفضل0
       وفي المدينة اشتهر أبي بن كعب بالتفسي أكثر من غيره ، وكثر ما نقل عنه في ذلك 0 واشتهر من تلاميذه من التابعين الذين أخذوا عنه مباشرة أو بالواسطة : زيد بن أسلم ، وأبو العالية ، ومحمد بن كعب القرظي0
       وفي العراق نشأت مدرسة ابن مسعود التي يعتبرها العلماء نواة مدرسة أهل الرأي : وعرف بالتفسير من أهل العراق كثير من التابعين 0 اشتهر منهم علقمة بن قيس ، ومسروق ، والأسود بن يزيد ، ومرة الهمذاني ، وعامر الشعبي ، والحسن البصري ، وقتادة بن دعامة السدوسي0
       هؤلاء هم مشاهير المفسرين من التابعين في الأمصار الإسلامية الذين أخذ عنهم أتباع التابعين من بعدهم 0 وخلفوا لنا تراثا علميا خالدا

خصائص عصر التابعين

       يمتاز التفسير في هذه المرحلة بالمميزات الآتية : 
       أولا : دخل في التفسير كثير من الإسرائيليات والنصرانيات ، وذلك لكثرة من دخل من أهل الكتاب في الإسلام ، وكان لا يزال عالقا بأذهانهم من الأخبار ما لا يتصل بالأحكام الشرعية ، كأخبار بدء الخليقة ، وأسرار الوجود ، وبدء الكائنات 0 وكثير من القصص0 وكانت النفوس ميالة لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن من أحداث يهودية أو نصرانية ، فتساهل التابعون فزجوا في التفسير بكثير من الإسرائيليات والنصرانيات بدون تحر ونقد 0 وأكثر من روي عنه في ذلك من مسلمي أهل الكتاب : عبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج 0 ولا شك أن الرجوع إلى هذه الإسرائيليات في التفسير أمر مأخوذ على التابعين كما هو مأخوذ على من جاء بعدهم [ انظر فجر الإسلام ص 252 ، ومنهج الفرقان ج2 ص 20 ]
       وسنأتي نعرض لهذه الناحية عرضا موسعا عند الكلام عن أسباب الضعف في رواية التفسير لمأثور إن شاء الله تعالي 0
       ثانيا : ظل التفسير محتفظا بطابع التلقي والرواية [ وما سبق من أن مجاهد بن جبر كتب التفسير كله عن ابن عباس ، وما يأتي بعد من أن سعيد بن جبير كتب تفسير القرآن ، لا يخرج بالتفسير في هذه المرحلة عن طابع التلقي والرواية ، لأن هذا عمل فردي لا يؤثر على الطابع العام ، إلا أنه لم يكن تلقيا ورواية بالمعنى الشامل كما هو الشأن في عصر النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه، بل كان تلقيا ورواية يغلب عليهما طابع الاختصا ، فأهل كل مصر يعنون ـ بوجه خاص ـ بالتلقي والرواية عن إمام مصرهم ، فالمكيون عن ابن عباس ، والمدنيون عن أبي ، والعراقيون عن ابن مسعود 00 0 وهكذا 0
       ثالثا : ظهرت في هذا العصر نواة الخلاف المذهبي ، فظهرت بعض تفسيرات تحمل في طياتها هذه المذاهب ، فنجد مثلا قتادة بن دعامة السدوسي ينسب إلى الخوض في القضاء والقدر ويتهم بأنه قدري ، ولا شك أن هذا أثر على تفسيره ، ولهذا قد تحرج بعض الناس من الرواية عنه ونجد الحسن البصري قد فسر القرآن على إثبات القدر ، ويكفر من كذب به كما ذكرنا ذلك في ترجمته0
       رابعا: كثرة الخلاف بين التابعين في التفسير عما كان بين الصحابة رضوان الله عليهم ، وإن كان اختلافا قليلا بالنسبة لما وقع بعد ذلك من متأخري المفسرين

 

 

إطلالة على أشهر المفسرين من التابعين

 

سعيد بن جبير (من أشهر مفسري التابعين)

هو أبو محمد ، أو أبو عبد الله ، سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي ، مولاهم
       0كان حبشي الأصل ، أسود اللون أبيض الخصال ، سمع جماعة من أئمة الصحابة 0 روي عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وغيرهما0
مكانته في التفسير :
       كان رحمه الله من كبار التابعين ومتقدميهم في التفسير والحديث والفقه ، أخذ القراءة عن ابن عباس عرضا ، وسمع منه التفسير ، وأكثر روايته عنه ، وقد جمع سعيد القراءات الثابتة عن الصحابة وكان يقرأ بها ، يدلنا على ذلك ما جاء عن إسماعيل بن عبد الملك أنه قال : " كان سعيد بن جبير يؤمنا في شهر رمضان فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود ، وليلة بقراءة زيد بن ثابت ، وليلة بقراءة غيره 0 وهكذا أبدا " ، ولا شك أن جمعه لهذه القراءات كان يعطيه القدرة على التوسع في معرفة معاني القرآن وأسراره ، ولكن يظهر لنا أنه كان يتورع من القول في التفسير برأيه ، يدلنا على ذلك ما رواه ابن خلطان : من أن رجلا سأل سعيدا أن يكتب له تفسير القرآن فغضب وقال : لأن يسقط شقي أحب إلى من ذلك 0 ولقد جمع سعيد علم أصحابه من التابعين ، وألم بما عندهم من النواحي التي برزوا فيها ، فقد قال خصيف : " كان من أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب 0 وبالحج عطاء ، وبالحلال والحرام طاوس ، وبالتفسير أبو الحجاج مجاهد بن جبر 0 وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير " 0
       لهذا كله نجد أستاذه ابن عباس يثق بعلمه ، ويحيل عليه من يستفتيه ، وكان يقول لأهل الكوفة إذا أتوه ليسألوه عن شئ : أليس فيكم ابن أم الدهماء ؟ ( يعني سعيد بن جبير ). ويروي عمرو بن ميمون عن أبيه أنه قال : لقد مات سعيد بن جبير وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه. ويري بعض العلماء أنه مقدم على مجاهد وطاوس في العلم ، وكان قتادة يري أنه أعلم التابعين بالتفسير
       هذا وقد وثق علماء الجرح والتعديل سعيد بن جبير ، فقال أبو القاسم الطبري : هو ثقة ، حجة ، إمام على المسلمين 0 وذكره ابن حبان في الثقات وقال : كان عبدا فاضلا ورعا0 وهو مجمع عليه من أصحاب الكتب الستة0
       وقد قتل في شعبان سنة 95 خمس وتسعين من الهجرة ، وهو ابن تسع وأربعين سنة ، قال أبو الشيخ : قتله الحجاج صبرا 0 وله مناظرة قبل قتله مع الحجاج ، تدل على قوة يقينه ، وثبات إيمانه ، وثقته بالله ، فرضي الله عنه وأرضاه

 

 

مجاهد بن جبير - مدرسة مكة (من أشهر مفسري التابعين)

