المحكم والمتشابه
المحكم في اللغة: أصله من المنع، تقول: أحكمت الدابة بمعنى منعتها ، ومنه (الحكمة) التي تمنع الدابة من الاضطراب، ومنه كذلك سمى الحاكم لمنعه الظالم من الظلم.
والمتشابه في اللغة: ما يدل على المشاركة في المماثلة والمشاكلة المؤدية إلى الالتباس غالباً.
وأما المحكم والمتشابه في الإصلاح: فقد اختلف العلماء في تحديد معنى كل منهما اختلافًا كثيراً.
حيث:
1 - قيل :
- المحكم : ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل.
والمتشابه: ما أستأثر الله تعالي بعلمه ..كقيام الساعة،وخروج الدجال .
وينسب هذا القول : إلى أهل السنة ، على أنه المختار عندهم.
وهذا القول ـ فيما يرى د/القيعي من علماء الأزهر_غير سديد.
حيث إن القرآن كله يعرف المراد منه :إما بسبب ظهور اللفظ، أو بتأويله إن وجدت قرينة، أما ما استأثر الله تعالى بعلمه: فلا دخل لنا فيه، لأنه سبحانه يخاطبنا بما نعلم، وتحديد وقت الساعة لا يندرج تحت مدلولات الألفاظ.
وحاشاه سبحانه أن يخاطبنا بالرموز والألغاز.
ثم يقول رحمه الله : ولا ننكر أن الناس مختلفون في حظوظهم من تفهم القرآن ، فالراسخ في العلم حظه أوفر في تفهم القرآن من غيره.
2 - وقيل:
المحكم: ما وضح معناه ، والمتشابه ما خفي معناه
وينسب الآلوسي هذا القول : إلى الأحناف.
وهذا القول نسبي.
حيث إن وضوح المعنى : قد يبدو لبعض الناس ، ويخفى على البعض الآخر، وكذا الخفاء.
3 - وقيل: المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً ، والمتشابه ما احتمل أوجها..
ويعزي ذلك : إلى ابن عباس، وعليه أكثر علماء الأصول.
ويناقش هذا القول : بأن أكثر القرآن حمال لوجوه متعددة .
4 - وقيل : المحكم ما كان معقول المعنى ، والمتشابه بخلافه ..كعدد ركعات الصلاة ، واختصاص رمضان بالصيام دون شعبان وشوال.
ويناقش أيضا : بأن اختصاص رمضان لا يعرف من مدلول اللفظ ، والكلام في الألفاظ لا في التعليل لمعناها ..
5 - وقيل : المحكم ما يستقل بنفسه ، والمتشابه ما لا يستقل فهمه إلا بعد رجوعه إلى غيره ...
ويحكي هذا القول : عن الإمام أحمد رضي الله عنه .
6 - وقيل : المحكم ما تأويله تنزيله، والمتشابه ما لا يدرك إلا بالتأويل ...
ويناقش هذا : بأن التأويل مشترك بين ..
المعنى الاصطلاحي : وهو صرف اللفظ عن ظاهر معناه إلى المعنى المرجوح بقرينة.
وبين التفسير.
وبين معرفة الوقت المحدد للوقوع فيه ، كما قال تعالي: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ...
وكما قال تعالي عن تأويل يوسف لرؤيا صاحبي السجن: أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ [الآية 36]
فأي المعاني من التأويل تريدون ؟؟ ..
7 - وقيل: المحكم ما لم تتكرر ألفاظه ، والمتشابه ما تكررت ألفاظه ..
ويناقش هذا : بأنه مخالف لمنطوق المحكم والمتشابه ، إذ منطوق المتشابه التكرار، أو التكرار هو المفهوم الموافق لمنطوق المتشابه ..
وفي ذلك : إهمال لما اعتبر من أمر الظهور والخفاء.
8 - وقيل: المحكم هو الفرائض والوعد والوعيد ، والمتشابه القصص والأمثال.
9 - وقيل: المحكم هو السديد النظم والترتيب ، والذي يفضي إلى إثارة المعنى المستقيم من غير مناف .
وأما المتشابه : فهو الذي لا يحيط العلم بمعناه المطلوب من حيث اللغة ، إلا أن تقترن به أمارة أو قرينة.
وهذا القول منسوب إلى : إمام الحرمين.
ورد هذا القول: بأن المشترك يندرج في المتشابه بهذا المعنى.
10 - وقيل: المحكم هو الواضح المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال ، مأخوذ من الإحكام وهو الإتقان ، وأما المتشابه : فهو نقيضه.
ونسب هذا القول : إلى بعض المتأخرين .
ولكنه في الحقيقة : رأي الإمام الطيبي ، كما ذكرذلك الإمام السيوطي.
- وقيل:
المحكم: ما كانت دلالته راجحة، وهو النص والظاهر.
وأما المتشابه : فما كانت دلالته غير راجحة ، وهو المجمل والمؤول والمشكل .
وينسب هذا القول : للإمام الرازي.
واختاره كثير من المحقيقيين.
12 - وقيل: المحكم: هو الذي يؤمن به ويعمل به ، وأما المتشابه: فهو الذي يؤمن به، ولا يعمل به.
وقد روي السيوطي هذا القول عن : عكرمة وقتادة وغيرهما.
وفيه:
أن ذلك قصر للمحكم على ما كان من قبيل الأعمال.
وكذلك قصر للمتشابه على ما كان من قبيل العقائد.
وإطلاق القول فيهما على هذا النحو: غير سديد
13- وقيل : المحكم: ما لم ينسخ ، والمتشابه ما نسخ.
وفيه: أن هذا اصطلاح خاص بالناسخ والمنسوخ.
الترجيح بين هذه التعريفات .
يقول الإمام الزرقاني صاحب مناهل العرفان: وعلى كل حال فالأمر في هذه التعريفات سهل وهين ؛ لأنه يرجع إلى الاصطلاح، أو ما يشبه الاصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح.
بيد أنه ـ فيما نرى ـ يرجح القول الحادي عشر وهو رأي الإمام الرازي.
إذ بينما نراه يمتدح القول السادس وهو رأي الإمام الطيبي : فإنه يرجح ـ كما ذكرنا - رأي الإمام الرازي.
حيث يقول في التعقيب علي هذه التعريفات :
ورأي الإمام الرازي : أهداها سبيلاً، وأوضحها بياناً.
لأن أمر الإحكام والتشابه يرجع فيما نفهم : إلى وضوح المعنى المراد للشارع من كلامه وإلى عدم وضوحه.
وتعريف الرازي جامع مانع من هذه الناحية، لا يدخل في المحكم ما كان خفياً، ولا في المتشابه ما كان جلياً .
وبذلك ك استوفى وجوه الظهور والخفاء استيفاء تاماً في بيان تقسيه الذي بناه على راجح ومرجوح، والذي أعلن لنا منه أن الراجح ما كان واضحاً لا خفاء فيه، وأن المرجوح ما كان خفياً لا جلاء معه.
وقريب منه رأي الطيبي الذي قبله حتى كأنه هو، غير أنه لم يستوف وجوه الظهور والخفاء استيفاء الرازي.
وأما الدكتور/ القبعي عليه رحمه الله : فقد رجح ـ فيما يبدو ـ القول الثامن من هذه الأقوال.
حيث يقول:
وهذا القول قد دافع عنه ابن تيمية ، وربط آية آل عمران بآيات من سورة الحج ، وهي قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [52]
وبيان الربط من ثلاث وجوه :
الوجه الأول : أن كلا من الموضعين في آل عمران والحج .. اشتملا على محكم وما يقابله.
ففي آل عمران : المقابل هو المتشابه.
وفي الحج : المقابل هو المنسوخ.
الوجه الثاني: أن في آل عمران .. متبعي المتشابه من في قلوبهم زيغ ، وفي سورة الحج لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم ... وهم أصحاب الزيغ ...
الوجه الثالث: أن في آل عمران: َالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ : آمَنَّا بِهِ ، وفي سورة الحج: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ
ثم يقول : وما أجمل أن يرتبط القرآن بعضه ببعض، ويفسر بعضه بعضاً ..
والمتشابه في اللغة: ما يدل على المشاركة في المماثلة والمشاكلة المؤدية إلى الالتباس غالباً.
وأما المحكم والمتشابه في الإصلاح: فقد اختلف العلماء في تحديد معنى كل منهما اختلافًا كثيراً.
حيث:
1 - قيل :
- المحكم : ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل.
والمتشابه: ما أستأثر الله تعالي بعلمه ..كقيام الساعة،وخروج الدجال .
وينسب هذا القول : إلى أهل السنة ، على أنه المختار عندهم.
وهذا القول ـ فيما يرى د/القيعي من علماء الأزهر_غير سديد.
حيث إن القرآن كله يعرف المراد منه :إما بسبب ظهور اللفظ، أو بتأويله إن وجدت قرينة، أما ما استأثر الله تعالى بعلمه: فلا دخل لنا فيه، لأنه سبحانه يخاطبنا بما نعلم، وتحديد وقت الساعة لا يندرج تحت مدلولات الألفاظ.
وحاشاه سبحانه أن يخاطبنا بالرموز والألغاز.
ثم يقول رحمه الله : ولا ننكر أن الناس مختلفون في حظوظهم من تفهم القرآن ، فالراسخ في العلم حظه أوفر في تفهم القرآن من غيره.
2 - وقيل:
المحكم: ما وضح معناه ، والمتشابه ما خفي معناه
وينسب الآلوسي هذا القول : إلى الأحناف.
وهذا القول نسبي.
حيث إن وضوح المعنى : قد يبدو لبعض الناس ، ويخفى على البعض الآخر، وكذا الخفاء.
3 - وقيل: المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً ، والمتشابه ما احتمل أوجها..
ويعزي ذلك : إلى ابن عباس، وعليه أكثر علماء الأصول.
ويناقش هذا القول : بأن أكثر القرآن حمال لوجوه متعددة .
4 - وقيل : المحكم ما كان معقول المعنى ، والمتشابه بخلافه ..كعدد ركعات الصلاة ، واختصاص رمضان بالصيام دون شعبان وشوال.
ويناقش أيضا : بأن اختصاص رمضان لا يعرف من مدلول اللفظ ، والكلام في الألفاظ لا في التعليل لمعناها ..
5 - وقيل : المحكم ما يستقل بنفسه ، والمتشابه ما لا يستقل فهمه إلا بعد رجوعه إلى غيره ...
ويحكي هذا القول : عن الإمام أحمد رضي الله عنه .
6 - وقيل : المحكم ما تأويله تنزيله، والمتشابه ما لا يدرك إلا بالتأويل ...
ويناقش هذا : بأن التأويل مشترك بين ..
المعنى الاصطلاحي : وهو صرف اللفظ عن ظاهر معناه إلى المعنى المرجوح بقرينة.
وبين التفسير.
وبين معرفة الوقت المحدد للوقوع فيه ، كما قال تعالي: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ...
وكما قال تعالي عن تأويل يوسف لرؤيا صاحبي السجن: أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ [الآية 36]
فأي المعاني من التأويل تريدون ؟؟ ..
7 - وقيل: المحكم ما لم تتكرر ألفاظه ، والمتشابه ما تكررت ألفاظه ..
ويناقش هذا : بأنه مخالف لمنطوق المحكم والمتشابه ، إذ منطوق المتشابه التكرار، أو التكرار هو المفهوم الموافق لمنطوق المتشابه ..
وفي ذلك : إهمال لما اعتبر من أمر الظهور والخفاء.
8 - وقيل: المحكم هو الفرائض والوعد والوعيد ، والمتشابه القصص والأمثال.
9 - وقيل: المحكم هو السديد النظم والترتيب ، والذي يفضي إلى إثارة المعنى المستقيم من غير مناف .
وأما المتشابه : فهو الذي لا يحيط العلم بمعناه المطلوب من حيث اللغة ، إلا أن تقترن به أمارة أو قرينة.
وهذا القول منسوب إلى : إمام الحرمين.
ورد هذا القول: بأن المشترك يندرج في المتشابه بهذا المعنى.
10 - وقيل: المحكم هو الواضح المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال ، مأخوذ من الإحكام وهو الإتقان ، وأما المتشابه : فهو نقيضه.
ونسب هذا القول : إلى بعض المتأخرين .
ولكنه في الحقيقة : رأي الإمام الطيبي ، كما ذكرذلك الإمام السيوطي.
- وقيل:
المحكم: ما كانت دلالته راجحة، وهو النص والظاهر.
وأما المتشابه : فما كانت دلالته غير راجحة ، وهو المجمل والمؤول والمشكل .
وينسب هذا القول : للإمام الرازي.
واختاره كثير من المحقيقيين.
12 - وقيل: المحكم: هو الذي يؤمن به ويعمل به ، وأما المتشابه: فهو الذي يؤمن به، ولا يعمل به.
وقد روي السيوطي هذا القول عن : عكرمة وقتادة وغيرهما.
وفيه:
أن ذلك قصر للمحكم على ما كان من قبيل الأعمال.
وكذلك قصر للمتشابه على ما كان من قبيل العقائد.
وإطلاق القول فيهما على هذا النحو: غير سديد
13- وقيل : المحكم: ما لم ينسخ ، والمتشابه ما نسخ.
وفيه: أن هذا اصطلاح خاص بالناسخ والمنسوخ.
الترجيح بين هذه التعريفات .
يقول الإمام الزرقاني صاحب مناهل العرفان: وعلى كل حال فالأمر في هذه التعريفات سهل وهين ؛ لأنه يرجع إلى الاصطلاح، أو ما يشبه الاصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح.
بيد أنه ـ فيما نرى ـ يرجح القول الحادي عشر وهو رأي الإمام الرازي.
إذ بينما نراه يمتدح القول السادس وهو رأي الإمام الطيبي : فإنه يرجح ـ كما ذكرنا - رأي الإمام الرازي.
حيث يقول في التعقيب علي هذه التعريفات :
ورأي الإمام الرازي : أهداها سبيلاً، وأوضحها بياناً.
لأن أمر الإحكام والتشابه يرجع فيما نفهم : إلى وضوح المعنى المراد للشارع من كلامه وإلى عدم وضوحه.
وتعريف الرازي جامع مانع من هذه الناحية، لا يدخل في المحكم ما كان خفياً، ولا في المتشابه ما كان جلياً .
وبذلك ك استوفى وجوه الظهور والخفاء استيفاء تاماً في بيان تقسيه الذي بناه على راجح ومرجوح، والذي أعلن لنا منه أن الراجح ما كان واضحاً لا خفاء فيه، وأن المرجوح ما كان خفياً لا جلاء معه.
وقريب منه رأي الطيبي الذي قبله حتى كأنه هو، غير أنه لم يستوف وجوه الظهور والخفاء استيفاء الرازي.
وأما الدكتور/ القبعي عليه رحمه الله : فقد رجح ـ فيما يبدو ـ القول الثامن من هذه الأقوال.
حيث يقول:
وهذا القول قد دافع عنه ابن تيمية ، وربط آية آل عمران بآيات من سورة الحج ، وهي قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [52]
وبيان الربط من ثلاث وجوه :
الوجه الأول : أن كلا من الموضعين في آل عمران والحج .. اشتملا على محكم وما يقابله.
ففي آل عمران : المقابل هو المتشابه.
وفي الحج : المقابل هو المنسوخ.
الوجه الثاني: أن في آل عمران .. متبعي المتشابه من في قلوبهم زيغ ، وفي سورة الحج لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم ... وهم أصحاب الزيغ ...
الوجه الثالث: أن في آل عمران: َالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ : آمَنَّا بِهِ ، وفي سورة الحج: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ
ثم يقول : وما أجمل أن يرتبط القرآن بعضه ببعض، ويفسر بعضه بعضاً ..
.................................................................
هل المتشابه يعرفه أحد
تتوقف إجابة هذا السؤال على فهمنا لخلاف العلماء حول حرف (الواو) من جملة َالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ المذكورة في قوله تعالى هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران 7]
إذ قال بعضهم: إن هذه الواو حرف عطف ؛حيث إنها عطفت جملة َالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ على جمله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ والوقف في هذه الحالة على: َالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وجملة يَقُولُونَ حال.
وبذلك: يصير المعنى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ أي المتشابه إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، أما غير الله سبحانه تعالى وغير الراسخين في العلم فلا يعلمون تأويله.
وأصحاب هذا القول: طائفة يسيرة ...
منهم: مجاهد، وهو رواية عن ابن عباس ... وروى عن مجاهد أنه قال: عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته، أقفه عند كل آية وأسأله عن تفسيرها .
وأخرج ابن المنذر من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله تعالى وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أنه قال: يعلمون تأويله، ويقولون آمنا به.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: الراسخون في العلم يعلمون تأويله، ولو لم يعلموا تأويله لم يعلموا ناسخة من منسوخه، ولا حلاله من حرامه، ولا محكمة من متشابهه.
وقد اختار هذا القول الإمام النووي في شرح مسلم، حيث قال: إنه الأصح؛ حيث يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته.
وقال ابن الحاجب عن هذا القول: إنه الظاهر.
وأما الباقون فقالوا: إن هذه الواو استئنافية.
أي: أن ما بعدها كلام مستأنف ليس معطوفاً على ما قبله .
وبذلك يصير المعنى، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ أي المتشابه إِلاَّ اللّهُ .
ثم يبدأ كلام جديد، حيث يقول تعالى وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّن
عِندِ رَبِّنَا.
والوقف في هذه الحالة على جملة وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ
وجملة وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ مبتدأ وخبره.
وعلى هذا القول: الأكثرون من الصحابة والتابعين وأتباعهم، ومن بعدهم خصوصاً أهل
السنة.
وهو ـ كذلك ـ أصح الروايات عن ابن عباس.
وقد استدلوا لصحة هذا القول: (6)
بما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره والحاكم في مستدركه، عن ابن عباس أنه كان يقرأ:"وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ" ويقول "وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ" ( ) .
فهذا يدل على أن الواو للاستئناف؛ لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها القراءة، فأقل درجاتها أن يكون خبراً بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن، فيقدم كلامه في ذلك على من دونه.
ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم متبعي المتشابه ووصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة، وعلى مدح الذين فوضوا العلم إلى الله، وسلموا إليه كما مدح الله المؤمنين بالغيب.
وحكى القرآن أن في القرَّاء أن فى قراءة أبي بن كعب أيضاً ويَقُولُ الرَّاسِخُونَ.
وأخرج ابن أبي دود في المصاحف من طريق الأعمش، قال في قراءة ابن مسعود "وإن تَأْوِيلَهُ إِلاَّ عند اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ".
وأخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة، قالت: تلا رسول الله هذه الآية هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ... إلى قوله أُوْلُواْ الألْبَابِ ( ). قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم".
وأخرج الطبراني في الكبير عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب، فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله ..." الحديث.
وأخرج ابن مَرْدَوَيَه، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه فآمنوا به".
وأخرج الحاكم، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حَرْف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام ومتشابه، وأمثال؛ فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم به، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا".
وأخرج البيهقي في الشعب نحوه، من حديث أبي هريرة.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس مرفوعاً: "أنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال، وحرام، لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تفسَّيره العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله، ومن ادّعى علمه سِوَى الله فهو كاذب".
ثم أخرجه عن وجه آخر عن ابن عباس موقوفاً بنحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العَوْفيّ عن ابن عباس، قال: "نؤمن بالمحكم، وندين به، ونؤمن بالمتشابه، ولا ندين به، وهو من عند الله كله".
وأخرج أيضاً عن عائشة، قالت: كان رسوخهم في العلم أن آمنوا بمتشابهه، ولا يعلمونه".
وأخرج أيضاً عن أبي الشعثاء وأبي نهيك، قال: إنكم تصلون هذه الآية وهي مقطوعة.
وأخرج الدرامي في مسنده، عن سليمان بن يسار، أن رجلاً يقال له صبيغ، قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه
القرآن، فأرسل إليه عمر، وقد أعد له عراجين النخل، فقال: مَنْ أنت؟ قال: أنا عبد الله بن صبيغ، فأخذ عمر عرجونا ضمن تلك العراجين، فضربه حتى دمى رأسه.
وفي رواية عنده: فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبَرَه، ثم تركه حتى برأ، ثم عاد له، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود، فقال إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً ، فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين.
وأخرج الدرامي عن عمر بن الخطاب، قال: إنه سيأتيكم ناس يجادلونكم بمشتبهات القرآن، فخذوهم بالسُّنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله.
يقول الإمام السيوطي:
فهذه الأحاديث والآثار تدل على أن المتشابه مما لا يعلمه الله، وأن الخوض فيه مسموم ثم يقول رحمه الله: وجميع المتشابه على ثلاثة أضرب.
ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه .. كوقت الساعة، وخروج الدابة، ونحو ذلك.
وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة، والأحكام المغلقة.
وضرب متردّدين الأمرين، يختص بمعرفته بعض الراسخين في العلم، ويخفى على من دمنهم منهم، وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".
إذ قال بعضهم: إن هذه الواو حرف عطف ؛حيث إنها عطفت جملة َالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ على جمله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ والوقف في هذه الحالة على: َالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وجملة يَقُولُونَ حال.
وبذلك: يصير المعنى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ أي المتشابه إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، أما غير الله سبحانه تعالى وغير الراسخين في العلم فلا يعلمون تأويله.
وأصحاب هذا القول: طائفة يسيرة ...
منهم: مجاهد، وهو رواية عن ابن عباس ... وروى عن مجاهد أنه قال: عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته، أقفه عند كل آية وأسأله عن تفسيرها .
وأخرج ابن المنذر من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله تعالى وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أنه قال: يعلمون تأويله، ويقولون آمنا به.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: الراسخون في العلم يعلمون تأويله، ولو لم يعلموا تأويله لم يعلموا ناسخة من منسوخه، ولا حلاله من حرامه، ولا محكمة من متشابهه.
