قصة أصحاب الفيل
أمر دوس ذي ثعلبان ، و ابتداء ملك الحبشة ، و ذكر أرياط المستولي على اليمن
فرار دوس ذي ثعلبان من ذي نواس واستنجاده بقيصر
قال ابن إسحاق : وأفلت منهم رجل من سبأ ، يقال له : دوس ذو ثعلبان ، على فرس له ، فسلك الرمل فأعجزهم ؛ فمضى على وجهه ذلك، حتى أتى قيصر ملك الروم ، فاستنصره على ذي نواس وجنوده ، وأخبره بما بلغ منهم ؛ فقال له : بعدت بلادك منا ، ولكن سأكتب لك إلى ملك الحبشة فإنه على هذا الدين ، وهو أقرب إلى بلادك ، وكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأره .
النجاشي ينصر دوسا
فقدم دوس على النجاشي بكتاب قيصر ، فبعث معه سبعين ألفا من الحبشة ، وأمر عليهم رجلا منهم يقال له أرياط ، ومعه في جنده أبرهة الأشرم ؛ فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن ، ومعه دوس ذو ثعلبان .
نهاية ذي نواس
وسار إليه ذو نواس في حمير ، ومن أطاعه من قبائل اليمن ؛ فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه . فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه فرسه في البحر ، ثم ضربه فدخل به ، فخاض به ضحضاح البحر ، حتى أفضى به إلى غمره ، فأدخله فيه ، وكان آخر العهد به . ودخل أرياط اليمن ، فملكها .
شعر في دوس و ما كان منه
فقال رجل من أهل اليمن - وهو يذكر ما ساق إليهم دوس من أمر الحبشة :
لا كدوس ولا كأعلاق رحله
فهي مثل باليمن إلى هذا اليوم .
قول ذي جدن الحميري في هذه القصة
وقال ذو جدن الحميري :
هونكِ ليس يرد الدمع ما فاتا * لا تهلكي أسفا في إثر من ماتا
أبعد بينون لا عين ولا أثر * وبعد سلحين يبني الناس أبياتا
بينون وسلحين وغمدان : من حصون اليمن التي هدمها أرياط . ولم يكن في الناس مثلها .
وقال ذو جدن أيضا :
دعيني لا أبا لك لن تُطيقي * لحاك الله قد أنزفت ريقي
لدى عزف القيان إذ انتشينا * وإذ نُسقى من الخمر الرحيق
وشرب الخمر ليس علي عارا * إذا لم يشكني فيها رفيقي
فإن الموت لا ينهاه ناه * ولو شرب الشفاء مع النشوق
ولا مترهب في أسطوان * يناطح جُدْره بيض الأنوق
وغمدان الذي حدثت عنه * بنوه مُسَمَّكا في رأس نِيق
ِبمَنْهَمَةٍ وأسفله جرون * وحر الموحل اللثق الزليق
مصابيح السليط تلوح فيه * إذا يمسي كتوماض البروق
ونخلته التي غُرست إليه * يكاد البسر يهصر بالعذوق
فأصبح بعد جدته رمادا * وغيرَّ حسنه لهب الحريق
وأسلم ذو نواس مستكينا * وحذر قومه ضنك المضيق
قول ربيعة ابن الذئبة الثقفي في هذه القصة
وقال عبدالله ابن الذئبة الثقفي في ذلك . قال ابن هشام :الذئبة أمه ، واسمه ربيعة بن عبد ياليل بن سالم بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسي:
لعمرك ما للفتى من مفر * مع الموت يلحقه والكبرْ
لعمرك ما للفتى صُحرة * لعمرك ما إنْ له من وزرْ
أبعد قبائل من حمير * أُبيدوا صباحا بذات العبر
بألفِ ألوفٍ وحُرَّابة * كمثل السماء قبيل المطر
يُصم صياحهم المقربات * وينفون من قاتلوا بالذفر
سَعَاِليَ مثل عديد الترا ب * تيبس منهم رطاب الشجر
قول عمرو بن معدي كرب الزبيدي في هذه القصة
وقال عمرو بن معدي كرب الزبيدي في شيء كان بينه وبين قيس بن مكشوح المرادي ، فبلغه أنه يتوعده ، فقال يذكر حمير وعزها ، وما زال من ملكها عنها :
أتوعدني كأنك ذو رعين * بأفضل عيشة ، أو ذو نُواسِ
وكائن كان قبلك من نعيم * وملك ثابت في الناس راسي
قديم عهده من عهد عاد * عظيم قاهر الجبروت قاسي
فأمسى أهله بادوا وأمسى * يحول من أناس في أناس
نسب زبيد ومراد
قال ابن هشام :زبيد بن سلمة بن مازن بن منبه بن صعب بن سعد العشيرة بن مذحج ، ويقال : زبيد بن منبه بن صعب بن سعد العشيرة ، ويقال : زبيد بن صعب بن سعد . ومراد : يحابر بن مذحج .
لماذا قال عمرو بن معدي كرب هذا الشعر ؟
قال ابن هشام :وحدثني أبو عبيدة ، قال :
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سلمان بن ربيعة الباهلي ، و باهلةبن يعصر بن سعد بن قيس بن عيلان ، وهو بأرمينية يأمره أن يفضل أصحاب الخيل العراب على أصحاب الخيل المقارف في العطاء ؛ فعرض الخيل ، فمر به فرس عمرو بن معدي كرب ؛ فقال له سلمان : فرسك هذا مقرف ؛ فغضب عمرو ، وقال : هجين عرف هجينا مثله ؛ فوثب إليه قيس فتوعده ؛ فقال عمرو هذه الأبيات .