هو مجاهد بن جبير ، المكي ، المقرئ ، المفسر ، أبو الحجاج المخزومي ، مولي السائب بن أبي السائب 0 كان أحد الأعلام الأثبات 0 ولد سنة 21 إحدي وعشرين من الهجرة في خلافة عمر بن الخطاب 0 وكانت وفاته بمكة وهو ساجد ، سنة أربع ومائة على الأشهر ، وعمره ثلاث وثمانون سنة0
       مكانته في التفسير : كان مجاهد ـ رحمه الله ـ أقل أصحاب ابن عباس رواية عنه في التفسير، وكان أوثقهم ، لهذا اعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما ، ونجد البخاري رضي الله عنه في كتاب التفسير من الجامع الصحيح ، ينقل لنا كثيرا من التفسير عن مجاهد ، وهذه أكبر شهادة من البخاري على ثقته وعدالته ، واعتراف منه بمبلغ فهمه لكتاب الله تعالي0 وقد روي الفضل بن ميمون أنه سمع مجاهدا يقول : عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة 0 وروي عنه أيضا أنه قال : عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات ، أقف عند كل آية ، أسأله فيم نزلت ، وكيف كانت ؟ 0 ولا تعارض بين هاتين الروايتين ، لأن الإخبار بالقليل لا ينافي الإخبار بالكثير ، ولعله عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة لتمام الضبط ، ودقة التجويد ، وحسن الأداء ، وعرضه بعد ذلك ثلاث مرات طلبا لتفسيره ، ومعرفة ما دق من أسراره ، وخفي من معانيه 0 كما تشعر بذلك ألفاظ الرواية 0 وعن ابن أبي مليكة قال : رأيت مجاهدا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه ، فقال ابن عباس : اكتب ، حتى سأله عن التفسير كله وروي عبد السلام بن حرب عن مصعب قال : كان أعلمهم بالتفسير مجاهد ، وبالحج عطاء 0 وقال قتادة : أعلم من بقي بالتفسير مجاهد 0 وقال ابن سعد : كان ثقة ، فقيها ، عالما ، كثير الحديث 0 وقال ابن حبان : كان فقيها ، ورعا ، عابدا ، متقنا 0 وأخرج ابن جرير في تفسيره عن أبي بكر الحنفي قال : سمعت سفيان الثوري يقول : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به 0 وكان رحمه الله جيد الحفظ ، وقد حدث بهذا عن نفسه فقال : قال لي ابن عمر : وددت أن نافعا يحفظ حفظك 0 وقال الذهبي في الميزان ، في آخر ترجمة مجاهد : أجمعت الأمة على إمامة مجاهد والاحتجاج به 0 وقد أخرج له أصحاب الكتب الستة0
       كل هذه شهادات من العلماء النقاد تشهد بعلو مكانته في التفسير 0
       ولكن مع هذا كله ، كان بعض العلماء لا يأخذ بتفسيره ، فقد روي الذهبي في ميزانه : أن أبا بكر بن عياش قال : قلت للأعمش : ما بال تفسير مجاهد مخالف ؟ أو ما بالهم يتقون تفسير مجاهد؟ ـ كما هي رواية ابن سعد ـ قال : كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب0
       هذا هو كل ما أخذ على تفسيره ، ولكن لم نر أحدا طعن عليه في صدقه وعدالته 0 وجملة القول فإن مجاهدا ثقة بلا مدافعة ، وإن صح أنه كان يسأل أهل الكتاب فما أظن أنه تخطي حدود ما يجوز له من ذلك ، لا سيما وهو تلميذ حبر الأمة ابن عباس 0 الذي شدد النكير على من يأخذ عن أهل الكتاب ويصدقهم فيما يقولونه مما يدخل تحت حدود النهي الوارد عن رسول الله صلي الله عليه وسلم 0
مجاهد والتفسير العقلي :
       وكان مجاهد ـ رضي الله عنه ـ يعطي عقله حرية واسعة في فهم بعض نصوص القرآن التي يبدو ظاهرها بعيدا ، فإذا ما مر بنص قرآني من هذا القبيل ، وجدناه ينزله بكل صراحة ووضوح على التشبيه والتمثيل ، وتلك الخطة كانت فيما بعد مبدأ معترفا به ومقررا لدي المعتزلة في تفسير القرآن بالنسبة لمثل هذه النصوص 0
       وإذا نحن رجعنا إلى تفسير ابن جرير وقرأنا بعض ما جاء فيه عن مجاهد نجده يطبق هذا المبدأ عمليا في مواضع كثيرة 0
       فمثلا عند تفسيره لقوله تعالي في الآية (65) من سورة البقرة " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين " نجده يقول ـ كما يروي عنه ابن جرير ـ " مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا " 0 ولكن نجد ابن جرير لا يرتضي هذا التفسير من مجاهد فيقول معقبا عليه : وهذا القول الذي قاله مجاهد قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف 000 ثم يمضي في تفنيد هذا القول بأدلة واضحة قوية 0
       وكذلك نجد ابن جرير ينقل عن مجاهد أنه فسر قوله تعالي في الآيتين (22 و 23) من سورة القيامة ( وجوه يومئذ ناضرة 0 إلى ربها ناظرة ) بقوله " تنتظر الثواب من ربها ، لا يراه من خلقه شئ" وهذا التفسير من محاهد كان فيما بعد متكئا قويا للمعتزلة فيما ذهبوا إليه في مسألة رؤية الله تعالي0
       ولعل مثل هذا المسلك من مجاهد ، هو الذي جعل بعض المتورعين الذين كانوا يتحرجون من القول في القرآن برأيهم يتقون تفسيره ، ويلومونه على قوله في القرآن بمثل هذه الحرية الواسعة في الرأي ، فقد روي عن ابن مجاهد أنه قال : قال رجل لأبي : أنت الذي تفسر القرآن برأيك ؟ فبكي أبي ثم قال : إني إذا لجرئ ، لقد حملت التفسير عن بضعة عشر رجلا من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم ورضي عنهم 0
       ومهما يكن من شئ ، فمجاهد رضي اله عنه إمام في التفسير غير مدافع ، وليس في إعطائه لنفسه مثل هذه الحرية ما يغض من قيمته 0 أو يقلل من مكانته

 

 

عكرمة - مدرسة مكة (من أشهر مفسري التابعين)