وقد اختار هذا القول الإمام النووي في شرح مسلم، حيث قال: إنه الأصح؛ حيث يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته.
وقال ابن الحاجب عن هذا القول: إنه الظاهر.
وأما الباقون فقالوا: إن هذه الواو استئنافية.
أي: أن ما بعدها كلام مستأنف ليس معطوفاً على ما قبله .
وبذلك يصير المعنى، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ أي المتشابه إِلاَّ اللّهُ .
ثم يبدأ كلام جديد، حيث يقول تعالى وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّن
عِندِ رَبِّنَا.
والوقف في هذه الحالة على جملة وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ
وجملة وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ مبتدأ وخبره.
وعلى هذا القول: الأكثرون من الصحابة والتابعين وأتباعهم، ومن بعدهم خصوصاً أهل
السنة.
وهو ـ كذلك ـ أصح الروايات عن ابن عباس.
وقد استدلوا لصحة هذا القول: (6)
بما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره والحاكم في مستدركه، عن ابن عباس أنه كان يقرأ:"وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ" ويقول "وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ" ( ) .
فهذا يدل على أن الواو للاستئناف؛ لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها القراءة، فأقل درجاتها أن يكون خبراً بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن، فيقدم كلامه في ذلك على من دونه.
ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم متبعي المتشابه ووصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة، وعلى مدح الذين فوضوا العلم إلى الله، وسلموا إليه كما مدح الله المؤمنين بالغيب.
وحكى القرآن أن في القرَّاء أن فى قراءة أبي بن كعب أيضاً ويَقُولُ الرَّاسِخُونَ.
وأخرج ابن أبي دود في المصاحف من طريق الأعمش، قال في قراءة ابن مسعود "وإن تَأْوِيلَهُ إِلاَّ عند اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ".
وأخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة، قالت: تلا رسول الله هذه الآية هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ... إلى قوله أُوْلُواْ الألْبَابِ ( ). قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم".
وأخرج الطبراني في الكبير عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب، فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله ..." الحديث.
وأخرج ابن مَرْدَوَيَه، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه فآمنوا به".
وأخرج الحاكم، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حَرْف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام ومتشابه، وأمثال؛ فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم به، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا".
وأخرج البيهقي في الشعب نحوه، من حديث أبي هريرة.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس مرفوعاً: "أنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال، وحرام، لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تفسَّيره العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله، ومن ادّعى علمه سِوَى الله فهو كاذب".
ثم أخرجه عن وجه آخر عن ابن عباس موقوفاً بنحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العَوْفيّ عن ابن عباس، قال: "نؤمن بالمحكم، وندين به، ونؤمن بالمتشابه، ولا ندين به، وهو من عند الله كله".
وأخرج أيضاً عن عائشة، قالت: كان رسوخهم في العلم أن آمنوا بمتشابهه، ولا يعلمونه".
وأخرج أيضاً عن أبي الشعثاء وأبي نهيك، قال: إنكم تصلون هذه الآية وهي مقطوعة.
وأخرج الدرامي في مسنده، عن سليمان بن يسار، أن رجلاً يقال له صبيغ، قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه
القرآن، فأرسل إليه عمر، وقد أعد له عراجين النخل، فقال: مَنْ أنت؟ قال: أنا عبد الله بن صبيغ، فأخذ عمر عرجونا ضمن تلك العراجين، فضربه حتى دمى رأسه.
وفي رواية عنده: فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبَرَه، ثم تركه حتى برأ، ثم عاد له، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود، فقال إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً ، فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين.
وأخرج الدرامي عن عمر بن الخطاب، قال: إنه سيأتيكم ناس يجادلونكم بمشتبهات القرآن، فخذوهم بالسُّنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله.
يقول الإمام السيوطي:
فهذه الأحاديث والآثار تدل على أن المتشابه مما لا يعلمه الله، وأن الخوض فيه مسموم ثم يقول رحمه الله: وجميع المتشابه على ثلاثة أضرب.
ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه .. كوقت الساعة، وخروج الدابة، ونحو ذلك.
وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة، والأحكام المغلقة.
وضرب متردّدين الأمرين، يختص بمعرفته بعض الراسخين في العلم، ويخفى على من دمنهم منهم، وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".
......................................................................
سبب التشابه وأقسامه وأمثلته
إذا كنا قد تعرضنا: لتعريف المحكم والمتشابه ..!!
وتعرضنا كذلك: لأقوال العلماء في إمكانية معرفة المتشابه من عدم ذلك .!!
فنبدأ الآن ـ بعون الله تعالى ـ في بيان سبب التشابه في الآيات القرآنية، وأقسام هذا المتشابه منها ، مع ذكر بعض الأمثلة التي تنير لنا الطريق لتحقيق هذا الهدف..
فنقول وبالله التوفيق:
نعلم مما سبق أن منشأ التشابه "إجمالاً" هو خفاء مراد الشارع من كلامه.
أما تفصيلاً .. فنذكر أن :
منه ما يرجع خفاؤه إلى اللفظ.
ومنه ما يرجع خفاؤه إلى المعنى.
ومنه ما يرجع خفاؤه إلى اللفظ والمعنى معاً.
(فالقسم الأول) وهو ما كان التشابه فيه راجعاً إلى خفاء في اللفظ وحده وذلك :
منه مفرد ومركب،
والمفرد قد يكون الخفاء فيه ناشئاً
من جهة غرابته أو من جهة اشتراكه.
والمركب قد يكون الخفاء فيه ناشئاً
من جهة اختصاره،
أو من جهة بسطه،
أو من جهة ترتيبه.
مثال التشابه في المفرد بسبب غرابته وندرة استعماله، لفظ الأب بتشديد الباء في قوله سبحانه: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا وهو ما ترعاه البهائم. بدليل قوله بعد ذلك: مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [ النازعات :33 ].
ومثال المتشابه في المفرد بسب اشتراكه بين معان عدة، لفظ اليمين في قوله سبحانه فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ[الصافات : 93] أي فأقبل إبراهيم على أصنام قومه ضارباً لها باليمن من يديه لا بالشمال، أو ضارباً لها ضرباً شديداً بقوة؛ لأن اليمين أقوى الجارحتين، أو ضارباً لها بسبب اليمين التي حلفها ونوه بها القرآن إذا قال وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء :57]كل ذلك جائز، ولفظ اليمين مشترك بينهما.
ومثال التشابه في المركب بسبب اختصاره قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء فإن خفاء المراد فيه، جاء من ناحية إيجازه، والأصل: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى لو تزوجتموهن فانكحوا من غيره من ما طاب لكم من النساء.
ومعناه أنكم إذا تحرجتم من زواج اليتامى مخافة أن تظلموهن؛ فأمامكم غيرهن فتزوجوا منهن ما طاب لكم.
وقيل إن القوم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى ولا يتحرجون من الزنى، فأنزل الله الآية. ومعناه:
إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنى أيضاً، وتبدلوا به الزواج الذي وسع الله عليكم فيه فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع.
ومثال التشابه يقع في المركب بسبب بسطه والإطناب فيه، قوله جلت حكمته : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [ ]فإن حرف الكاف لو حذف وقيل لَيْسَ َمِثْلِهِ شَيْءٌ كان أظهر للسامع من هذا التركيب الذي ينحل إلى (ليس مثل مثله شيء) وفيه من الدقة ما يعلوا على كثير من الأفهام.
ومثال التشابه يقع في المركب لترتيبه ونظمه، قوله جل ذكره الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّمًا [ الكهف : ].
فإن الخفاء هنا جاء من جهة الترتيب بين لفظ (قيماً) وما قبله.
ولو قيل: أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً ؛لكان أظهر أيضاً.
وأعلم أن في مقدمة هذا القسم فواتح السور المشهورة؛ لان التشابه والخفاء في المراد منها، جاء من ناحية ألفاظها لا محالة.
(والقسم الثاني) وهو ما كان التشابه فيه راجعاً إلى خفاء المعنى وحده.
مثاله : كل ما جاء في القرآن الكريم وصفاً لله تعالى، أو لأهوال القيامة، أو لنعيم الجنة وعذاب النار ؛ فإن العقل البشري لا يمكن أن يحيط بحقائق صفات الخالق، ولا بأهوال القيامة، ولا بنعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار.
وكيف السبيل إلى أن يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه، وما لم يكن فينا مثله ولا جنسه؟.
وأعلم أن في مقدمة هذا القسم : المشكلات المعروفة بمتشابهات الصفات.
فإن التشابه والخفاء لم : يأت من ناحية غرابة في اللفظ ، أو اشتراك فيه بين عدة معان، أو إيجاز أو إطناب مثلاً فتعين أن يكون من ناحية المعنى وحده.
(القسم الثالث) وهو ما كان التشابه فيه راجعاً إلى اللفظ والمعنى معاً،
وله أمثلة كثيرة منها:
قوله عز اسمه: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا}.
فإن من لا يعرف عادة العرب في الجاهلية، لا يستطيع أن يفهم هذا النص الكريم على وجهه.
ورد أن ناساً من الأنصار كانوا إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً من باب. فإن كان من أهل المدر: نقب نقباً في ظهر بيته، يدخل ويخرج منه
وإن كان من أهل الوبر : خرج من خلف الخباء، فنزل قول الله: { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
فهذا الخفاء الذي في هذه الآية، يرجع إلى اللفظ بسبب اختصاره، ولو بسط لقيل: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها إذا كنتم محرمين بحج أو عمرة.
ويرجع الخفاء إلى المعنى أيضاً؛ لأن هذا النص على فرض بسطه كما رأيت، لابد معه من معرفة عادة العرب في الجاهلية، وإلا لتعذر فهمه(4).
وتعرضنا كذلك: لأقوال العلماء في إمكانية معرفة المتشابه من عدم ذلك .!!
فنبدأ الآن ـ بعون الله تعالى ـ في بيان سبب التشابه في الآيات القرآنية، وأقسام هذا المتشابه منها ، مع ذكر بعض الأمثلة التي تنير لنا الطريق لتحقيق هذا الهدف..
فنقول وبالله التوفيق:
نعلم مما سبق أن منشأ التشابه "إجمالاً" هو خفاء مراد الشارع من كلامه.
أما تفصيلاً .. فنذكر أن :
منه ما يرجع خفاؤه إلى اللفظ.
ومنه ما يرجع خفاؤه إلى المعنى.
ومنه ما يرجع خفاؤه إلى اللفظ والمعنى معاً.
(فالقسم الأول) وهو ما كان التشابه فيه راجعاً إلى خفاء في اللفظ وحده وذلك :
منه مفرد ومركب،
والمفرد قد يكون الخفاء فيه ناشئاً
من جهة غرابته أو من جهة اشتراكه.
والمركب قد يكون الخفاء فيه ناشئاً
من جهة اختصاره،
أو من جهة بسطه،
أو من جهة ترتيبه.
مثال التشابه في المفرد بسبب غرابته وندرة استعماله، لفظ الأب بتشديد الباء في قوله سبحانه: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا وهو ما ترعاه البهائم. بدليل قوله بعد ذلك: مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [ النازعات :33 ].
ومثال المتشابه في المفرد بسب اشتراكه بين معان عدة، لفظ اليمين في قوله سبحانه فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ[الصافات : 93] أي فأقبل إبراهيم على أصنام قومه ضارباً لها باليمن من يديه لا بالشمال، أو ضارباً لها ضرباً شديداً بقوة؛ لأن اليمين أقوى الجارحتين، أو ضارباً لها بسبب اليمين التي حلفها ونوه بها القرآن إذا قال وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء :57]كل ذلك جائز، ولفظ اليمين مشترك بينهما.
ومثال التشابه في المركب بسبب اختصاره قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء فإن خفاء المراد فيه، جاء من ناحية إيجازه، والأصل: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى لو تزوجتموهن فانكحوا من غيره من ما طاب لكم من النساء.
ومعناه أنكم إذا تحرجتم من زواج اليتامى مخافة أن تظلموهن؛ فأمامكم غيرهن فتزوجوا منهن ما طاب لكم.
وقيل إن القوم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى ولا يتحرجون من الزنى، فأنزل الله الآية. ومعناه:
إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنى أيضاً، وتبدلوا به الزواج الذي وسع الله عليكم فيه فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع.
ومثال التشابه يقع في المركب بسبب بسطه والإطناب فيه، قوله جلت حكمته : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [ ]فإن حرف الكاف لو حذف وقيل لَيْسَ َمِثْلِهِ شَيْءٌ كان أظهر للسامع من هذا التركيب الذي ينحل إلى (ليس مثل مثله شيء) وفيه من الدقة ما يعلوا على كثير من الأفهام.
ومثال التشابه يقع في المركب لترتيبه ونظمه، قوله جل ذكره الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّمًا [ الكهف : ].
فإن الخفاء هنا جاء من جهة الترتيب بين لفظ (قيماً) وما قبله.
ولو قيل: أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً ؛لكان أظهر أيضاً.
وأعلم أن في مقدمة هذا القسم فواتح السور المشهورة؛ لان التشابه والخفاء في المراد منها، جاء من ناحية ألفاظها لا محالة.
(والقسم الثاني) وهو ما كان التشابه فيه راجعاً إلى خفاء المعنى وحده.
مثاله : كل ما جاء في القرآن الكريم وصفاً لله تعالى، أو لأهوال القيامة، أو لنعيم الجنة وعذاب النار ؛ فإن العقل البشري لا يمكن أن يحيط بحقائق صفات الخالق، ولا بأهوال القيامة، ولا بنعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار.
وكيف السبيل إلى أن يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه، وما لم يكن فينا مثله ولا جنسه؟.
وأعلم أن في مقدمة هذا القسم : المشكلات المعروفة بمتشابهات الصفات.
فإن التشابه والخفاء لم : يأت من ناحية غرابة في اللفظ ، أو اشتراك فيه بين عدة معان، أو إيجاز أو إطناب مثلاً فتعين أن يكون من ناحية المعنى وحده.
(القسم الثالث) وهو ما كان التشابه فيه راجعاً إلى اللفظ والمعنى معاً،
وله أمثلة كثيرة منها:
قوله عز اسمه: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا}.
فإن من لا يعرف عادة العرب في الجاهلية، لا يستطيع أن يفهم هذا النص الكريم على وجهه.
ورد أن ناساً من الأنصار كانوا إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً من باب. فإن كان من أهل المدر: نقب نقباً في ظهر بيته، يدخل ويخرج منه
وإن كان من أهل الوبر : خرج من خلف الخباء، فنزل قول الله: { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
فهذا الخفاء الذي في هذه الآية، يرجع إلى اللفظ بسبب اختصاره، ولو بسط لقيل: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها إذا كنتم محرمين بحج أو عمرة.
ويرجع الخفاء إلى المعنى أيضاً؛ لأن هذا النص على فرض بسطه كما رأيت، لابد معه من معرفة عادة العرب في الجاهلية، وإلا لتعذر فهمه(4).
..................................................................................
أنواع المتشابهات
يمكننا أن ننوع المتشابهات ـ على ضوء ما سبق ـ ثلاثة أنواع(4)
(النوع الأول) :
ما لا يستطيع البشر جميعاً أن يصلوا إليه، كالعلم بذات الله وحقائق صفاته، وكالعلم بوقت القيامة ونحوه من الغيوب التي استأثر الله تعالى بها وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [ ]إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ ].
(النوع الثاني):
ما يستطيع كل إنسان أن يعرفه عن طريق البحث والدرس، كالمتشابهات التي نشأ التشابه فيها من الإجمال والبسط والترتيب ونحوها مما سبق.
(النوع الثالث):
ما يعلمه خواص العلماء دون عامتهم، ولذلك أمثلة كثيرة من المعاني العالية التي تفيض على قلوب أهل الصفاء والاجتهاد عند تدبرهم لكتاب الله.
قال الراغب المتشابه على ثلاثة أضرب:
ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه، كوقت الساعة وخروج الدابة ونحو ذلك،
وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام المعلقة.
وضرب متردد بين الأمرين يختص به بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم، وهو المشار إليه بقوله لابن عباس: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" كما سبق ذكره.
(ثالثها) ما ذكره الفخر الرازي بقوله: "إن القرآن يشتمل على دعوى الخواص والعوام. وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمور عن إدراك الحقائق فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه، ظن أن هذا عدم ونفي محض؛ فيقع في التعليل فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما تخيلوه، وما توهموه، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح،
فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر من باب المتشابه،
والقسم الثاني وهو الذي يكشف عن الحق الصريح هو المحكم" 1هـ.
وهذه الحكمة ظاهرة في متشابه الصفات.
(رابعتها) إقامة دليل على عجز الإنسان وجهالته، مهما عظم استعداده وغزر علمه، وإقامة شاهد على قدرة الله الخارقة، وأنه وحده هو الذي أحاط بكل شيء علماً، وأن الخلق جميعاً لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وهنالك يخضع العبد ويخشع، ويطامن من كبريائه ويخنع، ويقول ما قالت الملائكة بالأمس: سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ[ ].
قال بعض العارفين: "العقل مبتلي باعتقاد أحقية المتشابه، كابتلاء البدن بأداء العبادة، كالحكيم إذا صنف كتاباً أجمل فيه أحياناً، ليكون موضع خضوع المتعلم لأستاذه، وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سره.
وقيل: لو لم يبتل العقل الذي هو أشرف البدن، لاستمر العالم في أبهة العلم على التمرد، فبذلك يستأنس إلى التذلل بذل العبودية.
والمتشابه هو موضع خضوع العقول لبارئها، استسلاماً واعترافاً بقصورها، ولهذا ختم الآية.. يريد آية هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [ ] تعريضاً للزائغين، ومدحاً للراسخين، ويعني من لم يتذكر ويتعظ ويخالف هواه : فليس من أولى العقول.
(النوع الأول) :
ما لا يستطيع البشر جميعاً أن يصلوا إليه، كالعلم بذات الله وحقائق صفاته، وكالعلم بوقت القيامة ونحوه من الغيوب التي استأثر الله تعالى بها وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [ ]إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ ].
(النوع الثاني):
ما يستطيع كل إنسان أن يعرفه عن طريق البحث والدرس، كالمتشابهات التي نشأ التشابه فيها من الإجمال والبسط والترتيب ونحوها مما سبق.
(النوع الثالث):
ما يعلمه خواص العلماء دون عامتهم، ولذلك أمثلة كثيرة من المعاني العالية التي تفيض على قلوب أهل الصفاء والاجتهاد عند تدبرهم لكتاب الله.
قال الراغب المتشابه على ثلاثة أضرب:
ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه، كوقت الساعة وخروج الدابة ونحو ذلك،
وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام المعلقة.
وضرب متردد بين الأمرين يختص به بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم، وهو المشار إليه بقوله لابن عباس: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" كما سبق ذكره.
(ثالثها) ما ذكره الفخر الرازي بقوله: "إن القرآن يشتمل على دعوى الخواص والعوام. وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمور عن إدراك الحقائق فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه، ظن أن هذا عدم ونفي محض؛ فيقع في التعليل فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما تخيلوه، وما توهموه، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح،
فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر من باب المتشابه،
والقسم الثاني وهو الذي يكشف عن الحق الصريح هو المحكم" 1هـ.
وهذه الحكمة ظاهرة في متشابه الصفات.
(رابعتها) إقامة دليل على عجز الإنسان وجهالته، مهما عظم استعداده وغزر علمه، وإقامة شاهد على قدرة الله الخارقة، وأنه وحده هو الذي أحاط بكل شيء علماً، وأن الخلق جميعاً لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وهنالك يخضع العبد ويخشع، ويطامن من كبريائه ويخنع، ويقول ما قالت الملائكة بالأمس: سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ[ ].
قال بعض العارفين: "العقل مبتلي باعتقاد أحقية المتشابه، كابتلاء البدن بأداء العبادة، كالحكيم إذا صنف كتاباً أجمل فيه أحياناً، ليكون موضع خضوع المتعلم لأستاذه، وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سره.
وقيل: لو لم يبتل العقل الذي هو أشرف البدن، لاستمر العالم في أبهة العلم على التمرد، فبذلك يستأنس إلى التذلل بذل العبودية.
والمتشابه هو موضع خضوع العقول لبارئها، استسلاماً واعترافاً بقصورها، ولهذا ختم الآية.. يريد آية هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [ ] تعريضاً للزائغين، ومدحاً للراسخين، ويعني من لم يتذكر ويتعظ ويخالف هواه : فليس من أولى العقول.
..........................................................................
متشابه الصفات
وبعد هذا ..
تعرض لنا قضية هامة، وهي "متشابه الصفات"
فما توضيحها .. ؟
وما القول الفصل فيها ..؟
عرفنا أن المتشابهات تجمع ألواناً مختلفة
وتزيدك هنا : أن من بينها لونين كثر الكلام فيهما
(أولهما) فواتح السور، نحو: آلم، ق~، طس~ وما أشبهها، وسنعرض لها بعد قليل.
(ثانيهما) الآيات المشكلة الواردة في شأن الله تعالى، وتسمى آيات الصفات، أو
متشابه الصفات:
ولابن اللبان فيها تصنيف مفرد، سماه: (رد المتشابهات إلى الآيات المحكمات) مثل قوله سبحانه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [ ]
وما أشبهه.
وإنما أفرد هذا النوع بالذكر وبالتأليف لأنه كثر فيه القيل والقال. وكان فتنة ارتكس فيها كثير من القدامى والمحدثين.(3) الرأي الرشيد في متشابه الصفات
علماؤنا أجزل الله مثوبتهم .. قد اتفقوا على ثلاثة أمور تتعلق بهذه المتشابهات، ثم اختلفوا فيما وراءها.