تصديق قول شق وسطيح
قال ابن هشام :فهذا الذي عنى سطيح الكاهن بقوله : ( ليهبطن أرضكم الحبش ، فليملكن ما بين أبين إلى جرش ) . والذي عنى شق الكاهن بقوله: ( لينزلن أرضكم السودان ، فليغلبن على كل طفلة البنان ، و ليملكن ما بين أبين إلى نجران ) .
غلب أبرهة الأشرم على أمر اليمن ، و قتل أرياط
ما كان بين أرياط و أبرهة
قال ابن إسحاق : فأقام أرياط بأرض اليمن سنين في سلطانه ذلك ، ثم نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشي - و كان في جنده - حتى تفرقت الحبشة عليهما .
فانحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم ، ثم سار أحدهما إلى الآخر ، فلما تقارب الناس أرسل أبرهة إلى أرياط : إنك لا تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئا فابرز إلي وأبرز إليك ، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده .
فأرسل إليه أرياط : أنصفت فخرج إليه أبرهة ، وكان رجلا قصيرا لحيما حادرا وكان ذا دين في النصرانية ؛ وخرج إليه أرياط ، وكان رجلا جميلا عظيما طويلا ، وفي يده حربة له . وخلف أبرهة غلام له ، يقال له عتودة، يمنع ظهره . فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة ، يريد يافوخه ، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته ، فبذلك سمي أبرهة الأشرم ، وحمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله ، وانصرف جند أرياط إلى أبرهة ، فاجتمعت عليه الحبشة باليمن ، و وَدَى أبرهة أرياط .
غضب النجاشي على أبرهة لقتله أرياط ثم رضاؤه عنه
فلما بلغ النجاشي غضب غضبا شديدا وقال : عدا على أميري فقتله بغير أمري ، ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ، ويجز ناصيته . فحلق أبرهة رأسه وملأ جرأبا من تراب اليمن ، ثم بعث به إلى النجاشي ، ثم كتب إليه :
أيها الملك : إنما كان أرياط عبدك ، وأنا عبدك ، فاختلفنا في أمرك ، وكلٌّ طاعته لك ، إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة وأضبط لها وأسوس منه ؛ وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك ، وبعثت إليه بجراب تراب من أرضي ، ليضعه تحت قدميه ، فيبر قسمه فيّ .
فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه ، وكتب إليه : أنِ اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري . فأقام أبرهة باليمن .
أمر الفيل ، و قصة النسأة
بناء القليس أو كنيسة أبرهة
ثم إن أبرهة بنى القُلَّيْس بصنعاء ، فبنى كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض ، ثم كتب إلى النجاشي : إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب، فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي ، غضب رجل من النسأة ، أحد بني فُقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر .
معنى النسأة
والنسأة : الذين كانوا ينسئون الشهور على العرب في الجاهلية ، فيحلون الشهر من الأشهر الحرم ، ويحرمون مكانه الشهر من أشهر الحل ، ليواطئوا عدة ما حرم الله ، ويؤخرون ذلك الشهر ففيه أنزل الله تبارك وتعالى : ( إنما النسيء زيادة في الكفر يُضل به الذين كفروا ، يحلونه عاما ، ويحرمونه عاما ، ليواطئوا عدة ما حرم الله ) .
المواطأة لغة
قال ابن هشام : ليواطئوا : ليوافقوا : والمواطأة : الموافقة ، تقول العرب : واطأتك على هذا الأمر ، أي وافقتك عليه . والإيطاء في الشعر الموافقة ، وهو اتفاق القافيتين من لفظ واحد ، وجنس واحد ، نحو قول العجَّاج - واسم العجاج عبدالله بن رؤبة أحد بني سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار - :
في أُثعبان المَنْجَنونَ المرسلِ *
ثم قال :
مد الخليج في الخليج المرسل
وهذان البيتان في أرجوزة له .
أول من ابتدع النسيء
قال ابن إسحاق : وكان أول من نسأ الشهور علىالعرب ، فأحلت منها ما أحل ، وحرمت منها ما حرم القَلَمَّس ، وهو حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة .
ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد بن حذيفة ، ثم قام بعد عباد : قلع بن عباد ، ثم قام بعد قلع : أمية بن قلع ، ثم قام بعد أمية : عوف بن أمية ، ثم قام بعد عوف أبو ثمامة جنادة بن عوف ، وكان آخرهم ، وعليه قام الإسلام ، وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه ، فحرم الأشهر الحرم الأربعة : رجبا ، وذا القعدة ، وذا الحجة ، والمحرم .
فإذا أراد أن يحل منها شيئا أحل المحرم فأحلوه ، وحرم مكانه صفر فحرموه ، ليواطئوا عدة الأربعة الأشهر الحرم . فإذا أرادوا الصدر قام فيهم فقال : اللهم إني قد أحللت لك أحد الصفرين ، الصفر الأول ، ونسأت الآخر للعام المقبل ، فقال في ذلك عمير بن قيس جذل الطعان أحد بني فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة ، يفخر بالنسأة على العرب :
لقد علمت معد أن قومي * كرام الناس أن لهم كراما
فأي الناس فاتونا بوتر * وأي الناس لم نعلك لجاما
ألسنا الناسئين على معد * شهور الحل نجعلها حراما ؟
قال ابن هشام : أول الأشهر الحرم المحرم .
