موهم الإختلاف والتناقض
مشكل القرآن وموهم الاختلاف والتناقض (للإمام السيوطي)
أفرده بالتصنيف قطرب.
والمراد به : ما يوهم التعارض بين الآيات.
وكلامه تعالى منزه عن ذلك كما قال (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا)
ولكن : قد يقع للمبتدئ ما يوهم اختلافًا ، وليس به في الحقيقة ؛ فاحتيج لإزالته ، كما صنف في مختلف الحديث وبيان الجمع بين الأحاديث المتعارضة.
وقد تكلم في ذلك ابن عباس وحكى عنه التوقف في بعضها.
قال عبد الرزاق في تفسيره: أنبأنا معمر عن رجل عن المنهال بن عمروعن سعيد بن جبير قال:
جاء رجل إلى ابن عباس
فقال: رأيت أشياء تختلف عليّ من القرآن
فقال ابن عباس: ما هو .. أشك ?
قال: ليس بشك ولكنه اختلاف
قال: هات ما اختلف عليك من ذلك
قال: أسمع الله يقول (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) وقال (ولا يكتمون الله حديثًا) فقد كتموا ..!!
وأسمعه يقول (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) ثم قال (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون)
وأسمعه سبحانه يقول (أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين .. حتى بلغ طائعين) ثم قال في الآية الأخرى (أم السماء بناها) ثم قال (والأرض بعد ذلك دحاها)
وأسمعه يقول (وكان الله) .. ما شأنه يقول (وكان الله) ..؟
فقال ابن عباس:
= أما قوله {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} فإنهم لما رأوا يوم القيامة والله يغفر لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يغفر شركًا ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره : جحده المشركون رجاء أن يغفر لهم فقالوا (والله ربنا ما كنا مشركين) فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، فعند ذلك (يود الذين كفروا وعصوا الرسول لوتسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا)
= وأما قوله {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} فإنه إذا نفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون).ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون).
= وأما قوله {خلق الأرض في يومين} فإن الأرض خلقت قبل السماء وكانت السماء دخانًا فسواهن سبع سموات في يومين بعد خلق الأرض.
= وأما قوله {والأرض بعد ذلك دحاها} يقول: جعل فيها جبلًا وجعل فيها نهرًا شجرًا وجعل فيها بحورًا.
= وأما قوله (كان الله) فإن الله كان ولم يزل كذلك وهوكذلك عزيز حكيم عليم قدير لم يزل كذلك فما اختلف عليك من القرآن فهويشبه ما ذكرت لك وإن الله لم ينزل إلا وقد أصاب به الذي أراد ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أخرجه بطوله الحاكم في المستدرك وصححه وأصله في الصحيح.
قال ابن حجر في شرحه: حاصل فيه السؤال عن أربعة مواضع.
الأول: نفي المسألة يوم القيامة وإثباتها.
الثاني: كتمان المشركين حالهم وإفشاؤه.
الثالث: خلق الأرض أوالسماء أيهما تقدم.
الرابع: الإتيان بحرف كان الدالة على المضي مع أن الصفة لازمة.
والمراد به : ما يوهم التعارض بين الآيات.
وكلامه تعالى منزه عن ذلك كما قال (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا)
ولكن : قد يقع للمبتدئ ما يوهم اختلافًا ، وليس به في الحقيقة ؛ فاحتيج لإزالته ، كما صنف في مختلف الحديث وبيان الجمع بين الأحاديث المتعارضة.
وقد تكلم في ذلك ابن عباس وحكى عنه التوقف في بعضها.
قال عبد الرزاق في تفسيره: أنبأنا معمر عن رجل عن المنهال بن عمروعن سعيد بن جبير قال:
جاء رجل إلى ابن عباس
فقال: رأيت أشياء تختلف عليّ من القرآن
فقال ابن عباس: ما هو .. أشك ?
قال: ليس بشك ولكنه اختلاف
قال: هات ما اختلف عليك من ذلك
قال: أسمع الله يقول (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) وقال (ولا يكتمون الله حديثًا) فقد كتموا ..!!
وأسمعه يقول (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) ثم قال (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون)
وأسمعه سبحانه يقول (أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين .. حتى بلغ طائعين) ثم قال في الآية الأخرى (أم السماء بناها) ثم قال (والأرض بعد ذلك دحاها)
وأسمعه يقول (وكان الله) .. ما شأنه يقول (وكان الله) ..؟
فقال ابن عباس:
= أما قوله {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} فإنهم لما رأوا يوم القيامة والله يغفر لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يغفر شركًا ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره : جحده المشركون رجاء أن يغفر لهم فقالوا (والله ربنا ما كنا مشركين) فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، فعند ذلك (يود الذين كفروا وعصوا الرسول لوتسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا)
= وأما قوله {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} فإنه إذا نفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون).ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون).
= وأما قوله {خلق الأرض في يومين} فإن الأرض خلقت قبل السماء وكانت السماء دخانًا فسواهن سبع سموات في يومين بعد خلق الأرض.
= وأما قوله {والأرض بعد ذلك دحاها} يقول: جعل فيها جبلًا وجعل فيها نهرًا شجرًا وجعل فيها بحورًا.
= وأما قوله (كان الله) فإن الله كان ولم يزل كذلك وهوكذلك عزيز حكيم عليم قدير لم يزل كذلك فما اختلف عليك من القرآن فهويشبه ما ذكرت لك وإن الله لم ينزل إلا وقد أصاب به الذي أراد ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أخرجه بطوله الحاكم في المستدرك وصححه وأصله في الصحيح.
قال ابن حجر في شرحه: حاصل فيه السؤال عن أربعة مواضع.
الأول: نفي المسألة يوم القيامة وإثباتها.
الثاني: كتمان المشركين حالهم وإفشاؤه.
الثالث: خلق الأرض أوالسماء أيهما تقدم.
الرابع: الإتيان بحرف كان الدالة على المضي مع أن الصفة لازمة.
عن الأول: أن نفى المسألة فيما قبل النفخة الثانية ، وإثباتها فيما بعد ذلك.
وعن الثاني: أنهم يكتمون بألسنتهم ، فتنطق أيديهم وجوارحهم
وعن الثالث: أنه بدأ خلق الأرض في يومين غير مدحوة ، ثم خلق السموات فسواهن في يومين ، ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي وغيرها في يومين .. فتلك أربعة أيام للأرض.
وعن الرابع: بأن كان وإن كانت للماضي لكنها لا تستلزم الانقطاع ، بل المراد أنه لم يزل كذلك
1 - فأما الأول : فقد جاء فيه تفسير آخر.
أن نفي المسئلة : عند تشاغلهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط ، وإثباتها فيما عدا ذلك.
وهذا : منقول عن السدي.
أخرجه ابن جرير من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس أن نفي المسئلة : عند النفخة الأولى ، وإثباتها بعد النفخة الثانية.
وقد تأول ابن مسعود نفي المسألة على معنى آخر : وهوطلب بعضهم من بعض العفو.
فأخرج ابن جرير من طريق زاذان قال: أتيت ابن مسعود فقال: يؤخذ بيد العبد يوم القيامة فينادي: ألا إن هذا فلان بن فلان فمن كان له حق قبله فليأت قال: فتود المرأة يومئذ أن يثبت لها حق على أبيها أوابنها أوأخيها أوزوجها (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)
ومن طريق أخرى قال: لا يسئل أحد يومئذ بنسب شيئًا ولا يتساءلون به ولا يمت برحم.
2 - وأما الثاني : فقد ورد بأبسط منه.
فيما أخرجه ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال: قول الله (ولا يكتمون الله حديثًا) وقوله {والله ربنا ما كنا مشركين} فقال: إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت لهم آتى ابن عباس ألقى عليه متشابه القرآن ، فأخبرهم أن الله إذا جمع الناس يوم القيامة قال المشركون: إن الله لا يقبل إلا ممن وحده قيسألهم فيقولون: (والله ربنا ما كنا مشركين) قال: فيختم على أفواههم وتستنطق جوارحهم.
ويؤيده ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة في أثناء حديث وفيه: ثم يلقي الثالث فيقول: رب آمنت بك وبكتابك ورسولك.
ويثني ما استطاع فيقول: الآن نبعث شاهدًا عليك فيذكر في نفسه من الذي يشهد عليّ فيختم على فيه وتنطق جوارحه.
3 - وأما الثالث : ففيه أجوبة أخرى.
منها :
أن ثم بمعنى الواو : فلا إيراد.
وقيل : المراد ترتيب الخبر لا المخبر به كقوله {ثم كان من الذين آمنوا}
وقيل : على بابها وهي لتفاوت ما بين الخلقين لا للتراخي في الزمان.
وقيل خلق بمعنى قدر.
4 - وأما الرابع وجواب ابن عباس عنه :
فيحتمل كلامه ..أنه أراد أنه : سمى نفسه غفورًا رحيمًا ، وهذه التسمية مضت لأن التعلق انقضى ، وأما الصفتان فلا تزالان كذلك لا ينقطعان لأنه تعالى إذا أراد المغفرة والرحمة في الحال أوالاستقبال وقع مراده.
قاله الشمس الكرماني.
قال: ويحتمل .. أن يكون ابن عباس أجاب بجوابين.
أحدهما : أن التسمية هي التي كانت وانتهت والصفة لا نهاية لها.
والآخر : أن معنى كان الدوام فإنه لا يزال كذلك.
ويحتمل : أن يحمل السؤال على مسلكين ، والجواب على دفعهما.
كأن يقال: هذا اللفظ مشعر بأنه في الزمان الماضي كان غفورًا رحيمًا مع أنه لم يكن هناك من يغفر له أويرحم وبأنه ليس في الحال كذلك كما يشعر به لفظ كان.
والجواب عن الأول : بأنه كان في الماضي يسمى به.
وعن الثاني : بأن كان تعطي معنى الدوام.
وقد قال النحاة : كان لثبوت خبرها ماضيًا دائمًا أومنقطعًا.
وقد أخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس أن يهوديًا قال له: إنكم تزعمون أن الله كان عزيزًا حكيمًا ، فكيف هو اليوم..؟ فقال: إنه كان في نفسه عزيزًا حكيمًا.
قال أبوعبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن أبي مليكة قال: سأل رجل ابن عباس عن يوم (كان مقداره ألف سنة) وقوله {يوم كان مقداره خمسين ألف سنة}
فقال ابن عباس : هما يومان ذكرهما الله تعالى في كتابه ، الله أعلم بهما.
وأخرجه ابن أبي حاتم من هذا الوجه ، وزاد: ما أدري ما هي ..؟ وأكره أن أقول فيهما ما لا أعلم.