(فأول ما اتفقوا عليه) صرفها عن ظاهرها المستحيلة، واعتقاد أن هذه الظواهر غير مرادة للشارع قطعاً، كيف وهذه الظواهر باطلة بالأدلة القاطعة، وبما هو معروف عن الشارع نفسه في محكماته؟
(ثانيه) أنه إذا توقف الدفاع عن الإسلام على التأويل لهذه المتشابهات: وجب تأويلها بما يدفع شبهات المشتبهين، ويرد طعن الطاعنين.
(ثالثه) أن المتشابه إن كان له تأويل واحد يفهم منه فهماً قريباً: وجب القول به إجماعاً، وذلك كقوله سبحانه وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [ ] فإن الكينونة بالذات مع الخلق مستحيلة قطعاً، وليس لها بعد ذلك إلا تأويل واحد، هو الكينونة معهم بالإحاطة علماً وسمعاً وبصراً وقدرة وإرادة.
وأما اختلاف العلماء فيما وراء ذلك : فقد وقع على ثلاثة مذاهب : -
(المذهب الأول):
مذهب السلف، ويسمى مذهب المفوضة "بكسر الواو وتشديدها" وهو تفويض معاني المتشابهات إلى الله وحده بعد تنزيهه تعالى عن ظواهرها المستحيلة.
ويستدلون على مذهبهم هذا بدليليين:
أحدهما عقلي .. وهو : أن تعيين المراد من هذه المتشابهات إنما يجرى على قوانين اللغة واستعمالات العرب، وهي لا تفيد إلا الظن، مع أن صفات الله من العقائد التي لا يكفي فيها الظن، بل لابد فيها من اليقين ولا سبيل إليه، فلنتوقف ولنكل التعيين إلى العليم الخبير.
والدليل الثاني نقلي.. يعتمدون فيه على عدة أمور:
منها حديث عائشة السابق، وفيه "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله؛ فاحذرهم".
وغير ذلك مما استدل به أصحاب القول بأن "الواو" فى قوله تعالى: { والراسخون فى العلم } [ ] استئنافية.
ومنا ـ كذلك ـ ما ورد من أن الإمام مالكاً رضى الله عنه سئل عن الاستواء في قوله سبحانه الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [ ] فقال: "الاستواء معلوم والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة، وأظنك رجل سوء، أخرجوه عني"
يريد ـ رحمه الله عليه ـ أن : الاستواء معلوم الظاهر بحسب ما تدل عليه الأوضاع اللغوية، ولكن هذا الظاهر غير مراد قطعاً؛ لأنه يستلزم التشبيه المحال على الله بالدليل القاطع، والكيف مجهول أي تعيين مراد الشارع مجهول لنا لا دليل عندنا عليه، ولا سلطان لنا به، والسؤال عنه بدعة أي الاستفسار عن تعيين هذا المراد على اعتقاد أنه مما شرعه الله بدعة؛ لأنه طريقة في الدين مخترعة مخالفة لما أرشدنا إليه الشارع من وجوب تقديم المحكمات وعدم إتباع المتشابهات.
وما جزاء المبتدع : إلا أن يطرد ويبعد عن الناس، خوف أن يفتهم؛ لأنه رجل سوء.
وذلك سر قوله "وأظنك رجل سوء. أخرجوه عني" (4).
قال ابن الصلاح: "على هذه الطريقة مضى صدر الأمة وسادتها وإياهما اختار أئمة الفقهاء وقادتها، وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه، ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها".
(المذهب الثاني)
مذهب الخلف، ويسمى مذهب المؤولة (بتشديد الواو وكسرها )
وهم فريقان:
فريق يؤولها بصفات سمعية غير معلومة على التعيين ثابتة له تعالى زيادة على صفاته المعلومة لنا بالتعيين،
وينسب هذا إلى أبي الحسن الأشعري، وفريق يؤولها بصفات أو بمعان نعلمها على التعيين، فيحمل اللفظ الذي استحال ظاهره من هذه المشتابهات على معنى يسوغ لغة، ويليق بالله عقلاً وشرعاً، وينسب هذا الرأي إلى ابن برهان وجماعة من المتأخرين.
قال السيوطي: وكان إمام الحرمين يذهب إليه ثم رجع عنه، فقال في الرسالة النظامية: "الذي نرتضيه ديناً، وندين الله به عقداً: إتباع سلف الأمة؛ فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعانيها".
أما حجة أصحاب هذا المذهب فيما ذهبوا إليه: فهو أن المطلوب صرف اللفظ عن مقام الإهمال الذي يوجب الحيرة بسبب ترك اللفظ لا مفهوم له، ومادام في الإمكان حمل كلام الشارع على معنى سليم، فالنظر قاض بوجوبه، انتفاعاً بما ورد عن الحكيم العليم وتنزيهاً له عن أن يجرى مجرى العجوز العقيم.
(المذهب الثالث)
مذهب المتوسطين. وقد نقل السيوطي هذا المذهب فقال وتوسط ابن دقيق العيد فقال: "إذا كان التأويل قريباً من لسان العرب لم ينكر، أو بعيداً توقفنا عنه وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه، وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهراً مفهوماً من تخاطب العرب قلنا به من غير توقف، كما في قوله تعالى ( يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ)نحمله على حق الله وما يجب له"(4).
تطبيق وتمثيل:
ولنطبق هذه المذاهب على قوله سبحانه: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) فنقول:
يتفق الجميع من سلف وخلف على أن ظاهر الاستواء على العرش، وهو الجلوس عليه مع التمكين والتحيز، مستحيل ؛ لان الأدلة القاطعة تنزه الله عن أن يشبه خلقه أو يحتاج إلى شيء منه، وسواء أكان مكاناً يحل فيه أم غيره. وكذلك يتفق السلف والخلف على أن هذا الظاهر غير مراد لله قطعاً؛ لأنه تعالى نفى عن نفسه المماثلة لخلقة، وأثبت لنفسه الغنى عنهم، فقال: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وقال ( هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فلو أراد هذا الظاهر لكان متناقضاً.
ثم اختلف السلف والخلف بعد ما تقدم،
فرأى السلفيون: أن يفوضوا تعيين معنى الاستواء إلى الله؛ إذْ هو أعلم بما نسبه إلى نفسه وأعلم بما يليق به،
ولا دليل عندهم على هذا التعيين.
ورأى الخلف : أن يؤولوا؛ لأنه يبعد كل البعد أن يخاطب الله عباده بما لا يفهمون، ومادام ميدان اللغة متسعاً للتأويل وجب التأويل.
بيد أنهم افترقوا في هذا التأويل فرقتين؛
فطائفة الأشاعرة: يؤولون من غير تعيين، ويقولون: إن المراد من الآية إثبات أنه تعالى متصف بصفة سمعية لا نعلمها على التعيين، تسمى صفة الاستواء.
وطائفة المتأخرين يعينون فيقولون: إن المراد بالاستواء هنا هو الاستيلاء والقهر، من غير معناه ولا تكلف؛ لأن اللغة تتسع لهذا المعنى،
فكذلك يكون معنى النص الكريم: الرحمن استوى على عرش العالم،وحكم العالم بقدرته، ودبره بمشيئته،
وابن دقيق العيد يقول بهذا التأويل إن رآه قريباً، ويتوقف إن رآه بعيداً.
وقل مثل ذلك في نحو
{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ }
{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }
{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ }
{ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ }
{ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ }
{ وَجَاء رَبُّكَ }
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}
فالسلف يفوضون في معانيها تفويضاً مطلقاً بعد تنزيه الله عن ظواهرها المستحيلة.
والأشاعرة يفسرونها بصفات سمعية زائدة على الصفات التي نعلمها، ولكنهم يفوضون الأمر في تعيين هذه الصفات إلى الله
فهم مؤولون من وجه مفوضون من وجه
والمتأخرون يفسرون الوجه بالذات، ولفظ {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } بتربية موسى ملحوظاً بعناية الله وجميل رعايته، ولفظ اليد بالقدرة، ولفظ اليمين بالقوة، والفوقية بالعلو المعنوي دون الحسي، والمجيء في قوله وَجَاء رَبُّكَ بمجيء أمره، والعندية في قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ بالإحاطة والتمكن.
أو بمثل ذلك في الجميع.
إرشاد وتحذير(4)
لقد أسرف بعض الناس في هذا العصر، فخاضوا في متشابه الصفات بغير حق، وأتوا في حديثهم عنها وتعليقهم عليها بما لم يأذن به الله، ولهم فيها كلمات غامضة تحتمل التشبيه والتنزيه، وتحتمل الكفر والإيمان، حتى باتت هذه الكلمات نفسها من المتشابهات،
ومن المؤسف : أنهم يواجهون العامة وأشباههم بهذا.
ومن المحزن :أنهم ينسبون ما يقولون إلى سلفنا الصالح، ويخيلون إلى الناس أنهم سلفيون،
من ذلك قولهم: إن الله تعالى يشار إليه بالإشارة الحسية؟ وله من الجهات الست: جهة الفوق.
ويقولون. إنه استوى على عرشه بذاته استواء حقيقياً؛ بمعنى أنه استقر فوقه استقراراً حقيقياً، غير أنهم يعودون فيقولون: ليس كاستقرارنا وليس على ما نعرف، وليس لهم مستند فيما نعلم إلا التشبث بالظاهر.
ولقد تجلى لك مذهب السلف والخلف، فلا نطيل بإعادته .
هذا.. وقد ذكر الإمام السيوطى ما وقف عليه من تأويل فى هذه الصفات على طريقة أهل السنة .. فقال (3) ذكر ما وقف عليه من تأويل الآية المذكورة على طريقة أهل السنة
أولاً: صفة الاستواء، وحاصل ما رأيت فيها سبعة أجوبه:
أحدها: حكى مقاتل والكلبي عن ابن عباس، أن "أستوى" بمعنى استقر، وهذا إن صح يحتاج إلى تأويل، فإن الاستقرار يشعر بالتجسيم.
ثانيها: انّ "استوى" بمعنى "استولى"
وردّ بوجهين:
أحدهما: أن الله تعال مستولٍ على الكونين والجنة والنار وأهلهما،
فأي فائدة في تخصيص العرش!.
والآخر أن الاستيلاء، إنما يكون بعد قَهْر وغلبه،
والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك.
خرج اللالكائي في السنة عن ابن الأعرابي، أنه سئل عن معنى "استوى" فقال: هو على عرشه كما أخبر، فقيل: يا أبا عبد الله معناه "استولى"؟ قال: اسكت، لا يقال: استوى على الشيء؛إلا إذا كان له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل: استولى.
ثالثها: إنه بمعنى صعِد، قاله أبو عبيد؛ وردّ بأنه تعالى منزه عن الصعود أيضاً.
رابعها: أن التقدير " الرحمن علا"، أي ارتفع من العلو، والعرش له استوى. حكاه إسماعيل الضرير في تفسيره.
ورد بوجهين:
أحدهما أنه جعل على فعلاً، وهي حرف هنا باتفاق، فلو كانت فعلاً لكتبت بالألف، كقوله عَلا فِي الْأَرْضِ[ القصص : 4].
والآخر أنه رفع "العرش"
ولم يرفعه أحد من القرّاء.
خامساً: أن الكلام تم عند قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ، ثم ابتدأ بقوله: اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
ورد بأنه يزيل الآية عن نظمها ومرادها.
قلت: ولا يتأتى له في قوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ .
سادسها: أن معنى "استوى" أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه، كقوله: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ [فصلت :11]، أي قصد وعمد إلى خلقها،
قاله الفراء والأشعري وجماعة أهل المعاني. وقال إسماعيل الضرير: إنه الصواب.
قلت: يبعده تعديته بعلى، ولو كان كما ذكروه لتعدى بإلي كما في قوله: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء[فصلت : 11].
سابعها: قال ابن اللبان: الاستواء المنسوب إليه تعالى بمعنى اعتدل، أي قام بالعدل، كقوله تعالى: قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ [آل عمران : 18]. والعدل هو استواؤه، ويرجع معناه إلى أنه أعطى بعزته كل شيء خلقه موزوناً بحكمته البالغة.
ثانياً : النفس .. في قوله تعالى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116].
ووجه بأنه خرَّج على سبيل المشاكلة مراداً به الغيب؛ لأنه مستتر كالنفس.
وقوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ [آل عمران : 29]. أي عقوبته وقيل: إياه.
وقال السُّهَيلي: النفس عبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد، وقد استعمل من لفظة النفاسة والشيء النفيس، فصلحت للتعبير عنه سبحانه وتعالى.
وقال ابن اللبان: أوّلها العلماء بتأوليات؛ منها أن النفس عبر بها عن الذات، قال: وهذا وإن كان سائغاً في اللغة، ولكن تعدى الفعل إليها بفي المفيدة للظرفية محال عليه تعالى.
وقد أوّلها بعضهم بالغيب، أي ولا أعلم ما في غيبك وسرك،
قال: وهذا حسن لقوله آخر الآية إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [آل عمران : 29].
ثالثاً: ذلك الوجه .. وهو مؤول بالذات
وقال ابن اللبان في قوله: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام : 52]، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الإنسان:9]، إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [الليل : 20]، المراد إخلاص النية.
وقال غيره في قوله: فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [البقرة : 115]، أي الجهة التي أمر بالتوجه إليها.
رابعاً: العين .. وهي مؤوله بالبصر أو الإدراك.
بل قال بعضهم: إنها حقيقة فى ذلك خلافاً لتوهم بعض الناس أنها مجاز، وإنما المجاز في تسمية العضو بها.
وقال ابن اللبان: نسبة العين إليه تعالى اسم لآياته المبصرة، التي بها سبحانه ينظر للمؤمنين، وبها ينظرون إليه، قال تعالى: فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً [ النمل: 13]: نسب البصر للآيات على سبيل المجاز تحقيقاً؛ لأنها المرادة بالعين المنسوبة إليه، وقال: قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا [الأنعام : 104]، قال: فقوله: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48]، أي بآياتنا تنظر بها إلينا، وننظر بها إليك، قال: ويؤيد أن المراد بالأعين هنا الآيات ..كونه علل بها الصبر لحكم ربه، صريحاً في قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الإنسان:33]، أي بآياتنا، بدليل: وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا [هود:41]، وقال: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي[طه:29]، أي على حكم آيتى التي أوحيتها إلى أمّك {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ }... [القصص:7].
وقال غيره: المراد في الآيات كلاءته تعالى حفظه.
خامساً: اليد في قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[ص :75]، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}[ يس:71] ، { وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} [الحديد: 29]، وهي مؤوله بالقدرة.
وقال السهيليّ: اليد في الأصل كالبصر عبارة عن صفة لموصوف، ولذلك مدح سبحانه وتعالى بالأيادي مقرونة مع الأبصار في قوله: أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ [ص : 45]، ولم يمدحهم بالجوارح؛ لأن المدح إنما يتعلق بالصفات لا بالجواهر، قال: ولهذا قال الأشعري:إن اليد صفة ورد بها الشرع.
والذي يلوح من معنى هذه الصفة أنها قريبة من معنى القدرة، إلا أنها أخصّ والقدرة أعمّ، كالمحبة مع الإرادة والمشيئة؛ فإن في اليد تشريفاً لازماً.
وقال البغوي في قوله: بِيَدَيَّ: في تحقيق الله التثنية في اليد .. دليل على أنها ليست بمعنى القدرة والقوة والنعمة، وإنما هما صفتان من صفات ذاته.
وقال مجاهد: اليد ها هنا صلة وتأكيد، كقوله: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:22]، قال البغوي: وهذا تأويل غير قوي، لأنها لو كانت صلة لكان لإبليس أن يقول: إن كنت خلقته فقد خلقتني، وكذلك في القدرة والنعمة، لا يكون لآدم في الخلق مزية على إبليس.
وقال ابن اللبان: فإن قلتَ: فما حقيقة اليدين في خلق آدم؟ قلت: الله أعلم بما أراد ولكن الذي استثمرته من تدبر كتابه، أن اليدين" استعارة لنور قدرته القائم بصفة فضلة، ولنورها القائم بصفة عدلة، ونبه على تخصيص آدم وتكريمه بأن جمع له في خلقه بين فضله وعدله ...
قال: وصاحبه الفضل هي اليمين، التي ذكرها في قوله: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:68] سبحانه وتعالى.
سادساً: الساق .. في قوله: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم:42]، ومعناه عن شدة وأمر عظيم، كما يقال: قامت الحرب على ساق.
أخرج الحاكم في المستدرك من طريق عكرمة، عن ابن عباس، أنه سئل عن قوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ، قال: إذا خفى عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر؛ فإنه ديوان العرب،
سابعاً: الجنب .. في قوله تعالى: { علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} [الزمر:56]، أي في طاعته وحقه؛ لأن التفريط إنما يقع في ذلك، ولا يقع في الجنب المعهود.
ثامناً: صفة القرب .. في قوله: { فَإِنِّي قَرِيبٌ}[البقرة:186]، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ ق:16]، أي بالعلم.
تاسعاً: صفة الفوقية .. في قوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ[الأنعام:18]، {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ}[النحل50]، والمراد بها العلّو من غير جهة، وقد قال فرعون: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127]، ولاشك أنه لم يرد العلو المكاني.
عاشراً: صفة المجيء .. في قوله: وَجَاء رَبُّكَ [الفجر:22]،{ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام:158] ، أي أمره؛ لأن الملك
إ نما يأتي بأمره أو بتسليطه، كما قال تعالى: وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ[الأنبياء:27]، فصار كما لو صرح به.
وكذا قوله: { فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا }[المائدة:54]،أي اذهب بربك، أي بتوفيقه وقوته،
حادى عشر: صفة الحب .. في قوله: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عمران:31]،.
ثانى عشر:صفة الغضب .. في قوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح : 6]،.
ثالث عشر: صفة الرضا .. في قوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [المائدة:119]،
رابع عشر:صفة العجب .. في قوله: {بَلْ عَجِبْتَ}[الصافات:12]، بضم التاء، وقوله {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ}[الرعد:5].
خامس عشر: صفة الرحمة.. في آيات كثيرة.
وقد قال العلماء: كل صفة يستحيل حقيقتها على الله تعالى تفسّر بلازمها، قال الإمام فخر الدين: جميع الأعراض النفسانية أعني الرحمة والفرح، والسرور والغضب، والحياء والمكر والاستهزاء ـ لها أوائل ولها غايات، مثاله الغضب فإن أوله غليان دم القلب، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غرضه الذي هو إرادة الإضرار؛وكذلك الحياء له أول وهو إنكسار يحصل في النفس، وله غرض وهو ترك الفعل، فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس.
وقال الحسين بن الفضل: العجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه،
وسئل الجنيد عن قوله: { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} فقال: إن الله لا يعجب من شيء،
ولكن الله وافق ارسوله، فقال: وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ، أي هو كما تقول.
ومن ذلك: لفظه "عند" في قوله تعالى: { عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف:206]، {ومَنْ عِندَهُ} [المائدة:52]، ومعناها الإشارة إلى التمكين والزلفى والرفعة.
ومن ذلك قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد:4]، أي بعلمه، وقوله: {وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} [الأنعام:3]..
قال البيهقي: الأصح أن معناه أنه المعبود في السموات وفي الأرض، مثله قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84].
وقال الأشعري: الظرف متعلق بـ "يعلم" : أي عالم بما في السموات والأرض.
ذلك قوله: { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَان} [ الرحمن:31]، أي سنقصد لجزائكم.
تعرض لنا قضية هامة، وهي "متشابه الصفات"
فما توضيحها .. ؟
وما القول الفصل فيها ..؟
عرفنا أن المتشابهات تجمع ألواناً مختلفة
وتزيدك هنا : أن من بينها لونين كثر الكلام فيهما
(أولهما) فواتح السور، نحو: آلم، ق~، طس~ وما أشبهها، وسنعرض لها بعد قليل.
(ثانيهما) الآيات المشكلة الواردة في شأن الله تعالى، وتسمى آيات الصفات، أو
متشابه الصفات:
ولابن اللبان فيها تصنيف مفرد، سماه: (رد المتشابهات إلى الآيات المحكمات) مثل قوله سبحانه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [ ]
وما أشبهه.
وإنما أفرد هذا النوع بالذكر وبالتأليف لأنه كثر فيه القيل والقال. وكان فتنة ارتكس فيها كثير من القدامى والمحدثين.(3) الرأي الرشيد في متشابه الصفات
علماؤنا أجزل الله مثوبتهم .. قد اتفقوا على ثلاثة أمور تتعلق بهذه المتشابهات، ثم اختلفوا فيما وراءها.
(فأول ما اتفقوا عليه) صرفها عن ظاهرها المستحيلة، واعتقاد أن هذه الظواهر غير مرادة للشارع قطعاً، كيف وهذه الظواهر باطلة بالأدلة القاطعة، وبما هو معروف عن الشارع نفسه في محكماته؟
(ثانيه) أنه إذا توقف الدفاع عن الإسلام على التأويل لهذه المتشابهات: وجب تأويلها بما يدفع شبهات المشتبهين، ويرد طعن الطاعنين.
(ثالثه) أن المتشابه إن كان له تأويل واحد يفهم منه فهماً قريباً: وجب القول به إجماعاً، وذلك كقوله سبحانه وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [ ] فإن الكينونة بالذات مع الخلق مستحيلة قطعاً، وليس لها بعد ذلك إلا تأويل واحد، هو الكينونة معهم بالإحاطة علماً وسمعاً وبصراً وقدرة وإرادة.
وأما اختلاف العلماء فيما وراء ذلك : فقد وقع على ثلاثة مذاهب : -
(المذهب الأول):
مذهب السلف، ويسمى مذهب المفوضة "بكسر الواو وتشديدها" وهو تفويض معاني المتشابهات إلى الله وحده بعد تنزيهه تعالى عن ظواهرها المستحيلة.