الكناني يحدث في القليس ، و حملة أبرهة على الكعبة
قال ابن إسحاق : فخرج الكناني حتى أتى القليس فقعد فيها - قال ابن هشام :يعني أحدث فيها - قال ابن إسحاق : ثم خرج فلحق بأرضه ، فأخبر بذلك أبرهة فقال : من صنع هذا ؟ فقيل له : صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكة لما سمع قولك : ( أصرف إليها حج العرب ) غضب فجاء فقعد فيها ، أي أنها ليست لذلك بأهل .
خروج أبرهة لهدم الكعبة
فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه ، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ، ثم سار وخرج معه بالفيل ؛ وسمعت بذلك العرب ، فأعظموه وفظعوا به ، ورأوا جهاده حقا عليهم ، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة ، بيت الله الحرام .
أشراف اليمن يدافعون عن البيت
فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له : ذو نفر ، فدعا قومه ، ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة ، وجهاده عن بيت الله الحرام ، وما يريد من هدمه وإخرابه ؛ فأجابه إلى ذلك من أجابه ، ثم عرض له فقاتله ، فهزم ذو نفر وأصحابه ، وأخذ له ذو نفر فأتي به أسيرا ، فلما أراد قتله قال له ذو نفر : أيها الملك ، لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي ؛ فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق ، وكان أبرهة رجلا حليما .
خثعم تجاهد أبرهة
ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له ، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قَبِيْلَيْ خثعم : شهران وناهس ، ومن تبعه من قبائل العرب ، فقاتله فهزمه أبرهة ، وأخذ له نفيل أسيرا ، فأتي به ، فلما هم بقتله قال له نفيل : أيها الملك ، لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب ، وهاتان يداي لك على قبيلَيْ خثعم : شهران وناهس بالسمع والطاعة ، فخلى سبيله .
ابن معتب و أبرهة
وخرج به معه يدله ، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب ابن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف في رجال ثقيف .
نسب ثقيف و شعر ابن الصلت في ذلك
واسم ثقيف : قسي بن النبيت بن منبه بن منصور بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد بن نزار بن معد بن عدنان .
قال أمية بن أبي الصلت الثقفي :
قومي إياد لو أنهم أمم * أو لو أقاموا فتهزل النعم
قوم لهم ساحة العراق إذا * ساروا جميعا والقط والقلم
وقال أمية بن أبي الصلت أيضا :
فإما تسألي عني لُبينى * وعن نسبي أخبرك اليقينا
فإنا للنبيت أبي قسي * لمنصور بن يقدم الأقدمينا
قال ابن هشام : ثقيف : قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان . والبيتان الأولان والآخران في قصيدتين لأمية .
ثقيف تهادن أبرهة
قال ابن إسحاق : فقالوا له : أيها الملك ، إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ، ليس عندنا لك خلاف ، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكة ، ونحن نبعث معك من يدلك عليه ، فتجاوز عنهم .
اللات
واللات : بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة .
قال ابن هشام : أنشدني أبو عبيدة النحوي لضرار بن الخطاب الفهري :
وفرت ثقيف إلى لاتها * بمنقلب الخائب الخاسر
وهذا البيت في أبيات له .
أبو رغال ورجم قبره
قال ابن إسحاق : فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة ، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمس ؛ فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك ، فرجمت قبره العرب ، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس .
الأسود بن مقصود يهاجم مكة
فلما نزل أبرهة المغمس ، بعث رجلا من الحبشة يقال له : الأسود بن مقصود على خيل له ، حتى انتهى إلى مكة ، فساق إليه أموال تهامة من قريش وغيرهم ، وأصاب فيها مائتي بعير لعبدالمطلب بن هاشم ، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها ، فهمت قريش وكنانة وهذيل ، ومن كان بذلك الحرم من سائر الناس بقتاله ، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به ، فتركوا ذلك .
رسول أبرهة إلى مكة
وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة ، وقال له : سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفها ، ثم قال له : إن الملك يقول لك : إني لم آت لحربكم ، إنما جئت لهدم هذا البيت ، فإن لم تعرضوا دونه بحرب ، فلا حاجة لي بدمائكم ، فإن هو لم يرد حربي فأتني به .
فلما دخل حناطة مكة ، سأل عن سيد قريش وشريفها ، فقيل له : عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ؛ فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة ؛ فقال له عبدالمطلب : والله ما نريد حربه ، وما لنا بذلك من طاقة ، هذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام - أو كما قال - فإنْ يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وإن يخل بينه وبينه ، فوالله ما عندنا دفع عنه ؛ فقال له حناطة : فانطلق معي إليه ، فإنه قد أمرني أن آتيه بك .
أنيس يشفع لعبدالمطلب
فانطلق معه عبدالمطلب ، ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر ، فسأل عن ذي نفر ، وكان له صديقا ، حتى دخل عليه وهو في محبسه ، فقال له : يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا ؟ فقال له ذو نفر : وما غناء رجل أسير بِيدَيْ ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا ما عندنا غناء في شيء مما نزل بك إلا أنّ أُنيسا سائس الفيل صديق لي ، وسأرسل إليه فأوصيه بك ، وأعظم عليه حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك ، فتكلمه بما بدا لك و يشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك ؛ فقال : حسبي .
