الأحد، 15 أبريل 2012

موسوعة علوم القرآن - التفسير : المعتزلة وموقفهم من القرآن الكريم

المعتزلة وموقفهم من القرآن الكريم

       نشأت هذه الفرقة فى العصر الأموى ، ولكنها شغلت الفكر الإسلامى فى العصر العباسى ردحاً طويلاً من الزمان ، وأصل هذه الفرقة هو واصل بن عطاء الملقب بالغزال  المولود سنة 80 هـ ثمانين ، والمتوفى سنة 131هـ إحدى وثلاثين ومائة ، فى خلافة هشام بن عبد الملك ؛ وذلك أنه دخل على الحسن البصرى رجل فقال : يا إمام الدين ، ظهر فى زماننا جماعة يكفرون صاحب الكبيرة ـ يريد وعيدية الخوارج ـ وجماعة أخرى يرجئون الكبائر ، ويقولون : لا تضر مع الإيمان معصية ، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، فكيف تحكم لنا أن نعتقد فى ذلك ؟ فتفكر الحسن ، وقبل أن يجيب قال واصل : أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق ، ولا كافر مطلق ، ثم قام إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد ، وأخذ يقرر على جماعة من أصحاب الحسن ما أجاب به ، من أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر ، ويثبت له المنزلة بين المنزلتين ، قائلا : إن المؤمن اسم مدح ، والفاسق لا يستحق المدح فلا يكون مؤمنا ، وليس بكافر أيضا ؛ لإقراره بالشهادتين ، لوجود سائر أعمال الخير فيه ، فإذا مات بلا توبة خلد فى النار ، إذ ليس فى الآخرة إلا فريقان فريق فى الجنة ، وفريق فى السعير ، لكن يخفف عنه ، وتكون دركته فوق دركات الكفار ، فقال الحسن : اعتزل عنا واصل ، فلذلك سمى هو وأصحابه معتزلة .
       ويلقب المعتزلة بالقدرية تارة ، وبالمعطلة تارة أخرى ، أما تلقيبهم بالقدرية فلأنهم يسندون أفعال العباد إلى قدرتهم ، وينكرون القدر فيها . وأما تلقيبهم بالمعطلة ، فلأنهم يقولون بنفى صفات المعانى فيقولون : الله عالم بذاته ، قادر بذاته ... وهكذا .
       فأنت ترى مما تقدم ، أن الاعتزال نشأ فى البصرة ، ولكن سرعان ما انتشر فى العراق ، واعتنقه من خلفاء بنى أمية يزيد بن الوليد ومروان بن محمد ، وفى العصر العباسى ، استفحل ِأمر المعتزلة واحتلت فكرهم وعقائدهم من عقول الناس وجدل العلماء مكاناً عظيماً ، وما لبث أن تكونت للاعتزال مدرستان كبيرتان : مدرسة البصرة ، وعلى رأسها واصل بن عطاء، ومدرسة بغداد ، وعلى رأسها بشر بن المعتمر ، وكان بين معتزلى البصرة ومعتزلى بغداد جدال وخلاف فى كثير من المسائل.
       ولا أطيل بذكر ما كان بين المدرستين من مسائل خلافية ، فإن هذه العجالة لا تتحمل الإطالة والتفصيل ، ويكفى أن أجمل القول فى ذكر أصول المعتزلة ، وأن أشير إلى تعدد فرقهم ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الكتب التى ألفت فى تاريخ الفرق ، وهى كثيرة