ويستدلون على مذهبهم هذا بدليليين:
أحدهما عقلي .. وهو : أن تعيين المراد من هذه المتشابهات إنما يجرى على قوانين اللغة واستعمالات العرب، وهي لا تفيد إلا الظن، مع أن صفات الله من العقائد التي لا يكفي فيها الظن، بل لابد فيها من اليقين ولا سبيل إليه، فلنتوقف ولنكل التعيين إلى العليم الخبير.
والدليل الثاني نقلي.. يعتمدون فيه على عدة أمور:
منها حديث عائشة السابق، وفيه "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله؛ فاحذرهم".
وغير ذلك مما استدل به أصحاب القول بأن "الواو" فى قوله تعالى: { والراسخون فى العلم } [ ] استئنافية.
ومنا ـ كذلك ـ ما ورد من أن الإمام مالكاً رضى الله عنه سئل عن الاستواء في قوله سبحانه الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [ ] فقال: "الاستواء معلوم والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة، وأظنك رجل سوء، أخرجوه عني"
يريد ـ رحمه الله عليه ـ أن : الاستواء معلوم الظاهر بحسب ما تدل عليه الأوضاع اللغوية، ولكن هذا الظاهر غير مراد قطعاً؛ لأنه يستلزم التشبيه المحال على الله بالدليل القاطع، والكيف مجهول أي تعيين مراد الشارع مجهول لنا لا دليل عندنا عليه، ولا سلطان لنا به، والسؤال عنه بدعة أي الاستفسار عن تعيين هذا المراد على اعتقاد أنه مما شرعه الله بدعة؛ لأنه طريقة في الدين مخترعة مخالفة لما أرشدنا إليه الشارع من وجوب تقديم المحكمات وعدم إتباع المتشابهات.
وما جزاء المبتدع : إلا أن يطرد ويبعد عن الناس، خوف أن يفتهم؛ لأنه رجل سوء.
وذلك سر قوله "وأظنك رجل سوء. أخرجوه عني" (4).
قال ابن الصلاح: "على هذه الطريقة مضى صدر الأمة وسادتها وإياهما اختار أئمة الفقهاء وقادتها، وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه، ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها".
(المذهب الثاني)
مذهب الخلف، ويسمى مذهب المؤولة (بتشديد الواو وكسرها )
وهم فريقان:
فريق يؤولها بصفات سمعية غير معلومة على التعيين ثابتة له تعالى زيادة على صفاته المعلومة لنا بالتعيين،
وينسب هذا إلى أبي الحسن الأشعري، وفريق يؤولها بصفات أو بمعان نعلمها على التعيين، فيحمل اللفظ الذي استحال ظاهره من هذه المشتابهات على معنى يسوغ لغة، ويليق بالله عقلاً وشرعاً، وينسب هذا الرأي إلى ابن برهان وجماعة من المتأخرين.
قال السيوطي: وكان إمام الحرمين يذهب إليه ثم رجع عنه، فقال في الرسالة النظامية: "الذي نرتضيه ديناً، وندين الله به عقداً: إتباع سلف الأمة؛ فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعانيها".
أما حجة أصحاب هذا المذهب فيما ذهبوا إليه: فهو أن المطلوب صرف اللفظ عن مقام الإهمال الذي يوجب الحيرة بسبب ترك اللفظ لا مفهوم له، ومادام في الإمكان حمل كلام الشارع على معنى سليم، فالنظر قاض بوجوبه، انتفاعاً بما ورد عن الحكيم العليم وتنزيهاً له عن أن يجرى مجرى العجوز العقيم.
(المذهب الثالث)
مذهب المتوسطين. وقد نقل السيوطي هذا المذهب فقال وتوسط ابن دقيق العيد فقال: "إذا كان التأويل قريباً من لسان العرب لم ينكر، أو بعيداً توقفنا عنه وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه، وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهراً مفهوماً من تخاطب العرب قلنا به من غير توقف، كما في قوله تعالى ( يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ)نحمله على حق الله وما يجب له"(4).
تطبيق وتمثيل:
ولنطبق هذه المذاهب على قوله سبحانه: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) فنقول:
يتفق الجميع من سلف وخلف على أن ظاهر الاستواء على العرش، وهو الجلوس عليه مع التمكين والتحيز، مستحيل ؛ لان الأدلة القاطعة تنزه الله عن أن يشبه خلقه أو يحتاج إلى شيء منه، وسواء أكان مكاناً يحل فيه أم غيره. وكذلك يتفق السلف والخلف على أن هذا الظاهر غير مراد لله قطعاً؛ لأنه تعالى نفى عن نفسه المماثلة لخلقة، وأثبت لنفسه الغنى عنهم، فقال: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وقال ( هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فلو أراد هذا الظاهر لكان متناقضاً.
ثم اختلف السلف والخلف بعد ما تقدم،
فرأى السلفيون: أن يفوضوا تعيين معنى الاستواء إلى الله؛ إذْ هو أعلم بما نسبه إلى نفسه وأعلم بما يليق به،
ولا دليل عندهم على هذا التعيين.
ورأى الخلف : أن يؤولوا؛ لأنه يبعد كل البعد أن يخاطب الله عباده بما لا يفهمون، ومادام ميدان اللغة متسعاً للتأويل وجب التأويل.
بيد أنهم افترقوا في هذا التأويل فرقتين؛
فطائفة الأشاعرة: يؤولون من غير تعيين، ويقولون: إن المراد من الآية إثبات أنه تعالى متصف بصفة سمعية لا نعلمها على التعيين، تسمى صفة الاستواء.
وطائفة المتأخرين يعينون فيقولون: إن المراد بالاستواء هنا هو الاستيلاء والقهر، من غير معناه ولا تكلف؛ لأن اللغة تتسع لهذا المعنى،
فكذلك يكون معنى النص الكريم: الرحمن استوى على عرش العالم،وحكم العالم بقدرته، ودبره بمشيئته،
وابن دقيق العيد يقول بهذا التأويل إن رآه قريباً، ويتوقف إن رآه بعيداً.
وقل مثل ذلك في نحو
{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ }
{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }
{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ }
{ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ }
{ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ }
{ وَجَاء رَبُّكَ }
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}
فالسلف يفوضون في معانيها تفويضاً مطلقاً بعد تنزيه الله عن ظواهرها المستحيلة.
والأشاعرة يفسرونها بصفات سمعية زائدة على الصفات التي نعلمها، ولكنهم يفوضون الأمر في تعيين هذه الصفات إلى الله
فهم مؤولون من وجه مفوضون من وجه
والمتأخرون يفسرون الوجه بالذات، ولفظ {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } بتربية موسى ملحوظاً بعناية الله وجميل رعايته، ولفظ اليد بالقدرة، ولفظ اليمين بالقوة، والفوقية بالعلو المعنوي دون الحسي، والمجيء في قوله وَجَاء رَبُّكَ بمجيء أمره، والعندية في قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ بالإحاطة والتمكن.
أو بمثل ذلك في الجميع.
إرشاد وتحذير(4)
لقد أسرف بعض الناس في هذا العصر، فخاضوا في متشابه الصفات بغير حق، وأتوا في حديثهم عنها وتعليقهم عليها بما لم يأذن به الله، ولهم فيها كلمات غامضة تحتمل التشبيه والتنزيه، وتحتمل الكفر والإيمان، حتى باتت هذه الكلمات نفسها من المتشابهات،
ومن المؤسف : أنهم يواجهون العامة وأشباههم بهذا.
ومن المحزن :أنهم ينسبون ما يقولون إلى سلفنا الصالح، ويخيلون إلى الناس أنهم سلفيون،
من ذلك قولهم: إن الله تعالى يشار إليه بالإشارة الحسية؟ وله من الجهات الست: جهة الفوق.
ويقولون. إنه استوى على عرشه بذاته استواء حقيقياً؛ بمعنى أنه استقر فوقه استقراراً حقيقياً، غير أنهم يعودون فيقولون: ليس كاستقرارنا وليس على ما نعرف، وليس لهم مستند فيما نعلم إلا التشبث بالظاهر.
ولقد تجلى لك مذهب السلف والخلف، فلا نطيل بإعادته .
هذا.. وقد ذكر الإمام السيوطى ما وقف عليه من تأويل فى هذه الصفات على طريقة أهل السنة .. فقال (3) ذكر ما وقف عليه من تأويل الآية المذكورة على طريقة أهل السنة
أولاً: صفة الاستواء، وحاصل ما رأيت فيها سبعة أجوبه:
أحدها: حكى مقاتل والكلبي عن ابن عباس، أن "أستوى" بمعنى استقر، وهذا إن صح يحتاج إلى تأويل، فإن الاستقرار يشعر بالتجسيم.
ثانيها: انّ "استوى" بمعنى "استولى"
وردّ بوجهين:
أحدهما: أن الله تعال مستولٍ على الكونين والجنة والنار وأهلهما،
فأي فائدة في تخصيص العرش!.
والآخر أن الاستيلاء، إنما يكون بعد قَهْر وغلبه،
والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك.
خرج اللالكائي في السنة عن ابن الأعرابي، أنه سئل عن معنى "استوى" فقال: هو على عرشه كما أخبر، فقيل: يا أبا عبد الله معناه "استولى"؟ قال: اسكت، لا يقال: استوى على الشيء؛إلا إذا كان له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل: استولى.
ثالثها: إنه بمعنى صعِد، قاله أبو عبيد؛ وردّ بأنه تعالى منزه عن الصعود أيضاً.
رابعها: أن التقدير " الرحمن علا"، أي ارتفع من العلو، والعرش له استوى. حكاه إسماعيل الضرير في تفسيره.
ورد بوجهين:
أحدهما أنه جعل على فعلاً، وهي حرف هنا باتفاق، فلو كانت فعلاً لكتبت بالألف، كقوله عَلا فِي الْأَرْضِ[ القصص : 4].
والآخر أنه رفع "العرش"
ولم يرفعه أحد من القرّاء.
خامساً: أن الكلام تم عند قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ، ثم ابتدأ بقوله: اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
ورد بأنه يزيل الآية عن نظمها ومرادها.
قلت: ولا يتأتى له في قوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ .
سادسها: أن معنى "استوى" أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه، كقوله: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ [فصلت :11]، أي قصد وعمد إلى خلقها،
قاله الفراء والأشعري وجماعة أهل المعاني. وقال إسماعيل الضرير: إنه الصواب.
قلت: يبعده تعديته بعلى، ولو كان كما ذكروه لتعدى بإلي كما في قوله: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء[فصلت : 11].
سابعها: قال ابن اللبان: الاستواء المنسوب إليه تعالى بمعنى اعتدل، أي قام بالعدل، كقوله تعالى: قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ [آل عمران : 18]. والعدل هو استواؤه، ويرجع معناه إلى أنه أعطى بعزته كل شيء خلقه موزوناً بحكمته البالغة.
ثانياً : النفس .. في قوله تعالى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116].
ووجه بأنه خرَّج على سبيل المشاكلة مراداً به الغيب؛ لأنه مستتر كالنفس.
وقوله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ [آل عمران : 29]. أي عقوبته وقيل: إياه.
وقال السُّهَيلي: النفس عبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد، وقد استعمل من لفظة النفاسة والشيء النفيس، فصلحت للتعبير عنه سبحانه وتعالى.
وقال ابن اللبان: أوّلها العلماء بتأوليات؛ منها أن النفس عبر بها عن الذات، قال: وهذا وإن كان سائغاً في اللغة، ولكن تعدى الفعل إليها بفي المفيدة للظرفية محال عليه تعالى.
وقد أوّلها بعضهم بالغيب، أي ولا أعلم ما في غيبك وسرك،
قال: وهذا حسن لقوله آخر الآية إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [آل عمران : 29].
ثالثاً: ذلك الوجه .. وهو مؤول بالذات
وقال ابن اللبان في قوله: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام : 52]، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الإنسان:9]، إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [الليل : 20]، المراد إخلاص النية.
وقال غيره في قوله: فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [البقرة : 115]، أي الجهة التي أمر بالتوجه إليها.
رابعاً: العين .. وهي مؤوله بالبصر أو الإدراك.
بل قال بعضهم: إنها حقيقة فى ذلك خلافاً لتوهم بعض الناس أنها مجاز، وإنما المجاز في تسمية العضو بها.
وقال ابن اللبان: نسبة العين إليه تعالى اسم لآياته المبصرة، التي بها سبحانه ينظر للمؤمنين، وبها ينظرون إليه، قال تعالى: فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً [ النمل: 13]: نسب البصر للآيات على سبيل المجاز تحقيقاً؛ لأنها المرادة بالعين المنسوبة إليه، وقال: قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا [الأنعام : 104]، قال: فقوله: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48]، أي بآياتنا تنظر بها إلينا، وننظر بها إليك، قال: ويؤيد أن المراد بالأعين هنا الآيات ..كونه علل بها الصبر لحكم ربه، صريحاً في قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الإنسان:33]، أي بآياتنا، بدليل: وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا [هود:41]، وقال: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي[طه:29]، أي على حكم آيتى التي أوحيتها إلى أمّك {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ }... [القصص:7].
وقال غيره: المراد في الآيات كلاءته تعالى حفظه.
خامساً: اليد في قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[ص :75]، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}[ يس:71] ، { وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} [الحديد: 29]، وهي مؤوله بالقدرة.
وقال السهيليّ: اليد في الأصل كالبصر عبارة عن صفة لموصوف، ولذلك مدح سبحانه وتعالى بالأيادي مقرونة مع الأبصار في قوله: أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ [ص : 45]، ولم يمدحهم بالجوارح؛ لأن المدح إنما يتعلق بالصفات لا بالجواهر، قال: ولهذا قال الأشعري:إن اليد صفة ورد بها الشرع.
والذي يلوح من معنى هذه الصفة أنها قريبة من معنى القدرة، إلا أنها أخصّ والقدرة أعمّ، كالمحبة مع الإرادة والمشيئة؛ فإن في اليد تشريفاً لازماً.
وقال البغوي في قوله: بِيَدَيَّ: في تحقيق الله التثنية في اليد .. دليل على أنها ليست بمعنى القدرة والقوة والنعمة، وإنما هما صفتان من صفات ذاته.
وقال مجاهد: اليد ها هنا صلة وتأكيد، كقوله: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:22]، قال البغوي: وهذا تأويل غير قوي، لأنها لو كانت صلة لكان لإبليس أن يقول: إن كنت خلقته فقد خلقتني، وكذلك في القدرة والنعمة، لا يكون لآدم في الخلق مزية على إبليس.
وقال ابن اللبان: فإن قلتَ: فما حقيقة اليدين في خلق آدم؟ قلت: الله أعلم بما أراد ولكن الذي استثمرته من تدبر كتابه، أن اليدين" استعارة لنور قدرته القائم بصفة فضلة، ولنورها القائم بصفة عدلة، ونبه على تخصيص آدم وتكريمه بأن جمع له في خلقه بين فضله وعدله ...
قال: وصاحبه الفضل هي اليمين، التي ذكرها في قوله: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:68] سبحانه وتعالى.
سادساً: الساق .. في قوله: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم:42]، ومعناه عن شدة وأمر عظيم، كما يقال: قامت الحرب على ساق.
أخرج الحاكم في المستدرك من طريق عكرمة، عن ابن عباس، أنه سئل عن قوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ، قال: إذا خفى عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر؛ فإنه ديوان العرب،
سابعاً: الجنب .. في قوله تعالى: { علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} [الزمر:56]، أي في طاعته وحقه؛ لأن التفريط إنما يقع في ذلك، ولا يقع في الجنب المعهود.
ثامناً: صفة القرب .. في قوله: { فَإِنِّي قَرِيبٌ}[البقرة:186]، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ ق:16]، أي بالعلم.
تاسعاً: صفة الفوقية .. في قوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ[الأنعام:18]، {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ}[النحل50]، والمراد بها العلّو من غير جهة، وقد قال فرعون: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127]، ولاشك أنه لم يرد العلو المكاني.
عاشراً: صفة المجيء .. في قوله: وَجَاء رَبُّكَ [الفجر:22]،{ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام:158] ، أي أمره؛ لأن الملك
إ نما يأتي بأمره أو بتسليطه، كما قال تعالى: وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ[الأنبياء:27]، فصار كما لو صرح به.
وكذا قوله: { فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا }[المائدة:54]،أي اذهب بربك، أي بتوفيقه وقوته،
حادى عشر: صفة الحب .. في قوله: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عمران:31]،.
ثانى عشر:صفة الغضب .. في قوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح : 6]،.
ثالث عشر: صفة الرضا .. في قوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [المائدة:119]،
رابع عشر:صفة العجب .. في قوله: {بَلْ عَجِبْتَ}[الصافات:12]، بضم التاء، وقوله {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ}[الرعد:5].
خامس عشر: صفة الرحمة.. في آيات كثيرة.
وقد قال العلماء: كل صفة يستحيل حقيقتها على الله تعالى تفسّر بلازمها، قال الإمام فخر الدين: جميع الأعراض النفسانية أعني الرحمة والفرح، والسرور والغضب، والحياء والمكر والاستهزاء ـ لها أوائل ولها غايات، مثاله الغضب فإن أوله غليان دم القلب، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غرضه الذي هو إرادة الإضرار؛وكذلك الحياء له أول وهو إنكسار يحصل في النفس، وله غرض وهو ترك الفعل، فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس.
وقال الحسين بن الفضل: العجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه،
وسئل الجنيد عن قوله: { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} فقال: إن الله لا يعجب من شيء،
ولكن الله وافق ارسوله، فقال: وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ، أي هو كما تقول.
ومن ذلك: لفظه "عند" في قوله تعالى: { عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف:206]، {ومَنْ عِندَهُ} [المائدة:52]، ومعناها الإشارة إلى التمكين والزلفى والرفعة.
ومن ذلك قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد:4]، أي بعلمه، وقوله: {وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} [الأنعام:3]..
قال البيهقي: الأصح أن معناه أنه المعبود في السموات وفي الأرض، مثله قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84].
وقال الأشعري: الظرف متعلق بـ "يعلم" : أي عالم بما في السموات والأرض.
ذلك قوله: { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَان} [ الرحمن:31]، أي سنقصد لجزائكم.
.................................................................................
متشابه أوائل السور
والمختار فيها أيضاً : أنها من الأسرار التي لا يعملها إلا الله تعالى، أخرج ابن المنذر وغيره، عن الشعبي، أنه سئل عن فواتح السور، فقال: إن لكل كتاب سراً، وإن سر هذا القرآن فواتح السور.
وخاض في معناها آخرون، فأخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله: الم قال: أنا الله أعلم، وفي قوله: المـص~، قال: أنا الله أفصل، وفي قوله: الر~: أنا الله أرى.
وأخرج من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: الم~ وحـم~و ن~ قال: اسم مُقَطَّع.
وأخرج من طريق عكرمة، عن ابن عباس، قال الر~ وحم~ ون~ حروف الرحمن مفرقة.
وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي، قال الر~ من الرحمن.
وأخرج عنه أيضاً قال: المـص~ الألف من الله، والميم من الرحمن، والصاد من الصمد.
وأخرج أيضاً عن الضحاك في قوله: المص~ قال: أنا الله الصادق،
وقيل المص~ معناه المصور،
وقيل: المر~ معناه أنا الله أعلم وأرفع، حكاهما الكراماني في غرائبه.
وأخرج الحاكم وغيره من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس في كهيعص~، قال: الكاف من الكريم، والهاء من هاد، والياء من حكمي، والعين من عليم، والصاد من صادق.
وأخرج الحاكم أيضاً من وجه آخر عن سعيد بن عباس في قوله: كهيعص~، قال: كافِ هاد أمين عزيز صادق.
وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق السدى، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: كهيعص~، قال: هو هجاء مقطع: الكاف من الملك، وهاء من الله، والياء والعين من العزيز، والصادر من المصور.
وأخرج عن محمد بن كعب مثله إلا أنه قال: والصاد من الصمد.
وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس في قوله: كهيعص~ قال: كبير، هادٍ، أمين، عزيز، صادق.
وأخرج ابن مردوية من طريق الكلبيّ، عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله كهيعص~، قال: الكاف الكافي، والهاء الهادي، والعين العالم، والصاد الصادق.
وأخرج من طريق يوسف بن عطية قال: سئل الكلبي عن كهيعص~، فحدث عن أبي صالح، عن أم هاني، عن رسول الله صلىالله عليه وسلم قال: "كاف، هاد، أمين ، عالم صادق".
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله كهيعص~ قال: يقولك أنا الكبير، الهادي، علي، أمين، صادق.
وأخرج عن محمد بن كعب في قوله: طسم~، قال: الطاء من ذي الطول، والسين من القدوس، والميم من الرحمن.
وأخرج عن سعيد بن جبير، في قوله: حـم~، قال: حاء اشتقت من الرحمن، وميم اشتقت من الحريم.
وأخرج عن محمد بن كعب في قوله حمعسق~ قال: الحاء والميم من الرحمن، والعين من العليم، والسين من القدوس، والقاف من القاهر.
واخرج عن مجاهد، قال: فواتح السور كلها هجاء مقطع.
وأخرج عن سالم بن عبد الله، قال: الم~ وحم~ ون~ ونحوها اسم الله مقطعه.
وأخرج عن السدي، قال فواتح السور أسماء من أسماء الرب جل جلاله فرقت في القرآن.
وحكى الكراماني في قوله: ق~ إنه حرف من اسمه، قادر وقاهر.
وحكى غيره في قوله: ن~ إنه مفتاح اسمه تعالى: نور وناصر.
وهذه الأقوال كلها راجعة إلى قول واحد، وهو إنها حروف مقطعة، كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسمائه تعالى، والاكتفاء ببعض الكلمة معهود في العرب
وهذا القول اختاره الزجاج، وقال: العرب تنطق بالحرف الواحد تدل عليه به على الكلمة التي هو منها. وقيل إنها الاسم الأعظم؛ إلا أنا لا نعرف تأليفه منها. كذا ... ابن عطية.