فبعث ذو نفر إلى أنيس ، فقال له : إن عبدالمطلب سيد قريش ، وصاحب عير مكة ، يطعم الناس بالسهل ، والوحوش في رءوس الجبال ، وقد أصاب له الملك مائتي بعير ، فاستأذن له عليه ، وانفعه عنده بما استطعت ؛ فقال : أفعل .
فكلم أنيس أبرهة ، فقال له : أيها الملك ، هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك ، وهو صاحب عير مكة ، وهو يطعم الناس في السهل ، والوحوش في رءوس الجبال ، فأذن له عليك ، فيكلمك في حاجته ، و أحسن إليه ، قال : فأذن له أبرهة .
الإبل لي والبيت له رب يحميه
قال : وكان عبدالمطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم ، فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه وأكرمه عن أن يجلسه تحته ، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه ، فنزل أبرهة عن سريره ، فجلس على بساطه ، وأجلسه معه عليه إلى جنبه ، ثم قال لترجمانه : قل له : حاجتك ؟ فقال له ذلك الترجمان ؛فقال : حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي ؛ فلما قال له ذلك ، قال أبرهة لترجمانه : قل له : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه ، لا تكلمني فيه ! قال له عبدالمطلب : إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت ربا سيمنعه ؛ قال : ما كان ليمتنع مني ؛ قال : أنت وذاك .
الوفد المرافق لعبدالمطلب
وكان فيما يزعم بعض أهل العلم ، قد ذهب مع عبدالمطلب إلى أبرهة ، حين بعث إليه حناطة ، يعمر بن نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن مناة بن كنانة ، وهو يومئذ سيد بني بكر ، وخويلد بن واثلة الهذلي ، وهو يومئذ سيد هذيل ؛ فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة ، على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم . والله أعلم أكان ذلك أم لا . فرد أبرهة على عبدالمطلب الإبل التي أصاب له .
قريش تستنصر الله على أبرهة
فلما انصرفوا عنه ، انصرف عبدالمطلب إلى قريش ، فأخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة ، والتحرز في شعف الجبال والشعاب : تخوفا عليهم من معرة الجيش ، ثم قام عبدالمطلب ، فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ، ويستنصرونه على أبرهة وجنده ، فقال عبدالمطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :
لاهُمَّ إن العبد يمنع * رحله فامنع حلالكْ
لا يغلبنّ صليبهم * ومحالهم غدوا محالك
زاد الواقدي :
إن كنت تاركهم وقبلـ*ـتنا فأمر ما بدا لكْ
قال ابن هشام : هذا ما صح له منها .
شعر عكرمة بن عامر يدعو على الأسود بن مقصود
قال ابن إسحاق : وقال عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار بن قصي :
لاهُمَّ أخز الأسود بن مقصود * الآخذ الهجمة فيها التقليدْ
بين حراء وثبير فالبيد * يحبسها وهي أولات التطريد
فضمها إلى طماطم سود * أخفره يا رب وأنت محمود
قال ابن هشام :هذا ما صح له منها ؛ والطماطم : الأعلاج .
قال ابن إسحاق : ثم أرسل عبدالمطلب حلقة باب الكعبة ، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها .
أبرهة يهاجم الكعبة
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فيله وعبىَّ جيشه ، وكان اسم الفيل محمودا ؛ وأبرهة مجمع لهدم البيت ، ثم الانصراف إلى اليمن . فلما وجهوا الفيل إلى مكة ، أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى قام إلى جنب الفيل ، ثم أخذه بأذنه ، فقال : ابرك محمود ، أو ارجع راشدا من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام ، ثم أرسل أذنه .
فبرك الفيل ، وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل ، وضربوا الفيل ليقوم فأبى . فضربوا في رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى ، فأدخلوا محاجن لهم في مراقِّه فبزغوه بها ليقوم فأبى ، فوجهوه راجعا إلى اليمن ، فقام يهرول ، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى مكة فبرك .
عقاب الله لأبرهة وجنده
فأرسل الله تعالى عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان ، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها : حجر في منقاره ، وحجران في رجليه ، أمثال الحمص والعدس ،لا تصيب منهم أحدا إلا هلك ، وليس كلهم أصابت .وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا ، ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن ، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته :
أين المفر والإله الطالب * والأشرم المغلوب ليس الغالب
قال ابن هشام : قوله : ( ليس الغالب ) عن غير ابن إسحاق .
قال ابن إسحاق : وقال نفيل أيضا :
ألا حييت عنا يا ردينا * نعمناكم مع الإصباح عينا
أتانا قابس منكم عشاء فلم يقدر لقابسكم لدينا
ردينة لو رأيت - ولا تريه * لدى جنب المحصب ما رأينا
إذا لعذرتني وحمدت أمري * ولم تأسي على ما فات بينا
حمدت الله إذ أبصرت طيرا * وخفت حجارة تُلقى علينا
و كل القوم يسأل عن نفيل * كأن علي للحبشان دينا
فخرجوا يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون بكل مهلك على كل منهل ، وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم تسقط أنامله أُنمْلة أنملة ، كلما سقطت أنملة أتبعتها منه مدة تمثُّ قيحا ودما ، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ، فيما يزعمون .
قال ابن إسحاق : حدثني يعقوب بن عتبة أنه حُدث : أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام ، وأنه أول ما رؤي بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعُشر ذلك العام .
