مناهج التفسير ( مقدمة )
إعلم أن الأفراد لا ترقى، والأمم لا تنهض إلا عن طريق الاسترشاد بتعاليم القرآن التي عليها مدار السعادة، والعمل بهذه التعاليم لا يتأتى إلا عن طريق دراسة تفسيره، والوقوف على معانيه؛ إذا بدون التفسير لا يمكن الوصول إلى نفائس القرآن، ودقائق معانيه التي تصل بالإنسان إلى سعادة الدارين.
وأنك إذا أدرت معرفة السر في نجاح سلفنا الصالح ـ مع قلة عددهم، وضيق ذات أيديهم ـ وجدت أنهم كانوا متوفرين على دراسته واستخراج كنوزه مع ما آتاهم الله من مواهب فطرية، وملكات سليمة
وليس حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تفسير كلام الله تعالى لأصحابه إلا تنفيذاً لقوله :{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، وإلا ترجمة عملية لكونه رحمه للعالمين، يوصلهم إلى الكمال، ويقودهم إلى رضوان الله تعالى، ونحن محتاجون إلى ما كان يحتاج إليه الصحابة رضوان الله عليهم من التفسير، وزيادة على ذلك مما لم يحتاجون إليه من الأحكام؛ لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم، فنحن في أشد الحاجة إلى التفسير
ومن المعلوم: أن كل كمال ديني أو دنيوي، عاجل أو آجل، لا يتم إلا عن طريق العلوم الشرعية، والمعارف الدينية، وهذه العلوم والمعارف، إنما تلتمس عن طريق مأمون لا يتسرب إليه الخطأ، وعن طريق الكتاب المنزل على هذا المأمون، وهذا الكتاب هو القرآن، وهذا المأمون هو محمد صلى الله عليم وسلم ، وكان تفسير هذا الكتاب الكريم عن طريق هذا النبي صلى الله عليم وسلم طريقاً إلى السلامة والسعادة في الدنيا والآخرة
شروط المفسر للقرآن الكريم
ينبغي أن يتوفر فيمن يتصدى لتفسير القرآن الكريم:
1- صحة الإعتقاد ولزوم سنة الدين.
فإن من كان مغموصاً عليه في دينه، لا يؤتمن على الدنيا، فكيف يؤتمن على الدين؟
ولأنه لا يؤتمن إن كان متهماً بالإلحاد، أن يبغي الفتنة، ويغو الناس بليه وخداعه.
وإن كان متهماً بهوى لم يؤمن أن يحمله هواه على ما يوافق بدعته( ).
2- وكذلك صحة المقصد.
أي يقصد بما يفعل التقرب إلى الله تعالى دون شيء آخر، من تصنع لمخلوق، أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة أو مدح من الخلق، أو معنى من المعاني، سوى التقرب إلى الله تعالى.
وذلك: ليلقي التسديد.
قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا( ).
وإنما يخلص له القصد إذا زهد في الدنيا، لأنه إذا رغب فيها لم يؤمن أن يتوصل به إلى غرض من أغراض الدنيا ـ يصده عن قصده، ويفسد عليه صحة عمله( ) ـ من مال، أو رياسة، أو وجاهة، أو ارتفاع على أقرانه، أو ثناء عند الناس، أو صرف وجوه الناس إليه أو نحو ذلك( ).
3- أن يكون اعتماده على النقل عن النبي ، وأصحابه، ومن عاصرهم ويتجنب المحدثات( ).
4- أن يكون جامعاً للعلوم التي يحتاجها المفسر، وهي خمسة عشر علماً( ).
الأول: اللغة؛ لأن بها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع.
الثاني: النحو؛ لأن المعنى يتغير، ويختلف باختلاف الإعراب، فلابد من اعتباره.
الثالث: التصريف؛ لأن به تعرف الأبنية والصيغ.
الرابع: الإشتقاق؛ لأن الإسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفين، اختلف المعنى باختلافهما، كالمسيح هل هو من السياحة أو من المسح؟
الخامس: علم المعاني، إذ يعرف به خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى.
السادس: علم البيان، إذ يعرف به خواص تراكيب الكلام من حيث اختلافها بحسب وضوع الدلالة وخفائها.
السابع: علم البديع؛ إذ به يعرف وجوه تحسين الكلام.
وهذه العلوم الثلاثة: هي علوم البلاغة، وهي من أعظم أركان المفسر، لأنه لابد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وهو لا يدرك إلا بهذه العلوم.
الثامن: علم القراءات؛ لأن به يعرف كيفية نطق القرآن، وبالقراءات يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض.
التاسع: أصول الدين بما في القرآن من الآيات الدالة بظاهرها على ما لا يجوز على الله تعالى، فالأصولي يؤول ذلك، ويستدل على ما يستحيل وما يجب، وما يجوز.
العاشر: أصول الفقه، إذ به يعرف وجه الإستدلال على الأحكام، والإستنباط.
الحادي عشر: أسباب النزول والقصص، إذ بسبب النزول يعرف معنى الآية المنزلة فيه بحسب ما أنزلت فيه.
الثاني عشر: الناسخ والمنسوخ، ليعلم المحكم من غيره.
الثالث عشر: الفقه.
الرابع عشر، الأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم.
الخامس عشر: علم الموهبة، وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم، وإليه الإشارة بحديث " من عمل بما علم، ورثه الله علم ما لم يعلم".
1- صحة الإعتقاد ولزوم سنة الدين.
فإن من كان مغموصاً عليه في دينه، لا يؤتمن على الدنيا، فكيف يؤتمن على الدين؟
ولأنه لا يؤتمن إن كان متهماً بالإلحاد، أن يبغي الفتنة، ويغو الناس بليه وخداعه.
وإن كان متهماً بهوى لم يؤمن أن يحمله هواه على ما يوافق بدعته( ).
2- وكذلك صحة المقصد.
أي يقصد بما يفعل التقرب إلى الله تعالى دون شيء آخر، من تصنع لمخلوق، أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة أو مدح من الخلق، أو معنى من المعاني، سوى التقرب إلى الله تعالى.
وذلك: ليلقي التسديد.
قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا( ).
وإنما يخلص له القصد إذا زهد في الدنيا، لأنه إذا رغب فيها لم يؤمن أن يتوصل به إلى غرض من أغراض الدنيا ـ يصده عن قصده، ويفسد عليه صحة عمله( ) ـ من مال، أو رياسة، أو وجاهة، أو ارتفاع على أقرانه، أو ثناء عند الناس، أو صرف وجوه الناس إليه أو نحو ذلك( ).