وأخرج ابن جرير بسند صحيح عن ابن مسعود، قال: هو اسم الله الأعظم.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدى أنه بلغه عن ابن عباس قال: الم~. اسم من أسماء الله الأعظم.
وأخرج ابن جرير وغيره من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: الم~ ، و طسم~، وص~ وأشباهها قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله، وهذا يصلح أن يكون قولاً ثالثاً، أي أنها بُرمتها أسماء لله ويصلح أن يكون من القول الأول ومن الثاني. وعلى الأول مشى ابن عطية غيره. ويؤيده ما أخرجه ابن ماجة في تفسيره من طريق نافع بن أبي نعيم القارئ، عن فاطمة بنت عليّ بن أبي طالب أنها سمعت عليّ بن أبي طالب يقول: يا كهيعص~ اغفر لي، وما أخرجه ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله: أينبغي لأحد أن يتسمى بـ يس~؟ فقال: ما أراه ينبغي، لقول الله يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ، يقول: هنا أسمى تسميت به.
وقيل هي أسماء للقرآن كالفرقان والذكر، أخرجه عبد الرزاق عن قتادة، وأخرجه ابن أبي حاتم بلفظ "كل هجاء في القرآن فهو اسم من أسماء القرآن".
وقيل: هي أسماء للسور، نقله الماوردي وغيره عن زيد بن أسلم، ونسبه صاحب الكشاف إلى الأكثر.
وقيل: هي فواتح للسور كما يقولون في أول القصائد "بل" و"لا بل".
أخرج ابن جريرر، من طريق الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: الم~ وحم~ والمص~ وص~، ونحوها فواتح افتتح الله بها القرآن.
وأخرج أبو الشيخ، من طريق ابن جريج، قال: قال مجاهد. الم~ و المر~ فواتح افتتح الله بها القرآن.
قلت: ألم يكن يقول هي أسماء! قال: لا.
وقيل هذا حساب: "أبي جاد" لتدلّ على مدّة هذه الأمة.
وأخرج ابن غسحاق، عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رياب، قال: مرّ أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتلو فاتحة سورة البقرة الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ، فأتى أخاه حَي ابن أخطب في رجال من اليهود، فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل عليه الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ قال: أنت سمعته؟ قال: نعم فمشى حين في أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ألم تذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ فقال: بلى، فقالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي ما مدة ملكه، وما أجل أمته غيرك؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون؛ فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخل في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة! ثم قال: يا محمد، هل مع هذا غيره؟ قال: نعم المص~ قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون؛ والميم أربعون، والصاد ستون، فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة، هل مع هذا غيره؟ قال: نعم المر~، قال: هذه أثقل وأطول؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، هذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. هل مع هذا غيره؟ قال: نعم المر~، قال: هذه أثقل وأطول، هذه إحدى وسبعون ومائتان، ثم قال: لقد لبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً ! ثم قال: قوموا عنه ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه: ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد؛ إحدى وسبعون، وإحدى ثلاثون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع سنين. فقالوا: لقد تشابه علينا أمره؛ فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ( )، أخرجه ابن جرير من هذا الطريق وابن المنذر، ومن وجه آخر عن ابن جرير معضلاً.
وأخرج ابن جرير وأبن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله الم~ قال: هذه الأحرف الثلاثة من الأحرف التسعة والعشرين، دارت بها الألسن، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه تعالى، وليس منها حرف إلا وهو من آلائه وبلائه ، وليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم، فالألف مفتاح اسمه الله،واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد، فالألف آلاء الله واللام لطف الله، والميم مجد الله، فالألف سنة واللام ثلاثون، والميم أربعون قال الخويي، وقد استخرج بعض الأئمة من قوله تعالى: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ أن البيت المقدس تفتحه المسلمون في سنة ثلاثة وثمانين وخمسمائة؛ ووقع كما قاله.
وقال السهيلي: لعل عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر للإشارة إلى مدة بقاء هذه الأمة.
قال ابن حَجَر: وهذا باطل لا يعتمد عليه، فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه الزجر عن عدّ "أبي جاد"، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر؛ وليس ذلك ببعيد، فإنه لا أصل له في الشريعة، وقد قال القاضي أبو بكر العربي في فوائد رحلته: ومن الباطل علم الحروف المقطعة في أوائل السور.
وقد تحصل لي فيها عشرون قولاً وأزيد، ولا أعرف أحداً يحكم عليها بعلم ، ولا يصل منها إلى فهم.
والذي أقوله: إنه لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولاً متداولاً بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، بل تلى عليهم حم~ فصّلت وص~ وغيرهما، فلم ينكروا ذلك، بل صرحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة مع تشوفهم إلى عثرة وغيرها وحرصهم على زلة، فدل على أنه كان أمراً معروفاً بينهم، لا إنكار فيه. انتهى.
وقيل: هي تنبيهات كما في النداء عدّة ابن عطية مغايراً للقول بأنها فوانح، والظاهر أنه بمعناه.
قال أبو عبيدة: الم~ افتتاح كلام. وقال الخويي، القول بأنها تنبيهات جيد، لأن القرآن كلام عزيز وفوائده عزيزة، فينبغي أن يرد على سمع متنبه، فكان من الجائز أن يكون الله قد علم في بعض الأوقات كون النبي صلى الله عليه وسلم في عالم البشر مشغولاً، فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله: الم~ و الر~ وحم~، ليسمع النبي صوت جبريل فيقبل عليه، ويصغى إليه. قال: وإنما لم تستعمل الكلمات المشهورة في التنبيه كألوأما، لأنها من الألفاظ التي يتعارف الناس في كلامهم، والقرآن كلام لا يشبه الكلام، فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد، لتكون أبلغ في قرع سمعه. انتهى.
وقيل: إن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه، فأنزل الله هذا النظم البديع ليعجبوا منه، ويكون تعجبهم منه سبباً لاستماعهم، واستماعهم له سبباً لاستماع ما بعده، فترق القلوب، وتلين الأفئدة. وعد هذا جماعة قولاً مستقلاً، والظاهر خلافه، وإنما يصلح هذا مناسبة لبعض الأقوال، لا قولاً في معناه، إذ ليس فيه بيان معنى.
وقيل: إن هذه الحروف ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من الحروف التي هي: أ،ب،ت،ث .. فجاء بعضها مقطعاً، وجاء تمامها مؤلفاً، ليدل القوم الذين نزل القرآن بلغتهم أنه بالحروف التي يعرفونها، فيكون ذلك تعريفاً لهم، ودلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله، بعد أن علموا أنه منزل بالحروف التي يعرفونها، ويبنون كلامهم منها.
وقيل: المقصود بها الإعلام بالحروف التي يتركب منها الكلام، فذكر منها أربعة عشر حرفاً، وهي نصف جميع الحروف، وذكر من كل جنس نصفه.
فيمن حروف الحلق: الحاء، والعين والهاء. ومن التي فوقها القاف، والكاف.
ومن الحرفين الشفهيين الميم. ومن المهموسة السين ، والحاء والكاف والصاد والهاء.
ومن الشديدة الهمزة والطاء والقاف والكاف. ومن المطبقة الطاء والصاد. ومن المجهورة الهمزة والميم واللام والعين والراء والطاء والقاف والياء والنون. ومن المنفتحه الهمزة والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون، ومن المستعلية: القاف والصاد والطاء. ومن المنخفضة الهمزة واللام والميم والراء والكاف والهاء والياء والعين والسين والحاء والنون. ومن القلقلة القاف والطاء.
ثم إنه تعالى ذكر حروفاً مفردة وحرفين حرفين وثلاثة ثلاثة وأربعة وخمسة؛ لان تراكيب الكلام على هذا النمط ولا زيادة على الخمسة.
وقيل: هي أمارة جعلها الله لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد كتاباً في أول سور منه حروف مقطعه.
هذا ما وقفت عليه من الأقوال في اوائل السور من حيث الجملة، وفي بعضها أقوال آخر؛ فقيل: إن طه ويس بمعنى يا رجل، أو يا محمد أو يا إنسان، وقد تقدم في المعرب.
وقيل: هما اسمان من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم. قال الكرماني في غرائبه: ويقويه في يس قراءة "يسنَ" بفتح النون، وقوله: "آل ياسين" وقيل: طه ى طأ الأرض أو اطمئن، فيكون فعل أمر والهاء مفعول، أو للسكت أو مبدلة من الهمزة.
أخرج ابن أبي حاتم؛ من طريق سعيد بن جُبير، عن ابن عباس في قوله: طه~ هو كقولك: أفعل. وقيل: طه أي يا بر؛ لأن الطاء بتسعة، والهاء بخمسة، فذلك أربعة عشر إشارة إلى البدر، لأنه يتم فيها. ذكره الكرماني في غرائبه.
وقيل في قوله: يس~ أي يا سيد المرسلين، وفي قوله: ص~. معناه صدق الله وقيل: أقسم بالصمد الصانع الصادق؛ وقيل: معناه صاد يا محمد عملك بالقرآن، أي عارضه به، فهو أمرُ من المصاداة.
"اخرج عن الحسين، قال: صاد حادث القرآن، يعني انظر فيه"( ).
وأخرج عن سفيان بن حسين، قال: كان الحسن يقرؤها "صاد والقرآن"، يقول: عارض القرآن. قيل: ص اسم تجر عليه عرش الرحمن، وقيل: اسم بحر يحي به الموتى. وقيل : معناه صاد محمد قلوب العباد، حكاها الكراماني كلها.
وحكى في قوله: المص~ أي معناه أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وفي حم~ أنه صلى الله عليه وسلم، وقيل: معناه حم~ ما هو كائن، وفي حمعسق~ أنه جبار قاف، وقيل: ق~ جبل محيط بالأرض. أخرجه عبد الرزاق عن مجاهد.
وقيل: أقسم بقوة قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل هي الكاف من قوله: قُضِيَ الأَمْرُ دلت على بقية الكلمة. وقيل: معناها قف يا محمد على أداء الرسالة، والعمل بما أمرت، حكاهما الكرماني.
وقيل: ن~ هو الحوت. أخرج الطبراني عن ابن عباس، مرفوعاً: أول ما خلق الله القلم والحوت. قال: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: كل شيء كائن إلى يوم القيامة، ثم قرأ: ن وَالْقَلَمِ، فالنون الحوت، والقاف القلم، وقيل: هو اللوح المحفوظ، أخرجه ابن جرير من مرسل ابن قرة مرفوعاً.
وقيل: هو الدواة، أخرجه عن الحسن وقتادة.
وقيل: هو المداد، حكاه ابن قرصة في غريبة.
وقيل: هو القلم، حكاه الكرماني عن الجاحظ.
وخاض في معناها آخرون، فأخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله: الم قال: أنا الله أعلم، وفي قوله: المـص~، قال: أنا الله أفصل، وفي قوله: الر~: أنا الله أرى.
وأخرج من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: الم~ وحـم~و ن~ قال: اسم مُقَطَّع.
وأخرج من طريق عكرمة، عن ابن عباس، قال الر~ وحم~ ون~ حروف الرحمن مفرقة.
وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي، قال الر~ من الرحمن.
وأخرج عنه أيضاً قال: المـص~ الألف من الله، والميم من الرحمن، والصاد من الصمد.
وأخرج أيضاً عن الضحاك في قوله: المص~ قال: أنا الله الصادق،
وقيل المص~ معناه المصور،
وقيل: المر~ معناه أنا الله أعلم وأرفع، حكاهما الكراماني في غرائبه.
وأخرج الحاكم وغيره من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس في كهيعص~، قال: الكاف من الكريم، والهاء من هاد، والياء من حكمي، والعين من عليم، والصاد من صادق.
وأخرج الحاكم أيضاً من وجه آخر عن سعيد بن عباس في قوله: كهيعص~، قال: كافِ هاد أمين عزيز صادق.
وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق السدى، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: كهيعص~، قال: هو هجاء مقطع: الكاف من الملك، وهاء من الله، والياء والعين من العزيز، والصادر من المصور.
وأخرج عن محمد بن كعب مثله إلا أنه قال: والصاد من الصمد.
وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس في قوله: كهيعص~ قال: كبير، هادٍ، أمين، عزيز، صادق.
وأخرج ابن مردوية من طريق الكلبيّ، عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله كهيعص~، قال: الكاف الكافي، والهاء الهادي، والعين العالم، والصاد الصادق.
وأخرج من طريق يوسف بن عطية قال: سئل الكلبي عن كهيعص~، فحدث عن أبي صالح، عن أم هاني، عن رسول الله صلىالله عليه وسلم قال: "كاف، هاد، أمين ، عالم صادق".
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله كهيعص~ قال: يقولك أنا الكبير، الهادي، علي، أمين، صادق.
وأخرج عن محمد بن كعب في قوله: طسم~، قال: الطاء من ذي الطول، والسين من القدوس، والميم من الرحمن.
وأخرج عن سعيد بن جبير، في قوله: حـم~، قال: حاء اشتقت من الرحمن، وميم اشتقت من الحريم.
وأخرج عن محمد بن كعب في قوله حمعسق~ قال: الحاء والميم من الرحمن، والعين من العليم، والسين من القدوس، والقاف من القاهر.
واخرج عن مجاهد، قال: فواتح السور كلها هجاء مقطع.
وأخرج عن سالم بن عبد الله، قال: الم~ وحم~ ون~ ونحوها اسم الله مقطعه.
وأخرج عن السدي، قال فواتح السور أسماء من أسماء الرب جل جلاله فرقت في القرآن.
وحكى الكراماني في قوله: ق~ إنه حرف من اسمه، قادر وقاهر.
وحكى غيره في قوله: ن~ إنه مفتاح اسمه تعالى: نور وناصر.
وهذه الأقوال كلها راجعة إلى قول واحد، وهو إنها حروف مقطعة، كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسمائه تعالى، والاكتفاء ببعض الكلمة معهود في العرب
وهذا القول اختاره الزجاج، وقال: العرب تنطق بالحرف الواحد تدل عليه به على الكلمة التي هو منها. وقيل إنها الاسم الأعظم؛ إلا أنا لا نعرف تأليفه منها. كذا ... ابن عطية.
وأخرج ابن جرير بسند صحيح عن ابن مسعود، قال: هو اسم الله الأعظم.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدى أنه بلغه عن ابن عباس قال: الم~. اسم من أسماء الله الأعظم.
وأخرج ابن جرير وغيره من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: الم~ ، و طسم~، وص~ وأشباهها قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله، وهذا يصلح أن يكون قولاً ثالثاً، أي أنها بُرمتها أسماء لله ويصلح أن يكون من القول الأول ومن الثاني. وعلى الأول مشى ابن عطية غيره. ويؤيده ما أخرجه ابن ماجة في تفسيره من طريق نافع بن أبي نعيم القارئ، عن فاطمة بنت عليّ بن أبي طالب أنها سمعت عليّ بن أبي طالب يقول: يا كهيعص~ اغفر لي، وما أخرجه ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله: أينبغي لأحد أن يتسمى بـ يس~؟ فقال: ما أراه ينبغي، لقول الله يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ، يقول: هنا أسمى تسميت به.
وقيل هي أسماء للقرآن كالفرقان والذكر، أخرجه عبد الرزاق عن قتادة، وأخرجه ابن أبي حاتم بلفظ "كل هجاء في القرآن فهو اسم من أسماء القرآن".
وقيل: هي أسماء للسور، نقله الماوردي وغيره عن زيد بن أسلم، ونسبه صاحب الكشاف إلى الأكثر.
وقيل: هي فواتح للسور كما يقولون في أول القصائد "بل" و"لا بل".
أخرج ابن جريرر، من طريق الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: الم~ وحم~ والمص~ وص~، ونحوها فواتح افتتح الله بها القرآن.
وأخرج أبو الشيخ، من طريق ابن جريج، قال: قال مجاهد. الم~ و المر~ فواتح افتتح الله بها القرآن.
قلت: ألم يكن يقول هي أسماء! قال: لا.
وقيل هذا حساب: "أبي جاد" لتدلّ على مدّة هذه الأمة.
وأخرج ابن غسحاق، عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رياب، قال: مرّ أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتلو فاتحة سورة البقرة الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ، فأتى أخاه حَي ابن أخطب في رجال من اليهود، فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل عليه الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ قال: أنت سمعته؟ قال: نعم فمشى حين في أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ألم تذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ فقال: بلى، فقالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي ما مدة ملكه، وما أجل أمته غيرك؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون؛ فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخل في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة! ثم قال: يا محمد، هل مع هذا غيره؟ قال: نعم المص~ قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون؛ والميم أربعون، والصاد ستون، فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة، هل مع هذا غيره؟ قال: نعم المر~، قال: هذه أثقل وأطول؛ الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، هذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. هل مع هذا غيره؟ قال: نعم المر~، قال: هذه أثقل وأطول، هذه إحدى وسبعون ومائتان، ثم قال: لقد لبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً ! ثم قال: قوموا عنه ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه: ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد؛ إحدى وسبعون، وإحدى ثلاثون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع سنين. فقالوا: لقد تشابه علينا أمره؛ فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ( )، أخرجه ابن جرير من هذا الطريق وابن المنذر، ومن وجه آخر عن ابن جرير معضلاً.
وأخرج ابن جرير وأبن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله الم~ قال: هذه الأحرف الثلاثة من الأحرف التسعة والعشرين، دارت بها الألسن، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه تعالى، وليس منها حرف إلا وهو من آلائه وبلائه ، وليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم، فالألف مفتاح اسمه الله،واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد، فالألف آلاء الله واللام لطف الله، والميم مجد الله، فالألف سنة واللام ثلاثون، والميم أربعون قال الخويي، وقد استخرج بعض الأئمة من قوله تعالى: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ أن البيت المقدس تفتحه المسلمون في سنة ثلاثة وثمانين وخمسمائة؛ ووقع كما قاله.
وقال السهيلي: لعل عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر للإشارة إلى مدة بقاء هذه الأمة.
قال ابن حَجَر: وهذا باطل لا يعتمد عليه، فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه الزجر عن عدّ "أبي جاد"، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر؛ وليس ذلك ببعيد، فإنه لا أصل له في الشريعة، وقد قال القاضي أبو بكر العربي في فوائد رحلته: ومن الباطل علم الحروف المقطعة في أوائل السور.
وقد تحصل لي فيها عشرون قولاً وأزيد، ولا أعرف أحداً يحكم عليها بعلم ، ولا يصل منها إلى فهم.
والذي أقوله: إنه لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولاً متداولاً بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، بل تلى عليهم حم~ فصّلت وص~ وغيرهما، فلم ينكروا ذلك، بل صرحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة مع تشوفهم إلى عثرة وغيرها وحرصهم على زلة، فدل على أنه كان أمراً معروفاً بينهم، لا إنكار فيه. انتهى.
وقيل: هي تنبيهات كما في النداء عدّة ابن عطية مغايراً للقول بأنها فوانح، والظاهر أنه بمعناه.
قال أبو عبيدة: الم~ افتتاح كلام. وقال الخويي، القول بأنها تنبيهات جيد، لأن القرآن كلام عزيز وفوائده عزيزة، فينبغي أن يرد على سمع متنبه، فكان من الجائز أن يكون الله قد علم في بعض الأوقات كون النبي صلى الله عليه وسلم في عالم البشر مشغولاً، فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله: الم~ و الر~ وحم~، ليسمع النبي صوت جبريل فيقبل عليه، ويصغى إليه. قال: وإنما لم تستعمل الكلمات المشهورة في التنبيه كألوأما، لأنها من الألفاظ التي يتعارف الناس في كلامهم، والقرآن كلام لا يشبه الكلام، فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد، لتكون أبلغ في قرع سمعه. انتهى.
وقيل: إن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه، فأنزل الله هذا النظم البديع ليعجبوا منه، ويكون تعجبهم منه سبباً لاستماعهم، واستماعهم له سبباً لاستماع ما بعده، فترق القلوب، وتلين الأفئدة. وعد هذا جماعة قولاً مستقلاً، والظاهر خلافه، وإنما يصلح هذا مناسبة لبعض الأقوال، لا قولاً في معناه، إذ ليس فيه بيان معنى.
وقيل: إن هذه الحروف ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من الحروف التي هي: أ،ب،ت،ث .. فجاء بعضها مقطعاً، وجاء تمامها مؤلفاً، ليدل القوم الذين نزل القرآن بلغتهم أنه بالحروف التي يعرفونها، فيكون ذلك تعريفاً لهم، ودلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله، بعد أن علموا أنه منزل بالحروف التي يعرفونها، ويبنون كلامهم منها.
وقيل: المقصود بها الإعلام بالحروف التي يتركب منها الكلام، فذكر منها أربعة عشر حرفاً، وهي نصف جميع الحروف، وذكر من كل جنس نصفه.
فيمن حروف الحلق: الحاء، والعين والهاء. ومن التي فوقها القاف، والكاف.
ومن الحرفين الشفهيين الميم. ومن المهموسة السين ، والحاء والكاف والصاد والهاء.
ومن الشديدة الهمزة والطاء والقاف والكاف. ومن المطبقة الطاء والصاد. ومن المجهورة الهمزة والميم واللام والعين والراء والطاء والقاف والياء والنون. ومن المنفتحه الهمزة والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون، ومن المستعلية: القاف والصاد والطاء. ومن المنخفضة الهمزة واللام والميم والراء والكاف والهاء والياء والعين والسين والحاء والنون. ومن القلقلة القاف والطاء.