قال ابن أبي مليكة: فضربت البعير حتى دخلت على سعيد بن المسيب ، فسئل عن ذلك .. فلم يدر ما يقول.
فقلت له: ألا أخبرك بما حضرت من ابن عباس ، فأخبرته ، فقال ابن المسيب للسائل: هذا ابن عباس قد اتقى فيها ، وهوأعلم مني.
وروي عن ابن عباس أيضًا : أن يوم الألف هومقدار سير الأمر وعروجه إليه ، ويوم الألف في سورة الحج هوأحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات ، ويوم الخمسين ألف هو يوم القيامة.
فأخرج ابن أبي حاتم من طريق سماك بن عكرمة عن ابن عباس أن رجلًا قال له: حدثني ما هؤلاء الآيات (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) و {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة} قال: {وإن يومًا عند ربك كألف سنة} ..!!!
فقال: يوم القيامة حساب خمسين ألف سنة ، والسموات في ستة أيام كل يوم يكون ألف سنة ، و(يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقدراه ألف سنة).
قال: ذلك مقدار السير.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بها : يوم القيامة ، وأنه باعتبار حال المؤمن والكافر ، بدليل قوله {يوم عسير على الكافرين غير يسير}.
قال الزركشي في البرهان: للاختلاف أسباب.
أحدها: وقوع المخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى.
كقوله في خلق آدم : من تراب ، ومرة من حمأ مسنون ، ومرة من طين لازب ، ومرة من صلصال كالفخار.
فهذه الألفاظ مختلفة ومعانيها في أحوال مختلفة : لأن الصلصال غير الحمأ والحمأ غير التراب ، إلا أن مرجعها كلها إلى جوهر واحد وهوالتراب ومن التراب درجت هذه الأحوال.
وكقوله {فإذا هي ثعبان} وفي موضع تهتز كأنها جان ، والجان: الصغير من الحيات ، والثعبان الكبير منها.
وذلك : لأن خلقها خلق الثعبان العظيم ، واهتزازها وحركتها وخفتها كاهتزاز الجان وخفته.
الثاني: لاختلاف الموضع.
كقوله {وقفوهم إنهم مسئولون} وقوله {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} مع قوله {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان}
قال الحليمي: فتحمل الآية الأولى على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل. والثانية على ما يستلزمه الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه وجمله وغيره على اختلاف الأماكن لأن في القيامة مواقف كثيرة ، ففي موضع يسئلون ، وفي آخر لا يسألون.
وقيل : إن السؤال المثبت سؤال تبكيت وتوبيخ ، والمنفي سؤال المعذرة وبيان الحجة.
وكقوله {اتقوا الله حق تقاته} مع قوله {فاتقوا الله ما استطعتم}
حمل الشيخ أبو الحسن الشاذلي : الأولى .. على التوحيد ، بدليل قوله بعدها {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} والثانية .. على الأعمال.
وقيل: بل الثانية ناسخة للأولى.
وكقوله {فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة} مع قوله {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم}.
فالأولى : تفهم إمكان العدل.
والثانية : تنفيه.
والجواب : أن الأولى في توفية الحقوق ، والثانية في الميل القلبي وليس في قدرة الإنسان.
وكقوله {إن الله لا يأمر بالفحشاء} مع قوله {أمرنا مترفيها ففسقوا فيها}
فالأولى : في الأمر الشرعي.
والثانية : في الأمر الكوني بمعنى القضاء والتقدير.
الثالث: لاختلافهما في جهتي الفعل.
كقوله {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم} مع (وما رميت إذ رميت)
أضيف القتل إليهم والرمي إليه صلى الله عليه وسلم : على جهة الكسب والمباشرة.
ونفاه عنهم وعنه : باعتبار التأثير.
الرابع: لاختلافهما في الحقيقة والمجاز.
{وترى الناس سكارى وما هم بسكارى} أي : سكارى من الأهوال مجازًا ، لا من الشراب حقيقة.
الخامس: لكونهما بوجهين واعتبارين.
كقوله {فبصرك اليوم حديد} مع قوله {خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي}
قال قطرب: فبصرك: أي علمك ومعرفتك بها قوية من قولهم بصر بكذا: أي علم ، وليس المراد رؤية العين.
قال الفارسي: ويدل على ذلك قوله (فكشفنا عنك غطاءك)
وكقوله {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله} مع قوله {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}
فقد يظن : أن الوجل خلاف الطمأنينة.
وجوابه : أن الطمأنينة تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد ، والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى فتوجل القلوب لذلك ، وقد جمع بينهما في قوله {تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله}
قوله تعالى {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلًا } فإنه يدل على حصر المانع من الإيمان في أحد هذين الشيئين.
وقال في آية أخرى {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرًا رسولًا} فهذا حصر آخر في غيرهما.
بأن معنى الآية الأولى : {وما منع الناس أن يؤمنوا} إلا إرادة {أن تأتيهم سنة الأولين} من الخسف أوغيره {أو يأتيهم العذاب قبلًا } في الآخرة ، فأخبر انه أراد أن يصيبهم أحد الأمرين ، ولا شك أن إرادة الله ما نعة من وقوع ما ينافي المراد ، فهذا حصر في السبب الحقيقي ؛ لأن الله هو المانع في الحقيقة.
ومعنى الآية الثانية : {وما منع الناس أن يؤمنوا} إلا استغراب بعثه بشرًا ورسولًا ؛ لأن قولهم ليس مانعًا من الإيمان لأنه لا يصلح لذلك ، وهويدل على الاستغراب بالالتزام ، وهوالمناسب للمانعية ، واستغرابهم ليس مانعًا حقيقيًا بل عاديًا لجواز وجود الإيمان معه بخلاف إرادة الله تعالى ، فهذا حصر في المانع العادي ، والأول حصر في المانع الحقيقي .. فلا تنافي أيضًا.
قوله تعالى {فمن افترى على الله الكذب} {فمن أظلم ممن كذب على الله} مع قوله {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه} {ومن أظلم ممن منع مساجد الله} إلى غير ذلك من الآيات.
ووجهه : أن المراد بالاستفهام هنا النفي.
والمعنى: لا أحد أظلم فيكون خبرًا ، وإذا كان خبرًا وأخذت الآيات على ظواهرها .. أدى إلى التناقض.
منها: تخصيص كل موضع بمعنى صلته ، أي لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله ، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبًا .. وإذا تخصص بالصلاة فيها زال التناقض.
ومنها: أن التخصيص بالنسبة إلى السبق لما لم يسبق أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكًا طريقهم ، وهذا يئول معناه إلى ما قبله ؛ لأن المراد السبق إلى المانعية والافترائية.
ومنها: - وادعى أبوحيان أنه الصواب - أن نفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية ؛ لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق ، وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يلزم التناقض ، لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية ، وإذا ثبتت التسوية فيها .. لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر ؛ لأنهم يتساوون في الأظلمية .
وصار المعنى: لا أحد أظلم ممن افترى ، وممن منع ، ونحوها.
ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية.
ولا يدل - أيضا - على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر ، كما إذا قلت: لا أحد أفقه منهم أهـ...
وحاصل الجواب : أن نفي التفضيل لا يلزم منه نفي المساواة.
وقال بعض المتأخرين: هذا استفهام مقصود به التهويل والتفظيع من غير قصد إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة ولا نفيها عن غيره.
سمعت ابن أبي هريرة يحكي عن أبي العباس بن سريج قال:
سأل رجل بعض العلماء عن قوله {لا أقسم بهذا البلد} : فأخبر أنه لا يقسم به ، ثم أقسم به في قوله (و هذا البلد الأمين).
أيما أحب إليك .. أجيبك ثم أفظعك ، أوأفظعك ثم أجيبك .. ؟
فقال: بل أفظعني ثم أجبني.
فقال له: اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة رجال وبين ظهراني قوم ، كانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيهم غمزًا وعليه مطعنًا ، فلوكان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به وأسرعوا بالرد عليه ، ولكن القوم علموا وجهلت ، ولم ينكروا منه ما أنكرت.
ثم قال له: إن العرب قد تدخل لا في كلامها ، وتلغي معناها ، وأنشد فيه أبياتًا.
إذا تعارضت الآي ، وتعذر فيها الترتيب والجمع : طلب التاريخ ، وترك المتقدم بالمتأخر .. ويكون ذلك نسخًا.
وإن لم يعلم ، وكان الإجماع على العمل بإحدى الآيتين : علم بإجماعهم أن الناسخ ما أجمعوا على العمل بها.
قال: ولا يوجد في القرآن آيتان متعارضتان تخلوان عن هذين الوصفين.
وتعارض القراءتين بمنزلة تعارض الآيتين ، نحو (وأرجلكم) بالنصب والجر.
ولهذا : جمع بينهما بحمل النصب على الغسل والجر على مسح الخف.
جماع الاختلاف والتناقض.
أن كل ما صح أن يضاف بعض ما وقع الاسم عليه إلى وجه من الوجوه : فليس فيه تناقض.
وإنما التناقض في اللفظ : ما ضاده من كل جهة.
ولا يوجد في الكتاب والسنة شيء من ذلك : أبدًا ، وإنما يوجد فيه النسخ في وقتين.
لا يجوز تعارض أي القرن والآثار وما يوجبه العقل.
فلذلك : لم يجعل قوله {الله خالق كل شيء} معارضًا لقوله {وتخلقون إفكًا} {وإذ تخلق من الطين} لقيام الدليل العقلي أنه لا خالق غير الله ، فتعين تأويل ما عارضه ، فيؤول وتخلقون على تكذبون ، وتخلق على تصور.
قال الكرماني عند قوله تعالى {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا} الاختلاف على وجهين:
اختلاف تناقض : وهو ما يدعو فيه أحد الشيئين إلى خلاف الآخر ، وهذا هو الممتنع على القرن.
واختلاف تلازم : وهو ما يوافق الجانبين ، كاختلاف وجوه القراءة ، واختلاف مقادير السور والآيات ، واختلاف الأحكام من الناسخ والمنسوخ ، والأمر والنهي ، والوعد والوعيد
...............................................................................