هو أبو عبد الله عكرمة البربري المدني مولي ابن عباس ، أصله من البربر بالمغرب، روى عن مولاه ، وعلي بن أبي طالب ، وأبي هريرة ، وغيرهم0
اختلاف العلماء في توثيقه :
       وقد اختلف العلماء في توثيقه ، فكان منهم من لا يثق به ولا يروي له ، وكان منهم من يوثقه ويروي له 0
مطاعن من لا يوثقونه :
       وإنا لنجد العلماء الذين لم يثقوا بعكرمة ، يصفونه بالجرأة على العلم ويقولون: إنه كان يدعي معرفة كل شئ في القرآن ، ويزيدون على ذلك فيتهمونه بالكذب على مولاه ابن عباس ، وبعد هذا كله ، يتهمونه بأنه كان يري رأي الخوارج ، ويزعم أن مولاه كان كذلك ، وقد نقل ابن حجر في تهذيب التهذيب كل هذه التهم ونسبها لقائليها ، فمن ذلك : ما رواه شعبة عن عمرو بن مرة قال : سأل رجل ابن المسيب عن آية من القرآن ، فقال : لا تسألني عن القرآن وسل من يزعم أنه لا يخفي عليه منه شئ ( يعني عكرمة ) وحكي ابراهيم بن ميسرة أن طاوسا قال : لو أن مولي ابن عباس اتقي الله وكف من حديثه لشدت إليه المطايا ، وروي أبو خلف الجزار عن يحيي البكاء قال : سمعت ابن عمر يقول لنافع : اتق الله ، وحك يا نافع ، ولا تكذب على كما كذب عكرمة على ابن عباس 0 وروي أن سعيد بن المسيب قال مثل ذلك لمولاه ، وروي ابن سعد : أن علي بن عبد الله كان يوثقه على باب الكنيف ويقول : إن هذا يكذب على أبي 0
       ثم بعد ذلك كله يصورون للناس مبلغ كراهة معاصريه له فيقولون : إنه مات هو وكثير عزة في يوم واحد ، فلم يشهد جنازته أحد ، أما كثير فقد شيعه خلق كثير 000
تفنيد هذه المطاعن ودفاع عكرمة عن نفسه : ـ
       هذا الذي تقدم هو بعض الروايات التي رواها من لا يثق بعدالة عكرمة وكلها تهم باطلة لا تقوم على أساس ، فعكرمة مولي ابن عباس ، كان يلازمه ويخالطه ، فلا يضيره كثرة الرواية عنه ؛ لأن هذا أمر طبيعي ، ولا يمكن أن يعد افتراء على العلم وافتياتا على الرواية ، لأن كثرة الرواية ليست من المطاعن التي توجه إلى الراوي وتذهب بعدالته ، فهذا أبو هريرة قال الناس عنه في عصره : أكثر أبو هريرة ، فبين لهم سبب إكثاره من الرواية عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وهو أنه كان يلازم النبي على ملء بطنه ، ولا شئ يشغله كما شغل غيره من الصحابة بالصفق في الأسواق ، فهل ذهبت عدالة أبي هريرة وفقدنا الثقة به لكثرة روايته ؟ اللهم لا
       ثم إن هذا الاتهام لم يخف على عكرمة ، بل كان يبلغه عن متهميه فيود لو أنه ووجه به ليفنده ، فقد روي حماد بن زيد عن أيوب أنه قال : قال عكرمة : رأيت هؤلاء الذين يكذبونني ، يكذبونني من خلفي ، أفلا يكذبونني في وجهي ؟ فإذا كذبوني في وجهي فقد والله كذبوني 000 ثم نراه يستشهد ببعض أصحابه على صدقه فيما يروي عن مولاه ، فعن عثمان بن حكيم قال : كنت جالسا مع أبي أمامة سهل بن حنيف ، إذ جاء عكرمة فقال : يا أبا أمامة ، أذكرك الله ، هل سمعت ابن عباس يقول : ما حدثكم عكرمة عني فصدقوه فإنه لم يكذب علي ؟ فقال أبو أمامة : نعم0
       هذا هو رد عكرمة على متهميه بالكذب ، وتفنيده لما نسب إليه من الافتراء على مولاه 0
       وأما ما رواه ابن سعد : من أن على بن عبد الله بن عباس كان يوثقه على باب الكنيف ويقول : إن هذا يكذب على أبي ، فإنه مردود بما رواه ابن حجر في تهذيب التهذيب : من أن ابن عباس مات وعكرمة على الرق ، فباعه ولده على بن عبد الله بن عباس ، من خالد بن يزيد بن معاوية، بأربعة آلاف دينار ، فأتى عكرمة مولاه عليه فقال له : ما خير لك ، بعت علم أبيك بأربعة آلاف ؟ فاستقاله فأقاله فأعتقه " اهـ 0
       ثم نجد بعد هذا أن ما روي عن ابن عمر لا يصح ؛ لأنه من رواية يحيي البكاء ، ويحيي البكاء متروك الحديث ، ومن المحال أن يجرح العدل بكلام المجروح0
       وأما ما قيل من أنه توفي هو وكثير الشاعر في يوم واحد فلم يشهد أحد جنازته ، بخلاف كثير فقد شيعه الكثير من الناس ، فلسنا نعلم نصيب هذا القول من الصحة ، ولعل ذلك على فرض صحته ـ كما يقول ابن حجر ـ كان بسبب تطلب الأمير له وتغيبه عنه حتى مات0 وليس صحيحا ما قيل من أن هذا يرجع إلى تحقير المولي إزاء تشريف الحر0
       ويحقق ابن حجر بعد هذا : أن ما نقل من أنهم شهدوا جنازة كثير وتركوا عكرمة 0 لم يثبت، لأن ناقله لم يسم0
       وأما ما رمي به من الميل للخوارج ، فافتراء عليه ، ولا يكاد يتفق مع سلوكه في حياته ، قال ابن حجر " فأما البدعة ، فإن تثبت عليه فلا تضر حديثه ، لأنه لم يكن داعية ، مع أنها لم تثبت عليه"0
شهادات الموثقين له :
       ولو أننا تتبعنا أقوال المنصفين ، الذين عرفوا حقيقة هذا التابعي الجليل ، لوجدناه رجلا ثبتا ، لا يتهم في عدالته ، وكل ما قيل في شأنه من التهم لا يراد به إلا أن يفقد الناس ثقتهم به وركونهم إليه ، وإليك ما قاله بعض علماء الجرح والتعديل لتقف على عدالة الرجل وصدق روايته000
       قال المروزي : قلت لأحمد : يحتج بحديث عكرمة ؟ فقال نعم يحتج به 0 وقال ابن معين : إذا رأيت إنسانا يقع في عكرمة ، وفي حماد بن سلمة ، فاتهمه على الإسلام 0 وقال العجلي فيه : مكي تابعي ثقة ، برئ مما يرميه به الناس من الحرورية 0 وقال البخاري : ليس أحد من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكرمة 0 وقد وثقه النسائي وأخرج له في كتابه السنن ، كما أخرج له البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وغيرهم ، وكان مسلم بن الحجاج من أسوئهم رأيا فيه ، ثم عدله بعد ما جرحه 0 وقال المروزي : أجمع عامة أهل العلم بالحديث على الاحتجاج بحديث عكرمة ، واتفق على ذلك رؤساء أهل الحديث من أهل عصرنا ، منهم أحمد بن حنبل ، وابن راهويه ، ويحيي بن معين ، وأبو ثور ، ولقد سألت إسحق بن راهويه عن الاحتجاج بحديثه فقال : عكرمة عندنا إمام الدنيا ، تعجب من سؤالي إياه ؟ 0
       وبعد ... فهل هناك من يقدم على البخاري ومسلم وجميع من ذكرت من علماء الرواية في باب التعديل والتجريح ؟ ، وإذا كان هؤلاء هم أعلم الناس بالرجال ، فهل تقبل تجريح من عداهم ونترك توثيقهم ؟؟
       الحق أن عكرمة تابعي موثوق بعدالته ودينه ، وكل ما رمي به كذب واختلاق !! 00
مبلغه من العلم ومكانته في التفسير :
       هذا وإن عكرمة رضي الله عنه ، كان علي مبلغ عظيم من العلم ، وعلى مكانة عالية من التفسير خاصة ، وقد شهد له العلماء بذلك ، فقال ابن حبان : كان من علماء زمانه بالفقه والقرآن 0 وقال : عمرو بن دينار : دفع إلى جابر بن زيد مسائل أسأل عنها عكرمة وجعل يقول : هذا عكرمة مولي ابن عباس ، هذا البحر فسلوه 0 وكان الشعبي يقول : ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة 0 وقال حبيب بن أبي ثابت : اجتمع عندي خمسة : طاوس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وعطاء ، فأقبل مجاهد وسعيد بن جبير يلقيان على عكرمة التفسير ؛ فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما ، فلما نفد ما عندهما جعل يقول : أنزلت آية كذا في كذا ، وأنزلت آية كذا في كذا 0 وقال يحيي بن أيوب المصري : سألني ابن جريج : هل كتبتم عن عكرمة ؟ فقلت : لا ، قال : فاتكم ثلثا العلم 0
       هذا بعض ما قيل في عكرمة ، مما يشهد لمكانته في العلم عامة ، وفي التفسير خاصة ، ولا عجب ، فإن ملازمته لمولاه ابن عباس ، ومبالغة مولاه في تعليمه إلى درجة أنه كان يضع في رجل الكبل ، [ الكبل : القيد ] ، ويعمله القرآن والسنن ، جعلته ينهل من معينه الفياض ، ويأخذ عنه علمه الغزير ، بل نجد أكثر من هذا فيما يرويه ابن حجر في تهذيب التهذيب ، من أن عكرمة بين لابن عباس بعض ما أشكل عليه من القرآن ، قال : روي داود بن أبي هند عند عكرمة قال : قرأ ابن عباس هذه الآية "لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا [ في الآية 164 من سورة الأعراف ] " ، قال ابن عباس : لم أدر أنجا القوم أن هلكوا ؟ قال : فما زلت أبين له حتى عرف أنهم نجو فكساني حلة " ، وهذا الخبر يدل على مبلغ ثقة ابن عباس بمولاه وتلميذه ، وعلى مقدار إعجابه بعلمه ، وتقديره لفهمه0
       وجملة القول ، فإن عكرمة أمين في روايته ، مقدم في علمه ، مبرز في فهمه لكتاب الله 000 وكيف لا يكون كذلك وهو وارث علم ابن عباس ؟ 0
       توفي رحمه الله سنة 104 هـ أربع ومائة من الهجرة ، فرضي الله عنه وأرضاه [ انظر تهذيب التهذيب ج7 ص 263 ـ 273 ]