الله جل جلاله يذكر حادثة الفيل ويمتن على قريش
قال ابن إسحاق : فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم ، كان مما يعد الله على قريش من نعمته عليهم وفضله ، ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم ، فقال الله تبارك وتعالى : ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل . ألم يجعل كيدهم في تضليل . و أرسل عليهم طيرا أبابيل . ترميهم بحجارة من سجيل . فجعلهم كعصف مأكول ) . وقال : ( لإيلاف قريش . إيلافهم رحلة الشتاء والصيف . فليعبدوا رب هذا " البيت . الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) . أي لئلا يغير شيئا من حالهم التي كانوا عليها ، لما أراد الله بهم من الخير لو قبلوه .
تفسير مفردات سورتي الفيل وقريش
قال ابن هشام : الأبابيل : الجماعات ، ولم تتكلم لها العرب بواحد علمناه . وأما السجيل : فأخبرني يونس النحوي وأبو عبيدة أنه عند العرب : الشديد الصلب .
قال رؤبة بن العجاج :
ومسهم ما مس أصحاب الفيلْ * ترميهم حجارة من سجيلْ
و لعبت طير بهم أبابيلْ *
وهذه الأبيات في أرجوزة له .
ذكر بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية ، جعلتهما العرب كلمة واحدة ، وإنما هو سَنْج و جِلّ ، يعني بالسنج : الحجر ؛ وبالجل : الطين . يعني : الحجارة من هذين الجنسين : الحجر والطين . والعصف : ورق الزرع الذي لم يقصب ، وواحدته عصفة . قال : وأخبرني أبو عبيدة النحوي أنه يقال له : العصافة والعصيفة .
وأنشدني لعلقمة بن عبدة أحد بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم :
تسقي مذانب قد مالت عصيفتها * حدورها من أتيّ الماء مطموم
وهذا البيت في قصيدة له . وقال الراجز :
فصُيرِّوا مثل كعصف مأكول
قال ابن هشام : ولهذا البيت تفسير في النحو .
وإيلاف قريش : إلفهم الخروج إلى الشام في تجارتهم ، وكانت لهم خرجتان : خرجة في الشتاء ، وخرجة في الصيف . أخبرني أبو زيد الأنصاري ، أن العرب تقول : ألفت الشيء إلفا ، وآلفته إيلافا ، في معنى واحد . وأنشدني لذي الرمة :
من المؤلفات الرمل أدماء حرة * شعاع الضحى في لونها يتوضح
وهذ البيت في قصيدة له . وقال مطرود بن كعب الخزاعي :
المنعمين إذا النجوم تغيرت * والظاعنين لرحلة الإيلاف
وهذا البيت في أبيات له سأذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى . والإيلاف أيضا : أن يكون للإنسان ألف من الإبل ، أو البقر ، أو الغنم ، أو غير ذلك . يقال : آلف فلان إيلافا . قال الكميت بن زيد ، أحد بني أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد :
بعام يقول له المؤلفو ن هذا المعيم لنا المرجل
وهذا البيت في قصيدة له . والإيلاف أيضا : أن يصير القوم ألفا ، يقال : آلف القوم إيلافا . قال الكميت بن زيد ،أحد بني أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد :
وآل مزيقياء غداة لاقوا * بني سعد بن ضبة مؤلفينا
وهذا البيت في قصيدة له . والإيلاف أيضا : أن تؤلف الشيء إلى الشيء فيألفه و يلزمه ؛ يقال : آلفته إياه إيلافا . والإيلاف أيضا : أن تصيرِّ ما دون الألف ألفا ، يقال : آلفته إيلافا .
مصير قائد الفيل وسائسه
قال ابن إسحاق : حدثني عبدالله بن أبي بكر ، عن عمرة بنت عبدالرحمن ، بن سعد بن زرارة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس .
ملك يكسوم ثم مسروق ولدَيْ أبرهة على اليمن
قال ابن إسحاق : فلما هلك أبرهة ، ملك الحبشة ابنه يكسوم بن أبرهة ، وبه كان يكنى ؛ فلما هلك يكسوم بن أبرهة ، ملك اليمن في الحبشة أخوه مسروق بن أبرهة .
خروج سيف بن ذي يزن وملك وهرز على اليمن
سيف بن ذي يزن يشكو لقيصر
فلما طال البلاء على أهل اليمن ، خرج سيف بن ذي يزن الحميري ، وكان يكنى بأبي مرة ، حتى قدم على قيصر ملك الروم ، فشكا إليه ما هم فيه ، وسأله أن يخرجهم عنه ويليهم هو ، ويبعث إليهم من شاء من الروم ، فيكون له ملك اليمن فلم يشكه و لم يجد عنده شيئا مما يريد .
النعمان يتشفع لسيف بن ذي يزن عند كسرى
فخرج حتى أتى النعمان بن المنذر ، وهو عامل كسرى على الحيرة ، وما يليها من أرض العراق ، فشكا إليه أمر الحبشة ، فقال له النعمان : إن لي على كسرى وفادة في كل عام ، فأقم حتى يكون ذلك ،ففعل ، ثم خرج معه ، فأدخله على كسرى .