موهم المختلف (للإمام : الزركشي)
وهو ما يوهم التعارض بين آياته وكلام الله جل جلاله منزه عن الاختلاف كما قال تعالى ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) 1 ولكن قد يقع للمبتدئ ما يوهم اختلافا وليس به فاحتيج لإزالته كما صنف في مختلف الحديث وبيان الجمع بينهما وقد رأيت لقطرب( 2 ) فيه تصنيفا حسنا جمعه على السور وقد تكلم فيه الصدر الأول ابن عباس( 3) وغيره
وقال الإمام وقد وفق الحسن البصري بين قوله تعالى ( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ) 4 وقوله ( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر ) 5 بأن قال ليس المراد في آية الأعراف على ظاهره من أن الوعد كان ثلاثين ليلة ثم بعد ذلك وعده بعشر لكنه وعده أربعين ليلة جميعا انتهى
وقيل تجري آية الأعراف على ظاهره من أن الوعد كان ثلاثين ثم أتم بالعشر فاستقرت الأربعون ثم أخبر في آية البقرة بما استقر
وذكره الخطابي قال وسمعت ابن أبي هريرة يحكي عن أبي العباس بن سريج قال سأل رجل بعض العلماء عن قوله تعالى ( لا أقسم بهذا البلد ) 1 فأخبر أنه لا يقسم بهذا ثم أقسم به في قوله ( وهذا البلد الأمين ) 2 فقال ابن سريج أي الأمرين أحب إليك أجيبك ثم أقطعك أو أقطعك ثم أجيبك فقال بل اقطعني ثم بحضرة رجال وبين ظهراني قوم صلى الله عليه وسلم أجبني فقال اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله وكانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزا وعليه مطعنا فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به وأسرعوا بالرد عليه ولكن القوم علموا وجهلت فلم ينكروا منه ما أنكرت ثم قال له إن العرب قد تدخل ( لا) في أثناء كلامها وتلغي معناها وأنشد فيه أبياتا والقاعدة في هذا أشباهه أن الألفاظ إذا اختلفت وكان مرجعها إلى أمر واحد لم يوجب ذلك اختلافا فائدة عن الغزالي في معنى الإختلاف
سئل الغزالي عن معنى قوله تعالى ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) 3 فأجاب بما صورته الإختلاف لفظ مشترك بين معان وليس المراد نفي اختلاف الناس فيه بل نفي الإختلاف عن ذات القرآن يقال هذا كلام مختلف أي لا يشبه أوله آخره في الفصاحة إذ هو مختلف أي بعضه يدعو إلى الدين وبعضه يدعو إلى الدنيا أو هو مختلف النظم فبعضه على وزن الشعر وبعضه منزحف وبعضه على
أسلوب مخصوص في الجزالة وبعضه على أسلوب يخالفه وكلام الله تعالى منزه(1) عن هذه الإختلافات فإنه على منهاج واحد في النظم مناسب أوله آخره وعلى مرتبة واحدة في غاية الفصاحة فليس يشتمل على الغث والسمين ومسوق لمعنى واحد وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى وصرفهم عن الدنيا إلى الدين وكلام الآدميين يتطرق إليه هذه الإختلافات إذ كلام الشعراء والمترسلين إذا قيس عليه وجد فيه اختلاف في منهاج النظم ثم اختلاف في درجات الفصاحة بل في أصل الفصاحة حتى يشتمل على الغث والسمين فلا تتساوى رسالتان ولا قصيدتان بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة وأبيات سخيفة وكذلك تشتمل القصائد والأشعار على أغراض مختلفة لأن الشعراء والفصحاء ( في كل واد يهيمون ) 2 فتارة يمدحون الدنيا وتارة يذمونها وتارة يمدحون الجبن فيسمونه حزما وتارة يذمونه ويسمونه ضعفا وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها صراحة وتارة يذمونها ويسمونها تهورا ولا ينفك كلام آدمي عن هذه الإختلافات لأن منشأ هذه الإختلافات اختلاف الأغراض واختلاف الأحوال والإنسان تختلف أحواله فتساعده الفصاحة عند انبساط الطبع وفرحه ويتعذر عليه عند الإنقباض ولذلك تختلف أغراضه فيميل إلى الشيء مرة ويميل عنه أخرى فيوجب اختلاف الأحوال والأغراض اختلافا في كلامه بالضرورة فلا تصادف اللسان يتكلم في ثلاث وعشرين سنة وهي مدة نزول القرآن فيتكلم على غرض بشرا تختلف أحواله فلو كان هذا كلامه أو صلى الله عليه وسلم واحد وعلى منهج واحد ولقد كان رسول الله كلام غيره من البشر لوجد فيه اختلاف كثير فأما اختلاف الناس فهو تباين في آراء الناس لا في نفس القرآن وكيف يكون هذا المراد وقد قال تعالى ( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ) 3 فقد ذكر في القرآن أنه في نفسه غير مختلف وهو مع هذا سبب لاختلاف الخلق (1 ) في الضلال والهدى فلو لم يختلف فيه لكانت أمثال هذه الآيات خلفا وهي أشد أنواع الإختلاف والله أعلم فصل في القول عند تعارض الآي ( 2 )
قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرابيني ( 3 ) إذا تعارضت الآي وتعذر فيها الترتيب والجمع ( 4 ) طلب التاريخ وترك المتقدم منهما بالمتأخر ويكون ذلك نسخا له وإن لم يوجد التاريخ وكان الإجماع على استعمال إحدى الآيتين علم بإجماعهم أن الناسخ ما أجمعوا على العمل بها
قال ولا يوجد في القرآن آيتان متعارضتان تعريان عن هذين الوصفين
وذكروا عند التعارض مرجحات
الأول تقديم المكي على المدني وإن كان يجوز أن بعد عوده إلى مكة والمدنية قبلها فيقدم الحكم بالآية صلى الله عليه وسلم تكون المكية نزلت عليه المدنية على المكية في التخصيص والتقديم إذ كان غالب الآيات المكية نزولها قبل الهجرة
الثاني أن يكون أحد الحكمين على غالب أحوال أهل مكة والآخر على غالب
أحوال أهل المدينة فيقدم الحكم بالخبر الذي فيه أحول أهل المدينة كقوله تعالى ( ومن دخله كان آمنا ) 1 مع قوله ( كتب عليكم القصاص في القتلى ) 2 فإذا أمكن بناء كل واحدة من الآيتين على البدل جعل التخصيص في قوله تعالى ( ومن دخله كان آمنا ) 1 كأنه قال إلا من وجب عليه القصاص ومثل قوله ( لا عن قتل صيد مكة مع قوله تعالى ( يسألونك ماذا صلى الله عليه وسلم تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) 3 ونهيه أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين ) 4 فجعل النهي فيمن اصطاده في الحرم وخص من اصطاده في الحل وأدخله حيا فيه.
الثالث أن يكون أحد الظاهرين مستقلا بحكمه والآخر مقتضيا لفظا يزاد عليه فيقدم المستقل بنفسه عند المعارضة والترتيب كقوله تعالى ( وأتموا الحج والعمرة لله ) 5 مع قوله ( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) 5 وقد أجمعت الأمة على أن الهدي لا يجب بنفس الحصر وليس فيه صريح الإحلال بما يكون سببا له فيقدم المنع من الإحلال عند المرض بقوله ( وأتموا الحج والعمرة لله ) 5 على ما عارضه من الآية
الرابع أن يكون كل واحد من العمومين محمولا على ما قصد به في الظاهر عند الإجتهاد فيقدم ذلك على تخصيص كل واحد منهما من المقصود بالآخر كقوله ( وأن تجمعوا بين الأختين ) 6 بقوله ( وما ملكت أيمانكم ) 6 فيخص الجمع يملك
اليمين بقوله تعالى ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ) 1 فتحمل آية الجمع على العموم والقصد فيها بيان ما يحل وما يحرم وتحمل آية الإباحة على زوال اللوم فيمن أتى بحال
الخامس أن يكون تخصيص أحد الإستعمالين على لفظ تعلق بمعناه والآخر باسمه كقوله ( شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم ) 2 مع قوله تعالى ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) 3 الآية فيمكن أن يقال في الآية بالتبين عند شهادة الفاسق إذا كان ذلك من كافر على مسلم أو مسلم فاسق على كافر وأن يقبل الكافر على الكافر وإن كان فاسقا أو يحمل ظاهر قوله ( أو آخران من غيركم ) 2 على القبيلة دون الملة ويحمل الأمر بالتثبت على عموم النسيان في الملة لأنه رجوع إلى تعيين اللفظ وتخصيص الغير بالقبيلة لأنه رجوع إلى الاسم على عموم الغير
السادس ترجيح ما يعلم بالخطاب ضرورة على ما يعلم منه ظاهرا كتقديم قوله تعالى ( وأحل الله البيع ) 4 على قوله ( وذروا البيع ) 5 فإن قوله ( وأحل ) 4 يدل على حل البيع ضرورة ودلالة النهي على فساد البيع إما ألا تكون ظاهرة أصلا أو تكون ظاهرة منحطة عن النص
فصل في القول عند تعارض آي القرآن والآثار (1 )
قال القاضي أبو بكر في ( التقريب )لا يجوز تعارض آي القرآن والآثار وما توجبه أدلة العقل فلذلك لم يجعل قوله تعالى ( الله خالق كل شيء ) 2 معارضا لقوله ( وتخلقون إفكا ) 3 وقوله ( وإذ تخلق من الطين ) 4 وقوله ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) 5 لقيام الدليل العقلي أنه لا خالق غير الله تعالى فيتعين تأويل ما عارضه فيؤول قوله ( وتخلقون ) 3 بمعنى ) تكذبون ( لأن الإفك نوع من الكذب وقوله ( وإذ تخلق من الطين ) 4 أي ) تصور)
ومن ذلك قوله ( أن الله بكل شيء عليم ) 6 لا يعارضه قوله ( أتنبئون الله بما لا يعلم ) 7 فإن المراد بهذا مالا يعلمه أنه غير كائن ويعلمونه وقوع ما ليس بواقع لا على أن من المعلومات ما هو غير عالم به وإن علمتموه
وكذلك لا يجوز جعل قوله تعالى ( إن الله لا يخفى عليه شيء ) 8 معارضا لقوله ( حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ) 9 وقوله ( إلى ربها ناظرة ) 10 معارضا لقوله ( لا تدركه الأبصار ) 11 في تجويز الرؤية وإحالتها
لأن دليل العقل يقضي بالجواز ويجوز تخليص النفي بالدنيا والإثبات بالقيامة
وكذلك لا يجوز جعل قوله ( وما مسنا من لغوب ) 1 معارضا لقوله ( وهو أهون عليه ) 2 بل يجب تأويل (أهون ) على ( هين )
ولا جعل قوله تعالى ( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ) 3 معارضا لأمره نبيه وأمته
بالجدال في قوله ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) 4 فيحمل الأول على ذم الجدال الباطل
ولا يجوز جعل قوله ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) 5 معارضا لقوله ( كل من عليها فان ) 6 فصل في تعارض القراءتين في آية واحدة ( 7 )
وقد جعلوا تعارض القراءتين في آية واحدة كتعارض الآيتين كقوله ( وأرجلكم ) 8 بالنصب والجر وقالوا يجمع بينهما بحمل إحداهما على مسح الخف والثانية على غسل الرجل إذا لم يجد متعلقا سواهما