 

 

أبو العالية - مدرسة المدينة (من أشهر مفسري التابعين)

هو أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي مولاهم ، أدرك الجاهلية ، وأسلم بعد وفاة النبي صلي الله عليه وسلم بسنتين 0 روي عن علي ، وابن مسعود ، وابن عباس 0 وابن عمر ، وأبي بن كعب ، وغيرهم ، وهو من ثقات التابعين المشهورين بالتفسير0 قال فيه ابن معين ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم : ثقة 0 وقال اللالكائي : مجمع على ثقته 0 وقال فيه العجلي : تابعي ثقة 0 من كبار التابعين 0 وقد أجمع عليه أصحاب الكتب الستة 0 وكان يحفظ القرآن ويتقنه ، وروي قتادة عنه أنه قال : قرأت القرآن بعد وفاة نبيكم بعشر سنسن 0 وروي معمر عن هشام عن حفصة عنه أنه قال : قرأت القرآن على عهد عمر ثلاث مرات 0 وقال فيه ابن أبي داود : ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقراءة من أبي العالية0
       وتروي عن أب بن كعب نسخه كبيرة في التفسير ، يرويها أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي 0 وقلنا فيما تقدم : إن هذا الإسناد صحيح ، وقلنا أيضا : إن ابن جرير وابن أبي حاتم أخرجا من هذه النسخة كثيرا ، كما أخرج منها الحاكم في مستدركه ، والإمام أحمد في مسنده 0 وكانت وفاته سنة تسعين من الهجرة على أرجح الأقوال في ذلك [ انظر تهذيب التهذيب ج3 ص 284 ـ 285 ]

 

 

الحسن البصري - مدرسة العراق (من أشهر مفسري التابعين)

هو أبو سعيد ، الحسن بن أبي الحسن يسار البصري مولي الأنصار ، وأمه خيرة مولاة أم سلمة0 قال ابن سعد : ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر ونشأ بوادي القري ، وكان فصيحا ورعا زاهدا ، لا يسبق في وعظه ، ولا يداني في مبلغ تأثيره على قلوب سامعيه 0 روي عن علي ، وابن عمر ، وأنس ، وخلق كثير من الصحابة والتابعين 0
       هذا وإن الحسن البصري ليجمع إلى صلاحه وروعه وبراعته في الوعظ ، غزارة العلم بكتاب الله تعالي ، وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ، وأحكام الحلال والحرام ، وقد شهد له بالعلم خلق كثير ، فقال أنس بن مالك : سلوا الحسن ، فإنه حفظ ونسينا 0 وقال سليمان التيمي : الحسن شيخ أهل البصرة 0 وقال مطر الوراق : كان جابر بن زيد رجل أهل البصرة ، فلما ظهر الحسن جاء رجل كأنما كان في الآخرة ، فهو يخبر عما رآي وعاين 0 وروي أبو عوانة عن قتادة أنه قال : ما جالست فقيها قط إلا رأيت فضل الحسن عليه 0 وقال بكر المزني من سره أن ينظر إلى أعلم عالم أدركناه في زمانه ، فلينظر إلى الحسن ، " فما أدركنا الذي هو أعلم منه 0 وقال الحجاج بن أرطأة : سألت عطاء بن أبي رباح فقال لي : عليك بذلك ـ يعني الحسن ـ ذلك إما ضخم يقتدي به 0 وكان إذا ذكر عند أبي جعفر الباقر قال : ذلك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء 0 وقال ابن سعد : كان الحسن جامعا ، عالما 0 رفيعا ، فقيها ، ثقة ، مأمونا ، عابدا ، ناسكا ، كثير العلم فصيحا ، جميلا، وسيما 0 وقال حماد بن سلمة عن حميد : قرأت القرآن على الحسن ففسره على الإثبات يعني ـ إثبات القدر ـ وكان يقول : من كذب بالقدر فقد كفر 0 وحديثه عند أصحاب الكتب الستة0 توفي رحمه الله تعالي سنة عشر ومائة من الهجرة ، وهو ابن ثمان وثمانين سنة [ انظر تهذيب التهذيب ج2 ص 263 ـ 270] 0

 

 

قتادة - مدسة العراق (من أِهر مفسري التابعين)