وكان كسرى يجلس في إيوان مجلسه الذي فيه تاجه ، وكان تاجه مثل القنقل العظيم - فيما يزعمون - يضرب فيه الياقوت واللؤلؤ والزبرجد بالذهب والفضة ، معلقا بسلسلة من ذهب في رأس طاقة في مجلسه ذلك ، وكانت عنقه لا تحمل تاجه ، إنما يستر بالثياب حتى يجلس في مجلسه ذلك ، ثم يدخل رأسه في تاجه ، فإذا استوى في مجلسه كشفت عنه الثياب ، فلا يراه رجل لم يره قبل ذلك ، إلا برك هيبة له ؛ فلما دخل عليه سيف بن ذي يزن برك .
ابن ذي يزن بين يدي كسرى ،ومعاونة كسرى له
قال ابن هشام : حدثني أبو عبيدة : أن سيفا لما دخل عليه طأطأ رأسه ، فقال الملك : إن هذا الأحمق يدخل علي من هذا الباب الطويل ، ثم يطأطئ رأسه ؟ فقيل ذلك لسيف ؛ فقال : إنما فعلت هذا لهمي ، لأنه يضيق عنه كل شيء .
قال ابن إسحاق : ثم قال له : أيها الملك ، غلبتنا على بلادنا الأغربة ؛ فقال له كسرى : أي الأغربة : الحبشة أم السند فقال : بل الحبشة ، فجئتك لتنصرني ، ويكون ملك بلادي لك ؛ قال : بعدت بلادك مع قلة خيرها ، فلم أكن لأورط جيشا من فارس بأرض العرب ، لا حاجة لي بذلك ، ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف ، وكساه كسوة حسنة . فلما قبض ذلك منه سيف خرج ، فجعل ينثر ذلك الورق للناس ، فبلغ ذلك الملك ، فقال : إن لهذا لشأنا ، ثم بعث إليه ، فقال : عمدت إلى حباء الملك تنثره للناس ؛ فقال : وما أصنع بهذا ؟ ما جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهب وفضة : يرغبه فيها . فجمع كسرى مرازبته ، فقال لهم : ماذا ترون في أمر هذا الرجل ، وما جاء له ؟ فقال قائل : أيها الملك ، إن في سجونك رجالا قد حبستهم للقتل ، فلو أنك بعثتهم معه ، فإن يهلكوا كان ذلك الذي أردت بهم ، وإن ظفروا كان ملكا ازددته . فبعث معه كسرى من كان في سجونه ، وكانوا ثمانمائة رجل .
وهرز و سيف بن ذي يزن و انتصارهما على مسروق ، و ما قيل في ذلك من الشعر
واستعمل عليهم رجلا يقال له وهرز ، وكان ذا سن فيهم ، وأفضلهم حسبا وبيتا . فخرجوا في ثمان سفائن ، فغرقت سفينتان ، ووصل إلى ساحل عدن ست سفائن . فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه ، وقال له : رجلي مع رجلك حتى نموت جميعا أو نظفر جميعا .
قال له وهرز : أنصفت ، وخرج إليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن ، وجمع إليه جنده . فأرسل إليهم وهرز ابنا له ، ليقاتلهم فيختبر قتالهم : فقتل ابن وهرز ، فزاده ذلك حنقا عليهم .
فلما تواقف الناس على مصافهم ، قال وهرز : أروني ملكهم ؛ فقالوا له : أترى رجلا على الفيل عاقدا تاجه على رأسه ، بين عينيه ياقوته حمراء ؟ قال : نعم ، قالوا : ذاك ملكهم ؛ فقال : اتركوه .
قال : فوقفوا طويلا ، ثم قال : علام هو ؟ قالوا : قد تحول على الفرس ؛ قال : اتركوه . فوقفوا طويلا ، ثم قال : علام هو ؟ قالوا : قد تحول على البغلة . قال وهرز : بنتُ الحمار ذل وذل ملكه ، إني سأرميه ، فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوذنكم ، فإني قد أخطأت الرجل ، وإن رأيتم القوم قد استداروا ولاثوا به ، فقد أصبت الرجل ، فاحملوا عليهم .
ثم وتر قوسه ، وكانت فيما يزعمون لا يوترها غيره من شدتها ، وأمر بحاجبيه فعصبا له ، ثم رماه ، فصك الياقوتة التي بين عينيه ، فتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه ، ونكس عن دابته ، واستدارت الحبشة ولاثت به ، وحملت عليهم الفرس ، وانهزموا ، فقتلوا وهربوا في كل وجه ؛ وأقبل وهرز ليدخل صنعاء ، حتى إذا أتى بابها ، قال : لا تدخل رايتي منكسة أبدا ، اهدموا الباب ، فهدم ؛ ثم دخلها ناصبا رايته
ذكر ما انتهى إليه أمر الفرس باليمن
مدة ملك الحبشة باليمن و ملوكهم
قال ابن إسحاق : فأقام وهرز والفرس باليمن ، فمن بقية ذلك الجيش من الفرس الأبناء الذين باليمن اليوم . وكان ملك الحبشة باليمن ، فيما بين أن دخلها أرياط إلى أن قتلت الفرس مسروق بن أبرهة وأُخرجت الحبشة ، اثنتين وسبعين سنة ، توارث ذلك منهم أربعة : أرياط ، ثم أبرهة ، ثم يكسوم بن أبرهة ، ثم مسروق بن أبرهة .
أمراء الفرس باليمن
قال ابن هشام : ثم مات وهرز ، فأمر كسرى ابنه المرزبان بن وهرز على اليمن ، ثم مات المرزبان ، فأمَّر كسرى ابنه التينجان بن المرزبان على اليمن ، ثم مات التينجان ، فأمر كسرى ابن التينجان على اليمن ، ثم عزله وأمَّر باذان ؛ فلم يزل باذان عليها حتى بعث الله محمدا النبي صلى الله عليه وسلم .