وكذلك قراءة ( يطهرن ) و ( يطهرن ) 1 حملت الحنفية إحداهما على ما دون العشرة والثانية على العشرة
واعلم أنه إذا لم يكن لها متعلق سواهما تصدى لنا الإلغاء أو الجمع فأما إذا وجدنا متعلقا سواهما فالمتعلق هو المتبع فائدة (2) في القول في الاختلاف والتناقض
قال أبو بكر الصيرفي في شرح ( رسالة الشافعي ) جماع الاختلاف والتناقض أن كل كلام صح أن يضاف بعض ما وقع الاسم عليه إلى وجه من الوجوه فليس فيه تناقض وإنما التناقض في اللفظ ما ضاده من كل جهة على حسب ما تقتضيه الأسماء ولن يوجد في الكتاب ولا في السنة شيء من ذلك أبدا وإنما يوجد فيه النسخ في وقتين بأن يوجب حكما ثم يحله وهذا لا تناقض فيه وتناقض الكلام لا يكون إلا في إثبات ما نفي أو نفي ما أثبت بحيث يشترك المثبت والمنفي في الاسم والحدث والزمان والأفعال والحقيقة فلو كان الاسم حقيقة في أحدهما وفي الآخر مستعارا ونفي أحدهما وأثبت الآخر لم يعد تناقضا
هذا كله في الأسماء وأما المعاني وهو باب القياس فكل من أوجد علة وحررها وأوجب بها حكما من الأحكام ثم ادعى تلك العلة بعينها فيما يأباه الحكم فقد تناقض فإن رام الفرق لم يسمع منه لأنه في فرقه تناقض والزيادة في العلة نقص أو تقصير عن تحريرها في الابتداء وليس هذا على السائل
وكل مسألة يسأل عنها فلا تخلو من أحد وجهين إما أن يسأل فيما يستحق الجواب عنه أو لا فأما المستحق للجواب فهو ما يمكن كونه ويجوز وأما ما استحال كونه فلا يستحق جوابا لأن من علم أنه لا يجتمع القيام والقعود فسأل هل يكون الإنسان قائما منتصبا جالسا في حال واحدة فقد أحال وسأل عن محال فلا يستحق الجواب فإن كان لا يعرف القيام والقعود عرف فإذا عرفه فقد استحال عنده ما سأله
قال وقد رأيت كثيرا مما يتعاطى العلم يسأل عن المحال ولا يدري أنه محال ويجاب عنه والآفات تدخل على هؤلاء لقلة علمهم بحق الكلام فصل في الأسباب الموهمة الاختلاف
وللاختلاف أسباب
الأول وقوع المخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى كقوله تعالى في خلق آدم إنه ( من تراب ) 1 ومرة ( من حمإ مسنون ) 2 ومرة ( من طين لازب ) 3 ومرة من ( صلصال كالفخار ) 4 وهذه الألفاظ مختلفة ومعانيها في أحوال مختلفة
لأن الصلصال غير الحمأ والحمأ غير التراب إلا أن مرجعها كلها إلى جوهر وهو التراب ومن التراب تدرجت هذه الأحوال
ومنه قوله تعالى ( فإذا هي ثعبان مبين ) 1 وفي موضع ( تهتز كأنها جان ) 2 والجان الصغير من الحيات والثعبان الكبير منها وذلك لأن خلقها خلق الثعبان العظيم واهتزازها وحركاتها وخفتها كاهتزاز الجان وخفته
السبب الثاني لاختلاف الموضوع كقوله تعالى ( وقفوهم إنهم مسؤولون ) 3 وقوله ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) 4 مع قوله ( فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ) 5 قال الحليمي فتحمل الآية الأولى على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل والثانية على ما يستلزم الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه حمله غيره على اختلاف الأماكن لأن في القيامة مواقف كثيرة فموضع يسأل ويناقش وموضع آخر يرحم ويلطف به وموضع آخر يعنف ويوبخ وهم الكفار وموضع آخر لا يعنف وهم المؤمنون
وقوله ( ولا يكلمهم الله يوم القيامة ) 6 مع قوله ( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) 7 وقيل المنفي كلام التلطف والإكرام والمثبت سؤال التوبيخ والإهانة فلا تنافي
وكقوله تعالى ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) 8 مع قوله ( يضاعف لهم العذاب )
والجواب أن التضعيف هنا ليس على حد التضعيف في الحسنات بل هو راجع لتضاعيف مرتكباتهم فكان لكل مرتكب منها عذاب يخصه فليس التضعيف من هذا الطريق على ما هو في الطريق الآخر وإنما المراد هنا تكثيره بحسب كثرة المجترحات لأن السيئة الواحدة يضاعف الجزاء عليها بدليل سياق تلك الآية وهو قوله ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون ) 2 فهؤلاء كذبوا على ربهم وصدوا عن سبيله وبغوها عوجا وكفروا فهذه مرتكبات عذبوا بكل مرتكب منها
وكقوله ( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ) 3 مع قوله ( ولا يكتمون الله حديثا ) 4 فإن الأولى تقتضي أنهم كتموا كفرهم السابق
والجواب من وجهين أحدهما أن للقيامة مواطن ففي بعضها يقع منهم الكذب وفي بعضها لا يقع كما سبق والثاني أن الكذب يكون بأقوالهم ) 5 ( والصدق يكون من جوارحهم فيأمرها الله تعالى بالنطق فتنطق بالصدق
وكقوله ( ولا تكسب كل نفس إلا عليها ) 6 مع قوله ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) 7 والجواب أن المراد لا تكسب شرا ولا إثما بدليل سبب
النزول( 1 ) أو ضمن معنى (تجني ) وهذه الآية أقتصر فيها على الشر والأخرى ذكر فيها الأمران ولهذا لما( 2 ) ذكر القسمين ذكر ما يميز أحدهما عن الآخر وهاهنا لما كان المراد ذكر أحدهما اقتصر عليه ب ( فعل ) ولم يأت ب ( افتعل)
ومنه قوله تعالى ( اتقوا الله حق تقاته ) 3 مع قوله ( فاتقوا الله ما استطعتم ) 4 يحكى عن الشيخ العارف ) 5 ( أبي الحسن الشاذلي رحمه الله أنه جمع بينهما فحمل الآية الأولى على التوحيد والثانية على الأعمال والمقام يقتضي ذلك لأنه قال بعد الأولى ( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) 3
وقيل بل الثانية ناسخة قال ابن المنير الظاهر أن ( حق صلى الله عليه وسلم قوله ( اتقوا الله حق تقاته ) 3 إنما نسخ حكمه لا فضله وأجره وقد فسر النبي تقاته ) بأن قال ) هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر ( فقالوا أينا يطيق ذلك فنزلت ( فاتقوا الله ما استطعتم ) 4 وكان التكليف أولا باستيعاب العمر بالعبادة بلا فترة ولا نعاس كما كانت الصلاة خمسين ثم صارت بحسب الاستطاعة خمسا والاقتدار منزل على هذا الاعتبار ولم ينحط من درجاته
وقال الشيخ كمال الدين الزملكاني( 1 ) وفي كون ذلك منسوخا نظر وقوله ( ما استطعتم ) هو ( حق تقاته ) إذ به أمر فإن ( حق تقاته ) الوقوف على أمره ودينه وقد قال بذلك كثير من العلماء انتهى
والحديث الذي ذكره ابن المنير في تفسيره ( حق تقاته ) 2 لم يثبت مرفوعا بل هو من كلام ابن مسعود رواه النسائي وليس فيه قول الصحابة ) أينا يطيق ذلك ( ونزول قوله تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم )
ومنه قوله تعالى ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) 3 مع قوله في أواخر السورة ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) 4 فالأولى تفهم إمكان العدل والثانية تنفيه
والجواب أن المراد بالعدل في الأولى العدل بين الأزواج في توفية حقوقهن وهذا ممكن الوقوع وعدمه والمراد به في الثانية الميل يقسم بين نسائه صلى الله عليه وسلم القلبي فالإنسان لا يملك ميل قلبه إلى بعض زوجاته دون بعض وقد كان ثم يقول ( اللهم هذا قسمي في ما أملك فلا تؤاخذني بما لا أملك )يعني ميل القلب وكان عمر يقول ( الله قلبي فلا أملكه وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل )
ويمكن أن يكون المراد بالعدل في الثانية العدل التام أشار إليه ابن عطية
وقد يحتاج الاختلاف إلى تقدير فيرتفع به الإشكال كقوله تعالى ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى )
1 ثم قال سبحانه ( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ) 1 والأصل في الأولى وفضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر درجة والأصل في الثانية وفضل الله المجاهدين على القاعدين من الأصحاء درجات
وممن ذكر أن المحذوف كذلك الإمام بدر الدين بن مالك ( 2 )في شرح ( الخلاصة ) في الكلام على حذف النعت وللزمخشري فيه كلام آخر( 3 )
وكقوله تعالى ( إن الله لا يأمر بالفحشاء ) 4 مع قوله ( أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ) 5 والمعنى أمرناهم وملكناهم وأردنا منهم الصلاح فأفسدوا والمراد بالأمر في الأولى أنه لا يأمر به شرعا ولكن قضاء لاستحالة أن يجري في ملكه مالا يريد وفرق بين الأمر الكوني والديني
الثالث لاختلافهما في جهتي الفعل كقوله تعالى ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ) 6 أضيف القتل إليهم على جهة الكسب والمباشرة ونفاه عنهم باعتبار التأثير ولهذا قال الجمهور إن الأفعال مخلوقة لله تعالى مكتسبة للآدميين فنفي الفعل بإحدى الجهتين لا يعارضه إثباته بالجهة الأخرى
وكذا قوله ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) 1 أي ما رميت خلقا إذ رميت كسبا وقيل إن الرمي يشتمل على القبض والإرسال وهما بكسب الرامي وعلى التبليغ والإصابة وهما بفعل الله عز وجل قال ابن جرير الطبري ( 2 ) وهي الدليل على أن الله خالق لأفعال العباد فإن الله تعالى أضافه إلى نبيه ثم نفاه عنه وذلك فعل واحد لأنه من الله تعالى التوصيل إليهم ومن نبيه بالحذف والإرسال وإذا ثبت هذا لزم مثله في سائر أفعال العباد المكتسبة فمن الله تعالى الإنشاء والإيجاد ومن الخلق الاكتساب بالقوى
ومثله قوله تعالى ( الرجال قوامون على النساء ) 3 وقال تعالى ( وقوموا لله قانتين ) 4 فقيام الانتصاب لا ينافي القيام بالأمر لاختلاف جهتي الفعل
الرابع لاختلافهما في الحقيقة والمجاز كقوله ( وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ) 5 ( ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ) 6 وهو يرجع لقول المناطقة الاختلاف بالإضافة أي وترى الناس سكارى بالإضافة إلى أهوال القيامة مجازا وما هم بسكارى بالإضافة إلى الخمر حقيقة
ومثله في الاعتبارين قوله تعالى ( آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) 7 وقوله ( ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ) 8 وقوله تعالى
وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ( 1 فإنه لا يلزم من نفي النظر نفي الإبصار لجواز قولهم ) نظرت إليه فلم أبصره .