3- أن يكون اعتماده على النقل عن النبي ، وأصحابه، ومن عاصرهم ويتجنب المحدثات( ).
4- أن يكون جامعاً للعلوم التي يحتاجها المفسر، وهي خمسة عشر علماً( ).
الأول: اللغة؛ لأن بها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع.
الثاني: النحو؛ لأن المعنى يتغير، ويختلف باختلاف الإعراب، فلابد من اعتباره.
الثالث: التصريف؛ لأن به تعرف الأبنية والصيغ.
الرابع: الإشتقاق؛ لأن الإسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفين، اختلف المعنى باختلافهما، كالمسيح هل هو من السياحة أو من المسح؟
الخامس: علم المعاني، إذ يعرف به خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى.
السادس: علم البيان، إذ يعرف به خواص تراكيب الكلام من حيث اختلافها بحسب وضوع الدلالة وخفائها.
السابع: علم البديع؛ إذ به يعرف وجوه تحسين الكلام.
وهذه العلوم الثلاثة: هي علوم البلاغة، وهي من أعظم أركان المفسر، لأنه لابد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وهو لا يدرك إلا بهذه العلوم.
الثامن: علم القراءات؛ لأن به يعرف كيفية نطق القرآن، وبالقراءات يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض.
التاسع: أصول الدين بما في القرآن من الآيات الدالة بظاهرها على ما لا يجوز على الله تعالى، فالأصولي يؤول ذلك، ويستدل على ما يستحيل وما يجب، وما يجوز.
العاشر: أصول الفقه، إذ به يعرف وجه الإستدلال على الأحكام، والإستنباط.
الحادي عشر: أسباب النزول والقصص، إذ بسبب النزول يعرف معنى الآية المنزلة فيه بحسب ما أنزلت فيه.
الثاني عشر: الناسخ والمنسوخ، ليعلم المحكم من غيره.
الثالث عشر: الفقه.
الرابع عشر، الأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم.
الخامس عشر: علم الموهبة، وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم، وإليه الإشارة بحديث " من عمل بما علم، ورثه الله علم ما لم يعلم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التفسير والتأويل
قال الأصبهانى : أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن ؛ بيان ذلك أن شرف الصناعة إما بشرف موضوعها مثل الصياغة ، فإنها أشرف من الدباغة ، لأن موضوع الصياغة الذهب والفضة ، وهما أشرف من موضوع الدباغة الذى هو جلد الميتة 0 وإما بشرف غرضها ، مثل صناعة الطب ، فإنها أشارف من صناعة الكناسة ؛ لأن غرض الطب إفادة الصحة ، وغرض الكناسة تنظيف المستراح0 وإما لشدة الحاجة إليها كالفقه ؛ فإن الحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الطب ، إذ ما من واقعة فى الكون فى أحد من الخلق إلا وهى مفتقرة إلى الفقه ، لأن به انتظام صلاح أحوال الدنيا والدين ، بخلاف الطب ، فإنه يحتاج إليه بعض الناس فى بعض الأوقات 0
إذا عرف ذلك ، فصناعة التفسير قد حازت الشرف من الجهات الثلاث ؛ أمّا من جهة الموضوع ، فلأن موضوعه كلام الله تعالى الذى هو ينبوع كل حكمة ، ومعدن كل فضيلة ، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، لا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضى عجائبه 0 وأما من جهة الغرض ، فلأن الغرض منه هو الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى السعادة الحقيقية التى لا تفنى 0 وأما من جهة شدة الحاجة ، فلأن كل كمال دينى أو دنيوى عاجلى أو آجلى ، مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية ؛ وهى متوقفة على العلم بكتاب الله تعالى (1)
معنى التفسير لغة واصطلاحا
التفسير فى اللغة : تفعيل من الفسر بمعنى الإبانة والكشف وإظهار المعنى المعقول ، وفعله : كضرب ونصر ، يقال : فسر الشئ يفسر بالكسر ويفسره بالضم فسرا ، وفسره : أبانه ، والتفسير والفسر : الإبانة وكشف المغطى ، وفى لسان العرب : الفسر كشف المغطى 0 والتفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل 0 وفى القرآن ( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) [33 ـ الفرقان] أى بيانا وتفصيلا 0
وقال ابن عباس فى قوله تعال : ( وأحسن تفسيرا) أى تفصيلا0
وقال بعضهم : هو مقلوب من "سَفَر" ومعناه أيضا : الكشف ، يقال : سفرت المرأة سفورا : إذا ألقت خمارها عن وجهها ، وهى سافرة ، وأسفر الصبح : أضاء ، وإنما بنوه على التفعيل، لأنه للتكثير ، كقوله تعالى : ( يذبحون أبناءكم ) [ 49ـ البقرة ]وقوله : ( وغلقت الأبواب ) [23ـ يوسف ] فكأنه يتبع سورة بعد سورة ، وآية بعد أخرى 0
وقال الراغب : الفسر والسفر يتقارب معناهما كتقارب لفظيهما ، لكن جعل الفسر لإظهار المعنى المعقول، وجعل السفر لإبراز الأعيان للأبصار ، فقيل سفرت المرأة عن وجهها ، وأسفر الصبح(2)
والتفسير فى الاصطلاح : ـ عرفه أبو حيان بأنه : " علم يبحث عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية ، ومعانيها التى تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك0
ثم خرج التعريف فقال : فقولنا : علم ، هو جنس يشمل سائر العلوم ، وقولنا : يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ، هذا هو علم القراءات ، وقولنا ومدلولاتها ، أى مدلولات تلك الألفاظ ، وهذا هو علم اللغة الذى يحتاج إليه فى هذا العلم ، وقولنا : وأحكامنا الإفرادية والتركيبية، هذا يشمل علم التصريف وعلم الإعراب ، وعلم البيان ، وعلم البديع ، وقولنا : ومعانيها التى تحمل عليها حالة التركيب ، يشمل ما دلالته عليه بالحقيقة ، وما دلالته عليه بالمجاز ، فإن التركيب قد يقتضى بظاهره شيئا ويصد عن الحمل على الظاهر صاد فيحتاج لأجل ذلك أن يحمل على غير الظاهر، وهو المجاز ، وقولنا : وتتمات لذلك 0 هو معرفة النسخ وسبب النزول ، وقصة توضيح بعض ما أنبهم فى القرآن ونحو ذلك 0
وقال الزركشى : التفسير : علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وبيان معانيه ، واستخراج أحكامه وحكمه (3)
التأويل : لغة واصطلاحا
والتأويل فى اللغة : مأخوذ من الأول ، وهو الرجوع إلى الأصل ، يقال : آل إليه أولا ومآلا : رجع 00 ويقال : أول الكلام تأويلا وتأوله : دبره وقدره وفسره0 وعلى هذا : فتأويل الكلام فى الاصطلاح له معنيان :
1ـ تأويل تأويل الكلام : بمعنى ما أوله إليه المتكلم أو ما يؤول إليه الكلام ويرجع ، والكلام إنما يرجع ويعود إلى حقيقته التى هى عين المقصود0 وهو نوعان : انشاء وإخبار ، ومن الإنشاء الأمر 0