محمد صلى الله عليه وسلم يتنبأ بموت كسرى
فبلغني عن الزهري أنه قال :
كتب كسرى إلى باذان : أنه بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة ، يزعم أنه نبي ، فسر إليه فاستنبه ، فإن تاب وإلا فابعث إلي برأسه . فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا من شهر كذا . فلما أتى باذانَ الكتابُ توقف لينظر ، وقال : إن كان نبيا فسيكون ما قال . فقتل الله كسرى في اليوم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن هشام : قُتل على يدي ابنه شيرويه ، وقال خالد بن حق الشيباني :
وكسرى إذ تقسمه بنوه * بأسياف كما اقتسم اللحام
تمخضت المنون له بيوم * أني و لكل حاملة تمام
إسلام باذان
قال الزهري : فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه وإسلام من معه من الفرس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالت الرسل من الفرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إلى من نحن يا رسول الله ؟ قال : أنتم منا وإلينا أهل البيت .
قال ابن هشام : فبلغني عن الزهري أنه قال : فمن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلمان منا أهل البيت .
بعثة النبي ، و نبوءة سطيح و شق
قال ابن هشام : فهوالذي عنى سطيح بقوله : ( نبى زكي ، يأتيه الوحي من قبل العلي ) . والذي عني شق بقوله : ( بل ينقطع برسول مرسل ، يأتي بالحق والعدل ، من أهل الدين والفضل ، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل ) .
كتاب الحجر الذي وجد في اليمن
قال ابن إسحاق : وكان في حَجَر باليمن - فيما يزعمون - كتاب بالزبور كتب في الزمان الأول : ( لمن ملك ذمار ؟ لحمير الأخيار ؛ لمن ملك ذمار ؟ للحبشة الأشرار ؛ لمن ملك ذمار ؟ لفارس الأحرار ؛ لمن ملك ذمار ؟ لقريش التجار ) .
وذمار : اليمن أو صنعاء .
قال ابن هشام : ذمار : بالفتح ، فيما أخبرني يونس .
شعر الأعشى يذكر نبوءة شق وسطيح
قال ابن إسحاق : وقال الأعشى أعشى بني قيس بن ثعلبة في وقوع ما قال سطيح وصاحبه :
ما نظرت ذات أشفار كنظرتها * حقا كما صدق الذئبي إذْ سجعا
وكانت العرب تقول لسطيح : الذئبي ، لأنه سطيح بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب .
قال ابن هشام : وهذا البيت في قصيدة له .
قصة ملك الحضر
قال ابن هشام : وحدثني خلاد بن قرة بن خالد السدوسي عن جناد : أو عن بعض علماء أهل الكوفة بالنسب : أنه يقال : إن النعمان بن المنذر من ولد ساطرون ملك الحضر . والحضر : حصن عظيم كالمدينة ، كان على شاطئ الفرات ، وهو الذي ذكر عدي بن زيد في قوله :
وأخو الحضر إذ بناه وإذ * د جلة تجبى إليه والخابور
شاده مرمرا وجلله كلسا * فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فبان * ال ملك عنه فبابه مهجور
قال ابن هشام : وهذه الأبيات في قصيدة له .
والذي ذكره أبو دواد الإيادي في قوله :
وأرى الموت قد تدلى من الحضر * على رب أهله الساطرون
وهذا البيت في قصيدة له . ويقال : إنها لخلف الأحمر ، ويقال : لحماد الراوية .
سابور يستولي على الحضر ، وزواجه بنت ساطرون ، و ما وقع بينهما
وكان كسرى سابور ذو الأكتاف غزا ساطرون ملك الحضر ، فحصره سنتين ، فأشرفت بنت ساطرون يوما ، فنظرت إلى سابور وعليه ثياب ديباج ، وعلى رأسه تاج من ذهب مكلل بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ ، وكان جميلا ، فدست إليه : أتتزوجني إن فتحت لك باب الحضر ؟ فقال : نعم ؛ فلما أمسى ساطرون شرب حتى سكر ، وكان لا يبيت إلا سكران . فأخذت مفاتيح باب الحضر من تحت رأسه ، فبعثت بها مع مولى لها ، ففتح الباب ، فدخل سابور ، فقتل ساطرون ، واستياح الحضر وخربه ، وسار بها معه فتزوجها . فبينا هي نائمة على فراشها ليلا إذْ جعلت تتململ لا تنام ، فدعا لها بشمع ، ففتش فراشها ، فوجد عليه ورقة آس ؛ فقال لها سابور : أهذا الذي أسهرك ؟ قالت : نعم ، قال : فما كان أبوك يصنع بك ؟ قالت : كان يفرش لي الديباج ، ويلبسني الحرير ، ويطعمني المخ ، ويسقين الخمر ؛ قال : أفكان جزاء أبيك ما صنعت به ؟ أنت إلي بذلك أسرع ؛ ثم أمر بها فربطت قرون رأسها بذنب فرس ، ثم ركض الفرس حتى قتلها .
قول أعشى قيس في قصة الحضر
ففيه يقول أعشى بني قيس بن ثعلبة :
ألم تر للحضر إذ أهله * بنعمى وهل خالد من نعم
أقام به شاهبور الجنو د * حولين تضرب فيه القدم
فلما دعا ربه دعوة * أناب إليه فلم ينتقم
وهذه الأبيات في قصيدة له .