الخامس بوجهين واعتبارين وهو الجامع للمفترقات كقوله ( فبصرك اليوم حديد ) 2 وقال ( خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي ) 3 قال قطرب ( فبصرك ) 2 أي علمك ومعرفتك بها قوية من قولهم ) بصر بكذا وكذا ( أي علم وليس المراد رؤية العين قال الفارسي ويدل على ذلك قوله ( فكشفنا عنك غطاءك ) 2 وصف البصر بالحدة
وكقوله تعالى ( وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ) 4 مع قوله ( أنا ربكم الأعلى ) 2 فقيل يجوز أن يكون معناه ويذرك وآلهتك إن ساغ لهم ويكون إضافة الآلهة إليه ملكا كان يعبد في دين قومه ثم يدعوهم إلى أن يكون هو الأعلى كما تقول العرب موالي من فوق وموالي من أسفل فيكون اعتقادهم في الآلهة مع فرعون أنها مملوكة له فيحسن قولهم (وآلهتك )
وقوله تعالى ( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ) 6 مع قوله ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) 7 فقد يظن أن الوجل خلاف الطمأنينة وجوابه أن الطمأنينة إنما تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى فتوجل القلوب لذلك وقد جمع بينهما في قوله ( تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ) 1 فإن هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم ووثقوا به فانتفى عنهم الشك
وكقوله ( خمسين ألف سنة ) 2 وفي موضع ( ألف سنة ) 2 وأجيب بأنه باعتبار حال المؤمن والكافر بدليل ( وكان يوما على الكافرين عسيرا ) 3
وكقوله ( بألف من الملائكة مردفين ) 4 وفي آية أخرى ( بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ) 5 قيل إن الألف أردفهم بثلاثة آلاف وكان الأكثر مددا للأقل وكان ) الألف مردفين ( بفتحها
وكقوله تعالى ( خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء ) 6 وفي آية أخرى ( والأرض بعد ذلك دحاها ) 7 ولا تنافي بينهما فالأول ) 8 ( دال على أن الأرض وما فيها خلقت ) 9 ( قبل السماء وذلك صحيح ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء وبذلك تتفق معاني الآيات في سورة القمر والمؤمن والنازعات
وكقوله تعالى ( ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ) 1 وقوله ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ) إلى قوله ( فقضاهن سبع سماوات في يومين ) 2 وذلك يبلغ ثمانية أيام والجواب أن المراد بقوله ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ) إلى قوله ( وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام ) مع اليومين المتقدمين ولم يرد بذكر ) الأربعة ( غير ما تقدم ذكره وهذا كما يقول الفصيح ) سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام ) وسرت إلى الكوفة في ثلاثة عشر يوما ( ولا يريد سوى العشرة بل يريد مع العشرة ثلاثة ثم قال تعالى ( فقضاهن سبع سماوات في يومين ) 3 وأراد سوى الأربعة وذلك لا مخالفة فيه لأن المجموع يكون ستة
ومنه قوله تعالى في السجدة ( عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ) 4 بلفظ ) الذي ( على وصف العذاب وفي سبأ ( عذاب النار التي ) 5 بلفظ ) التي ( على وصف النار وفيه أربعة أوجه أحدها أنه وصف العذاب في السجدة لوقوع ) النار ( موقع الضمير الذي لا يوصف وإنما وقعت موقع الضمير لتقدم إضمارها مع قوله ( وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ) 4 فحق الكلام ) وقيل لهم ذوقوا عذابها ( فلما وضعها موضع المضمر الذي لا يقبل الوصف
عدل إلى وصف العذاب وأما في ) سبأ ( فوصفها لعدم المانع من وصفها والثاني أن الذي في ) السجدة ( وصف النار أيضا وذكر حملا على معنى الجحيم والحريق والثالث أن الذي في ) السجدة ( في حق من يقر بالنار ويجحد العذاب وفي ) سبأ ( في حق من يجحد أصل النار والرابع أنه إنما وصف العذاب في السجدة لأنه لما تقدم ذكر النار مضمرا ومظهرا عدل إلى وصف العذاب ليكون تلوينا للخطاب فيكون أنشط للسامع بمنزلة العدول من الغيبة إلى الخطاب
ومنه قوله تعالى ( توفته رسلنا ) 1 وقوله ( تتوفاهم الملائكة ) 2 وبين قوله ( قل يتوفاكم ملك الموت ) 3 وبين قوله ( الله يتوفى الأنفس ) 4 ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ) 1 وجمع البغوي بينها لأن توفي الملائكة بالقبض والنزع وتوفي ملك الموت بالدعاء والأمر يدعو الأرواح فتجيبه ثم يأمر أعوانه بقبضها وتوفي الله سبحانه خلق الموت فيه
ومنه قوله تعالى في البقرة ( فاتقوا النار ) 5 وفي سورة التحريم ( نارا ) 6 بالتنكير لأنها نزلت بمكة قبل آية البقرة فلم تكن النار التي وقودها الناس والحجارة معروفة فنكرها ثم نزلت آية البقرة بالمدينة مشارا بها إلى ما عرفوه أولا
وقال في سورة البقرة ( رب اجعل هذا بلدا آمنا ) 7 وفي سورة إبراهيم ( رب اجعل هذا البلد آمنا ) 8 لأنه في الدعوة الأولى كان مكانا فطلب منه أن يجعله بلدا آمنا وفي الدعوة الثانية كان بلدا غير آمن فعرفه وطلب له الأمن أو كان بلدا آمنا وطلب
65 ثبات الأمن ودوامه وكون سورة البقرة مدنية وسورة إبراهيم مكية لا ينافي هذا لأن الواقع من إبراهيم كونه على الترتيب المذكور والإخبار عنه في القرآن على غير ذلك الترتيب أو لأن المكي منه ما نزل قبل الهجرة فيكون المدني متأخرا عنها ومنه ما نزل بعد فتح مكة فيكون متأخرا عن المدني فلم قلتم إن سورة إبراهيم من المكي الذي نزل قبل الهجرة فصل في الإجابة عن بعض الاستشكالات
ومما استشكلوه قوله تعالى ( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا ) 1 فإنه يدل على حصر المانع من الإيمان في أحد هذين الشيئين وقد قال تعالى في الآية الأخرى ( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ) 2 فهذا حصر في ثالث غيرهما
وأجاب ابن عبد السلام بأن معنى الآية وما منع الناس أن يؤمنوا إلا إرادة أن تأتيهم سنة من الخسف وغيره ( أو يأتيهم العذاب قبلا ) في الآخرة فأخبر أنه أراد أن يصيبهم أحد الأمرين ولا شك أن إرادة الله مانعة من وقوع ما ينافي المراد فهذا حصر في السبب الحقيقي لأن الله هو المانع في الحقيقة ومعنى الآية الثانية ( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى )
إلا استغراب بعثه بشرا رسولا لأن قولهم ليس مانعا من الإيمان لأنه يصلح لذلك وهو يدل على الإستغراب بالالتزام وهو المناسب للمانعية واستغرابهم ليس مانعا حقيقيا بل عاديا لجواز خلو الإيمان معه بخلاف إرادة الله تعالى فهذا حصر في المانع العادي والأولى حصر في المانع الحقيقي فلا تنافي انتهى
وقوله ) ليس مانعا من الإيمان ( فيه نظر لأن وإن إنكارهم صلي الله عليه وسلم إنكارهم بعثه بشرا رسولا كفر مانع من الإيمان وفيه تعظيم لأمر النبي بعثته مانع من الإيمان فصل في وقوع التعارض بين الآية والحديث
وقد يقع التعارض بين الآية والحديث ولا بأس يذكر شيء للتنبيه لأمثاله فمنه قوله تعالى ( والله يعصمك من الناس ) 1 وقد صح أنه شج يوم أحد
وأجيب بوجهين
أحدهما أن هذا كان قبل نزول هذه الآية لأن غزوة أحد كانت سنة ثلاث من الهجرة وسورة المائدة من أواخر ما نزل بالمدينة
والثاني بتقدير تسليم الأخير فالمراد العصمة من القتل وفيه تنبيه على أنه يجب عليه أن يحتمل كل ما دون النفس من أنواومنه قوله تعال ( لن يدخل أحدكم الجنة بعمله )صلي الله عليه وسلم ( ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ) 1 مع قوله
وأجيب بوجهين
أحدهما ونقل عن سفيان وغيره كانوا يقولون النجاة من النار بعفو الله ودخول الجنة برحمته ) 2 ( وانقسام المنازل والدرجات بالأعمال ويدل له حديث أبي هريرة ( إن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ) رواه الترمذي
والثاني أن الباء في الموضعين مدلولها مختلف ففي الآية باء المقابلة وهي الداخلة على الأعراض وفي الحديث للسببية لأن المعطي بعوض قد يعطي مجانا وأما المسبب فلا يوجد بدون السبب ومنهم من عكس هذا الجواب وقال الباء في بقوله ( سددوا وقاربوا واعلموا أن صلي الله عليه وسلم الآية للسببية وفي الحديث للعوض وقد جمع النبي أحدا منكم لن ينجو بعمله ) قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ) ومنه قوله تعالى مخبرا عن خلق السماوات والأرض وما بينهما ( في ستة أيام ) 3 فإنه يقتضي أن يكون يوما من أيام الجمعة بقي لم يخلق فيه شيء والظاهر من الأحاديث الصحاح أن الخلق ابتدأ يوم الأحد وخلق آدم يوم الجمعة آخر الأشياء فهذا يستقيم مع الآية الشريفة ووقع في صحيح مسلم أن الخلق ابتدأ يوم السبت فهذا بخلاف الآية اللهم إلا أن يكون أراد في الآية الشريفة جميع الأشياء غير آدم ثم يكون يوم الجمعة هو الذي لم يخلق فيه شيء مما بين السماء والأرض لأن آدم حينئذ لم يكن فيما بينهم
ع البلاء فما أشد تكليف الأنبياء
وقال الإمام وقد وفق الحسن البصري بين قوله تعالى ( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ) 4 وقوله ( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر ) 5 بأن قال ليس المراد في آية الأعراف على ظاهره من أن الوعد كان ثلاثين ليلة ثم بعد ذلك وعده بعشر لكنه وعده أربعين ليلة جميعا انتهى
وقيل تجري آية الأعراف على ظاهره من أن الوعد كان ثلاثين ثم أتم بالعشر فاستقرت الأربعون ثم أخبر في آية البقرة بما استقر