أصولهم المذهبية
       أما أصول المعتزلة فهى خمسة : التوحيد ، والعدل ، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر . وهذه الأصول الخمسة يجمع الكل عليها ، ومن لم يقل بها جميعا فليس معتزليا بالمعنى الصحيح . قال أبو الحسن الخياط أحد زعماء المعتزلة فى القرن الثالث الهجرى " وليس يستحق أحد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة : التوحيد ، والعدل ، والوعد والوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر . فإذا كملت هذه الخصال فهو معتزلى" 
       أما التوحيد : فهو لب مذهبهم ، ورأس نحلتهم ، وقد بنوا على هذا الأصل : استحالة رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة ، وأن الصفات ليست شيئا غير الذات ، وأن القرآن مخلوق لله تعالى .
       وأما العدل : فقد بنوا عليه : أن الله تعالى لم يشأ جميع الكائنات ، ولا خلقها ولا هو قادر عليها كلها ، بل عندهم أن أفعال العباد لم يخلقها الله تعالي، لا خيرها ولا شرها ، ولم يرد إلا ما أمر به شرعا ، وما سوى ذلك فإنه يكون بغير مشيئته .
       وأما الوعد والوعيد : فمضمونه ، أن الله يجازى من أحسن بالإحسان، ومن أساء بالسوء ، لا يغفر لمرتكب الكبيرة ما لم يتب ، ولا يقبل فى أهل الكبائر شفاعة ، ولا يخرج أحدا منهم من النار ، وأوضح من هذا أنهم يقولون : إنه يجب على الله أن يثيب المطيع ويعاقب مرتكب الكبيرة ، فصاحب الكبيرة إذا مات ولم يتب لا يجوز أن يعفو الله عنه ، لأنه أوعد بالعقاب على الكبائر وأخبر به ، فلو لم يعاقب لزم الخلف فى وعيده. وهم يعنون بذلك أن الثواب على الطاعات ، والعقاب على المعاصى قانون حتمى التزم الله به ، كما قالوا : إن مرتكب الكبيرة مخلد فى النار ولو صدق بوحدانية الله وآمن برسله ، لقوله تعالى فى الآية (81) من سورة البقرة " بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".
       وأما المنزلة بين المنزلتين : فقد سبق أن بيناها فى مناظرة واصل بن عطاء للحسن البصرى .
       وأما الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر : فهو مبدأ مقرر عندهم ، وواجب على المسلمين لنشر الدعوة الإسلامية وهداية الضالين وإرشاد الغاوين ، ولكنهم بالغوا فى هذا الأصل ، وخالفوا ما عليه الجمهور، فقالوا : إن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يكون بالقلب إن كفى ، وباللسان إن لم يكف القلب ، وباليدان إن لم يغنيا ، وبالسيف إن لم تكف اليد ، لقوله تعالى فى الآية  من سورة الحجرات " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله ..." وهم فى ذلك لا يفرقون بين صاحب السلطان وغيره ، كما أنهم لم يفرقوا بين الأصول الدينية المجمع عليها وعقائدهم الاعتزالية.
       وهناك مبادئ أخرى للمعتزلة ، لا يشتركون فيها ، بل هى مبادئ خاصة لكل فرقة من فرقهم المتعددة ، التى بلغت العشرين أو تزيد ، ولا أطيل بذكر هذه الفرق وبيان خصائص كل فرقة ، وأحيلك على المواقف ، أو التبصير فى الدين ، أو الفَرق بين الفِرق للبغدادى ، أو الملل والنحل للشهرستانى ، أو الفصل لابن حزم، لتتعرف منها هذه الفرق وخصائصها ، إذ ليس هذا موضع التفصيل.
       وبعد .. فقد عرفنا نشأة المعتزلة ، وعرفنا أصولهم التى أجمعوا عليها ، وما علينا بعد ذلك إلا أن نتكلم عن موقفهم الذى وقفوه من تفسير القرآن ، ثم بعد ذلك نتكلم عن أهم من عرفناه من مفسرى المعتزلة ، وعن كتبهم التى ألفوها فى التفسير


(من مواقفهم القرآن) إقامة تفسيرهم على أصولهم الخمسة
       أقام المعتزلة مذهبهم على الأصول الخمسة التى ذكرناها آنفا ، ومن المعلوم أن هذه الأصول لا تتفق ومذهب أهل السنة والجماعة ، الذين يعتبرون أهم خصومهم ، لهذا كان من الضرورى لهذه الفرقة ـ فرقة المعتزلة ـ فى سبيل مكافحة خصومها ، أن تقيم مذهبها وتدعم تعاليمها على أسس دينية من القرآن ، وكان لابد لها أيضا أن ترد الحجج القرآنية لهؤلاء الخصوم، وتضعف من قوتها ، وسبيل ذلك كله هو النظر إلى القرآن أولا من خلال عقيدتهم ، ثم إخضاعهم عبارات القرآن لآرائهم التى يقولون بها ، وتفسيرهم لها تفسيرا يتفق مع نحلتهم وعقيدتهم .
       ولا شك أن مثل هذا التفسير الذى يخضع للعقيدة ، يحتاج إلى مهارة كبيرة ، واعتماد على العقل أكثر من الاعتماد على النقل ، حتى يستطيع المفسر الذى هذا حاله ، أن يلوى العبارة إلى جانبه ، ويصرف ما يعارضه عن معارضته له وتصادمه معه.
       والذى يقرا تفسير المعتزلة ، يجد أنهم بنوا تفسيرهم على أسسهم من التنزيه المطلق ، والعدل وحرية الإرادة ، وفعل الأصلح ، ونحو ذلك ووضعوا أسسا للآيات التى ظاهرها التعارض فحكموا العقل ، ليكون الفيصل بين المتشابهات وقد كان من قبلهم يكتفون بمجرد النقل عن الصحابة أو التابعين، فإذا جاءوا إلى المتشابهات سكتوا وفوضوا العلم لله .
 