فتأويل الأمر : هو الفعل المأمور به ، ومن ذلك ما روى عن عائشة رضى الله عنها قالت(4): " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لى ، يتأول القرآن 0 تعنى قوله تعالى( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) [2 ـ النصر ]0
وتأويل الإخبار : هو عين المخبر به إذا وقع 0 كقوله تعالى : ( ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ، هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل ) [ 52،53 ـ الأعراف ] فقد أخبر أنه فصل الكتاب ، وأنهم لا ينتظرون إلا تأويله ، أى مجئ ما أخبر القرآن بوقوعه ، من القيامة وأشراطها ، وما فى الآخرة من الصحف والموازين والجنة والنار وغير ذلك 0 فحينئذ يقولون : ( قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل ) ؟
2ـ تأويل الكلام : أى تفسيره وبيان معناه0 وهو ما يعنيه ابن جرير الطبرى فى تفسيره بقوله : " القول فى تأويل قوله تعالى كذا وكذا " وبقوله : " اختلف أهل التأويل فى هذه الآية " فإن مراده التفسير0
والتأويل فى عرف المتأخرين : هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به ـ وهذا الاصطلاح لا يتفق مع ما يراد بلفظ التأويل فى القرآن عند السلف0
هذا ومن العلماء من يفرق بين المعنى ، والتفسير ، والتأويل ، للتفاوت بينها لغة وإن كانت متقاربة .
قال ابن فارس : معانى العبارات التى يعبر بها عن الأشياء ترجع إلى ثلاثة : المعنى ، والتفسير ، والتأويل ، وهى وإن اختلفت فالمقاصد بها متقاربة :
فأما المعنى : فهو القصد والمراد ، يقال : عنيت بهذا الكلام كذا ، أى قصدت وعمدت ، وهو مشتق من الإظهار ، يقال : عَنَت القِربة ، إذا لم تحفظ الماء بل أظهرته ، ومن هذا عنوان الكتاب0
وأما التفسير فى اللغة : فهو راجع إلى معنى الإظهار والكشف 0 وقال ابن الأنبارى : قول العرب : فسَرْتُ الدابة وفسّرتها ، إذا ركضتها محصورة لينطلق حصرها ، وهو يؤول إلى الكشف أيضا0 فالتفسير كشف المغلق من المراد بلفظه ، وإطلاقٌ للمحتبس عن الفهم به 0
وأما التأويل : فأصله فى اللغة من الأوْل ، ومعنى قولهم : ما تأويل هذا الكلام ؟ أى إلام تؤول العاقبة فى المراد به ؟ كقوله تعالى ( يوم يأتى تأويله ) [ 53ـ الأعراف ] أى تكشف عاقبته ، ويقال : آل الأمر إلى كذا ، أى صار إليه ، وقال تعالى : (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) [ 82 ـ الكهف ] وأصله من المآل ، وهو العاقبة والمصير ، وقد أولته فآل ـ أى صرفته فانصرف فكأن التأويل صرف الآية إلى ما تحتمله من المعانى 0 وإنما بنوه على التفعيل للتكثير (5)
الفرق بين التفسير والتأويل
اختلف العلماء فى الفرق بين التفسير والتأويل ـ وعلى ضوء ما سبق فى معنى التفسير والتأويل نستطيع أن نستخلص أهم الآراء فيما يأتى :
1ـ إذا قلنا : أن التأويل هو تفسير الكلام وبيان معناه / فالتأويل والتفسير على هذا متقاربان أو مترادفان ، ومنه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس " اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل "0
2ـ وإذا قلنا أن التأويل هو نفس المراد بالكلام ، فتأويل الطلب نفس الفعل المطلوب ، وتأويل الخبر نفس الشئ المُخبَر به ، فعلى هذا يكون الفرق كبيرا بين التفسير والتأويل ، لأن التفسير شرح وإيضاح للكلام ، ويكون وجوده فى الذهن بتعقله ، وفى اللسان بالعبارة الدالة عليه ، أما التأويل فهو نفس الأمور الموجودة فى الخارج ، فإذا قيل : طلعت الشمس ، فتأويل هذا هو نفس طلوعها ، وهذا هو الغالب فى لغة القرآن كما تقدم ، قال تعالى ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ، بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) [ 38 ـ 39 يونس ] فالمراد بالتأويل وقوع المخبر به 0
3ـ وقيل : التفسير : ما وقع مبينا فى كتاب لله أو معينا فى صحيح السنة ، لأن معناه قد ظهر ووضح ، والتأويل ما استنبطه العلماء ، ولذا قال بعضهم : "التفسير ما يتعلق بالرواية ، والتأويل ما يتعلق بالدراية"
4ـ وقيل : التفسير : أكثر ما يستعمل فى الألفاظ ومفرداتها ، والتأويل : أكثر ما يستعمل فى المعانى والجمل ـ وقيل غير ذلك (5) 0
وجه الحاجة إلى التفسير
وأما وجه الحاجة إليه ، فقال بعضهم : اعلم أن من المعلوم أن الله إنما خاطب خلقه بما يفهمونه ؛ ولذلك أرسل كل رسول بلسان قومه ، وأنزل كتابه على لغتهم ، وإنما احتيج إلى التفسير لما سيذكر بعد تقرير قاعدة ؛ وهى أن كل من وضع من البشر كتابا فإنما وضعه ليُفهَم بذاته من غير شرح ، وإنما احتيج إلى الشروح لأمور ثلاثة :
أحدها كمال فضيلة المصنَّف ، فإنه لقوته العلمية يجمع المعانى الدقيقة فى اللفظ الوجيز ، فربما عسُر فهم مراده ، فقصد بالشرح ظهور تلك المعانى الخفية ، ومن هنا كان شرح بعض الأئمة تصنيفَه أدلُّ على المراد من شرح غيره له 0
وثانيها : إغفاله بعض تتمات المسألة ، أو شروط لها ، اعتمادا على وضوحها ، أو لأنها من علم آخر فيحتاج الشارح لبيان المحذوف ومراتبه0
وثالثها : احتمال اللفظ لمعان كما فى المجاز والاشتراك ، ودلالة الالتزام ؛ فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه ، وقد يقع فى التصانيف ما لا يخلو عنه بَشَر من السهو والغلط ، أو تكرار الشئ أو حذف المبهم وغير ذلك ؛ فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك 0
إذا تقرر هذا فنقول : إن القرآن إنما نزل بلسان عربى فى زمن أفصح العرب ، وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه ، أما دقائق باطنه ، فإنما كان يظهر لهم بعد البحث والنظر ، مع سؤالهم النبى صلى الله عليه وسلم فى الأكثر ، كسؤالهم لما نزل قوله ( ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) [ الأنعام : 82 ] ، فقالوا : وأينا لم يظلم نفسه ! ففسره النبى صلى الله عليه وسلم ؛ واستدل عليه بقوله : ( إن الشرك لظلم عظيم ) [ لقمان 13 ] ، وكسؤال عائشة عن الحساب اليسير فقال : " ذلك العرض" ، وكقصة عدى بن حاتم فى الخيط الأبيض والأسود وغيره ذلك ؛ مما سألوا عن آحاد منه ؛ ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه وزيادة على ذلك مما لم يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر ؛ لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم ، فنحن أشد الناس احتياجا إلى التفسير ، ومعلوم أن تفسيره بعضه يكون من قبل بسط الألفاظ الوجيزة ، وكشف معانيها ، وبعضه من قبل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض 0 انتهي0