وذكره الخطابي قال وسمعت ابن أبي هريرة يحكي عن أبي العباس بن سريج قال سأل رجل بعض العلماء عن قوله تعالى ( لا أقسم بهذا البلد ) 1 فأخبر أنه لا يقسم بهذا ثم أقسم به في قوله ( وهذا البلد الأمين ) 2 فقال ابن سريج أي الأمرين أحب إليك أجيبك ثم أقطعك أو أقطعك ثم أجيبك فقال بل اقطعني ثم بحضرة رجال وبين ظهراني قوم صلى الله عليه وسلم أجبني فقال اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله وكانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزا وعليه مطعنا فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به وأسرعوا بالرد عليه ولكن القوم علموا وجهلت فلم ينكروا منه ما أنكرت ثم قال له إن العرب قد تدخل ( لا) في أثناء كلامها وتلغي معناها وأنشد فيه أبياتا والقاعدة في هذا أشباهه أن الألفاظ إذا اختلفت وكان مرجعها إلى أمر واحد لم يوجب ذلك اختلافا فائدة عن الغزالي في معنى الإختلاف
سئل الغزالي عن معنى قوله تعالى ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) 3 فأجاب بما صورته الإختلاف لفظ مشترك بين معان وليس المراد نفي اختلاف الناس فيه بل نفي الإختلاف عن ذات القرآن يقال هذا كلام مختلف أي لا يشبه أوله آخره في الفصاحة إذ هو مختلف أي بعضه يدعو إلى الدين وبعضه يدعو إلى الدنيا أو هو مختلف النظم فبعضه على وزن الشعر وبعضه منزحف وبعضه على
أسلوب مخصوص في الجزالة وبعضه على أسلوب يخالفه وكلام الله تعالى منزه(1) عن هذه الإختلافات فإنه على منهاج واحد في النظم مناسب أوله آخره وعلى مرتبة واحدة في غاية الفصاحة فليس يشتمل على الغث والسمين ومسوق لمعنى واحد وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى وصرفهم عن الدنيا إلى الدين وكلام الآدميين يتطرق إليه هذه الإختلافات إذ كلام الشعراء والمترسلين إذا قيس عليه وجد فيه اختلاف في منهاج النظم ثم اختلاف في درجات الفصاحة بل في أصل الفصاحة حتى يشتمل على الغث والسمين فلا تتساوى رسالتان ولا قصيدتان بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة وأبيات سخيفة وكذلك تشتمل القصائد والأشعار على أغراض مختلفة لأن الشعراء والفصحاء ( في كل واد يهيمون ) 2 فتارة يمدحون الدنيا وتارة يذمونها وتارة يمدحون الجبن فيسمونه حزما وتارة يذمونه ويسمونه ضعفا وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها صراحة وتارة يذمونها ويسمونها تهورا ولا ينفك كلام آدمي عن هذه الإختلافات لأن منشأ هذه الإختلافات اختلاف الأغراض واختلاف الأحوال والإنسان تختلف أحواله فتساعده الفصاحة عند انبساط الطبع وفرحه ويتعذر عليه عند الإنقباض ولذلك تختلف أغراضه فيميل إلى الشيء مرة ويميل عنه أخرى فيوجب اختلاف الأحوال والأغراض اختلافا في كلامه بالضرورة فلا تصادف اللسان يتكلم في ثلاث وعشرين سنة وهي مدة نزول القرآن فيتكلم على غرض بشرا تختلف أحواله فلو كان هذا كلامه أو صلى الله عليه وسلم واحد وعلى منهج واحد ولقد كان رسول الله كلام غيره من البشر لوجد فيه اختلاف كثير فأما اختلاف الناس فهو تباين في آراء الناس لا في نفس القرآن وكيف يكون هذا المراد وقد قال تعالى ( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ) 3 فقد ذكر في القرآن أنه في نفسه غير مختلف وهو مع هذا سبب لاختلاف الخلق (1 ) في الضلال والهدى فلو لم يختلف فيه لكانت أمثال هذه الآيات خلفا وهي أشد أنواع الإختلاف والله أعلم فصل في القول عند تعارض الآي ( 2 )
قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرابيني ( 3 ) إذا تعارضت الآي وتعذر فيها الترتيب والجمع ( 4 ) طلب التاريخ وترك المتقدم منهما بالمتأخر ويكون ذلك نسخا له وإن لم يوجد التاريخ وكان الإجماع على استعمال إحدى الآيتين علم بإجماعهم أن الناسخ ما أجمعوا على العمل بها
قال ولا يوجد في القرآن آيتان متعارضتان تعريان عن هذين الوصفين
وذكروا عند التعارض مرجحات
الأول تقديم المكي على المدني وإن كان يجوز أن بعد عوده إلى مكة والمدنية قبلها فيقدم الحكم بالآية صلى الله عليه وسلم تكون المكية نزلت عليه المدنية على المكية في التخصيص والتقديم إذ كان غالب الآيات المكية نزولها قبل الهجرة
الثاني أن يكون أحد الحكمين على غالب أحوال أهل مكة والآخر على غالب
أحوال أهل المدينة فيقدم الحكم بالخبر الذي فيه أحول أهل المدينة كقوله تعالى ( ومن دخله كان آمنا ) 1 مع قوله ( كتب عليكم القصاص في القتلى ) 2 فإذا أمكن بناء كل واحدة من الآيتين على البدل جعل التخصيص في قوله تعالى ( ومن دخله كان آمنا ) 1 كأنه قال إلا من وجب عليه القصاص ومثل قوله ( لا عن قتل صيد مكة مع قوله تعالى ( يسألونك ماذا صلى الله عليه وسلم تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) 3 ونهيه أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين ) 4 فجعل النهي فيمن اصطاده في الحرم وخص من اصطاده في الحل وأدخله حيا فيه.
الثالث أن يكون أحد الظاهرين مستقلا بحكمه والآخر مقتضيا لفظا يزاد عليه فيقدم المستقل بنفسه عند المعارضة والترتيب كقوله تعالى ( وأتموا الحج والعمرة لله ) 5 مع قوله ( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) 5 وقد أجمعت الأمة على أن الهدي لا يجب بنفس الحصر وليس فيه صريح الإحلال بما يكون سببا له فيقدم المنع من الإحلال عند المرض بقوله ( وأتموا الحج والعمرة لله ) 5 على ما عارضه من الآية
الرابع أن يكون كل واحد من العمومين محمولا على ما قصد به في الظاهر عند الإجتهاد فيقدم ذلك على تخصيص كل واحد منهما من المقصود بالآخر كقوله ( وأن تجمعوا بين الأختين ) 6 بقوله ( وما ملكت أيمانكم ) 6 فيخص الجمع يملك
اليمين بقوله تعالى ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ) 1 فتحمل آية الجمع على العموم والقصد فيها بيان ما يحل وما يحرم وتحمل آية الإباحة على زوال اللوم فيمن أتى بحال
الخامس أن يكون تخصيص أحد الإستعمالين على لفظ تعلق بمعناه والآخر باسمه كقوله ( شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم ) 2 مع قوله تعالى ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) 3 الآية فيمكن أن يقال في الآية بالتبين عند شهادة الفاسق إذا كان ذلك من كافر على مسلم أو مسلم فاسق على كافر وأن يقبل الكافر على الكافر وإن كان فاسقا أو يحمل ظاهر قوله ( أو آخران من غيركم ) 2 على القبيلة دون الملة ويحمل الأمر بالتثبت على عموم النسيان في الملة لأنه رجوع إلى تعيين اللفظ وتخصيص الغير بالقبيلة لأنه رجوع إلى الاسم على عموم الغير
السادس ترجيح ما يعلم بالخطاب ضرورة على ما يعلم منه ظاهرا كتقديم قوله تعالى ( وأحل الله البيع ) 4 على قوله ( وذروا البيع ) 5 فإن قوله ( وأحل ) 4 يدل على حل البيع ضرورة ودلالة النهي على فساد البيع إما ألا تكون ظاهرة أصلا أو تكون ظاهرة منحطة عن النص
فصل في القول عند تعارض آي القرآن والآثار (1 )
قال القاضي أبو بكر في ( التقريب )لا يجوز تعارض آي القرآن والآثار وما توجبه أدلة العقل فلذلك لم يجعل قوله تعالى ( الله خالق كل شيء ) 2 معارضا لقوله ( وتخلقون إفكا ) 3 وقوله ( وإذ تخلق من الطين ) 4 وقوله ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) 5 لقيام الدليل العقلي أنه لا خالق غير الله تعالى فيتعين تأويل ما عارضه فيؤول قوله ( وتخلقون ) 3 بمعنى ) تكذبون ( لأن الإفك نوع من الكذب وقوله ( وإذ تخلق من الطين ) 4 أي ) تصور)
ومن ذلك قوله ( أن الله بكل شيء عليم ) 6 لا يعارضه قوله ( أتنبئون الله بما لا يعلم ) 7 فإن المراد بهذا مالا يعلمه أنه غير كائن ويعلمونه وقوع ما ليس بواقع لا على أن من المعلومات ما هو غير عالم به وإن علمتموه
وكذلك لا يجوز جعل قوله تعالى ( إن الله لا يخفى عليه شيء ) 8 معارضا لقوله ( حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ) 9 وقوله ( إلى ربها ناظرة ) 10 معارضا لقوله ( لا تدركه الأبصار ) 11 في تجويز الرؤية وإحالتها
لأن دليل العقل يقضي بالجواز ويجوز تخليص النفي بالدنيا والإثبات بالقيامة
وكذلك لا يجوز جعل قوله ( وما مسنا من لغوب ) 1 معارضا لقوله ( وهو أهون عليه ) 2 بل يجب تأويل (أهون ) على ( هين )
ولا جعل قوله تعالى ( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ) 3 معارضا لأمره نبيه وأمته
بالجدال في قوله ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) 4 فيحمل الأول على ذم الجدال الباطل
ولا يجوز جعل قوله ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) 5 معارضا لقوله ( كل من عليها فان ) 6 فصل في تعارض القراءتين في آية واحدة ( 7 )
وقد جعلوا تعارض القراءتين في آية واحدة كتعارض الآيتين كقوله ( وأرجلكم ) 8 بالنصب والجر وقالوا يجمع بينهما بحمل إحداهما على مسح الخف والثانية على غسل الرجل إذا لم يجد متعلقا سواهما
وكذلك قراءة ( يطهرن ) و ( يطهرن ) 1 حملت الحنفية إحداهما على ما دون العشرة والثانية على العشرة
واعلم أنه إذا لم يكن لها متعلق سواهما تصدى لنا الإلغاء أو الجمع فأما إذا وجدنا متعلقا سواهما فالمتعلق هو المتبع فائدة (2) في القول في الاختلاف والتناقض