ثم إنه تعالى ذكر حروفاً مفردة وحرفين حرفين وثلاثة ثلاثة وأربعة وخمسة؛ لان تراكيب الكلام على هذا النمط ولا زيادة على الخمسة.
وقيل: هي أمارة جعلها الله لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد كتاباً في أول سور منه حروف مقطعه.
هذا ما وقفت عليه من الأقوال في اوائل السور من حيث الجملة، وفي بعضها أقوال آخر؛ فقيل: إن طه ويس بمعنى يا رجل، أو يا محمد أو يا إنسان، وقد تقدم في المعرب.
وقيل: هما اسمان من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم. قال الكرماني في غرائبه: ويقويه في يس قراءة "يسنَ" بفتح النون، وقوله: "آل ياسين" وقيل: طه ى طأ الأرض أو اطمئن، فيكون فعل أمر والهاء مفعول، أو للسكت أو مبدلة من الهمزة.
أخرج ابن أبي حاتم؛ من طريق سعيد بن جُبير، عن ابن عباس في قوله: طه~ هو كقولك: أفعل. وقيل: طه أي يا بر؛ لأن الطاء بتسعة، والهاء بخمسة، فذلك أربعة عشر إشارة إلى البدر، لأنه يتم فيها. ذكره الكرماني في غرائبه.
وقيل في قوله: يس~ أي يا سيد المرسلين، وفي قوله: ص~. معناه صدق الله وقيل: أقسم بالصمد الصانع الصادق؛ وقيل: معناه صاد يا محمد عملك بالقرآن، أي عارضه به، فهو أمرُ من المصاداة.
"اخرج عن الحسين، قال: صاد حادث القرآن، يعني انظر فيه"( ).
وأخرج عن سفيان بن حسين، قال: كان الحسن يقرؤها "صاد والقرآن"، يقول: عارض القرآن. قيل: ص اسم تجر عليه عرش الرحمن، وقيل: اسم بحر يحي به الموتى. وقيل : معناه صاد محمد قلوب العباد، حكاها الكراماني كلها.
وحكى في قوله: المص~ أي معناه أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وفي حم~ أنه صلى الله عليه وسلم، وقيل: معناه حم~ ما هو كائن، وفي حمعسق~ أنه جبار قاف، وقيل: ق~ جبل محيط بالأرض. أخرجه عبد الرزاق عن مجاهد.
وقيل: أقسم بقوة قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل هي الكاف من قوله: قُضِيَ الأَمْرُ دلت على بقية الكلمة. وقيل: معناها قف يا محمد على أداء الرسالة، والعمل بما أمرت، حكاهما الكرماني.
وقيل: ن~ هو الحوت. أخرج الطبراني عن ابن عباس، مرفوعاً: أول ما خلق الله القلم والحوت. قال: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: كل شيء كائن إلى يوم القيامة، ثم قرأ: ن وَالْقَلَمِ، فالنون الحوت، والقاف القلم، وقيل: هو اللوح المحفوظ، أخرجه ابن جرير من مرسل ابن قرة مرفوعاً.
وقيل: هو الدواة، أخرجه عن الحسن وقتادة.
وقيل: هو المداد، حكاه ابن قرصة في غريبة.
وقيل: هو القلم، حكاه الكرماني عن الجاحظ.
...............................................................................
بعض الحكم من الآيات المشتبهات
أفرده بالتصنيف خلق: أولهم فيما أحسب الكسائي ونظمه السخاوي، وألف في توجيهه الكرماني كتابه البرهان في متشابه القرآن، وأحسن منه درة التنزيل وغرة التأويل لأبي عبد الله الرازي، وأحسن من هذا ملاك التأويل لأبي جعفر بن الزبير ولم أقف عليه.
وللقاضي بدر الدين بن جماعة في ذلك كتاب لطيف سماه كشف المعاني عن متشابه المثاني وفي كتاب أسرار التنزيل المسمى قطف الأزهار في كشف الأسرار من ذلك الجم الغفير والقصد به إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة بل تأتي في موضع واحد مقدمًا وفي آخر مؤخرًا؛ كقوله في البقرة: (وادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة) وفي الأعراف: (وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدًا) وفي البقرة: (وما أهل به لغير الله) وسائر القرآن (وما أهل لغير الله به)
أوفي موضع بزيادة وفي آخر بدونها نحو: (سواء عليهم أأنذرتهم) في يس وفي البقرة: (ويكون الدين لله) وفي الأنفال: (كله لله) أوفي موضع معرفًا، وفي آخر منكرًا، أومفردًا، وفي آخر جمعًا، أوبحرف، وفي آخر بحرف آخر أومدغمًا وفي آخر مفكوكًا وهذا النوع يتداخل مع نوع المناسبات وهذه أمثلة منه بتوجيهها قوله تعالى في البقرة: (هدى للمتقين) وفي لقمان: (هدى ورحمة للمحسنين) لأنه لما ذكر هنا مجموع الإيمان ناسب المتقين ولما ذكر ثم الرحمة ناسب المحسنين.
قوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا) وفي الأعراف فكلا بالفاء قيل لأن السكنى في البقرة الإقامة وفي الأعراف إتخاذ المسكن فلما نسب القول إليه تعالى (وقلنا يا آدم) ناسب زيادة الإكرام بالواو والدالة على الجمع بين السكنى والأكل ولذا قال فيه رغدًا وقال حيث شئتما لأنه أعم.
وفي الأعراف ويا آدم فأتى بالفاء الدالة على ترتيب الأكل على السكنى المأمور باتخاذها لأن الأكل بعد الاتخاذ ومن حيث لا تعطى عموم معنى شئتما قوله تعالى: (واتقوا يومًا لا تجزي نفس عن نفس شيئًا...) الآية.
وقال بعد ذلك: (ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة) ففيه تقديم العدل وتأخيره والتعبير بقبول الشفاعة تارة وبالنفع أخرى، وذكر في حكمته أن الضمير في منها راجع في الأولى إلى النفس الأولى وفي الثانية إلى النفس الثانية، فبين في الأولى أن النفس الشافعة الجازية عن غيرها لا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل وقدمت الشفاعة لأن الشافع يقدم الشفاعة على بدل العدل عنها.
وبين الثانية أن النفس المطلوبة بجرمها لا يقبل منها عدل عن نفسها ولا تنفعها شفاعة شافع منها وقدم العدل لأن الحاجة إلى الشفاعة إنما تكون عند رده ولذلك قال في الأولى: (لا تقبل منها شفاعة) وفي الثانية: (ولا تنفعها شفاعة) لأن الشفاعة إنما تقبل من الشافع وإنما تشفع المشفوع له.
قوله تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون) وفي إبراهيم: (ويذبحون) بالواو ولأن الأولى من كلامه تعالى لهم يعدد عليهم المحن تكرمًا في الخطاب، والثانية من كلام موسى فعددها، وفي الأعراف: (يقتلون) وهو من تنويع الألفاظ المسمى بالتفنن.
قوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية...) الآية وفي آية الأعراف اختلاف ألفاظ ونكتته أن آية البقرة في معرض ذكر المنعم عليهم حيث قال: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي..) الخ فناسب نسبة القول إليه تعالى وناسب قوله: (رغدًا) لأن المنعم به أتم وناسب تقديم (وادخلوا الباب سجدًا) وناسب خطاياكم لأنه جمع كثرة وناسب الواو في (وسنزيد) لدلالتها على الجمع بينهما وناسب الفاء في (فكلوا) لأن الأكل مترتب على الدخول.
وآية الأعراف افتتحت بما فيه توبيخهم وهوقولهم: (اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة) ثم اتخاذهم العجل فناسب ذلك (وإذ قيل لهم) وناسب ربك (رغدًا) والسكنى تجامع الأكل فقال: (وكلوا) وناسب تقديم ذكر مغفرة الخطايا وترك الواو في (سنزيد) ولما كان في الأعراف تبعيض الهادين بقوله (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق) ناسب تبعيض الظالمين بقوله: (الذين ظلموا منهم) ولم يتقدم في البقرة مثله فترك.
وفي البقرة إشارة إلى سلامة غير الذين ظلموا لتصريحه بالإنزال على المتصفين بالظلم والإرسال أشد وقعًا من الإنزال فناسب سياق ذكر النعمة في البقرة ذلك وختم آية البقرة: (بيفسقون) ولا يلزم منه الظلم والظلم يلزم منه الفسق فناسب كل لفظة منها سياقه.
وكذا في البقرة (فانفجرت) وفي الأعراف انبجست لأن الانفجار أبلغ في كثرة الماء فناسب سياق ذكر النعم التعبير به.
قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة) وفي آل عمران: (معدودات) قال ابن جماعة: لأن قائلي ذلك فرقتان من اليهود.، إحداهما قالت: إنما نعذب بالنار سبعة أيام عدد أيام الدنيا، والأخرى قالت: إنما نعذب أربعين عدة أيام عبادة آبائهم العجل.
فآية البقرة تحتمل قصد الفرقة الثانية حيث عبر بجمع الكثرة، وآل عمران بالفرقة الأولى حيث أتى بجمع القلة، وقال أبوعبد الله الرازي: إنه من باب التفنن.
قوله تعالى: (إن هدى الله هو الهدى) وفي آل عمران (إن الهدى هدى الله) لأن الهدى في البقرة المراد به تحويل القبلة وفي آل عمران المراد به الدين لتقدم قوله: (لمن تبع دينكم) ومعناه: أي دين الله الإسلام.
(رب اجعل هذا بلدًا آمنًا) وفي إبراهيم (هذا البلد آمنًا) لأن الأول دعا قبل مصيره بلدًا عند ترك هاجر وإسماعيل به وهو فدعا بأن تصيره بلدًا والثاني دعا به بعد عوده وسكنى جرهم به ومصيره بلدًا فدعا بأمنه.
قوله تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) وفي آل عمران: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا) لأن الأولى خطاب للمسلمين، والثانية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم و(إلى) ينتهي بها من كل جهة و(على) لا ينتهي بها إلا من جهة واحدة وهي العلو والقرآن يأتي المسلمين من كل جهة يأتي مبلغه إياهم منها وإنما أتى النبي صلى الله عليه وسلم من جهة العلو خاصة فناسب قوله علينا ولهذا أكثر ما جاء في جهة النبي صلى الله عليه وسلم بعلى وأكثر ما جاء في جهة الأمة بإلى قوله تعالى: (تلك حدود الله فلا تقربوها) وقال بعد ذلك فلا تعتدوها لأن الأولى وردت بعد نواه فناسب النهي عن قربانها والثانية بعد أوامر فناسب النهي عن تعديها وتجاوزها بأن يوقف عندها.
قوله تعالى: (نزل عليك الكتاب) وقال: (وأنزل التوراة والإنجيل) لأن الكتاب أنزل منجمًا فناسب الإتيان بنزول الدال على التكرير بخلافهما فإنهما أنزلا دفعة.
قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) وفي الإسراء: (خشية إملاق) لأن الأولى خطاب للفقراء المقلين: (أي لا تقتلوهم من فقر بكم) فحسن (نحن نرزقكم) ما يزول به إملاقكم، ثم قال: (وإياهم أي نرزقكم جميعًا) والثانية خطاب للأغنياء أي: خشية فقر يحصل لكم بسببهم ولذا حسن: (نحن نرزقهم وإياكم).
قوله تعالى: (فاستعذ بالله إنه سميع عليم) وفي فصلت: (إنه هو السميع العليم) قال ابن جماعة: لأن آية الأعراف نزلت أولًا وآية فصلت نزلت ثانيًا فحسن التعريف: أي هو السميع العليم الذي تقدم ذكره أولًا عند نزوع الشيطان.
قوله تعالى: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) وقال في المؤمنين: (بعضهم أولياء بعض) وفي الكفار: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) لأن المنافقين ليسوا متناصرين على دين معين وشريعة ظاهرة، فكان بعضهم يهودًا، وبعضهم مشركين، فقال: (من بعض) أي: في الشك والنفاق، والمؤمنون متناصرون على دين الإسلام، وكذلك الكفار المعلنون بالكفر كلهم أعوان بعضهم ومجتمعون على التناصر بخلاف المنافقين، كما قال تعالى: (تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتا) فهذه أمثلة يستضاء بها وقد تقدم منها كثير في نوع التقديم والتأخير وفي نوع الفواصل وفي أنواع أخر.
وللقاضي بدر الدين بن جماعة في ذلك كتاب لطيف سماه كشف المعاني عن متشابه المثاني وفي كتاب أسرار التنزيل المسمى قطف الأزهار في كشف الأسرار من ذلك الجم الغفير والقصد به إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة بل تأتي في موضع واحد مقدمًا وفي آخر مؤخرًا؛ كقوله في البقرة: (وادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة) وفي الأعراف: (وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدًا) وفي البقرة: (وما أهل به لغير الله) وسائر القرآن (وما أهل لغير الله به)
أوفي موضع بزيادة وفي آخر بدونها نحو: (سواء عليهم أأنذرتهم) في يس وفي البقرة: (ويكون الدين لله) وفي الأنفال: (كله لله) أوفي موضع معرفًا، وفي آخر منكرًا، أومفردًا، وفي آخر جمعًا، أوبحرف، وفي آخر بحرف آخر أومدغمًا وفي آخر مفكوكًا وهذا النوع يتداخل مع نوع المناسبات وهذه أمثلة منه بتوجيهها قوله تعالى في البقرة: (هدى للمتقين) وفي لقمان: (هدى ورحمة للمحسنين) لأنه لما ذكر هنا مجموع الإيمان ناسب المتقين ولما ذكر ثم الرحمة ناسب المحسنين.
قوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا) وفي الأعراف فكلا بالفاء قيل لأن السكنى في البقرة الإقامة وفي الأعراف إتخاذ المسكن فلما نسب القول إليه تعالى (وقلنا يا آدم) ناسب زيادة الإكرام بالواو والدالة على الجمع بين السكنى والأكل ولذا قال فيه رغدًا وقال حيث شئتما لأنه أعم.
وفي الأعراف ويا آدم فأتى بالفاء الدالة على ترتيب الأكل على السكنى المأمور باتخاذها لأن الأكل بعد الاتخاذ ومن حيث لا تعطى عموم معنى شئتما قوله تعالى: (واتقوا يومًا لا تجزي نفس عن نفس شيئًا...) الآية.
وقال بعد ذلك: (ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة) ففيه تقديم العدل وتأخيره والتعبير بقبول الشفاعة تارة وبالنفع أخرى، وذكر في حكمته أن الضمير في منها راجع في الأولى إلى النفس الأولى وفي الثانية إلى النفس الثانية، فبين في الأولى أن النفس الشافعة الجازية عن غيرها لا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل وقدمت الشفاعة لأن الشافع يقدم الشفاعة على بدل العدل عنها.
وبين الثانية أن النفس المطلوبة بجرمها لا يقبل منها عدل عن نفسها ولا تنفعها شفاعة شافع منها وقدم العدل لأن الحاجة إلى الشفاعة إنما تكون عند رده ولذلك قال في الأولى: (لا تقبل منها شفاعة) وفي الثانية: (ولا تنفعها شفاعة) لأن الشفاعة إنما تقبل من الشافع وإنما تشفع المشفوع له.
قوله تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون) وفي إبراهيم: (ويذبحون) بالواو ولأن الأولى من كلامه تعالى لهم يعدد عليهم المحن تكرمًا في الخطاب، والثانية من كلام موسى فعددها، وفي الأعراف: (يقتلون) وهو من تنويع الألفاظ المسمى بالتفنن.
قوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية...) الآية وفي آية الأعراف اختلاف ألفاظ ونكتته أن آية البقرة في معرض ذكر المنعم عليهم حيث قال: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي..) الخ فناسب نسبة القول إليه تعالى وناسب قوله: (رغدًا) لأن المنعم به أتم وناسب تقديم (وادخلوا الباب سجدًا) وناسب خطاياكم لأنه جمع كثرة وناسب الواو في (وسنزيد) لدلالتها على الجمع بينهما وناسب الفاء في (فكلوا) لأن الأكل مترتب على الدخول.
وآية الأعراف افتتحت بما فيه توبيخهم وهوقولهم: (اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة) ثم اتخاذهم العجل فناسب ذلك (وإذ قيل لهم) وناسب ربك (رغدًا) والسكنى تجامع الأكل فقال: (وكلوا) وناسب تقديم ذكر مغفرة الخطايا وترك الواو في (سنزيد) ولما كان في الأعراف تبعيض الهادين بقوله (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق) ناسب تبعيض الظالمين بقوله: (الذين ظلموا منهم) ولم يتقدم في البقرة مثله فترك.
وفي البقرة إشارة إلى سلامة غير الذين ظلموا لتصريحه بالإنزال على المتصفين بالظلم والإرسال أشد وقعًا من الإنزال فناسب سياق ذكر النعمة في البقرة ذلك وختم آية البقرة: (بيفسقون) ولا يلزم منه الظلم والظلم يلزم منه الفسق فناسب كل لفظة منها سياقه.
وكذا في البقرة (فانفجرت) وفي الأعراف انبجست لأن الانفجار أبلغ في كثرة الماء فناسب سياق ذكر النعم التعبير به.
قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة) وفي آل عمران: (معدودات) قال ابن جماعة: لأن قائلي ذلك فرقتان من اليهود.، إحداهما قالت: إنما نعذب بالنار سبعة أيام عدد أيام الدنيا، والأخرى قالت: إنما نعذب أربعين عدة أيام عبادة آبائهم العجل.
فآية البقرة تحتمل قصد الفرقة الثانية حيث عبر بجمع الكثرة، وآل عمران بالفرقة الأولى حيث أتى بجمع القلة، وقال أبوعبد الله الرازي: إنه من باب التفنن.
قوله تعالى: (إن هدى الله هو الهدى) وفي آل عمران (إن الهدى هدى الله) لأن الهدى في البقرة المراد به تحويل القبلة وفي آل عمران المراد به الدين لتقدم قوله: (لمن تبع دينكم) ومعناه: أي دين الله الإسلام.
(رب اجعل هذا بلدًا آمنًا) وفي إبراهيم (هذا البلد آمنًا) لأن الأول دعا قبل مصيره بلدًا عند ترك هاجر وإسماعيل به وهو فدعا بأن تصيره بلدًا والثاني دعا به بعد عوده وسكنى جرهم به ومصيره بلدًا فدعا بأمنه.
قوله تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) وفي آل عمران: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا) لأن الأولى خطاب للمسلمين، والثانية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم و(إلى) ينتهي بها من كل جهة و(على) لا ينتهي بها إلا من جهة واحدة وهي العلو والقرآن يأتي المسلمين من كل جهة يأتي مبلغه إياهم منها وإنما أتى النبي صلى الله عليه وسلم من جهة العلو خاصة فناسب قوله علينا ولهذا أكثر ما جاء في جهة النبي صلى الله عليه وسلم بعلى وأكثر ما جاء في جهة الأمة بإلى قوله تعالى: (تلك حدود الله فلا تقربوها) وقال بعد ذلك فلا تعتدوها لأن الأولى وردت بعد نواه فناسب النهي عن قربانها والثانية بعد أوامر فناسب النهي عن تعديها وتجاوزها بأن يوقف عندها.
قوله تعالى: (نزل عليك الكتاب) وقال: (وأنزل التوراة والإنجيل) لأن الكتاب أنزل منجمًا فناسب الإتيان بنزول الدال على التكرير بخلافهما فإنهما أنزلا دفعة.
قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) وفي الإسراء: (خشية إملاق) لأن الأولى خطاب للفقراء المقلين: (أي لا تقتلوهم من فقر بكم) فحسن (نحن نرزقكم) ما يزول به إملاقكم، ثم قال: (وإياهم أي نرزقكم جميعًا) والثانية خطاب للأغنياء أي: خشية فقر يحصل لكم بسببهم ولذا حسن: (نحن نرزقهم وإياكم).
قوله تعالى: (فاستعذ بالله إنه سميع عليم) وفي فصلت: (إنه هو السميع العليم) قال ابن جماعة: لأن آية الأعراف نزلت أولًا وآية فصلت نزلت ثانيًا فحسن التعريف: أي هو السميع العليم الذي تقدم ذكره أولًا عند نزوع الشيطان.
قوله تعالى: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) وقال في المؤمنين: (بعضهم أولياء بعض) وفي الكفار: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) لأن المنافقين ليسوا متناصرين على دين معين وشريعة ظاهرة، فكان بعضهم يهودًا، وبعضهم مشركين، فقال: (من بعض) أي: في الشك والنفاق، والمؤمنون متناصرون على دين الإسلام، وكذلك الكفار المعلنون بالكفر كلهم أعوان بعضهم ومجتمعون على التناصر بخلاف المنافقين، كما قال تعالى: (تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتا) فهذه أمثلة يستضاء بها وقد تقدم منها كثير في نوع التقديم والتأخير وفي نوع الفواصل وفي أنواع أخر.
...................................................................................
الحكمة من المتشابه في القرآن
قال بعض العلماء الحكمة من إنزال المتشابه تتجلى في أمور:
الأول: أن الله أنزله مختبراً به عباده، فأما المؤمن فلا يداخله فيه شك ولا يعتريه ريب، وهو بين أمرين، إما قادر على رده إلى المحكم، وإما قائل: (آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) إن لم يتبين له معناه، فأمره كله خير، وتعظم بذلك مثوبته، وتزيد عند الله درجته.
وأما المنافق فيرتاب ولا يزيده القرآن إلاّ خسارا، وأما من كان في قلبه زيغ - كأهل البدع - فيتبعون المتشابه؛ ليفتنوا الناس عن القرآن وصحيح السنة وينزلوه على مقتضى بدعتهم.
وسياق الآية وما بعدها دال على أن هذا من حكمة إنزال المتشابه؛ إذ قال تعالى:
(وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 7، 8].