وقال الخُوَيِّىّ : علم التفسير عسير يسير ، أما عسره فظاهر من وجوه ، أظهرها أنه كلام متكلم ، لم يصل الناس إلى مراده بالسماع منه ، ولا إمكان الوصول إليه ، بخلاف الأمثال والأشعار ونحوها ، فإن الإنسان يمكن علمه منه إذا تكلم بأن يسمع منه أو ممن سمع منه ، وأما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم إلا بأن يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك متعذر إلا فى آيات قلائل ، فالعلم بالمراد يستنبط بأمارات ودلائل ، والحكمة فيه أن الله تعالى أراد أن يتفكر عباده فى كتابه ، فلم يأمر نبيه بالتنصيص على المراد فى جميع آياته (6)0
شرف التفسير
وأما شرفه فلا يخفى ، قال تعالى : ( يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا ) [ البقرة : 269 ] 0
أخرج ابن أبى حاتم وغيره ، من طريق ابن أبى طلحة ، عن ابن عباس فى قوله : ( يؤتى الحكمة) ، قال : المعرفة بالقرآن ، ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله 0
وأخرج ابن مردويه من طريق جُوَيْبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، مرفوعا ( يؤتى الحكمة) ، قال : القرآن ، قال ابن عباس : يعنى تفسيره ، فإنه قد قرأه البر والفاجر0
وأخرج ابن أبى حاتم عن أبى الدرداء : ( يؤتى الحكمة ) ، قال : قراءة القرآن ، والفكرة فيه0 وأخرج ابن جرير مثله عن مجاهد وأبى العالية وقتادة0
وقال تعالى : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) [ العنكبوت : 43 ]0
أخرج ابن أبى حاتم ، عن عمرو بن مرة ، قال : ما مررت بآية فى كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنتنى ، لأنى سمعت الله يقول : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) 0
وأخرج أبو عبيد ، عن الحسن ، قال : ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن تعلم فيم أنزلت ، وما أراد بها 0
وأخرج أبو ذر الهروى فى فضائل القرآن من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : الذى يقرأ القرآن ولا يحسن تفسيره ، كالأعرابى يهذ الشعر هذاًّ [ الهذ : سرعة القراءة ، وفى اللسان : " وفى حديث ابن عباس ، قال له رجل : قرأت المفصل ، فقال : أهذا كهذا الشعر ! أراد : أتهذ القرآن هذا ، فتسرع به كما تسرع فى قراءة الشعر " !0
وأخرج البيهقى وغيره من حديث أبى هريرة مرفوعا : " أعربوا القرآن ، والتمسوا غرائبه"0
وأخرج ابن الأنبارى ، عن أبى بكر الصديق ، قال : لأن أعرب آية من القرآن أحب إلى من أن أحفظ آية 0
وأخرج أيضا عن عبد الله بن بريدة ، عن رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ، قال : " لو أنى أعلم إذا سافرت أربعين ليلة ، أعربت آية من كتاب الله لفعلت " 0
وأخرج أيضا من طريق الشعبى ، قال : قال عمر : " من قرأ القرآن فأعربه ، كان له عند الله أجر شهيد " 0
قلت : معنى هذه الآثار عندى إرادة البيان والتفسير ؛ لأن إطلاق الإعراب على الحكم النحوى اصطلاح حادث ، ولأنه كان فى سليقتهم لا يحتاجون إلى تعلمه ، ثم رأيت ابن النقيب جنح إلى ما ذكرته ، وقال : ويجوز أن يكون المراد الإعراب الصناعى ؛ وفيه بعد 0
وقد يستدل له بما أخرجه السَّلفى فى الطيوريات ، من حديث ابن عمر مرفوعا : " أعربوا القرآن يدلكم على تأويله"0
وقد أجمع العلماء أن التفسير من فروض الكفايات وأجل العلوم الثلاثة الشرعية (6)0
أنواع الاختلاف فى التفسير
نماذج ـ وأسباب
وقال ابن تيمية فى كتاب ألفه فى هذا النوع : يجب أن يُعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه معانى القرآن ، كما بيَّن لهم ألفاظه ، فقوله تعالى : ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) [ النحل : 44 ] ، يتناول هذا وهذا ، وقد قال أبو عبد الرحمن السُّلمى : حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما ، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبى صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل 0
قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا ، ولهذا كانوا يبقون مدة فى حفظ السورة 0
وقال أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فى أعيننا ، رواه أحمد فى مسنده0
وأقام ابن عمر على حفظ البقرة ثمان سنين ، أخرجه فى الموطأ ، وذلك أن الله قال : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) [ ص 29 ] ، وقال : ( أفلا يتدبرون القرآن ) [ النساء 82 ] ، وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن 0
وأيضا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا فى فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحونه ، فكيف بكلام الله الذى هو عصمتهم ، وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم ! ولهذا كان النزاع بين الصحابة فى تفسير القرآن قليل جدا ، وهو وإن كان بين التابعين أكثر منه بين الصحابة ؛ فهو قليل بالنسبة إلى ما بعدهم0
ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة ، وربما تكلموا فى بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال 0 والخلاف بين السلف فى التفسير قليل (6) ، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد ؛ وذلك صنفان ،
أحدهما : أن يعبر واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه ، تدل على معنى فى المسمى غير المعنى الآخر ، مع اتحاد المسمى ، كتفسيرهم " الصراط المستقيم" بعض بالقرآن ، أى اتباعه وبعض بالإسلام ، فالقولان متفقان ، لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن ؛ ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر ،
وكذلك قول من قال : هو السنة والجماعة ، وقول من قال : هو طريق العبودية ، وقول من قال : هو طاعة الله ورسوله ، وأمثال ذلك ؛ فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة ، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها0