قال أبو بكر الصيرفي في شرح ( رسالة الشافعي ) جماع الاختلاف والتناقض أن كل كلام صح أن يضاف بعض ما وقع الاسم عليه إلى وجه من الوجوه فليس فيه تناقض وإنما التناقض في اللفظ ما ضاده من كل جهة على حسب ما تقتضيه الأسماء ولن يوجد في الكتاب ولا في السنة شيء من ذلك أبدا وإنما يوجد فيه النسخ في وقتين بأن يوجب حكما ثم يحله وهذا لا تناقض فيه وتناقض الكلام لا يكون إلا في إثبات ما نفي أو نفي ما أثبت بحيث يشترك المثبت والمنفي في الاسم والحدث والزمان والأفعال والحقيقة فلو كان الاسم حقيقة في أحدهما وفي الآخر مستعارا ونفي أحدهما وأثبت الآخر لم يعد تناقضا
هذا كله في الأسماء وأما المعاني وهو باب القياس فكل من أوجد علة وحررها وأوجب بها حكما من الأحكام ثم ادعى تلك العلة بعينها فيما يأباه الحكم فقد تناقض فإن رام الفرق لم يسمع منه لأنه في فرقه تناقض والزيادة في العلة نقص أو تقصير عن تحريرها في الابتداء وليس هذا على السائل
وكل مسألة يسأل عنها فلا تخلو من أحد وجهين إما أن يسأل فيما يستحق الجواب عنه أو لا فأما المستحق للجواب فهو ما يمكن كونه ويجوز وأما ما استحال كونه فلا يستحق جوابا لأن من علم أنه لا يجتمع القيام والقعود فسأل هل يكون الإنسان قائما منتصبا جالسا في حال واحدة فقد أحال وسأل عن محال فلا يستحق الجواب فإن كان لا يعرف القيام والقعود عرف فإذا عرفه فقد استحال عنده ما سأله
قال وقد رأيت كثيرا مما يتعاطى العلم يسأل عن المحال ولا يدري أنه محال ويجاب عنه والآفات تدخل على هؤلاء لقلة علمهم بحق الكلام فصل في الأسباب الموهمة الاختلاف
وللاختلاف أسباب
الأول وقوع المخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى كقوله تعالى في خلق آدم إنه ( من تراب ) 1 ومرة ( من حمإ مسنون ) 2 ومرة ( من طين لازب ) 3 ومرة من ( صلصال كالفخار ) 4 وهذه الألفاظ مختلفة ومعانيها في أحوال مختلفة
لأن الصلصال غير الحمأ والحمأ غير التراب إلا أن مرجعها كلها إلى جوهر وهو التراب ومن التراب تدرجت هذه الأحوال
ومنه قوله تعالى ( فإذا هي ثعبان مبين ) 1 وفي موضع ( تهتز كأنها جان ) 2 والجان الصغير من الحيات والثعبان الكبير منها وذلك لأن خلقها خلق الثعبان العظيم واهتزازها وحركاتها وخفتها كاهتزاز الجان وخفته
السبب الثاني لاختلاف الموضوع كقوله تعالى ( وقفوهم إنهم مسؤولون ) 3 وقوله ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) 4 مع قوله ( فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ) 5 قال الحليمي فتحمل الآية الأولى على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل والثانية على ما يستلزم الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه حمله غيره على اختلاف الأماكن لأن في القيامة مواقف كثيرة فموضع يسأل ويناقش وموضع آخر يرحم ويلطف به وموضع آخر يعنف ويوبخ وهم الكفار وموضع آخر لا يعنف وهم المؤمنون
وقوله ( ولا يكلمهم الله يوم القيامة ) 6 مع قوله ( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) 7 وقيل المنفي كلام التلطف والإكرام والمثبت سؤال التوبيخ والإهانة فلا تنافي
وكقوله تعالى ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) 8 مع قوله ( يضاعف لهم العذاب )
والجواب أن التضعيف هنا ليس على حد التضعيف في الحسنات بل هو راجع لتضاعيف مرتكباتهم فكان لكل مرتكب منها عذاب يخصه فليس التضعيف من هذا الطريق على ما هو في الطريق الآخر وإنما المراد هنا تكثيره بحسب كثرة المجترحات لأن السيئة الواحدة يضاعف الجزاء عليها بدليل سياق تلك الآية وهو قوله ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون ) 2 فهؤلاء كذبوا على ربهم وصدوا عن سبيله وبغوها عوجا وكفروا فهذه مرتكبات عذبوا بكل مرتكب منها
وكقوله ( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ) 3 مع قوله ( ولا يكتمون الله حديثا ) 4 فإن الأولى تقتضي أنهم كتموا كفرهم السابق
والجواب من وجهين أحدهما أن للقيامة مواطن ففي بعضها يقع منهم الكذب وفي بعضها لا يقع كما سبق والثاني أن الكذب يكون بأقوالهم ) 5 ( والصدق يكون من جوارحهم فيأمرها الله تعالى بالنطق فتنطق بالصدق
وكقوله ( ولا تكسب كل نفس إلا عليها ) 6 مع قوله ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) 7 والجواب أن المراد لا تكسب شرا ولا إثما بدليل سبب
النزول( 1 ) أو ضمن معنى (تجني ) وهذه الآية أقتصر فيها على الشر والأخرى ذكر فيها الأمران ولهذا لما( 2 ) ذكر القسمين ذكر ما يميز أحدهما عن الآخر وهاهنا لما كان المراد ذكر أحدهما اقتصر عليه ب ( فعل ) ولم يأت ب ( افتعل)
ومنه قوله تعالى ( اتقوا الله حق تقاته ) 3 مع قوله ( فاتقوا الله ما استطعتم ) 4 يحكى عن الشيخ العارف ) 5 ( أبي الحسن الشاذلي رحمه الله أنه جمع بينهما فحمل الآية الأولى على التوحيد والثانية على الأعمال والمقام يقتضي ذلك لأنه قال بعد الأولى ( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) 3
وقيل بل الثانية ناسخة قال ابن المنير الظاهر أن ( حق صلى الله عليه وسلم قوله ( اتقوا الله حق تقاته ) 3 إنما نسخ حكمه لا فضله وأجره وقد فسر النبي تقاته ) بأن قال ) هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر ( فقالوا أينا يطيق ذلك فنزلت ( فاتقوا الله ما استطعتم ) 4 وكان التكليف أولا باستيعاب العمر بالعبادة بلا فترة ولا نعاس كما كانت الصلاة خمسين ثم صارت بحسب الاستطاعة خمسا والاقتدار منزل على هذا الاعتبار ولم ينحط من درجاته
وقال الشيخ كمال الدين الزملكاني( 1 ) وفي كون ذلك منسوخا نظر وقوله ( ما استطعتم ) هو ( حق تقاته ) إذ به أمر فإن ( حق تقاته ) الوقوف على أمره ودينه وقد قال بذلك كثير من العلماء انتهى
والحديث الذي ذكره ابن المنير في تفسيره ( حق تقاته ) 2 لم يثبت مرفوعا بل هو من كلام ابن مسعود رواه النسائي وليس فيه قول الصحابة ) أينا يطيق ذلك ( ونزول قوله تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم )
ومنه قوله تعالى ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) 3 مع قوله في أواخر السورة ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) 4 فالأولى تفهم إمكان العدل والثانية تنفيه
والجواب أن المراد بالعدل في الأولى العدل بين الأزواج في توفية حقوقهن وهذا ممكن الوقوع وعدمه والمراد به في الثانية الميل يقسم بين نسائه صلى الله عليه وسلم القلبي فالإنسان لا يملك ميل قلبه إلى بعض زوجاته دون بعض وقد كان ثم يقول ( اللهم هذا قسمي في ما أملك فلا تؤاخذني بما لا أملك )يعني ميل القلب وكان عمر يقول ( الله قلبي فلا أملكه وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل )
ويمكن أن يكون المراد بالعدل في الثانية العدل التام أشار إليه ابن عطية
وقد يحتاج الاختلاف إلى تقدير فيرتفع به الإشكال كقوله تعالى ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى )
1 ثم قال سبحانه ( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ) 1 والأصل في الأولى وفضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر درجة والأصل في الثانية وفضل الله المجاهدين على القاعدين من الأصحاء درجات
وممن ذكر أن المحذوف كذلك الإمام بدر الدين بن مالك ( 2 )في شرح ( الخلاصة ) في الكلام على حذف النعت وللزمخشري فيه كلام آخر( 3 )
وكقوله تعالى ( إن الله لا يأمر بالفحشاء ) 4 مع قوله ( أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ) 5 والمعنى أمرناهم وملكناهم وأردنا منهم الصلاح فأفسدوا والمراد بالأمر في الأولى أنه لا يأمر به شرعا ولكن قضاء لاستحالة أن يجري في ملكه مالا يريد وفرق بين الأمر الكوني والديني
الثالث لاختلافهما في جهتي الفعل كقوله تعالى ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ) 6 أضيف القتل إليهم على جهة الكسب والمباشرة ونفاه عنهم باعتبار التأثير ولهذا قال الجمهور إن الأفعال مخلوقة لله تعالى مكتسبة للآدميين فنفي الفعل بإحدى الجهتين لا يعارضه إثباته بالجهة الأخرى
وكذا قوله ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) 1 أي ما رميت خلقا إذ رميت كسبا وقيل إن الرمي يشتمل على القبض والإرسال وهما بكسب الرامي وعلى التبليغ والإصابة وهما بفعل الله عز وجل قال ابن جرير الطبري ( 2 ) وهي الدليل على أن الله خالق لأفعال العباد فإن الله تعالى أضافه إلى نبيه ثم نفاه عنه وذلك فعل واحد لأنه من الله تعالى التوصيل إليهم ومن نبيه بالحذف والإرسال وإذا ثبت هذا لزم مثله في سائر أفعال العباد المكتسبة فمن الله تعالى الإنشاء والإيجاد ومن الخلق الاكتساب بالقوى
ومثله قوله تعالى ( الرجال قوامون على النساء ) 3 وقال تعالى ( وقوموا لله قانتين ) 4 فقيام الانتصاب لا ينافي القيام بالأمر لاختلاف جهتي الفعل
الرابع لاختلافهما في الحقيقة والمجاز كقوله ( وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ) 5 ( ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ) 6 وهو يرجع لقول المناطقة الاختلاف بالإضافة أي وترى الناس سكارى بالإضافة إلى أهوال القيامة مجازا وما هم بسكارى بالإضافة إلى الخمر حقيقة
ومثله في الاعتبارين قوله تعالى ( آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) 7 وقوله ( ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ) 8 وقوله تعالى
وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ( 1 فإنه لا يلزم من نفي النظر نفي الإبصار لجواز قولهم ) نظرت إليه فلم أبصره .