قول عدي بن زيد
وقال عدي بن زيد في ذلك :
والحضر صابت عليه داهية * من فوقه أيد مناكبها
ربية لم توق والدها * لحينها إذ أضاع راقبها
إذ غبقته صهباء صافية * والخمر وهل يهيم شاربها
فأسلمت أهلها بليلتها * تظن أن الرئيس خاطبها
فكان حظ العروس إذ جشر الصبح * دماء تجري سبائبها
وخرب الحضر واستبيح وقد * أُحرق في خدرها مشاجبها
وهذه الأبيات في قصيدة له .
ذكر ولد نزار بن معد
أولاده في رأي ابن إسحاق و ابن هشام
قال ابن إسحاق : فولد نزار بن معد ثلاثة نفر : مضر بن نزار ، وربيعة ابن نزار ، وأنمار بن نزار .
قال ابن هشام : وإياد بن نزار . قال الحارس بن دوس الإيادي ، ويروى لأبي داود الإيادي ، واسمه جارية بن الحجاج :
وفتوّ حسن أوجههم * من إياد بن نزار بن معد
وهذا البيت في أبيات له .
فأم مضر وإياد : سودة بنت عك بن عدنان . وأم ربيعة وأنمار : شُقيقة بنت عك بن عدنان ، ويقال : جمعة بنت عك بن عدنان .
أولاد أنمار
قال ابن إسحاق : فأنمار : أبو خثعم وبجيلة . قال جرير بن عبدالله البجلي وكان سيد بجيلة ، وهو الذي يقول له القائل :
لولا جرير هلكت بجيله * نعم الفتى وبئست القبيلهْ
وهو ينافر الفرافصة الكلبي إلى الأقرع بن حابس التميمي بن عقال بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة :
يا أقرع بن حابس يا أقرع * إنك إن تصرع أخاك تصرع
و قال :
ابْنيَ نزار انصرا أخاكما * إن أبي وجدته أباكما
قال ابن هشام : فهوالذي عنى سطيح بقوله : ( نبى زكي ، يأتيه الوحي من قبل العلي ) . والذي عني شق بقوله : ( بل ينقطع برسول مرسل ، يأتي بالحق والعدل ، من أهل الدين والفضل ، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل ) .
لن يُغلب اليوم أخ والأكما *
قال ابن إسحاق : وكان في حَجَر باليمن - فيما يزعمون - كتاب بالزبور كتب في الزمان الأول : ( لمن ملك ذمار ؟ لحمير الأخيار ؛ لمن ملك ذمار ؟ للحبشة الأشرار ؛ لمن ملك ذمار ؟ لفارس الأحرار ؛ لمن ملك ذمار ؟ لقريش التجار ) .
وقد تيامنت فلحقت باليمن .
قال ابن هشام : قالت اليمن : وبجيلة : أنمار بن إراش بن لحيان بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ ؛ ويقال : إراش بن عمرو بن لحيان بن الغوث . ودار بجيلة وخثعم : يمانية .
ولدا مضر
قال ابن إسحاق : فولد مضر بن نزار رجلين : إلياس بن مضر ، وعيلان بن مضر.
قال ابن هشام : وأمهما جرهمية .
أولاد إلياس
قال ابن إسحاق : فولد إلياس بن مضر ثلاثة نفر : مدركة بن إلياس ، وطابخة بن إلياس ، وقمعة بن إلياس ، وأمهم خندف ، امرأة من اليمن .
شئ عن خندف و أولادها
قال ابن هشام : خندف بنت عمران بن الحاف بن قضاعة .
قال ابن إسحاق : وكان اسم مدركة عامرا ، واسم طابخة عمرا ؛ وزعموا أنهما كانا في إبل لهما يرعيانها ، فاقتنصا صيدا فقعدا عليه يطبخانه ، وعدت عادية على إبلهما ، فقال عامر لعمرو : أتدرك الإبل أم تطبخ هذا الصيد ؟ فقال عمرو : بل أطبخ ، فلحق عامر بالإبل فجاء بها ، فلما راحا على أبيهما حدثاه بشأنهما ، فقال لعامر : أنت مدركة ؛ وقال لعمرو : وأنت طابخة و خرجت أمهم لما بلغها الخبر ، و هي مسرعة ، فقال لها : تخندفين ، فسميت : خندف ) .
شاده مرمرا وجلله كلسا فللطير في ذراه وكور *
وأما قمعة فيزعم نساب مضر : أن خزاعة من ولد عمرو بن لحي بن قمعة بن إلياس .
حديث عمرو بن لحي وذكر أصنام العرب
عمرو بن لحي يجر قصبه في النار
قال ابن إسحاق : وحدثني عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه قال :
حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار ، فسألته عمن بيني وبينه من الناس ، فقال : هلكوا .
قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة - قال ابن هشام : واسم أبي هريرة : عبدالله بن عامر ، ويقال اسمه عبدالرحمن بن صخر - يقول :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون الخزاعي : يا أكثم ، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار ، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ، ولا بك منه ، فقال أكثم : عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله ؟ قال : لا ، إنك مؤمن وهو كافر ، إنه كان أول من غير دين إسماعيل ، فنصب الأوثان ، وبحر البحيرة ، وسيب السائبة ، ووصل الوصيلة ، وحمى الحامي