هو أبو الخطاب ، قتادة بن دعامة السدوسي الأكمه، عربي الأصل 0 كان يسكن البصرة 0 روي عن أنس ، وأبي الطفيل 0 وابن سيرين ، وعكرمة ، وعطاء بن أبي رباح0 وغيرهم 0 وكان قوي الحافظة ، واسع الاطلاع في الشعر العربي ، بصيرا بأيام العرب ، عليما بأنسابهم ، متضلعا في اللغة الغربية ، ومن هنا جاءت شهرته في التفسير 0 ولق=د يشهد لقوة حفظه ما رواه سلام بن مسكين قال حدثني عمرو بن عبد الله ، قال : قدم قتادة على سعيد بن المسيب فجعل يسأه أياما وأكثر ، فقال له سعيد : أكل ما سألتني عن تحفظه ؟ قال نعم ، سألتك عن كذا فقلت فيه كذا ، وسألتك عن كذا فقلت فيه كذا ، وقال فيه الحسن كذا ، حتى رد عليه حديثا كثيرا ؛ قال : فقال سعيد : ما كنت أظن أن الله خلق مثلك 0 وقد شهد له ابن سيرين بقوة الحافظة أيضا ، فقال قتادة : هو أحفظ الناس0
       وكان قتادة على مبلغ عظيم من العلم فوق ما اشتهر به من معرفته لتفسير كتاب الله 0 حتى قدمه بعضهم على كثير من أقواته ، وجعل بعضهم من النادر تقدم غيره عليه 0 وقال فيه سعيد بن المسيب : ما أتاني عراقي أحسن من قتادة0 وقال معمر للزهري : قتادة أعلم عندك أم مكحول؟ قال : بل قتادة 0 وقال أبو حاتم : سمعت أحمد بن حنبل وذكر قتادة ، فأطنب في ذكره ، فجعل ينشر من علمه وفقهه ومعرفته بالاختلاف والتفسير ، ووصفه بالحفظ والفقه ، وقال : قلما تجد من تقدمه ، أما المثل فلعل0 وقال معمر : سألت أبا عمرو بن العلاء عن قوله تعالي " وما كنا له مقرنين " [ في الآية 13 من سورة الزخرف ] ، فلم يجبني ، فقلت : سمعت قتادة يقول : مطيقين ، فسكت ، فقلت له : ما تقول يا أبا عمرو ؟ فقال : حسبك قتادة ، ولولا كلامه في القدر ـ وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : إذا ذكر القدر فأمسكوا ـ ما عدلت به أحدا من أهل دهره " [ وفيات الأعيان ج2 ص 179 ] 0
       وهذا يدل على أن أبا عمرو كان يثق بعلم قتادة وبتفسيره للقرآن ، لولا ما ينسب إليه من الخوض في القضاء والقدر 0 وكثيرا ما تحرج بعذ الرواة من الرواية عنه لذلك ، ونجد أصحاب الصحاح يخرجون له ، ويحتجون بروايته ، ويكفينا هذا في تعديله وتوثيقه : قال أبو حاتم : أثبت أصحاب أنس : الزهري ، ثم قتادة 0 وقال ابن سعد : كان ثقة مأمونا حجة في الحديث : وكان يقول بشئ من القدر 0 وقال ابن حبان في الثقات : كان من علماء الناس بالقرآن والفقه ، ومن حفاظ أهل زمانه 0
       وكان وفاته سنة سبع عشرة ومائة من الهجرة ، وعمره إذ ذاك ست وخمسون سنة على المشهور [ انظر تهذيب التهذيب ج8 ص 351 ـ 356 ] 0

 

 

عامر الشعبي - مدرسة العراق (من أشهر مفسري التابعين)

هو أبو عمرو 0 عامر بن شراحيل الشعبي ، الحميري ، الكوفي ، التابعي الجليل ، قاضي الكوفة 0 روي عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، ولم يسمع منهم [ خلاصة تذهيب الكمال ص 155] 0 وروي عن أبي هريرة ، وعائشة : وابن عباس وأبو موسي الأشعري ، وغيرهم 0 قال الشعبي : أدركت خمسمائة من الصحابة 0 وقال العجلي : سمع من ثمانية وأربعين من الصحابة0
       وقال عبد الملك بن عمير : مر ابن عمر على الشعبي وهو يحدث بالمغازي فقال : لقد شهدت القوم ، فلهو أحفظ وأعلم بها0 وقال : مكحول ما رأيت أفقه منه 0 وقال ابن عيينة : كان الناس تقول بعد الصحابة : ابن عباس في زمانه ، والشعبي في زمانه ، والثوري في زمانه 0 وقال ابن شبرمة : سمعت الشعبي يقول : ما كتبت سوداء في بيضاء ، ولا حدثني رجل بحديث إلا حفظته ، ولا حدثني رجل بحديث فأحببت أن يعيده علي 0 وقال ابن معين 0 وأبو زرعة ، وغير واحد : الشعبي ثقة 0 وقال ابن حبان في الثقات : كان فقيها شاعرا0 وهو عند أصحاب الكتب الستة 0 وقال أبو جعفر الطبري في طبقات الفقهاء : كان ذا أدب وفقه وعلم 0 وحكي ابن أبي خيثمة في تاريخه عن أبي حصين قال : ما رأيت أعلم من الشعبي ، فقال أبو بكر بن عياش : ولا شريح ؟ فقال 0 تريدني أكذب ؟ ما رأيت أعلم من الشعبي 0 وقال أبو إسحاق الحبال : كان واحد زمانه في فنون العلم 0 وعن سليمان بن أبي مجلز قال : ما رأيت أحدا أفقه من الشعبي ، لا سعيد بن المسيب ، ولا طاوس ، ولا عطاء 0 ولا الحسن ، ولا ابن سيرين 0 وعن أبي بكر الهذلي قال : قال لي ابن سيرين : الزم الشعبي ، فلقد رأيته يستفتي والصحابة متوافرون 0 وقال ابن سيرين : قدمت الكوفة وللشعبي حلقة ، وأصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم يومئذ كثير 0 وقال عاصم : ما رأيت أحدا أعلم بحديث أهل الكوفة والبصرة والحجاز من الشعبي0
       كل هذه الشهادات من العلماء ، تدل على مبلغ علم الشعبي وعظيم حظه منه على اختلاف فنونه ، فمن حديث ، إلى تفسير ، إلى فقه ، إلى شعر ، إلى قوة حفظ ، وكثرة أخذ عن الصحابة وعلماء الأمصار المختلفة 0 وإذا كان الشعبي يفتي مع وجود الصحابة ووفرتهم ، ويجلس له كثير من أهل العلم يأخذون عنه ، فتلك لعمري أكبر دلالة على عظيم مكانته العلمية ، وعلو منزلته بين أتباعه ومعاصريه0
       وإذا كان الشعبي قد رزق حظا وافرا من العلم ، ونال إعجاب معاصريه ، فإنه مع لم يكن جريئا على كتاب الله حتى يقول فيه برأيه ، بل كان يتحرج من ذلك ، ويتوقف عن إجابة سائليه إذا لم يكن عنده شئ عن السلف ، فقد قال ابن عطية : كان جلة من السلف ، كسعيد بن المسيب ، وعامر الشعبي ، يعظمون تفسير القرآن 0 ويتوقفون عنه 0 تورعا واحتياطا لأنفسهم ، مع إدراكهم وتقدمهم اهـ [ مقدمة تفسير القرطبي ج1 ص 34 ] ، وأخرج الطبري عن الشعبي أنه قال : والله ما من آية إلا سألت عنها ولكنها الرواية عن الله أهـ [ مقدمة تفسير ابن جرير ج1 ص 38] 0 وأخرج عنه أيضا أنه قال : " ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت : القرآن ، والروح ، والرأي " [ المرجع السابق ] ، ومع هذا التوقف فإنا نري الشعبي رجلا نقادا لرجال التفسير في عصره 0 وكثيرا ما كان يصرح بالطعن على من لا يعجبه مسلكه في التفسر من معاصريه ، فقد ذكر أبو حيان : أن الشعبي كان لا يعجبه تفسير السدي ، ويطعن عليه وعلى أبي صالح ؛ لأنه كان يراهما مقصرين في النظر " [ البحر المحيط ج1 ص 13 ] 0
       وروي ابن جرير : أن الشعبي كان يمر بأبي صالح باذان [ باذان : اسمه ، ويقال : باذام بالميم ] ، فيأخذ بأذنه فيعركها ويقول : تفسر القرآن وأنت لا تقرأ القرآن [ تفسير ابن جرير ج1 ص 30 ] 0 وروي ابن جرير أيضا عن صالح بن مسلم قال : مر الشعبي على السدي وهو يفسر فقال : لأن يضرب على إستك بالطبل خير لك من مجلسك هذا [ المرجع السابق ] 0
       هذا وإن الخلاف في مولد الشعبي وفي وفاته كثير ، وأشهر الأقوال في ذلك أنه ولد في سنة عشرين وتوفي سنة 109 تسع ومائة من الهجرة [ انظر تهذيب التهذيب ج5 ص 65 ـ 69 ] 0
       قرأ ابن عباس هذه الآية " لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا " [ في الآية 164 من سورة الأعراف ] ، قال ابن عباس : لم أدر أنجا القوم أم هلكوا ؟ قال : فما زلت أبين له حتى عرف أنهم نجو فكساني حلة " ، وهذا الخبر يدل على مبلغ ثقة ابن عباس بمولاه وتلميذه ، وعلى مقدار إعجابه بعلمه ، وتقديره لفهمه0
       وجملة القول ، فإن عكرمة أمين في روايته ، مقدم في علمه ، مبرز في فهمه لكتاب الله 000 وكيف لا يكون كذلك وهو وارث علم ابن عباس ؟ 0
       توفي رحمه الله سنة 104هـ أربع ومائة من الهجرة ، فرضي الله عنه وأرضاه [ انظر تهذيب التهذيب ج7 ص 263 ـ 273 ] 0