الثانى : أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع ، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود فى عمومه وخصوصه ؛ مثاله ما نقل فى قوله تعالى : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا 000) [ فاطر : 32 ] ، الآية ، فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للحرمات ، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات 0 وتارك المحرمات ، والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات ؛ فالمقتصدون أصحاب اليمين ؛ والسابقون السابقون أولئك المقربون0
ثم إن كلا منهم يذكر هذا فى نوع من أنواع الطاعات ، كقول القائل : السابق الذى يصلى أول الوقت ، والمقتصد الذى يصلى فى أثنائه ، والظالم لنفسه الذى يؤخر العصر إلى الاصفرار0 أو يقول : السابق المحسن بالصدقة مع الزكاة ، والمقتصد الذى يؤدى الزكاة المفروضة فقط ، والظالم مانع الزكاة0
قال : وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما فى تنوع التفسير ؛ تارة لتنوع الأسماء والصفات ، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى ، هو الغالب فى تفسير سلف الأمة الذى يظن أنه مختلف0
ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملا لأمرين ؛ إما لكونه مشتركا فى اللغة ، كلفظ " قسورة" الذى يراد به الرامى ، ويراد به الأسد ، ولفظ " عسعس" الذى يراد به إقبال الليل وإدباره ؛ وإما لكونه متواطئا فى الأصل ؛ لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشخصين ، كالضمائر فى قوله : ( ثم دنا فتدلى ) [ النجم : 8 ] الآية ، وكلفظ الفجر والشفع والوتر وليال عشر ، وأشباه ذلك ، فمثل هذا قد يجوز أن يراد كل المعانى التى قالها السلف ، وقد لا يجوز ذلك 0
فالأول إما لكون الآية نزلت مرتين ، فأريد بها هذا تارة ، وهذا تارة ، وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه ، وإما لكون اللفظ متواطئا ، فيكون عاما إذا لم يكن لمخصصه موجب؛ فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثانى 0
ومن الأقوال الموجودة عنهم ، ويجعلها بعض الناس اختلافا أن يعبروا عن المعانى بألفاظ متقاربة ، كما إذا فسر بعضهم " تبسل " بـ " تحبس " ، وبعضهم بـ " ترتهن " ؛ لأن كلا منهما قريب من الآخر 0
ثم قال : فصل : والاختلاف فى التفسير على نوعين : منه ما مستنده النقل فقط ، ومنه ما يعلم بغير ذلك ، والمنقول إما عن المعصوم أو غيره ، ومنه ما يمكن معرفة الصحيح منه من غيره ، ومنه ما لا يمكن ذلك ؛ وهذا القسم الذى لا يمكن معرفة صحيحه من ضعيفه عامته مما لا فائدة فيه ، ولا حاجة بنا إلى معرفته ؛ وذلك كاختلافهم فى لون كلب أصحاب الكهف واسمه ، وفى البعض الذى ضُرب به القتيل من البقرة ، وفى قدر سفينة نوح وخشبها ، وفى اسم الغلام الذى قتله الخضر ، ونحو ذلك ؛ فهذه الأمور طريق العلم بها النقل ؛ فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبى صلى الله عليه وسلم قبل ، وما نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب وقف عن تصديقه وتكذيبه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ، ولا تكذبوهم"0
وكذا ما نقل عن بعض التابعين وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب ، فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض ، وما نقل فى ذلك عن الصحابة نقلاً صحيحاً ، فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين ؛ لأن احتمال أن يكون سمعه من النبى صلى الله عليه وسلم أو من بعض من سمعه منه أقوى ؛ ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين0
ومع جزم الصحابى بما يقوله ، كيف يقال : إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نُهوا عن تصديقهم ! وأما القسم الذى يمكن معرفة الصحيح منه ؛ فهذا موجود كثيرا ولله الحمد ؛ وإن قال الإمام أحمد : " ثلاثة ليس لها أصل : التفسير والملاحم والمغازى" 0 وذلك لأن الغالب عليها المراسيل0
وأما ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل ؛ فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان ، فإن التفاسير التى يذكر فيها كلام هؤلاء صرفا لا يكاد يوجد فيها شئ من هاتين الجهتين ؛ مثل تفسير عبد الرازق والفريابى ، ووكيع وعبد وإسحاق وأمثالهم ؛ أحدهما قوم اعتقدوا معانى ، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها0 والثانى قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب ، من غير نظر إلى التكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به ؛ فالأولون راعوا المعنى الذى رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان ، والآخرون راعوا مجرد اللفظ ، وما يجوز أن يزيد به العربى من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم وسياق الكلام 0 ثم هؤلاء كثيرا ما يغلطون فى احتمال اللفظ لذلك المعنى فى اللغة ، كما يغلط فى ذلك الذين قبلهم ، كما أن الأولين كثيرا ما يغلطون فى صحة المعنى الذى فسروا به القرآن، كما يغلط فى ذلك الآخرون ؛ وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق ، ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق 0 والأولون صنفان : تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به ، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ، ولم يرد به ، وفى كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلا ، فيكون خطرهم فى الدليل والمدلول ، وقد يكون حقا ؛ فيكون خطرهم فى الدليل لا فى المدلول ؛ فالذين أخطئوا فيهما مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذاهب باطلة ، وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على رأيهم ، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين ؛ لا فى رأيهم ولا فى تفسيرهم ؛ وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم ، مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم والجبائىّ وعبد الجبار والرمانىّ والزمخشرىّ وأمثالهم0
ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة ، يدس البدع فى كلامه ، وأكثر الناس لا يعلمون كصاحب الكشاف ونحوه ؛ حتى إنه يروج على خلق كثير من أهل السنة كثير من تفاسيرهم الباطلة0 وتفسير ابن عطية وأمثاله أتبع للسنة ، وأسلم من البدعة ، ولو ذكر كلام السلف المأثور عنهم على وجهه لكان أحسن ، فإنه كثيرا ما ينقل من تفسير ابن جرير الطبرى ؛ وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدرا ، ثم إنه يدع ما ينقله عن السلف، ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين ، وإنما يعنى بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم ، وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة ؛ لكن ينبغى أن يعطى كل ذى حق حقه ، فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم فى الآية تفسير ، وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه ؛ وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين ، صار مشاركا للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع فى مثل هذا0 وفى الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا فى ذلك ، بل مبتدعا ، لأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه ، كما أنهم أعلم بالحق الذى بعث الله به رسوله0 وأما الذين أخطئوا فى الدليل لا المدلول فمثل كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء ، يفسرون القرآن بمعان صحيحة فى نفسها ، لكن القرآن لا يدل عليها ؛ مثل كثير مما ذكره السُّلمى فى الحقائق؛ فإن كان فيما ذكروه معان باطلة دخل فى القسم الأول 0 انتهى كلام ابن تيمية ملخصا ، وهو نفيس جدا0
المصادر والحواشى
1 السيوطى 00 الإتقان فى علوم القرآن 4/173
2 مناع القطان 00 مباحث فى علوم القرآن ص 323 ، 324
3 السيوطي 00 نفس المصدر 4/169
4 رواه : البخارى ومسلم 71
5 مناع القطان 00 نفس المصدر ص 325 ، 326
6 السيوطى 00 نفس المصدر 4/170 ،
إذا عرف ذلك ، فصناعة التفسير قد حازت الشرف من الجهات الثلاث ؛ أمّا من جهة الموضوع ، فلأن موضوعه كلام الله تعالى الذى هو ينبوع كل حكمة ، ومعدن كل فضيلة ، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، لا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضى عجائبه 0 وأما من جهة الغرض ، فلأن الغرض منه هو الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى السعادة الحقيقية التى لا تفنى 0 وأما من جهة شدة الحاجة ، فلأن كل كمال دينى أو دنيوى عاجلى أو آجلى ، مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية ؛ وهى متوقفة على العلم بكتاب الله تعالى (1)
معنى التفسير لغة واصطلاحا
التفسير فى اللغة : تفعيل من الفسر بمعنى الإبانة والكشف وإظهار المعنى المعقول ، وفعله : كضرب ونصر ، يقال : فسر الشئ يفسر بالكسر ويفسره بالضم فسرا ، وفسره : أبانه ، والتفسير والفسر : الإبانة وكشف المغطى ، وفى لسان العرب : الفسر كشف المغطى 0 والتفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل 0 وفى القرآن ( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) [33 ـ الفرقان] أى بيانا وتفصيلا 0
وقال ابن عباس فى قوله تعال : ( وأحسن تفسيرا) أى تفصيلا0
وقال بعضهم : هو مقلوب من "سَفَر" ومعناه أيضا : الكشف ، يقال : سفرت المرأة سفورا : إذا ألقت خمارها عن وجهها ، وهى سافرة ، وأسفر الصبح : أضاء ، وإنما بنوه على التفعيل، لأنه للتكثير ، كقوله تعالى : ( يذبحون أبناءكم ) [ 49ـ البقرة ]وقوله : ( وغلقت الأبواب ) [23ـ يوسف ] فكأنه يتبع سورة بعد سورة ، وآية بعد أخرى 0
وقال الراغب : الفسر والسفر يتقارب معناهما كتقارب لفظيهما ، لكن جعل الفسر لإظهار المعنى المعقول، وجعل السفر لإبراز الأعيان للأبصار ، فقيل سفرت المرأة عن وجهها ، وأسفر الصبح(2)
والتفسير فى الاصطلاح : ـ عرفه أبو حيان بأنه : " علم يبحث عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية ، ومعانيها التى تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك0
ثم خرج التعريف فقال : فقولنا : علم ، هو جنس يشمل سائر العلوم ، وقولنا : يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ، هذا هو علم القراءات ، وقولنا ومدلولاتها ، أى مدلولات تلك الألفاظ ، وهذا هو علم اللغة الذى يحتاج إليه فى هذا العلم ، وقولنا : وأحكامنا الإفرادية والتركيبية، هذا يشمل علم التصريف وعلم الإعراب ، وعلم البيان ، وعلم البديع ، وقولنا : ومعانيها التى تحمل عليها حالة التركيب ، يشمل ما دلالته عليه بالحقيقة ، وما دلالته عليه بالمجاز ، فإن التركيب قد يقتضى بظاهره شيئا ويصد عن الحمل على الظاهر صاد فيحتاج لأجل ذلك أن يحمل على غير الظاهر، وهو المجاز ، وقولنا : وتتمات لذلك 0 هو معرفة النسخ وسبب النزول ، وقصة توضيح بعض ما أنبهم فى القرآن ونحو ذلك 0
وقال الزركشى : التفسير : علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وبيان معانيه ، واستخراج أحكامه وحكمه (3)
التأويل : لغة واصطلاحا
والتأويل فى اللغة : مأخوذ من الأول ، وهو الرجوع إلى الأصل ، يقال : آل إليه أولا ومآلا : رجع 00 ويقال : أول الكلام تأويلا وتأوله : دبره وقدره وفسره0 وعلى هذا : فتأويل الكلام فى الاصطلاح له معنيان :
1ـ تأويل تأويل الكلام : بمعنى ما أوله إليه المتكلم أو ما يؤول إليه الكلام ويرجع ، والكلام إنما يرجع ويعود إلى حقيقته التى هى عين المقصود0 وهو نوعان : انشاء وإخبار ، ومن الإنشاء الأمر 0
فتأويل الأمر : هو الفعل المأمور به ، ومن ذلك ما روى عن عائشة رضى الله عنها قالت(4): " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لى ، يتأول القرآن 0 تعنى قوله تعالى( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) [2 ـ النصر ]0
وتأويل الإخبار : هو عين المخبر به إذا وقع 0 كقوله تعالى : ( ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ، هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل ) [ 52،53 ـ الأعراف ] فقد أخبر أنه فصل الكتاب ، وأنهم لا ينتظرون إلا تأويله ، أى مجئ ما أخبر القرآن بوقوعه ، من القيامة وأشراطها ، وما فى الآخرة من الصحف والموازين والجنة والنار وغير ذلك 0 فحينئذ يقولون : ( قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل ) ؟
2ـ تأويل الكلام : أى تفسيره وبيان معناه0 وهو ما يعنيه ابن جرير الطبرى فى تفسيره بقوله : " القول فى تأويل قوله تعالى كذا وكذا " وبقوله : " اختلف أهل التأويل فى هذه الآية " فإن مراده التفسير0
والتأويل فى عرف المتأخرين : هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به ـ وهذا الاصطلاح لا يتفق مع ما يراد بلفظ التأويل فى القرآن عند السلف0
هذا ومن العلماء من يفرق بين المعنى ، والتفسير ، والتأويل ، للتفاوت بينها لغة وإن كانت متقاربة .