 
من مواقفهم من القرآن) إنكارهم لما يعارض تفسيرهم من الأحاديث الصحيحة
       إن هذا السلطان العقلى المطلق ، قد جر المعتزلة إلى إنكار ما صح من الأحاديث التى تناقض أسسهم وقواعدهم المذهبية ، كما أنه نقل التفسير الذى كان يعتمد أولا وقبل كل شئ على الشعور الحى والإحساس الدقيق، والبساطة فى الفهم وعدم التكلف والتعمق ، إلى مجموعة من القضايا العقلية، والبراهين المنطقية ، مما يشهد للمعتزلة ـ رغم اعتزالهم ـ بقوة العقل وجودة التفكير.
       ومع أن هذا السلطان العقلى المطلق ، كان له الأثر الأكبر فى تفسير المعتزلة للقرآن ، حتى اضطرهم فى بعض الأحيان إلى رد ما يعارضهم من الأحاديث الصحيحة ، فإنا لا نستطيع أن نقول إن المعتزلة كانوا يقصدون الخروج على الحديث أو عدم الاعتراف بالتفسير بالمأثور ؛ وذلك لأن حالهم بإزاء التفسير بالمأثور وتصديقهم له ، يظهر بأجلى وضوح من حكم النظام على استرسال المفسرين من معاصريه .
       وكان النظام معتبرا فى مدرسة المعتزلة من الرءوس الحرة الواسعة الحرية وقد ذكر لنا تلميذه الجاحظ قوله الذى قاله فى شأن هؤلاء المفسرين ، وهذا نصه : قال الجاحظ كان أبو اسحاق يقول : لا تسترسلوا إلى كثير من المفسرين وإن نصبوا أنفسهم للعامة ، وأجابوا فى كل مسألة ؛ فإن كثيرا منهم يقول بغير رواية على غير أساس وكلما كان المفسر أغرب عندهم كان أحب إليهم ، وليكن عندكم عكرمة ، والكلبى ، والسدى ، والضحاك ، ومقاتل ابن سليمان ، وأبو بكر الأصم فى سبيل واحدة ، وكيف أثق بتفسيرهم وأسكن إلى صوابهم وقد قالوا فى قوله عز وجل " وأن المساجد لله " إن الله عز وجل ، لم يعن بهذا الكلام مساجدنا التى نصلى فيها ، بل إنما عنى الجباه، وكل ما سجد الناس عليه من يد وجبهة وأنف وثفنة ـ وقالوا فى قوله تعالى " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت " إنه ليس يعنى الجمال والنوق ، وإنما يعنى السحاب ـ وإذا سئلوا عن قوله " وطلح منضود" قالوا الطلح هو الموز ـ وجعلوا الدليل على أن شهر رمضان قد كان فرضا على جميع الأمم وأن الناس غيروه قوله تعالى " ... كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم " ـ وقالوا فى قوله تعالى " ... رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا " قالوا : إنه حشره بلا حجة ـ وقالوا فى قوله تعالى " ويل للمطففين" : الويل واد فى جهنم ، ثم قعدوا يصفون ذلك الوادى ، ومعنى الويل فى كلام العرب معروف ، وكيف كان فى الجاهلية قبل الإسلام ، وهو من أشهر كلامهم ـ وسئلوا عن قوله تعالى " قل أعوذ برب الفلق " قالوا : الفلق واد فى جهنم ، ثم قعدوا يصفونه ، وقال آخرون الفلق المقطرة بلغة اليمن ... إلى آخر ما ذكره من تفسيراتهم الغريبة
       هذا ، وإن الزمخشرى ـ وهو أهم من عرفنا من مفسرى المعتزلة ـ نجده كثيرا ما يذكر ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن السلف من التفسير ويعتمد على ما يذكر من ذلك فى تفسيره .
       فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيتين ( 41، 42 ) من سورة الأحزاب : " يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا " ، يقول ما نصه ( " اذكروا الله " اثنوا عليه بضروب الثناء ، من التقديس ، والتحميد ، والتهليل ، والتكبير ، وما هو أهله ، وأكثروا ذلك " بكرة وأصيلا " أى كافة الأوقات ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ذكر الله على فم كل مسلم " وروى " فى قلب كل مسلم" وعن قتادة " قولوا سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم " وعن مجاهد " هذه كلمات يقولها الطاهر والجنب والغفلان " أعنى اذكروا وسبحوا موجهان إلى البكرة والأصيل ، كقولك صم وصل يوم الجمعة ... الخ ) اهـ
 