 

 

طاووس بن كيسان - مدرسة مكة (من أشهر مفسري التابعين)

هو أبو عبد الرحمن طاوس بن كيسان ، اليماني الحميري الجندي [ الجندي بفتح الجيم والنون نسبة إلى بلد باليمن كان يسكنها ] 0 مولي بحير بن ريسان ، وقيل مولي همدان0 وروري عن العبادلة الأربعة وغيرهم ، وروي عنه أنه قال : جالست خمسين من الصحابة 0 وكان رحمه عالما متقنا ، خبيرا بمعاني كتاب الله تعالي ، ويرجع ذلك إلى مجالسته لكثير من الصحابة يأخذ عنهم ويروي لهم ، ولكن نجده يجلس إلى ابن عباس أكثر من جلوسه لغيره من الصحابة ، ويأخذ عنه في التفسير أكثر مما يأخذ عن غيره منهم ، ولهذا عددناه من تلاميذ ابن عباس ، وذكرناه في رجال مدرسته بمكة 0
       ولقد كان طاوس على جانب عظيم من الورع والأمانة ، حتى شهد له بذلك أستاذه ابن عباس فقال فيه : إني لأظن طاوسا من أهل الجنة ، وقال فيه عمرو بن دينار : ما رأيت أحدا مثل طاوس 0 وقد أخرج له أصحاب الكتب الستة 0 وقال ابن معين 0 إنه ثقة 0 وقال ابن حبان : كان من عباد أهل اليمن ومن سادات التابعين ، وكان مستجاب الدعوة ، وحج أربعين حجة 0 وقال الذهبي : كان طاوس شيخ أهل اليمن ، وكان كثير الحج فاتفق موته بمكة سنة ست ومائة [ انظر تهذيب التهذيب ج5 ص 8 ـ 10 ] 0

 

 

عطاء بن أبي رباح - مدرسة مكة (من أشهر مفسري التابعين)

هو أبو محمد عطاء بن أبي رباح المكي القرشي مولاهم ، ولد سنع سبع وعشرين ، وتوفي سنة أربع عشرة ومائة من الهجرة على أرجح الأقوال 0 كان ـ رحمه الله ـ أسود ، أعور ، أفطس ، أشل ، أعرج ، ثم عمي بعد ذلك 0
       روي عن ابن عباس ، وابن عمر ، وابن عمرو بن العاص ، وغيرهم وحدث عن نفسه : أنه أدرك مائتين من الصحابة ، وكان ثقة ، فقيها ، عالما ، كثر الحديث ، وانتهت إليه فتوي أهل مكة ، وكان ابن عباس يقول لأهل مكة إذا جلسوا إليه : تجتمعون إلى يا أهل مكة وعندهم عطاء ؟ 0 وقال فيه أبو حنيفة : ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء ، ولا لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي : وقال الأوزاعي : مات عطاء يوم مات وهو أرضي أهل الأرض عند الناس 0 وقال سلمة بن كهيل : ما رأيت أحدا يريد بهذا العلم وجه الله إلا ثلاثة : عطاء ، ومجاهد ، وطاوس 0 وقال ابن حبان : كان من سادات التابعين فقها ، وعلما ، وورعا ، وفضلا [ انظر تهذيب التهذيب ج7 ص 199 ـ 203] 0 وهو عند أصحاب الكتب الستة0
       مكانته في التفسير : كل ما تقدم من أقوال العلماء في عطاء يشهد لمكانته العلمية على وجه العموم ويدل على مبلغ ثقته وصدقه ، وليس أدل على ذلك من شهادة أستاذه ابن عباس له بذلك ، ونجد شهرة عطاء على غيره من أصحاب ابن عباس ، تتجلي في معرفته لمناسك الحج 0
       ولهذا قال قتادة : كان أعلم التابعين أربعة :
       كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك0
       وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير 0
       وكان عكرمة أعلمهم بالسير0
       وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام 0
       وإذا نحن تتبعنا الرواة عن ابن عباس : نجد أن عطاء بن أبي رباح لم يكثر من الرواية عنه كما أكثر غيره 0
       ونجد مجاهدا وسعيد بن جبير يسبقانه من ناحية العلم بتفسير كتاب الله 0
       ولكن هذا لا يقلل من قيمته من علماء التفسير0
       ولعل إقلاله في التفسير : يرجع إلى تحرجه من القول بالرأي 00 فقد قال عبد العزيز بن رفيع : سئل عطاء عن مسألة 00 فقال : لا أدري ، فقيل له : ألا تقول فيها برأيك ؟ قال : إني أستحي من الله أن يدان في الأرض برأيي

 

 