قال ابن فارس : معانى العبارات التى يعبر بها عن الأشياء ترجع إلى ثلاثة : المعنى ، والتفسير ، والتأويل ، وهى وإن اختلفت فالمقاصد بها متقاربة :
فأما المعنى : فهو القصد والمراد ، يقال : عنيت بهذا الكلام كذا ، أى قصدت وعمدت ، وهو مشتق من الإظهار ، يقال : عَنَت القِربة ، إذا لم تحفظ الماء بل أظهرته ، ومن هذا عنوان الكتاب0
وأما التفسير فى اللغة : فهو راجع إلى معنى الإظهار والكشف 0 وقال ابن الأنبارى : قول العرب : فسَرْتُ الدابة وفسّرتها ، إذا ركضتها محصورة لينطلق حصرها ، وهو يؤول إلى الكشف أيضا0 فالتفسير كشف المغلق من المراد بلفظه ، وإطلاقٌ للمحتبس عن الفهم به 0
وأما التأويل : فأصله فى اللغة من الأوْل ، ومعنى قولهم : ما تأويل هذا الكلام ؟ أى إلام تؤول العاقبة فى المراد به ؟ كقوله تعالى ( يوم يأتى تأويله ) [ 53ـ الأعراف ] أى تكشف عاقبته ، ويقال : آل الأمر إلى كذا ، أى صار إليه ، وقال تعالى : (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) [ 82 ـ الكهف ] وأصله من المآل ، وهو العاقبة والمصير ، وقد أولته فآل ـ أى صرفته فانصرف فكأن التأويل صرف الآية إلى ما تحتمله من المعانى 0 وإنما بنوه على التفعيل للتكثير (5)
الفرق بين التفسير والتأويل
اختلف العلماء فى الفرق بين التفسير والتأويل ـ وعلى ضوء ما سبق فى معنى التفسير والتأويل نستطيع أن نستخلص أهم الآراء فيما يأتى :
1ـ إذا قلنا : أن التأويل هو تفسير الكلام وبيان معناه / فالتأويل والتفسير على هذا متقاربان أو مترادفان ، ومنه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس " اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل "0
2ـ وإذا قلنا أن التأويل هو نفس المراد بالكلام ، فتأويل الطلب نفس الفعل المطلوب ، وتأويل الخبر نفس الشئ المُخبَر به ، فعلى هذا يكون الفرق كبيرا بين التفسير والتأويل ، لأن التفسير شرح وإيضاح للكلام ، ويكون وجوده فى الذهن بتعقله ، وفى اللسان بالعبارة الدالة عليه ، أما التأويل فهو نفس الأمور الموجودة فى الخارج ، فإذا قيل : طلعت الشمس ، فتأويل هذا هو نفس طلوعها ، وهذا هو الغالب فى لغة القرآن كما تقدم ، قال تعالى ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ، بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) [ 38 ـ 39 يونس ] فالمراد بالتأويل وقوع المخبر به 0
3ـ وقيل : التفسير : ما وقع مبينا فى كتاب لله أو معينا فى صحيح السنة ، لأن معناه قد ظهر ووضح ، والتأويل ما استنبطه العلماء ، ولذا قال بعضهم : "التفسير ما يتعلق بالرواية ، والتأويل ما يتعلق بالدراية"
4ـ وقيل : التفسير : أكثر ما يستعمل فى الألفاظ ومفرداتها ، والتأويل : أكثر ما يستعمل فى المعانى والجمل ـ وقيل غير ذلك (5) 0
وجه الحاجة إلى التفسير
وأما وجه الحاجة إليه ، فقال بعضهم : اعلم أن من المعلوم أن الله إنما خاطب خلقه بما يفهمونه ؛ ولذلك أرسل كل رسول بلسان قومه ، وأنزل كتابه على لغتهم ، وإنما احتيج إلى التفسير لما سيذكر بعد تقرير قاعدة ؛ وهى أن كل من وضع من البشر كتابا فإنما وضعه ليُفهَم بذاته من غير شرح ، وإنما احتيج إلى الشروح لأمور ثلاثة :
أحدها كمال فضيلة المصنَّف ، فإنه لقوته العلمية يجمع المعانى الدقيقة فى اللفظ الوجيز ، فربما عسُر فهم مراده ، فقصد بالشرح ظهور تلك المعانى الخفية ، ومن هنا كان شرح بعض الأئمة تصنيفَه أدلُّ على المراد من شرح غيره له 0
وثانيها : إغفاله بعض تتمات المسألة ، أو شروط لها ، اعتمادا على وضوحها ، أو لأنها من علم آخر فيحتاج الشارح لبيان المحذوف ومراتبه0
وثالثها : احتمال اللفظ لمعان كما فى المجاز والاشتراك ، ودلالة الالتزام ؛ فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه ، وقد يقع فى التصانيف ما لا يخلو عنه بَشَر من السهو والغلط ، أو تكرار الشئ أو حذف المبهم وغير ذلك ؛ فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك 0
إذا تقرر هذا فنقول : إن القرآن إنما نزل بلسان عربى فى زمن أفصح العرب ، وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه ، أما دقائق باطنه ، فإنما كان يظهر لهم بعد البحث والنظر ، مع سؤالهم النبى صلى الله عليه وسلم فى الأكثر ، كسؤالهم لما نزل قوله ( ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) [ الأنعام : 82 ] ، فقالوا : وأينا لم يظلم نفسه ! ففسره النبى صلى الله عليه وسلم ؛ واستدل عليه بقوله : ( إن الشرك لظلم عظيم ) [ لقمان 13 ] ، وكسؤال عائشة عن الحساب اليسير فقال : " ذلك العرض" ، وكقصة عدى بن حاتم فى الخيط الأبيض والأسود وغيره ذلك ؛ مما سألوا عن آحاد منه ؛ ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه وزيادة على ذلك مما لم يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر ؛ لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم ، فنحن أشد الناس احتياجا إلى التفسير ، ومعلوم أن تفسيره بعضه يكون من قبل بسط الألفاظ الوجيزة ، وكشف معانيها ، وبعضه من قبل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض 0 انتهي0
وقال الخُوَيِّىّ : علم التفسير عسير يسير ، أما عسره فظاهر من وجوه ، أظهرها أنه كلام متكلم ، لم يصل الناس إلى مراده بالسماع منه ، ولا إمكان الوصول إليه ، بخلاف الأمثال والأشعار ونحوها ، فإن الإنسان يمكن علمه منه إذا تكلم بأن يسمع منه أو ممن سمع منه ، وأما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم إلا بأن يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك متعذر إلا فى آيات قلائل ، فالعلم بالمراد يستنبط بأمارات ودلائل ، والحكمة فيه أن الله تعالى أراد أن يتفكر عباده فى كتابه ، فلم يأمر نبيه بالتنصيص على المراد فى جميع آياته (6)0