فالمؤمنون رغبوا إلى ربهم أن لا يزيغ قلوبهم كما زاغت قلوب أهل الزيغ، إذ هو - أي المتشابه - فتنة للعقول والقلوب، وسألوا أن ينزل عليهم رحمة يربط بها على قلوبهم وعقولهم فلا تزيغ، وفي هذا الإشارة إلى أن أهل الزيغ والبدعة محرومون من بركة هذا الدعاء، كل بحسب بدعته، وبعده عن السنة.
وقد ذكر الله في القرآن أنه ينزل ما يمتحن به عباده؛ ليزداد الذين آمنوا إيمانًا؛ ويضل غيرهم من أهل الضلال، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) [البقرة : 26] .
قال الإمام عبد الرحمن السعدي في تفسيره يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا) أي: مَثَلٍ كان (بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) لاشتمال الأمثال على الحكمة وإيضاح الحق، الله لا يستحيي من الحق: (فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) فيفهمونها ويتفكرون فيها، فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل، إزداد بذلك علمهم وإيمانهم، وإلاّ علموا أنها الحق، وما اشتملت عليه حق، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها، لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا، بل لحكمة بالغة ونعمة سابغة.
(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) فيعترضون ويتحيرون، فيزدادون كفراً إلى كفرهم، كما ازداد المؤمنون إيماناً إلى إيمانهم، ولهذا قال: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية، قال تعالى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) [ التوبة : 124 - 125 ] فلا أعظم من نزول الآيات القرآنية، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة وضلالة، وزيادة شر إلى شرهم، ولقوم منحة ورحمة وزيادة خير إلى خيرهم.
ومن هذا القبيل قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الحج 52 - 54 ].
قال ابن القيم: والمقصود أن قوله: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هي لام التعليل على بابها، وهذا الاختبار والامتحان مظهر لمختلف القلوب الثلاثة، فالقاسية والمريضة: ظهر خبؤها من الشك والكفر، والمخبتة: ظهر خبؤها من الإيمان والهدى وزيادة محبته وزيادة بغض الكفر والشرك والنفرة عنه، وهذا من أعظم حكمة هذا الإلقاء.
ومن هذا القبيل أيضاً قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا) [الاسراء : 60].
قال ابن كثير - بعدما ذكر تفسير ابن عباس أن الرؤيا هي ليلة الإسراء، والشجرة هي شجرة الزقوم -: وهكذا فسر ذلك بليلة الإسراء مجاهد وسعيد بن جبير والحسن ومسروق وإبراهيم وقتادة وعبد الرحمن بن زيد، وغير واحد، وتقدم أن ناساً رجعوا عن دينهم بعدما كانوا على الحق؛ لأنه لم تحتمل عقولهم وقلوبهم ذلك، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وجعل الله ذلك ثباتاً ويقيناً لآخرين، ولهذا قال: (إِلَّا فِتْنَةً) أي: اختبارًا وامتحاناً، وأما الشجرة الملعونة فهي شجرة الزقوم، كما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة والنار، ورأى شجرة الزقوم، فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل - لعنه الله: هاتوا تمرا وزبداً، فجعل يأكل هذا بهذا ويقول: تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا.
فهذا كله يدل على أن الله يختبر عباده بما شاء، وإنزاله المتشابه من هذا فإنه فتنة، وقد ضل به كثير ممن ضل عن الحق، كما رفع الله به أهل الإيمان بيقينهم، ورسوخهم درجات من عنده.
الثاني: إن في إنزال المتشابه إظهارا لفضل العلماء وتفاضلهم فيما بينهم، وفيه أيضاً تعريضهم لمزيد من المشقة والصعوبة في معرفة الحق منها، فيعظم أجرهم، ويرتفع عند الله شأنهم.
وأيضاً فإنه يدعوهم لتحصيل علوم كثيرة، نيط بها استنباط ما أريد بالمتشابه من الأحكام الحقة، فتتسع بذلك علومهم، وأيضاً فإنه يدرب العلماء على استنباط المعاني الدقيقة، فتقوى بذلك بصائرهم، ولو أنزل القرآن كله محكماً، لاستوى في معرفته العالم والجاهل، ولم يكن في استنباط ما فيه مشقة توجب عظيم المثوبة.
وقال الإمام فخر الدين الرازي: من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات، وقال: إنكم تقولون: إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى يوم القيامة هكذا؟
الجواب أن العلماء ذكروا لوقوع المتشابه فيه فوائد منها؛ أنه يوجب المشقة في الوصول إلى المراد، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب.
الثالث: أنه لو كان القرآن كله محكما، لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد، وكان بصريحه مبطلا لكل ما سوى ذلك المذهب، وذلك مما ينفر أرباب سائر المذاهب عن قبوله، وعن النظر فيه والانتفاع به، فإذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه، طمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يؤيد مذهبه، وينصر مقالته، فينظر فيه جميع أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه صاحب كل مذهب، وإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، وبهذه الطرق يتخلص المبطل من باطله ويتوصل إلى الحق.
الرابع: أن القرآن إذا كان مشتملا على المتشابه، افتقر إلى العلم بطريق التأويلات، وترجيح بعضها على بعض، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو والمعاني والبيان وأصول الفقه، ولو لم يكن الأمر كذلك لم يحتج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة، فكان في إيراد المتشابه هذه الفوائد الكثيرة.
الخامس: أن المشتبهات ليست في الأمور المطلوبة من المكلف العمل بها، وإنما هي في بعض الأمور العقدية التي يطالب فيها المكلف بالتفويض والتسليم لله تعالى فيها ويقول: (آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا).
ومما قيل - وهو ضعيف - ما نقله السيوطي - رحمه الله - عن بعضهم قال: وإن كان مما لا يمكن علمه، ففيه فوائد منها؛ ابتلاء العباد بالوقوف عنده، والتوقف فيه، والتسليم والتعبد بالاشتغال به من جهة التلاوة كالمنسوخ، وإن لم يجز العمل بما فيه وإقامة الحجة عليهم؛ لأنه منزل بلسانهم ولغتهم، وعجزوا عن الوقوف على معناه مع بلاغتهم وأفهامهم، فدل على أنه منزل من عند الله، وأنه الذي أعجزهم عن الوقوف، وهو ضعيف؛ لأنه قد تقرر تضعيف القول باشتمال القرآن على ما لا يمكن معرفة معناه لكن إذا قيل: إن هذا من حكمة إنزال المتشابه بالنسبة لبعض العباد، وهو البعض الذي لم يعلم معنى المتشابه، صح من هذه الجهة.
وأما قوله: إقامة الحجة عليهم . . . إلى آخر ما ذكر، فبعيد وذلك لأن ما لا يفهم له معنى، فاحتجاج المشركين به على الطعن في القرآن، أقرب من الاحتجاج به عليهم أنه معجز، ولا يخفى أنهم لو قالوا: لو أنزل هذا القرآن كله بلغتنا ولساننا، لما عجزنا عن فهم بعضه، ولجاءوا بقوي من الحجة تسوغ لهم الطعن في القرآن، فكيف يجعل عدم فهمهم لمعناه دليلاً على نزوله بلغتهم؟! ولكن بلغ من الإعجاز بحيث لا يفهمون معناه؛ فما أبعد هذا.
ومما قيل في الحكمة وهو باطل قطعاً، قولان:
الأول: وهو أبطل قول ونعني به ما ذكره الرازي وجعله الأقوى قال: أن القرآن مشتمل على دعوة الخواص، والعوام تنبو في أكثر الأمور عن إدراك الحقائق العلمية المحضة، فمن سمع من أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه، ظن أن هذا عدم محض، فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما تخيلوه وتوهموه، ويكون مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح، فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من باب المتشابهات، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو من المحكمات.
ولازم هذا القول أن الله أنزل المتشابه؛ ليضل به جمهور المؤمنين المعظمين للقرآن، باعتقاد ظاهره، ثم بعد ذلك يبين لهم أن ما أُخبرتم به أولاً كان كذبا لمصلحتكم.
القول الثاني: وهو قريب من الأول في البطلان، أو مثله، ونعني قول القاضي عبد الجبار: ومنها - أي الحِكَم - أن كون القرآن كذلك - أي محكماً ومتشابها - يصرفه أن يعول على تقليده؛ لأنه يرى أنه ليس بأن يقلد كلامه عز وجل في نفي التشبيه لقوله عز وجل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أولى من أن يقلده في خلافه لقوله عز وجل: (وَجَاءَ رَبُّكَ) فكما أن اختلاف العلماء في الديانات، وقول بعضهم في المذهب بخلاف قول صاحبه، يصرف المميز عن تقليدهم؛ لأنه ليس تقليد بعضهم بأولى من تقليد سائرهم، فكذلك انقسام القرآن إلى الوجهين اللذين ذكرناهما، يصرف من ذلك لا محالة، وما صرف عن التقليد المحرم، وبعث على النظر والاستدلال، فهو في الحكمة أولى.
وهذا الكلام غاية في البطلان؛ فإن القرآن إنما أنزل ليتبع ويقلد؛ قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنعام: 155] وقال تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأعراف: 3] وقال: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الزمر: 55] وقال: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) [يونس: 15]. وقال: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) [يونس: 109] فإلى الله المشتكى، وهو الحاكم فيمن يجعل اتباع القرآن تقليداً محرماً، إنه لعجب كيف أمكن أن يقال هذا الباطل من المنتسبين إلى علماء الملة الحنيفية، وقد عظَّم الله شأن القرآن ورفعه فوق زبر الأولين، وجعله إماماً لخير الأمم.
قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) [المائدة: 48].
وقال عز وجل: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) [الإسراء: 9] وكيف يكون القرآن حاكماً إذا كان نزوله من أجل أن يصرف الناس عن تحكيمه في عقيدتهم ؟! قال عز وجل: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [إبراهيم: 1] وقال: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النمل: 89] وقال: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) [البقرة: 213] والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
الأول: أن الله أنزله مختبراً به عباده، فأما المؤمن فلا يداخله فيه شك ولا يعتريه ريب، وهو بين أمرين، إما قادر على رده إلى المحكم، وإما قائل: (آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) إن لم يتبين له معناه، فأمره كله خير، وتعظم بذلك مثوبته، وتزيد عند الله درجته.
وأما المنافق فيرتاب ولا يزيده القرآن إلاّ خسارا، وأما من كان في قلبه زيغ - كأهل البدع - فيتبعون المتشابه؛ ليفتنوا الناس عن القرآن وصحيح السنة وينزلوه على مقتضى بدعتهم.
وسياق الآية وما بعدها دال على أن هذا من حكمة إنزال المتشابه؛ إذ قال تعالى:
(وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 7، 8].
فالمؤمنون رغبوا إلى ربهم أن لا يزيغ قلوبهم كما زاغت قلوب أهل الزيغ، إذ هو - أي المتشابه - فتنة للعقول والقلوب، وسألوا أن ينزل عليهم رحمة يربط بها على قلوبهم وعقولهم فلا تزيغ، وفي هذا الإشارة إلى أن أهل الزيغ والبدعة محرومون من بركة هذا الدعاء، كل بحسب بدعته، وبعده عن السنة.
وقد ذكر الله في القرآن أنه ينزل ما يمتحن به عباده؛ ليزداد الذين آمنوا إيمانًا؛ ويضل غيرهم من أهل الضلال، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) [البقرة : 26] .
قال الإمام عبد الرحمن السعدي في تفسيره يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا) أي: مَثَلٍ كان (بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) لاشتمال الأمثال على الحكمة وإيضاح الحق، الله لا يستحيي من الحق: (فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) فيفهمونها ويتفكرون فيها، فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل، إزداد بذلك علمهم وإيمانهم، وإلاّ علموا أنها الحق، وما اشتملت عليه حق، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها، لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا، بل لحكمة بالغة ونعمة سابغة.
(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) فيعترضون ويتحيرون، فيزدادون كفراً إلى كفرهم، كما ازداد المؤمنون إيماناً إلى إيمانهم، ولهذا قال: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية، قال تعالى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) [ التوبة : 124 - 125 ] فلا أعظم من نزول الآيات القرآنية، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة وضلالة، وزيادة شر إلى شرهم، ولقوم منحة ورحمة وزيادة خير إلى خيرهم.
ومن هذا القبيل قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الحج 52 - 54 ].
قال ابن القيم: والمقصود أن قوله: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هي لام التعليل على بابها، وهذا الاختبار والامتحان مظهر لمختلف القلوب الثلاثة، فالقاسية والمريضة: ظهر خبؤها من الشك والكفر، والمخبتة: ظهر خبؤها من الإيمان والهدى وزيادة محبته وزيادة بغض الكفر والشرك والنفرة عنه، وهذا من أعظم حكمة هذا الإلقاء.
ومن هذا القبيل أيضاً قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا) [الاسراء : 60].
قال ابن كثير - بعدما ذكر تفسير ابن عباس أن الرؤيا هي ليلة الإسراء، والشجرة هي شجرة الزقوم -: وهكذا فسر ذلك بليلة الإسراء مجاهد وسعيد بن جبير والحسن ومسروق وإبراهيم وقتادة وعبد الرحمن بن زيد، وغير واحد، وتقدم أن ناساً رجعوا عن دينهم بعدما كانوا على الحق؛ لأنه لم تحتمل عقولهم وقلوبهم ذلك، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وجعل الله ذلك ثباتاً ويقيناً لآخرين، ولهذا قال: (إِلَّا فِتْنَةً) أي: اختبارًا وامتحاناً، وأما الشجرة الملعونة فهي شجرة الزقوم، كما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة والنار، ورأى شجرة الزقوم، فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل - لعنه الله: هاتوا تمرا وزبداً، فجعل يأكل هذا بهذا ويقول: تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا.
فهذا كله يدل على أن الله يختبر عباده بما شاء، وإنزاله المتشابه من هذا فإنه فتنة، وقد ضل به كثير ممن ضل عن الحق، كما رفع الله به أهل الإيمان بيقينهم، ورسوخهم درجات من عنده.
الثاني: إن في إنزال المتشابه إظهارا لفضل العلماء وتفاضلهم فيما بينهم، وفيه أيضاً تعريضهم لمزيد من المشقة والصعوبة في معرفة الحق منها، فيعظم أجرهم، ويرتفع عند الله شأنهم.
وأيضاً فإنه يدعوهم لتحصيل علوم كثيرة، نيط بها استنباط ما أريد بالمتشابه من الأحكام الحقة، فتتسع بذلك علومهم، وأيضاً فإنه يدرب العلماء على استنباط المعاني الدقيقة، فتقوى بذلك بصائرهم، ولو أنزل القرآن كله محكماً، لاستوى في معرفته العالم والجاهل، ولم يكن في استنباط ما فيه مشقة توجب عظيم المثوبة.
وقال الإمام فخر الدين الرازي: من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات، وقال: إنكم تقولون: إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى يوم القيامة هكذا؟
الجواب أن العلماء ذكروا لوقوع المتشابه فيه فوائد منها؛ أنه يوجب المشقة في الوصول إلى المراد، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب.
الثالث: أنه لو كان القرآن كله محكما، لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد، وكان بصريحه مبطلا لكل ما سوى ذلك المذهب، وذلك مما ينفر أرباب سائر المذاهب عن قبوله، وعن النظر فيه والانتفاع به، فإذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه، طمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يؤيد مذهبه، وينصر مقالته، فينظر فيه جميع أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه صاحب كل مذهب، وإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، وبهذه الطرق يتخلص المبطل من باطله ويتوصل إلى الحق.
الرابع: أن القرآن إذا كان مشتملا على المتشابه، افتقر إلى العلم بطريق التأويلات، وترجيح بعضها على بعض، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو والمعاني والبيان وأصول الفقه، ولو لم يكن الأمر كذلك لم يحتج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة، فكان في إيراد المتشابه هذه الفوائد الكثيرة.
الخامس: أن المشتبهات ليست في الأمور المطلوبة من المكلف العمل بها، وإنما هي في بعض الأمور العقدية التي يطالب فيها المكلف بالتفويض والتسليم لله تعالى فيها ويقول: (آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا).
ومما قيل - وهو ضعيف - ما نقله السيوطي - رحمه الله - عن بعضهم قال: وإن كان مما لا يمكن علمه، ففيه فوائد منها؛ ابتلاء العباد بالوقوف عنده، والتوقف فيه، والتسليم والتعبد بالاشتغال به من جهة التلاوة كالمنسوخ، وإن لم يجز العمل بما فيه وإقامة الحجة عليهم؛ لأنه منزل بلسانهم ولغتهم، وعجزوا عن الوقوف على معناه مع بلاغتهم وأفهامهم، فدل على أنه منزل من عند الله، وأنه الذي أعجزهم عن الوقوف، وهو ضعيف؛ لأنه قد تقرر تضعيف القول باشتمال القرآن على ما لا يمكن معرفة معناه لكن إذا قيل: إن هذا من حكمة إنزال المتشابه بالنسبة لبعض العباد، وهو البعض الذي لم يعلم معنى المتشابه، صح من هذه الجهة.
وأما قوله: إقامة الحجة عليهم . . . إلى آخر ما ذكر، فبعيد وذلك لأن ما لا يفهم له معنى، فاحتجاج المشركين به على الطعن في القرآن، أقرب من الاحتجاج به عليهم أنه معجز، ولا يخفى أنهم لو قالوا: لو أنزل هذا القرآن كله بلغتنا ولساننا، لما عجزنا عن فهم بعضه، ولجاءوا بقوي من الحجة تسوغ لهم الطعن في القرآن، فكيف يجعل عدم فهمهم لمعناه دليلاً على نزوله بلغتهم؟! ولكن بلغ من الإعجاز بحيث لا يفهمون معناه؛ فما أبعد هذا.
ومما قيل في الحكمة وهو باطل قطعاً، قولان:
الأول: وهو أبطل قول ونعني به ما ذكره الرازي وجعله الأقوى قال: أن القرآن مشتمل على دعوة الخواص، والعوام تنبو في أكثر الأمور عن إدراك الحقائق العلمية المحضة، فمن سمع من أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه، ظن أن هذا عدم محض، فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما تخيلوه وتوهموه، ويكون مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح، فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من باب المتشابهات، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو من المحكمات.
ولازم هذا القول أن الله أنزل المتشابه؛ ليضل به جمهور المؤمنين المعظمين للقرآن، باعتقاد ظاهره، ثم بعد ذلك يبين لهم أن ما أُخبرتم به أولاً كان كذبا لمصلحتكم.
القول الثاني: وهو قريب من الأول في البطلان، أو مثله، ونعني قول القاضي عبد الجبار: ومنها - أي الحِكَم - أن كون القرآن كذلك - أي محكماً ومتشابها - يصرفه أن يعول على تقليده؛ لأنه يرى أنه ليس بأن يقلد كلامه عز وجل في نفي التشبيه لقوله عز وجل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أولى من أن يقلده في خلافه لقوله عز وجل: (وَجَاءَ رَبُّكَ) فكما أن اختلاف العلماء في الديانات، وقول بعضهم في المذهب بخلاف قول صاحبه، يصرف المميز عن تقليدهم؛ لأنه ليس تقليد بعضهم بأولى من تقليد سائرهم، فكذلك انقسام القرآن إلى الوجهين اللذين ذكرناهما، يصرف من ذلك لا محالة، وما صرف عن التقليد المحرم، وبعث على النظر والاستدلال، فهو في الحكمة أولى.
وهذا الكلام غاية في البطلان؛ فإن القرآن إنما أنزل ليتبع ويقلد؛ قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنعام: 155] وقال تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأعراف: 3] وقال: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الزمر: 55] وقال: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) [يونس: 15]. وقال: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) [يونس: 109] فإلى الله المشتكى، وهو الحاكم فيمن يجعل اتباع القرآن تقليداً محرماً، إنه لعجب كيف أمكن أن يقال هذا الباطل من المنتسبين إلى علماء الملة الحنيفية، وقد عظَّم الله شأن القرآن ورفعه فوق زبر الأولين، وجعله إماماً لخير الأمم.
قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) [المائدة: 48].
وقال عز وجل: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) [الإسراء: 9] وكيف يكون القرآن حاكماً إذا كان نزوله من أجل أن يصرف الناس عن تحكيمه في عقيدتهم ؟! قال عز وجل: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [إبراهيم: 1] وقال: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النمل: 89] وقال: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) [البقرة: 213] والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
.....................................................................................
الآيات المتشابهات الواردة في الصفات
اختلف الناس في الوارد منها في الآيات والأحاديث على ثلاث فرق:
أحدها: أنه لا مدخل للتأويل فيها بل تجري على ظاهرها ولا تؤول شيئا منها وهم المشبهة.
والثاني : أن لها تأويلا ولكنا نمسك عنه مع تنزيه اعتقادنا عن الشبه والتعطيل ونقول لا يعلمه إلا الله وهو قول السلف.
والثالث: أنها مؤولة وأولوها على ما يليق به.
والأول باطل والأخيران منقولان عن الصحابة فنقل الإمساك عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها سئلت عن الاستواء فقالت: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وكذلك سئل عنه مالك فأجاب بما قالته أم سلمة إلا أنه زاد فيها: أن من عاد إلى هذا السؤال عنه أضرب عنقه، وكذلك سئل سفيان الثوري فقال: أفهم من قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ما أفهم من قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) وسئل الأوزاعي عن تفسير هذه الآية فقال: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كما قال: وإني لأراك ضالا، وسئل ابن راهويه عن الاستواء أقائم هو أم قاعد، فقال لا يمل القيام حتى يقعد ولا يمل القعود حتى يقوم وأنت إلى هذا السؤال أحوج.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وعلى هذه الطريقة مضى صدر الأمة وسادتها، وإياها اختار أئمة الفقهاء وقادتها وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها وأفصح الغزالي عنهم في غير موضع بتهجين ما سواها حتى ألجم آخرا في إلجامه كل عالم أو عامي عما عداها قال وهو كتاب إلجام العوام عن علم الكلام آخر تصانيف الغزالي مطلقا آخر تصانيفه في أصول الدين حث فيه على مذاهب السلف ومن تبعهم وممن نقل عنه التأويل علي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم وقال الغزالي في كتاب «التفرقة بين الإسلام والزندقة» : إن الإمام أحمد أول في ثلاثة مواضع، وأنكر ذلك عليه بعض المتأخرين.