وفى النهاية تبقى كلمة

       هؤلاء هم أعلام المفسرين من التابعين ، استمدوا آراءهم وعلومهم مما تلقوه من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين0
       وعنهم أخذ تابعو التابعين ، وهكذا ، حتى وصل إلينا دين الله وكتابه وعلومه ومعارفه سليمة كاملة ، عن طريق التلقي والتلقين ، جيلا عن جيل ، مصداقا لقوله سبحانه : " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " 0 ولقوله صلي الله عليه وسلم " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين " 0
ملحوظات (4) :
       الأول : نقد المروي عن التابعين :
       يلاحظ على ما روي عن التابعين اعتبارات مهمة ـ تثير الطعن فيه ، وتوجه النقد إليه :
       ( منها ) أنهم لم يشاهدوا عهد النبوة ، ولم يتشرفوا بأنوار الرسول ، فيغلب على الظن أن ما يروي عنهم من تفسير القرآن ، إنما هو من قبيل الرأي لهم ، فليس له قوة المرفوع إلى النبي صلي الله عليه وسلم 0
       ( ومنها ) أنه يندر فيه الإسناد الصحيح 0
       ( ومنها ) اشتماله على إسرائيليات وخرافات إنسابت إليه تارة من زنادقة الفرس 0 وأخرى من بعض مسلمة أهل الكتاب ، إما بحسن نية وإما بسوء نية 0
       الأولي : ضعف الرواية بالمأثور وأسبابه :
       علمنا أن الرواية بالمأثور ، تتناول ما كان تفسيرا للقرآن بالقرآن 0 وما كان تفسيرا للقرآن بالسنة ، وما كان تفسيرا للقرآن بالموقوف على الصحابة أو التابعين على رأي 0
       أما تفسير بعض القرآن ببعض ، وتفسير القرآن بالسنة الصحيحة المرفوعة إلى النبي صلي الله عليه وسلم ، فلا خلاف في وجاهته وقبوله 0
       وأما تفسير القرآن بما يعزي إلى الصحابة والتابعين فإنه يتطرق إليه الضعف من وجوه:
       ( أولها ) ما دسه أعداء الإسلام مثل زنادقة اليهود والفرس ، فقد أرادوا هدم هذا الدين المتين عن طريق الدس والوضع ، حينما أعيتهم الحيل في النيل منه عن طريق الحرب والقوة ، وعن طريق الدليل والحجة 0
       ( ثانيها ) ما لفقه أصحاب المذاهب المتطرفة ترويجا لتطرفهم ، كشيعة على المتطرفين الذين نسبوا إليه ما هو منه برئ ، وكالمتزلفين الذين حطبوا في حبل العباسيين ، فنسبوا إلى ابن عباس ما لم تصح نسبته إليه ، تملقا لهم واستدرارا لدنياهم 0
       ( ثالثها ) ارتبــاط الصحيح بغير الصحيح ،ونقل كثير من الأقوال المعزوة إلى الصحابة أو التابعين من غير إسناد ولا تحر ، مما أدي إلى التباس الحق بالباطل رد على ذلك أن من بري رأيا يعتمده دون أن يذكر له سندا ، ثم يجئ من بعده فينقله على اعتبار أن له أصلا ، ولا يكلف نفسه البحث عن أصل الرواية ، ولا من يرجع إليه هذا القول 0
       ( رابعها ) أن تلك الروايات مليئة بالإسرائيليات ، ومنها كثير من الخرافات التي يقوم الدليل على بطلانها 0 ومنها ما يتعلق بأمور العقائد التي لا يجوز الأخذ فيها بالظن ولا برواية الآحاد ، بل لابد من دليل قاطع فيها ، كالروايات التي تتحدث عن أشراط الساعة ، وأهوال القيامة ، وأحوال الآخرة تذكر على أنها اعتقاديات في الإسلام 0
       ( خامسها ) أن ما نقل نقلا صحيحا عن الكتب السابقة التي عند أهل الكتاب كالتوراة والإنجيل ، أمرنا الرسول صلي الله عليه وسلم أن نتوقف فيه ، فلا نصدقهم لاحتمال أنه مما حرفوا في تلك الكتب ، ولا نكذبهم لاحتمال أنه مما حفظوه منها ، فقد قال تعالي فيهم : أنهم ( أوتوا نصيبا من الكتاب ) 0
       قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " والاختلاف في التفسير على نوعين : منه ما مستنده النقل فقط ، ومنه ما يعلم بغير ذلك ، والمنقول إما عن المعصوم أو غيره ، ومنه ما يمكن معرفة الصحيح منه من غيره ، ومنه ما لا يمكن ذلك 0 وهذا القسم ( أي الذي لا يمكن معرفة صحيحه من ضعيفه ) عامته ما لا فائدة فيه ولا حاجة بنا إلى معرفته وذلك كاختلافهم في لون كلب أهل الكهف واسمه ، وفي البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة ، وفي قدر سفينة نوح وخشبها ، وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر ، ونحو ذلك 0 فهذه الأمور طريقة العلم بها النقل 0 فما كان منها منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلي الله عليه وسلم ، قبل ، وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب وقف عن تصديقه وتكذيبه ، لقوله صلي الله عليه وسلم : " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " 0 وكذا ما نقل عن بعض التابعين وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب 0 فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض : وما نقل عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين ، لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلي الله عليه وسلم أو من بعض من سمعه منه أقوي ، ولأن نل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين 0 ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال : إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم ؟ 0
       وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثيرا 0 والحمد لله ، وإن قال الإمام أحمد : " ثلاثة ليس لها أصل : التفسير والملاحم والمغازي " ، وذلك لأن الغالب عليها المراسيل0
       وأما ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل ، فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان 00 ثم ذكر الجهتين اللتين هما مثار الخطأ قال : (إحداهما) حمل ألفاظ القرآن على معان اعتقدوها ؛ لتأييدها به 0 ( والثانية ) التفسير بمجرد دلالة اللغة العربية من غير مراعاة المتكلم بالقرآن وهو الله عز وجل ، والمنزل عليه ؟ والمخاطب به " أ هـ ما أردنا نقله بتصرف قليل
       قال بعضهم : " هذا وإنكلام ابن تيمية لا ينقض قول الإمام أحمد ، فإنه لم يعن به أنه لا يوجد في تلك الثلاثة رواية صحيحة ألبتة 0 وإنما يعني أن أكثرها لا يصح له سند متصل ، وما صح سنده إلى بعض الصحابة يقل فيه المرفوع الذي يحتج به 0
       إلى أن قال : ثم إن أكثر ما روي في التفسير المأثور أو كثيره ، حجاب على القرآن وشاغل لتاليه عن مقاصده العالية المزكية للأنفس ، المنورة للعقول 0 فالمفضلون للتفسير المأثور لهم شاغل عن مقاصد القرآن بكثرة الروايات التي لا قيمة لها سندا ولا موضوعا " اهـ ما أردنا نقله 0