 
(من مواقفهم من القرآن) إدعاؤهم أن محاولاتهم في التفسير مرادة لله
       ثم إن المعتزلة ـ بناء على رأيهم فى الاجتهاد ، من أن الحكم ما أدى إليه اجتهاد كل مجتهد ، فإذا اجتهدوا فى حادثة فالحكم عند الله تعالى فى حق كل واحد مجتهده ـ رفضوا أن يكون للآية التى تحتمل أوجها تفسيرا واحدا لا خطأ فيه ، وحكموا على جميع محاولاتهم التى حاولوها فى حل المسائل الموجودة فى القرآن ، بأنها مرادة لله تعالى ، وغاية ما قطعوا به هو عدم إمكان التفسير المخالف لمبادئهم وآرائهم.
       وبدهى أن هذا الذى ذهب إليه المعتزلة ، يخالف مذهب أهل السنة من أن لكل آية من القرآن معنى واحدا مراداً لله تعالى ، وما عداه من المعانى المحتملة ، فهى محاولات واجتهادات ، يراد منها الوصول إلى مراد الله بدون قطع ، غاية الأمر أن المفسر يقول باجتهاده ، والمجتهد قد يخطئ ، وقد يصيب ، وهو مأجور فى الحالتين وإن كان الأجر على تفاوت .
 
 
(من مواقفهم من القرآن) تصرفهم في القرءات المتواترة المنافية لمذهبهم
       وأحيانا يحاول المعتزلة تحويل النص القرآنى من أجل عقيدتهم إلى ما لا يتفق وما تواتر من القراءات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
       فمثلا ينظر بعض المعتزلة إلى قوله تعالى فى الآية (164) من سورة النساء " وكلم الله موسى تكليما" فيرى أن مذهبه لا يتفق وهذا اللفظ القرآنى حيث جاء المصدر مؤكدا للفعل ، رافعا لاحتمال المجاز ، فيبادر إلى تحويل هذا النص إلى ما يتفق ومذهبه فيقرؤه هكذا " وكلم اللهَ موسى تكليما" ... بنصب لفظ الجلالة على أنه مفعول ، ورفع موسى على أنه فاعل ، وبعض المعتزلة يبقى اللفظ القرآنى على وضعه المتواتر ، ولكنه يحمله على معنى بعيد حتى لا يبقى اللفظ القرآنى على وضعه المتواتر، ولكنه يحمله على معنى بعيد حتى لا يبقى مصادما لمذهبه فيقول : إن كِلم من الكلْم بمعنى الجرح ، فالمعنى وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن؛ وهذا ليفر من ظاهر النظم الذى يصادم عقيدته ويخالف هواه .
       هذا الذى ذكرناه ، تعرض له الزمخشرى فى كشافه ، فرواه عمن قال به عندما تكلم عن هذه الآية فقال " وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب أنهما قرءا " وكلم اللهَ " بالنصب ، ثم قال منددا بالرأى الثانى : ومن بدع التفاسير أنه من الكلم وأن معناه ، وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن"أهـ 
       ومن الأمثلة التى يظهر فيها هذا التصرف من أجل أغراضهم المذهبية ، قوله تعالى فى الآية (88) من سورة البقرة " وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون " فبعض المعتزلة أحس من هذه الآية أنها لا تتفق ومذهبه ، لأنها تُشعر بأن الله خلق قلوبهم على طبيعة وحالة لا تقبل معها الإسلام ، فيكون هو الذى منعهم عن الهدى وألجأهم إلى الضلال فقرأها هذا المعتزلى " غلف" جمع غلاف بمعنى الوعاء ، أى قلوبنا أوعية حاوية للعلم ، فهم مستغنون بما عندهم عما جاءهم به محمد عليه الصلاة والسلام ، وهذا الوجه يتمشى مع القراءة المعروفة "غُلْف" على أنه مخفف "غُلُف"، وبطبيعة الحال يكون هذا القول من اليهود افتخارا منهم بأن قلوبهم أوعية للعلم ، فلا حاجة لهم بما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام ، وليس اعتذارا منهم وتبريرا لكفرهم بأن الله خلق قلوبهم فى أكنة مما يدعوهم إليه، ومغشاة بأغطية تمنع وصول دعوة الرسول إليها.
       وهذا الذى ذكرنا من قراءة " غُلُف" بدون تخفيف تعرض لذكره الزمخشرى فقال : " وقيل غُلْف : تخفيف غُلُف ، جمع غلاف أى قلوبنا أوعية للعلم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره ، وروى عن أبى عمرو : "قلوبنا غُلُف " بضمتين " اهـ  وللعلم : هذه القراءة .. شاذة .
       كما ذكره أيضا الإمام فخر الدين الرازى فى تفسيره لهذه الآية فقال : ".... وثانيا ـ أى ثانى الأوجه ـ روى الأصم عن بعضهم أن قلوبهم غلف بالعلم ، ومملوءة بالحكمة ، فلا حاجة معها بهم إلى شرع محمد عليه السلام..." اهـ
       وهكذا نجد شيوخ المعتزلة ، يحاولون التوفيق بين مذهبهم والقرآن ، بكل ما يستطيعون من وسائل التوفيق ، تارة بتطبيق مبدئهم اللغوى على كثير من آيات القرآن الكريم ، حتى يتمشى النص القرآنى مع قواعد مذهبهم، أو يتخلصوا من معارضته ومصادمته لهم على الأقل ، وتارة بتحويل النص القرآنى والتصرف فيه ، بما يجعله فى جانبهم لا فى جانب خصومهم.
 