قلت: وقد حكى ابن الجوزي عن القاضي أبي يعلى تأويل أحمد في قوله تعالى: (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) قال: وهل هو إلا أمره بدليل قوله: (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)!
واختار ابن برهان وغيره من الأشعرية التأويل قال: ومنشأ الخلاف بين الفريقين: أنه هل يجوز في القرآن شيء لا يعلم معناه؟ فعندهم يجوز فلهذا منعوا التأويل واعتقدوا التنزيه على ما يعلمه الله، وعندنا لا يجوز ذلك بل الراسخون يعلمونه.
قلت: وإنما حملهم على التأويل وجوب حمل الكلام على خلاف المفهوم من حقيقته لقيام الأدلة على استحالة المتشابه والجسمية في حق البارئ تعالى والخوض في مثل هذه الأمور خطره عظيم وليس بين المعقول والمنقول تغاير في الأصول بل التغاير إنما يكون في الألفاظ واستعمال المجاز لغة العرب وإنما قلنا: لا تغاير بينهما في الأصول لما علم بالدليل أن العقل لا يكذب ما ورد به الشرع إذ لا يرد الشرع بما لا يفهمه العقل إذ هو دليل الشرع وكونه حقا ولو تصور كذب العقل في شيء لتصور كذبه في صدق الشرع فمن طالت ممارسته العلوم وكثر خوضه في بحورها أمكنه التلفيق بينهما لكنه لا يخلو من أحد أمرين إما تأويل يبعد عن الأفهام أو موضع لا يتبين فيه وجه التأويل لقصور الأفهام عن إدراك الحقيقة والطمع في تلفيق كل ما يرد مستحيل المرام والمرد إلى قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ونحن نجري في هذا الباب على طريق المؤولين حاكين كلامهم.
فمن ذلك صفة الاستواء فحكى مقاتل والكلبي عن ابن عباس أن استوى بمعنى استقر وهذا إن صح يحتاج إلى تأويل فإن الاستقرار يشعر بالتجسيم وعن المعتزلة بمعنى استولى وقهر ورد بوجهين:
أحدهما: بأن الله تعالى مستول على الكونين والجنة والنار وأهلهما فأي فائدة في تخصيص العرش!
الثاني: أن الاستيلاء إنما يكون بعد قهر وغلبة والله تعالى منزه عن ذلك قاله ابن الأعرابي وقال أبو عبيد: بمعنى: صعد ورد بأنه يوجب هبوطا منه تعالى حتى يصعد وهو منفي عن الله وقيل: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) فجعل علا فعلا لا حرفا؛ حكاه الأستاذ إسماعيل الضرير في تفسيره ورد بوجهين:
أحدهما: أنه جعل الصفة فعلا ومصاحف أهل الشام والعراق والحجاز قاطعة بأن على هنا حرف ولو كان فعلا لكتبوها باللام ألف كقوله ولعلا بعضهم على بعض.
والثاني: أنه رفع العرش ولم يرفعه أحد من القراء وقيل: تم الكلام عند قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ) ثم ابتدأ بقوله: (اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) وهذا ركيك يزيل الآية عن نظمها ومرادها.
قال الأستاذ والصواب ما قاله الفراء والأشعري وجماعة من أهل المعاني إن معنى قوله: (اسْتَوَى) أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه فسماه استواء كقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) أي: قصد وعمد إلى خلق السماء فكذا هاهنا قال: وهذا القول مرضي عند العلماء ليس فيه تعطيل ولا تشبيه.
قال الأشعري: على هنا بمعنى في كما قال تعالى: (عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) ومعناه: أحدث الله في العرش فعلا سماه استواء كما فعل فعلا سماه فضلا ونعمة قال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) فسمى التحبيب والتكريه فضلا ونعمة وكذلك قوله: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) أي: فخرب الله بنيانهم وقال: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي: قصدهم وكما أن التخريب والتعذيب سماهما إتيانا فكذلك أحدث فعلا بالعرش سماه استواء قال: وهذا قول مرضي عند العلماء لسلامته من التشبيه والتعطيل، وللعرش خصوصية ليست لغيره من المخلوقات لأنه أول خلق الله وأعظم والملائكة حافون به ودرجة الوسيلة متصلة به وأنه سقف الجنة وغير ذلك.
وقوله تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) قيل: النفس هاهنا الغيث تشبيها له بالنفس لأنه مستتر كالنفس
قوله: (ويحذركم الله نفسه) أي عقوبته وقيل: يحذركم الله إياه قوله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ) اختار البيهقي معناه أنه المعبود في السماوات والأرض مثل قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ) وهذا القول هو أصح الأقوال وقال الأشعري في الموجز: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ) أي: عالم بما فيهما وقيل: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ) جملة تامة: (وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ) كلام آخر وهذا قول المجسمة واستدلت الجهمية بهذه الآية على أنه تعالى في كل مكان وظاهر ما فهموه من الآية من أسخف الأقوال.
قوله تعالى: (وجاء رب) قيل: استعارة الواو موضع الباء لمناسبة بينهما في معنى الجمع إذ الباء موضوعة للإلصاق وهو جمع والواو موضوعة للجمع والحروف ينوب بعضها عن بعض وتقول عرفا: جاء الأمير بالجيش إذا كان مجيئهم مضافا إليه بتسليطه أو بأمره ولا شك أن الملك إنما يجيء بأمره على ما قال تعالى: (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) فصار كما لو صرح به وقال: جاء الملك بأمر ربك وهو كقوله: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) أي: اذهب أنت بربك أي: بتوفيق ربك وقوته إذ معلوم أنه إنما يقاتل بذلك من حيث صرف الكلام إلى المفهوم في العرف.
قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) قال قتادة: عن شدة، وقال إبراهيم النخعي: أي عن أمر عظيم
أحدها: أنه لا مدخل للتأويل فيها بل تجري على ظاهرها ولا تؤول شيئا منها وهم المشبهة.
والثاني : أن لها تأويلا ولكنا نمسك عنه مع تنزيه اعتقادنا عن الشبه والتعطيل ونقول لا يعلمه إلا الله وهو قول السلف.
والثالث: أنها مؤولة وأولوها على ما يليق به.
والأول باطل والأخيران منقولان عن الصحابة فنقل الإمساك عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها سئلت عن الاستواء فقالت: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وكذلك سئل عنه مالك فأجاب بما قالته أم سلمة إلا أنه زاد فيها: أن من عاد إلى هذا السؤال عنه أضرب عنقه، وكذلك سئل سفيان الثوري فقال: أفهم من قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ما أفهم من قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) وسئل الأوزاعي عن تفسير هذه الآية فقال: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كما قال: وإني لأراك ضالا، وسئل ابن راهويه عن الاستواء أقائم هو أم قاعد، فقال لا يمل القيام حتى يقعد ولا يمل القعود حتى يقوم وأنت إلى هذا السؤال أحوج.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وعلى هذه الطريقة مضى صدر الأمة وسادتها، وإياها اختار أئمة الفقهاء وقادتها وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها وأفصح الغزالي عنهم في غير موضع بتهجين ما سواها حتى ألجم آخرا في إلجامه كل عالم أو عامي عما عداها قال وهو كتاب إلجام العوام عن علم الكلام آخر تصانيف الغزالي مطلقا آخر تصانيفه في أصول الدين حث فيه على مذاهب السلف ومن تبعهم وممن نقل عنه التأويل علي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم وقال الغزالي في كتاب «التفرقة بين الإسلام والزندقة» : إن الإمام أحمد أول في ثلاثة مواضع، وأنكر ذلك عليه بعض المتأخرين.
قلت: وقد حكى ابن الجوزي عن القاضي أبي يعلى تأويل أحمد في قوله تعالى: (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) قال: وهل هو إلا أمره بدليل قوله: (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)!
واختار ابن برهان وغيره من الأشعرية التأويل قال: ومنشأ الخلاف بين الفريقين: أنه هل يجوز في القرآن شيء لا يعلم معناه؟ فعندهم يجوز فلهذا منعوا التأويل واعتقدوا التنزيه على ما يعلمه الله، وعندنا لا يجوز ذلك بل الراسخون يعلمونه.
قلت: وإنما حملهم على التأويل وجوب حمل الكلام على خلاف المفهوم من حقيقته لقيام الأدلة على استحالة المتشابه والجسمية في حق البارئ تعالى والخوض في مثل هذه الأمور خطره عظيم وليس بين المعقول والمنقول تغاير في الأصول بل التغاير إنما يكون في الألفاظ واستعمال المجاز لغة العرب وإنما قلنا: لا تغاير بينهما في الأصول لما علم بالدليل أن العقل لا يكذب ما ورد به الشرع إذ لا يرد الشرع بما لا يفهمه العقل إذ هو دليل الشرع وكونه حقا ولو تصور كذب العقل في شيء لتصور كذبه في صدق الشرع فمن طالت ممارسته العلوم وكثر خوضه في بحورها أمكنه التلفيق بينهما لكنه لا يخلو من أحد أمرين إما تأويل يبعد عن الأفهام أو موضع لا يتبين فيه وجه التأويل لقصور الأفهام عن إدراك الحقيقة والطمع في تلفيق كل ما يرد مستحيل المرام والمرد إلى قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ونحن نجري في هذا الباب على طريق المؤولين حاكين كلامهم.
فمن ذلك صفة الاستواء فحكى مقاتل والكلبي عن ابن عباس أن استوى بمعنى استقر وهذا إن صح يحتاج إلى تأويل فإن الاستقرار يشعر بالتجسيم وعن المعتزلة بمعنى استولى وقهر ورد بوجهين:
أحدهما: بأن الله تعالى مستول على الكونين والجنة والنار وأهلهما فأي فائدة في تخصيص العرش!
الثاني: أن الاستيلاء إنما يكون بعد قهر وغلبة والله تعالى منزه عن ذلك قاله ابن الأعرابي وقال أبو عبيد: بمعنى: صعد ورد بأنه يوجب هبوطا منه تعالى حتى يصعد وهو منفي عن الله وقيل: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) فجعل علا فعلا لا حرفا؛ حكاه الأستاذ إسماعيل الضرير في تفسيره ورد بوجهين:
أحدهما: أنه جعل الصفة فعلا ومصاحف أهل الشام والعراق والحجاز قاطعة بأن على هنا حرف ولو كان فعلا لكتبوها باللام ألف كقوله ولعلا بعضهم على بعض.
والثاني: أنه رفع العرش ولم يرفعه أحد من القراء وقيل: تم الكلام عند قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ) ثم ابتدأ بقوله: (اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) وهذا ركيك يزيل الآية عن نظمها ومرادها.
قال الأستاذ والصواب ما قاله الفراء والأشعري وجماعة من أهل المعاني إن معنى قوله: (اسْتَوَى) أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه فسماه استواء كقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) أي: قصد وعمد إلى خلق السماء فكذا هاهنا قال: وهذا القول مرضي عند العلماء ليس فيه تعطيل ولا تشبيه.
قال الأشعري: على هنا بمعنى في كما قال تعالى: (عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) ومعناه: أحدث الله في العرش فعلا سماه استواء كما فعل فعلا سماه فضلا ونعمة قال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) فسمى التحبيب والتكريه فضلا ونعمة وكذلك قوله: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) أي: فخرب الله بنيانهم وقال: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي: قصدهم وكما أن التخريب والتعذيب سماهما إتيانا فكذلك أحدث فعلا بالعرش سماه استواء قال: وهذا قول مرضي عند العلماء لسلامته من التشبيه والتعطيل، وللعرش خصوصية ليست لغيره من المخلوقات لأنه أول خلق الله وأعظم والملائكة حافون به ودرجة الوسيلة متصلة به وأنه سقف الجنة وغير ذلك.
وقوله تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) قيل: النفس هاهنا الغيث تشبيها له بالنفس لأنه مستتر كالنفس
قوله: (ويحذركم الله نفسه) أي عقوبته وقيل: يحذركم الله إياه قوله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ) اختار البيهقي معناه أنه المعبود في السماوات والأرض مثل قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ) وهذا القول هو أصح الأقوال وقال الأشعري في الموجز: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ) أي: عالم بما فيهما وقيل: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ) جملة تامة: (وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ) كلام آخر وهذا قول المجسمة واستدلت الجهمية بهذه الآية على أنه تعالى في كل مكان وظاهر ما فهموه من الآية من أسخف الأقوال.
قوله تعالى: (وجاء رب) قيل: استعارة الواو موضع الباء لمناسبة بينهما في معنى الجمع إذ الباء موضوعة للإلصاق وهو جمع والواو موضوعة للجمع والحروف ينوب بعضها عن بعض وتقول عرفا: جاء الأمير بالجيش إذا كان مجيئهم مضافا إليه بتسليطه أو بأمره ولا شك أن الملك إنما يجيء بأمره على ما قال تعالى: (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) فصار كما لو صرح به وقال: جاء الملك بأمر ربك وهو كقوله: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) أي: اذهب أنت بربك أي: بتوفيق ربك وقوته إذ معلوم أنه إنما يقاتل بذلك من حيث صرف الكلام إلى المفهوم في العرف.
قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) قال قتادة: عن شدة، وقال إبراهيم النخعي: أي عن أمر عظيم
وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناة وجد فيه شمر عن ساقه فاستعيرت الساق في موضع الشدة قوله تعالى: (مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) قال اللغويون: معناه ما فرطت في طاعة الله وأمره لأن التفريط لا يقع إلا في ذلك والجنب المعهود من ذوي الجوارح لا يقع فيه تفريط البتة فكيف يجوز وصف القديم سبحانه بما لا يجوز!
قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ) فرغ يأتي بمعنى قطع شغلا أتفرغ لك أي: أقصد قصدك والآية منه أي: سنقصد لعقوبتكم ونحكم جزاءكم.
قوله تعالى: (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً) إن قيل: لأي علة نسب الظن إلى الله وهو شك، قيل: فيه جوابان: أحدهما: أن يكون الظن لفرعون وهو شك لأنه قال قبله: (فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) وإني لأظن موسى كاذبا فالظن على هذا لفرعون والثاني : أن يكون تم الكلام عند قوله: (أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) على معنى وإني لأعلمه كاذبا فإذا كان الظن لله كان علما ويقينا ولم يكن شكا كقوله: (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ).
وقوله: (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) لم يرد سبحانه بنفي النوم والسنة عن نفسه إثبات اليقظة والحركة لأنه لا يقال لله تعالى يقظان ولا نائم لأن اليقظان لا يكون إلا عن نوم ولا يجوز وصف القديم به وإنما أراد بذلك نفي الجهل والغفلة كقوله: ما أنا عنك بغافل.
قوله تعالى: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) قال السهيلي: اليد في الأصل كالمصدر عبارة عن صفة لموصوف ولذلك مدح سبحانه وتعالى بالأيدي مقرونة مع الإبصار في قوله: (أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ) ولم يمدحهم بالجوارح لأن المدح إنما يتعلق بالصفات لا بالجواهر قال: وإذا ثبت هذا فصح قول الأشعري: إن اليدين في قوله تعالى: (لمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) صفة ورد بها الشرع ولم يقل إنها في معنى القدرة كما قال المتأخرون من أصحابه ولا بمعنى النعمة ولا قطع بشيء من التأويلات تحرزا منه عن مخالفة السلف وقطع بأنها صفة تحرزا عن مذاهب المشبهة.
فإن قيل: وكيف خوطبوا بما لا يعلمون إذ اليد بمعنى الصفة لا يعرفونه ولذلك لم يسأل أحد منهم عن معناها ولا خاف على نفسه توهم التشبيه ولا احتاج إلى شرح وتنبيه وكذلك الكفار لو كان لا يعقل عندهم إلا في الجارحة لتعلقوا بها في دعوى التناقض واحتجوا بها على الرسول ولقالوا: زعمت أن الله ليس كمثله شيء ثم تخبر أن له يدا ولما لم ينقل ذلك عن مؤمن ولا كافر علم أن الأمر عندهم كان جليا لا خفاء به لأنها صفة سميت الجارحة بها مجازا ثم استمر المجاز فيها حتى نسيت الحقيقة ورب مجاز كثير استعمل حتى نسي أصله وتركت صفته والذي يلوح من معنى هذه الصفة أنها قريبة من معنى القدرة إلا أنها أخص والقدرة أعم كالمحبة مع الإرادة والمشيئة فاليد أخص من معنى القدرة ولذا كان فيها تشريف لازم.
وقال البغوي في تفسير قوله تعالى: (مَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) في تحقيق الله التثنية في اليد دليل على أنه ليس بمعنى النعمة والقوة والقدرة وإنما هما صفتان من صفات ذاته قال مجاهد: اليد هاهنا بمعنى التأكيد والصلة مجازه لما خلقت كقوله: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) قال البغوي: وهذا تأويل غير قوي لأنها لو كانت صلة لكان لإبليس أن يقول إن كنت خلقته فقد خلقتني وكذلك في القدرة والنعمة لا يكون لآدم في الخلق مزية على إبليس وأما قوله تعالى: (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا) فإن العرب تسمي الاثنين جمعا كقوله تعالى: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا).
وأما العين في الأصل فهي صفة ومصدر لمن قامت به ثم عبر عن حقيقة الشيء بالعين قال: وحينئذ فإضافتها للبارئ في قوله: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) حقيقة لا مجاز كما توهم أكثر الناس لأنه صفة في معنى الرؤية والإدراك وإنما المجاز في تسمية العضو بها وكل شيء يوهم الكفر والتجسيم فلا يضاف إلى البارئ سبحانه لا حقيقة ولا مجازا.
قال السهيلي: ومن فوائد هذه المسألة أن يسأل عن المعنى الذي لأجله قال: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) بحرف على وقال: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا) وما الفرق والفرق أن الآية الأولى وردت في إظهار أمر كان خفيا وإبداء ما كان مكنونا فإن الأطفال إذ ذاك كانوا يغذون ويصنعون شرا فلما أراد أن يصنع موسى ويغذى ويربى على جلي أمن وظهور أمر لا تحت خوف واستسرار دخلت على في اللفظ تنبيها على المعنى لأنها تعطي معنى الاستعلاء والاستعلاء ظهور وإبداء فكأنه سبحانه يقول: ولتصنع على أمن لا تحت خوف وذكر العين لتضمنها معنى الرعاية والكلأ.
وأما قوله: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا) فإنه إنما يريد في رعاية منا وحفظ ولا يريد إبداء شيء ولا إظهاره بعد كتم فلم يحتج الكلام إلا معنى على ولم يتكلم السهيلي على حكمة الإفراد في قصة موسى والجمع في الباقي وهو سر لطيف وهو إظهار الاختصاص الذي خص به موسى في قوله: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي).
فاقتضى الاختصاص الاختصاص الآخر في قوله: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) بخلاف قوله: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) واصنع الفلك بأعيننا فليس فيه من الاختصاص ما في صنع موسى على عينه سبحانه.
قال السهيلي رحمه الله: وأما النفس فعبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد وقد استعمل من لفظها النفاسة والشيء النفيس فصلحت للتعبير عنه سبحانه بخلاف ما تقدم من الألفاظ المجازية وأما الذات فقد استوى أكثر الناس بأنها معنى النفس والحقيقة ويقولون ذات البارئ هي نفسه ويعبرون بها عن وجوده وحقيقته ويحتجون بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قصة إبراهيم: "ثلاث كذبات كلهن في ذات الله".
قال: وليست هذه اللفظة إذا استقريتها في اللغة والشريعة كما زعموا وإلا لقيل عبدت ذات الله واحذر ذات الله وهو غير مسموع ولا يقال إلا بحرف في المستحل معناه في حق البارئ تعالى لكن حيث وقع فالمراد به الديانة والشريعة التي هي ذات الله فذات وصف للديانة هذا هو المفهوم من كلام العرب وقد بان غلط من جعلها عبارة عن نفس ما أضيف إليه ومنه إطلاق العجب على الله تعالى في قوله: (بَلْ عَجِبْتَ) على قراءة حمزة والكسائي بضم التاء على معنى أنهم قد حلوا محل من يتعجب منهم قال الحسين بن الفضل العجب من الله تعالى إنكار الشيء وتعظيمه وهو لغة العرب وفي الحديث: "عجب ربكم من زللكم وقنوطكم" وقوله: "إن الله يعجب من الشاب إذا لم يكن له صبوة"
قال البغوي وسمعت أبا القاسم النيسابوري قال: سمعت أبا عبد الله البغدادي يقول: سئل الجنيد عن هذه الآية فقال: إن الله لا يعجب من شيء ولكن الله وافق رسوله فقال: وإن تعجب فعجب قولهم أي هو كما يقوله.
فائدة
كل ما جاء في القرآن العظيم من نحو قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أو (تَتَّقُونَ) أو (تَشْكُرُونَ) فالمعتزلة يفسرونه بالإرادة لأن عندهم أنه تعالى لا يريد إلا الخير ووقوع الشر على خلاف إرادته، وأهل السنة يفسرونه بالطلب لما في الترجي من معنى الطلب والطلب غير الإرادة على ما تقرر في الأصول فكأنه قال: كونوا متقين أو مفلحين إذ يستحيل وقوع شيء في الوجود على خلاف إرادته تعالى بل كل الكائنات مخلوقة له تعالى ووقوعها بإرادته تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