الخامس بوجهين واعتبارين وهو الجامع للمفترقات كقوله ( فبصرك اليوم حديد ) 2 وقال ( خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي ) 3 قال قطرب ( فبصرك ) 2 أي علمك ومعرفتك بها قوية من قولهم ) بصر بكذا وكذا ( أي علم وليس المراد رؤية العين قال الفارسي ويدل على ذلك قوله ( فكشفنا عنك غطاءك ) 2 وصف البصر بالحدة
وكقوله تعالى ( وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ) 4 مع قوله ( أنا ربكم الأعلى ) 2 فقيل يجوز أن يكون معناه ويذرك وآلهتك إن ساغ لهم ويكون إضافة الآلهة إليه ملكا كان يعبد في دين قومه ثم يدعوهم إلى أن يكون هو الأعلى كما تقول العرب موالي من فوق وموالي من أسفل فيكون اعتقادهم في الآلهة مع فرعون أنها مملوكة له فيحسن قولهم (وآلهتك )
وقوله تعالى ( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ) 6 مع قوله ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) 7 فقد يظن أن الوجل خلاف الطمأنينة وجوابه أن الطمأنينة إنما تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى فتوجل القلوب لذلك وقد جمع بينهما في قوله ( تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ) 1 فإن هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم ووثقوا به فانتفى عنهم الشك
وكقوله ( خمسين ألف سنة ) 2 وفي موضع ( ألف سنة ) 2 وأجيب بأنه باعتبار حال المؤمن والكافر بدليل ( وكان يوما على الكافرين عسيرا ) 3
وكقوله ( بألف من الملائكة مردفين ) 4 وفي آية أخرى ( بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ) 5 قيل إن الألف أردفهم بثلاثة آلاف وكان الأكثر مددا للأقل وكان ) الألف مردفين ( بفتحها
وكقوله تعالى ( خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء ) 6 وفي آية أخرى ( والأرض بعد ذلك دحاها ) 7 ولا تنافي بينهما فالأول ) 8 ( دال على أن الأرض وما فيها خلقت ) 9 ( قبل السماء وذلك صحيح ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء وبذلك تتفق معاني الآيات في سورة القمر والمؤمن والنازعات
وكقوله تعالى ( ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ) 1 وقوله ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ) إلى قوله ( فقضاهن سبع سماوات في يومين ) 2 وذلك يبلغ ثمانية أيام والجواب أن المراد بقوله ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ) إلى قوله ( وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام ) مع اليومين المتقدمين ولم يرد بذكر ) الأربعة ( غير ما تقدم ذكره وهذا كما يقول الفصيح ) سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام ) وسرت إلى الكوفة في ثلاثة عشر يوما ( ولا يريد سوى العشرة بل يريد مع العشرة ثلاثة ثم قال تعالى ( فقضاهن سبع سماوات في يومين ) 3 وأراد سوى الأربعة وذلك لا مخالفة فيه لأن المجموع يكون ستة
ومنه قوله تعالى في السجدة ( عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ) 4 بلفظ ) الذي ( على وصف العذاب وفي سبأ ( عذاب النار التي ) 5 بلفظ ) التي ( على وصف النار وفيه أربعة أوجه أحدها أنه وصف العذاب في السجدة لوقوع ) النار ( موقع الضمير الذي لا يوصف وإنما وقعت موقع الضمير لتقدم إضمارها مع قوله ( وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ) 4 فحق الكلام ) وقيل لهم ذوقوا عذابها ( فلما وضعها موضع المضمر الذي لا يقبل الوصف
عدل إلى وصف العذاب وأما في ) سبأ ( فوصفها لعدم المانع من وصفها والثاني أن الذي في ) السجدة ( وصف النار أيضا وذكر حملا على معنى الجحيم والحريق والثالث أن الذي في ) السجدة ( في حق من يقر بالنار ويجحد العذاب وفي ) سبأ ( في حق من يجحد أصل النار والرابع أنه إنما وصف العذاب في السجدة لأنه لما تقدم ذكر النار مضمرا ومظهرا عدل إلى وصف العذاب ليكون تلوينا للخطاب فيكون أنشط للسامع بمنزلة العدول من الغيبة إلى الخطاب
ومنه قوله تعالى ( توفته رسلنا ) 1 وقوله ( تتوفاهم الملائكة ) 2 وبين قوله ( قل يتوفاكم ملك الموت ) 3 وبين قوله ( الله يتوفى الأنفس ) 4 ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ) 1 وجمع البغوي بينها لأن توفي الملائكة بالقبض والنزع وتوفي ملك الموت بالدعاء والأمر يدعو الأرواح فتجيبه ثم يأمر أعوانه بقبضها وتوفي الله سبحانه خلق الموت فيه
ومنه قوله تعالى في البقرة ( فاتقوا النار ) 5 وفي سورة التحريم ( نارا ) 6 بالتنكير لأنها نزلت بمكة قبل آية البقرة فلم تكن النار التي وقودها الناس والحجارة معروفة فنكرها ثم نزلت آية البقرة بالمدينة مشارا بها إلى ما عرفوه أولا
وقال في سورة البقرة ( رب اجعل هذا بلدا آمنا ) 7 وفي سورة إبراهيم ( رب اجعل هذا البلد آمنا ) 8 لأنه في الدعوة الأولى كان مكانا فطلب منه أن يجعله بلدا آمنا وفي الدعوة الثانية كان بلدا غير آمن فعرفه وطلب له الأمن أو كان بلدا آمنا وطلب
65 ثبات الأمن ودوامه وكون سورة البقرة مدنية وسورة إبراهيم مكية لا ينافي هذا لأن الواقع من إبراهيم كونه على الترتيب المذكور والإخبار عنه في القرآن على غير ذلك الترتيب أو لأن المكي منه ما نزل قبل الهجرة فيكون المدني متأخرا عنها ومنه ما نزل بعد فتح مكة فيكون متأخرا عن المدني فلم قلتم إن سورة إبراهيم من المكي الذي نزل قبل الهجرة فصل في الإجابة عن بعض الاستشكالات
ومما استشكلوه قوله تعالى ( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا ) 1 فإنه يدل على حصر المانع من الإيمان في أحد هذين الشيئين وقد قال تعالى في الآية الأخرى ( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ) 2 فهذا حصر في ثالث غيرهما
وأجاب ابن عبد السلام بأن معنى الآية وما منع الناس أن يؤمنوا إلا إرادة أن تأتيهم سنة من الخسف وغيره ( أو يأتيهم العذاب قبلا ) في الآخرة فأخبر أنه أراد أن يصيبهم أحد الأمرين ولا شك أن إرادة الله مانعة من وقوع ما ينافي المراد فهذا حصر في السبب الحقيقي لأن الله هو المانع في الحقيقة ومعنى الآية الثانية ( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى )
إلا استغراب بعثه بشرا رسولا لأن قولهم ليس مانعا من الإيمان لأنه يصلح لذلك وهو يدل على الإستغراب بالالتزام وهو المناسب للمانعية واستغرابهم ليس مانعا حقيقيا بل عاديا لجواز خلو الإيمان معه بخلاف إرادة الله تعالى فهذا حصر في المانع العادي والأولى حصر في المانع الحقيقي فلا تنافي انتهى
وقوله ) ليس مانعا من الإيمان ( فيه نظر لأن وإن إنكارهم صلي الله عليه وسلم إنكارهم بعثه بشرا رسولا كفر مانع من الإيمان وفيه تعظيم لأمر النبي بعثته مانع من الإيمان فصل في وقوع التعارض بين الآية والحديث
وقد يقع التعارض بين الآية والحديث ولا بأس يذكر شيء للتنبيه لأمثاله فمنه قوله تعالى ( والله يعصمك من الناس ) 1 وقد صح أنه شج يوم أحد
وأجيب بوجهين
أحدهما أن هذا كان قبل نزول هذه الآية لأن غزوة أحد كانت سنة ثلاث من الهجرة وسورة المائدة من أواخر ما نزل بالمدينة
والثاني بتقدير تسليم الأخير فالمراد العصمة من القتل وفيه تنبيه على أنه يجب عليه أن يحتمل كل ما دون النفس من أنواومنه قوله تعال ( لن يدخل أحدكم الجنة بعمله )صلي الله عليه وسلم ( ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ) 1 مع قوله
وأجيب بوجهين
أحدهما ونقل عن سفيان وغيره كانوا يقولون النجاة من النار بعفو الله ودخول الجنة برحمته ) 2 ( وانقسام المنازل والدرجات بالأعمال ويدل له حديث أبي هريرة ( إن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ) رواه الترمذي
والثاني أن الباء في الموضعين مدلولها مختلف ففي الآية باء المقابلة وهي الداخلة على الأعراض وفي الحديث للسببية لأن المعطي بعوض قد يعطي مجانا وأما المسبب فلا يوجد بدون السبب ومنهم من عكس هذا الجواب وقال الباء في بقوله ( سددوا وقاربوا واعلموا أن صلي الله عليه وسلم الآية للسببية وفي الحديث للعوض وقد جمع النبي أحدا منكم لن ينجو بعمله ) قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ) ومنه قوله تعالى مخبرا عن خلق السماوات والأرض وما بينهما ( في ستة أيام ) 3 فإنه يقتضي أن يكون يوما من أيام الجمعة بقي لم يخلق فيه شيء والظاهر من الأحاديث الصحاح أن الخلق ابتدأ يوم الأحد وخلق آدم يوم الجمعة آخر الأشياء فهذا يستقيم مع الآية الشريفة ووقع في صحيح مسلم أن الخلق ابتدأ يوم السبت فهذا بخلاف الآية اللهم إلا أن يكون أراد في الآية الشريفة جميع الأشياء غير آدم ثم يكون يوم الجمعة هو الذي لم يخلق فيه شيء مما بين السماء والأرض لأن آدم حينئذ لم يكن فيما بينهم
ع البلاء فما أشد تكليف الأنبياء