       وكلمة الإنصاف في هذا الموضوع أن التفسير بالمأثور نوعان : ( أحدهما ) ما توافرت الأدلة على صحته وقبوله ، وهذالا يليق بأحد رده ، ولا يجوز إهماله وإغفاله ، ولا يجمل أن نعتبره من الصوارف عن هدي القرآن بل هو على العكس عامل من أقوي العوامل على الاهتداء بالقرآن 0
       ( ثانيهما ) ما لم يصح لسبب من الأسباب الآنفة أو غيرها 0 وهذا يجب رده ولا يجوز قبوله ولا الاشتغال به اللهم إلا لتمحيصه والتنبيه إلى ضلاله وخطئه حتى لا يغتر به أحد0 ولا يزال كثير من أيقاظ المفسرين كابن كثير يتحرون الصحة فيما ينقلون ، ويزيفون ما هو باطل أو ضعيف ولا يحابون ولا يجبنون0
       ولعل الذين أطلقوا القول في رد المأثور إنما أرادوا المبالغة ، كما علمت في توجيه كلمة الإمام أحمد بن حنبل ، وعذرهم أن الصحيح منه قليل نادر ونزر يسير ، حتى لقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : " لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث " أي مع كثرة ما روي عنه ، وقد أشار ابن خلدون إلى أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم ، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية ، وإذا تشوفوا إلى معرفة شئ مما تتشوف إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود ، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ؛ ويستفيدون منهم 0 إلى أن قال : وهؤلاء مثل كعب الأحبار ؛ ووهب بن منبه ، وعبد الله بن سلام ، فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم وتلقيت بالقبول، لما كان لهم من المكانة السامية ، ولكن الراسخين في العلم قد تحروا الصحة ، وزيفوا ما لتتوافر أدلة صحته أهـ بتصرف0
وقفــة :
       إياك أن تفهم هنا من عبارة ابن خلدون أو ابن تيمية أو غيرهما ما يجعلك تخوض مع الخائضين في هؤلاء الأعلام الثلاثة : عبد الله بن سلام ، ووهب بن منبه ، وكعب الأحبار ، فقد ضل بعض الأدباء والمؤرخين من كبال الكتاب في هذا العصر ، حين زعموا ذلك ، حتى لقد سلكوا عبد الله بن سلام الصحابي الجليل في سلك واحد مع عبد الله بن سبأ اليهودي الخبيث : الذي تظاهر بالإسلام ثم كاد له شر الكيد ، فتشيع لعلي وزعم أن الله حل فيه وطعن على عثمان ، وأظهر الرفض عند حكم الحكمين بصفين ودعا الناس إلى ضلاله الأثيم ، حتى نفي مرارا 0
       والحقيقة أن ثلاثتنا هؤلاء عدول ثقات :
       أما ابن سلام فحسبك أنه صحابي من خيرة الصحابة ، ومن المبشرين بالجنة ، يروي الترمذي عن معاذ رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : " إنه عاشر عشرة في الجنة " وفيه نزلت آية : " وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله " ، وآية " ومن عنده علم الكتاب" على ما جاء في بعض الروايات 0
       وأما وهب بن منبه فقد كان تابعيا ثقة واسع العلم ، روي عن أبي هريرة كثيرا ، وله حديث في الصحيحين عن أخيه همام 0 بلغ من نسكه وصلاحه أنه لبث عشرين سنة يصلي الفجر بوضوء العشاء رضي الله عنه0
       وأما كعب فقد كان تابعيا جليلا ، أسلم في خلافة أبي بكر 0 وناهيك أن الصحابة أخذوا عنه ، كما أخذ هو عن الصحابة ، وروي عنه جماعة من التابعين مرسلا 0 وله شئ في صحيح البخاري وغيره0
       ولكن يجب أن نفرق في هذا المقام بين ما يصح أن يقال فيهم وما يصح أن ينقل عنهم0 فأما ما يصح أن يقال فيهم فهو الثقة والتقدير على نحو ما ألمعنا0 وأما الذي ينقل عنهم فمنه الصحيح وغير الصحيح لكن عدم صحة ما لم يصح لا يعلل باتهامهم وجرحهم ، فقد علمت من هم ؟ إنما يعلل بأحد أمرين :
       ( أولهما ) رجال السند الذي ينقلون عنهم ، فقد يكون بينهم منهم في عدالته أو ضبطه ، وليهذا يجب النظر في سلسلة الرواة عنهم ، رجلا رجلا ولدينا من كتب الجرح والتعديل ما يفي بهذه الغاية 0 ولا يكفي الاعتماد على ذكر السند في كتاب كتفسير ابن جرير ، فقد يذكر ابن جرير أو غيره أشياء غير صحيحة ، ويسوق أسانيدها ثم لا يبين المجروح من رجال السند ولا المعدل فيهم0 وعذره في ذلك أن أحوال الرجال كانت معروفة لأهل ذلك الزمان فيستطيعون أن يحكموا في ضوء هذه المعرفة بقبول الخبر أو برده 0 أما نحن في هذا الزمان المتأخر فقد أهملنا هذا المزيان ، ولم نعن بمعرفة حال الأسانيد والرجال ، فاللوم علينا لا على أولئك الأعلام ، ولا معدي لنا عن الاسترشاد بكتب الجرح والتعديل في هذا المقام 0
       ( الأمر الثاني ) أن يكون أولئك الثلاثة قد رووا ما رووه على أنه مما كان في الإسرائيليات ، فتقبلها الآخذون على أنها من الإسلاميات 0 ولهذا يجب النظر في هذه المرويات ، فإن كانت مما يقره الإسلام قبلناها 0 وإن كانت مما يرده رددناها ، وإن كانت مما سكت عنه سكتنا عنها عملا بقوله صلي الله عليه وسلم : " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " 0 رواه البخاري بهذا اللفظ 0 ورواه أحمد والبزار من حديث جابر بلفظ : " لا تسألوا أهل الكتاب عن شئ ، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، وإنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل 0 والله لو كان موسي بين أظهركم ما حل له إلا اتباعي " 0 وسبب هذا الحديث أن النبي صلي الله عليه وسلم علم أن عمر كتب شيئا من التوراة عن اليهود ، فغضب صلي الله عليه وسلم وقاله 0
       الثالثة : تدوين التفسير بالمأثور ،وخصائص الكتب المؤلفة في ذلك : ـ
       جاء قرن تابعي التابعين 0 وفيه ألفت تفاسير كثيرة ، جمعت من أقوال الصحابة والتابعين 0 كتفسير سفيان بن عيينة ، ووكيع بن الجراح ، وشعبةى بن الحجاج ، ويزيد ابن هارون ، وعبد الرزاق ، وآدم بن أبي إياس ، وإسحاق بن راهويه ، وروح بن عبادة ، وعبد بن حميد ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، وعلى بن أبي طلحة ، والبخاري وآخرين 0 ومن بعدهم ألف ابن جرير الطبري كتابه المشهور ، وهو من أجل التفاسير ثم ابن أبي حاتم ، وابن ماجه ، والحاكم ، وابن مردويه ، وابن حبان، وغيرهم 0
       وليس في تفاسير هؤلاء إلا ما هو مسند إلى الصحابة والتابعين وتابعيهم ، ما عدا ابن جرير ، فإنه زاد على ذلك تعرضه لتوجيه الأقوال ، وترجيح بعضها على بعض ، وذكر الإعراب والاستنباط0
=======
د/ الذهبي - التفسير والمفسرون

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