(من مواقفهم من القرآن) تذرعهم بالفروض المجازية عند غرابة الظاهر
       إن المعتزلة فى كثير من الأحيان ، يعتمدون فى طريقتهم التفسيرية على الفروض المجازية ، فمثلا إذا مروا بآية من الآيات التى تبدو فى ظاهرها غريبة مستبعدة ، كقوله تعالى فى الآية (172) من سورة الأعراف " وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم .. الآية " وقوله فى الآية (72) من سورة الأحزاب " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها .. الآية " نجدهم يحملون الكلام على التمثيل أو التخييل ، ولا يقولون بالظاهر ولا يحومون عليه ، اللهم إلا للرد على من يقول به ويجوز حصوله ...
       نعم إن القرآن يمثل القمة العالية فى كمال الأسلوب وبراعة النظم ، وهو فى نفسه يقبل ما يقوله المعتزلة من المجازات والاستعارات ، ولكن ما الذى يمنع من إرادة الحقيقة ؟ ، وأى صارف يصرف اللفظ عن الظاهر إلى غيره من التمثيل أو التخييل بعد ما تقرر من أن اللفظ إذا أمكن حمله على الظاهر وجب حمله عليه وقبح صرفه إلى غير ما يتبادر منه ؟؟ .. اللهم لا شئ يمنع من إرادة المعنى الظاهر إلا استبعاد ذلك على قدرة الله تعالى ، ولسنا فى شك من صلاحية القدرة لمثل ما جاء فى الآيات التى أشرنا إليها ، غاية الأمر ، إن كيفية أخذ الله ذرية بنى آدم من ظهورهم ، ومخاطبته لتلك الذرية ، وكيفية عرض الأمانة على ما ذكر من السموات والأرض والجبال وإبائها عن حملها ، أمر لا نستطيع أن نخوض فيه ، بل يجب علينا أن نفوض علمه وحقيقته إلى الله سبحانه
 
 
(من مواقفهم من القرآن) تفسير القرآن على ضوء ما أنكروه من الحقائق الدينية
       وكذلك نجد المعتزلة قد وقفوا تجاه بعض الحقائق الدينية الثابتة عند جمهور أهل السنة موقف المعارضة والكفاح ، فأهل السنة يقولون بحقيقة السحر ، ويعترفون بما له من تأثير فى المسحور، ويقولون بوجود الجن ، ويعترفون بما لهم من قوة التأثير فى الإنسان حتى ينشأ عن ذلك المس والصرع ، ويقولون بكرامات الأولياء ... وما إلى ذلك ، ولكن المعتزلة الذين ربطوا التفسير بما شرطوه من جعل العقل مقياسا للحقائق الدينية وقفوا ضد هذا كله وجعلوه من قبيل الخرافات ، والتصورات المخالفة لطبيعة الأشياء ، وكان من وراء ذلك أن تمرد المعتزلة ـ فى حرية مطلقة من كل قيد ـ على الاعتقاد بالسحر والسحرة ، وما يدول حول ذلك ، وبلغ بهم الأمر أن أنكروا أو تأولوا ما صح من الأحاديث التى تصرح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سحر (1) ، ولم يقفوا طويلا أمام ما يعارضهم من سورة الفلق، بل تخلصوا بتأويلات ثلاث ذكرها الزمخشرى فى كشافه ج2 ص 568 .
       كذلك تمرد بعض أعلام المعتزلة كالنظام على الاعتقاد بوجود الجن ، وثار بعضهم كالزمخشرى ضد من يقول بأن الجن لها قوة التأثير فى الإنسان مع الاعتراف منه بوجودها فى نفسها ، فأولوا ما يصادمهم من الآيات القرآنية ، وأنكروا أو تأولوا ما صح من الأحاديث النبوية ، كالحديث الصحيح الذى أخرجه البخارى ، وفيه : أن شيطانا من الجن عرض للنبى صلى الله عليه وسلم وهو فى الصلاة يريد أن يشغله عنها فأمكنه الله منه ، وكالحديث الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو " ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها "
       كذلك تمرد المعتزلة على الاعتقاد بكرامات الأولياء ، واعتمدوا فى تمردهم هذا على قول الله تعالى فى الآيتين (26،27) من سورة الجن "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ، إلا من ارتضى من رسول .." ونرى الزمخشرى يستنتج من هذه الآية " أنه تعالى لا يطلع على الغيب إلا المرتضى ، الذى هو مصطفى للنبوة خاصة ، لا كل مرتضى ، وفى هذا إبطال للكرامات ، لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين ، فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب ، وإبطال الكهانة والتنجيم ، لأن أصحابهما أبعد شئ من الارتضاء وأدخله فى السخط".
       وبعد .. فإن المعتزلة لم يقفوا هذا الموقف الذى لا يتفق مع معتقدات أهل السنة ، ولم يعطوا العقل هذا السلطان الواسع فى التفسير، إلا من أجل أن يبعدوا ـ كما يزعمون ـ كل الأساطير الخرافية عن محيط الحقائق الدينية وليربطوا بين القرآن وبين عقيدتهم التى قامت على التوحيد الخالص من كل شائبة .
=======
7ـ ينكر بعض أهل السنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سحر ، زعما منهم أن ذلك مما يقدح فى صحة نبوته ، وأنكروا ما صح من الأحاديث فى ذلك أو تأولوها ، والحق ـ ما دامت الأحاديث قد صحت ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر وأثر فيه السحر بما لا يخدش جانب نبوته وتأثير السحر عليه لا يعدو أن يكون مرضا بدنيا كالعقد عن النساء .
 
 
 
أهمية المبدأ اللغوي في التفسير عندهم
       نجد المعتزلة قد حرصوا كل الحرص على الطريقة اللغوية التى تعتبر عندهم المبدأ الأعلى لتفسير القرآن ، وهذا المبدأ اللغوى ، يظهر أثره واضحا فى تفسيرهم للعبارات القرآنية التى لا يليق ظاهرها عندهم بمقام الألوهية ، أو العبارات التى تحتوى على التشبيه ، أو العبارات التى تصادم بعض ِأصولهم ، فنراهم يحاولون أولاً إبطال المعنى الذى يرونه مشتبها فى اللفظ القرآنى ، ثم يثبتون لهذا اللفظ معنى موجوداً فى اللغة يزيل هذا الاشتباه ، ويتفق مع مذهبهم ، ويستشهدون على ما يذهبون إليه من المعانى التى يحملون ألفاظ القرآن عليها بأدلة من اللغة والشعر العربى القديم.
       فمثلا الآيات التى تدل على رؤية الله تعالى كقوله سبحانه فى الآيتين (22،23) من سورة القيامة " وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة " وقوله تعالى فى الآية (23) من سورة المطففين " على الأرائك ينظرون" نجد المعتزلة ينظرون إليها بعين غير العين التى ينظر بها أهل السنة ، ويحاولون بكل ما يستطيعون أن يطبقوا مبدأهم اللغوى ، حتى يتخلصوا من الورطة التى أوقعهم فيها ظاهر اللفظ الكريم ، فإذا بهم يقولون : إن النظر إلى الله معناه الرجاء والتوقع للنعمة والكرامة ، واستدلوا على ذلك بأن النظر إلى الشئ فى العربية ليس مختصا بالرؤية المادية ، واستشهدوا على ذلك بقول الشاعر :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