شرف التفسير
وأما شرفه فلا يخفى ، قال تعالى : ( يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا ) [ البقرة : 269 ] 0
أخرج ابن أبى حاتم وغيره ، من طريق ابن أبى طلحة ، عن ابن عباس فى قوله : ( يؤتى الحكمة) ، قال : المعرفة بالقرآن ، ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله 0
وأخرج ابن مردويه من طريق جُوَيْبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، مرفوعا ( يؤتى الحكمة) ، قال : القرآن ، قال ابن عباس : يعنى تفسيره ، فإنه قد قرأه البر والفاجر0
وأخرج ابن أبى حاتم عن أبى الدرداء : ( يؤتى الحكمة ) ، قال : قراءة القرآن ، والفكرة فيه0 وأخرج ابن جرير مثله عن مجاهد وأبى العالية وقتادة0
وقال تعالى : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) [ العنكبوت : 43 ]0
أخرج ابن أبى حاتم ، عن عمرو بن مرة ، قال : ما مررت بآية فى كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنتنى ، لأنى سمعت الله يقول : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) 0
وأخرج أبو عبيد ، عن الحسن ، قال : ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن تعلم فيم أنزلت ، وما أراد بها 0
وأخرج أبو ذر الهروى فى فضائل القرآن من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : الذى يقرأ القرآن ولا يحسن تفسيره ، كالأعرابى يهذ الشعر هذاًّ [ الهذ : سرعة القراءة ، وفى اللسان : " وفى حديث ابن عباس ، قال له رجل : قرأت المفصل ، فقال : أهذا كهذا الشعر ! أراد : أتهذ القرآن هذا ، فتسرع به كما تسرع فى قراءة الشعر " !0
وأخرج البيهقى وغيره من حديث أبى هريرة مرفوعا : " أعربوا القرآن ، والتمسوا غرائبه"0
وأخرج ابن الأنبارى ، عن أبى بكر الصديق ، قال : لأن أعرب آية من القرآن أحب إلى من أن أحفظ آية 0
وأخرج أيضا عن عبد الله بن بريدة ، عن رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ، قال : " لو أنى أعلم إذا سافرت أربعين ليلة ، أعربت آية من كتاب الله لفعلت " 0
وأخرج أيضا من طريق الشعبى ، قال : قال عمر : " من قرأ القرآن فأعربه ، كان له عند الله أجر شهيد " 0
قلت : معنى هذه الآثار عندى إرادة البيان والتفسير ؛ لأن إطلاق الإعراب على الحكم النحوى اصطلاح حادث ، ولأنه كان فى سليقتهم لا يحتاجون إلى تعلمه ، ثم رأيت ابن النقيب جنح إلى ما ذكرته ، وقال : ويجوز أن يكون المراد الإعراب الصناعى ؛ وفيه بعد 0
وقد يستدل له بما أخرجه السَّلفى فى الطيوريات ، من حديث ابن عمر مرفوعا : " أعربوا القرآن يدلكم على تأويله"0
وقد أجمع العلماء أن التفسير من فروض الكفايات وأجل العلوم الثلاثة الشرعية (6)0
أنواع الاختلاف فى التفسير
نماذج ـ وأسباب
وقال ابن تيمية فى كتاب ألفه فى هذا النوع : يجب أن يُعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه معانى القرآن ، كما بيَّن لهم ألفاظه ، فقوله تعالى : ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) [ النحل : 44 ] ، يتناول هذا وهذا ، وقد قال أبو عبد الرحمن السُّلمى : حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما ، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبى صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل 0
قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا ، ولهذا كانوا يبقون مدة فى حفظ السورة 0
وقال أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فى أعيننا ، رواه أحمد فى مسنده0
وأقام ابن عمر على حفظ البقرة ثمان سنين ، أخرجه فى الموطأ ، وذلك أن الله قال : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) [ ص 29 ] ، وقال : ( أفلا يتدبرون القرآن ) [ النساء 82 ] ، وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن 0
وأيضا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا فى فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحونه ، فكيف بكلام الله الذى هو عصمتهم ، وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم ! ولهذا كان النزاع بين الصحابة فى تفسير القرآن قليل جدا ، وهو وإن كان بين التابعين أكثر منه بين الصحابة ؛ فهو قليل بالنسبة إلى ما بعدهم0
ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة ، وربما تكلموا فى بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال 0 والخلاف بين السلف فى التفسير قليل (6) ، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد ؛ وذلك صنفان ،
أحدهما : أن يعبر واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه ، تدل على معنى فى المسمى غير المعنى الآخر ، مع اتحاد المسمى ، كتفسيرهم " الصراط المستقيم" بعض بالقرآن ، أى اتباعه وبعض بالإسلام ، فالقولان متفقان ، لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن ؛ ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر ،
وكذلك قول من قال : هو السنة والجماعة ، وقول من قال : هو طريق العبودية ، وقول من قال : هو طاعة الله ورسوله ، وأمثال ذلك ؛ فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة ، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها0
الثانى : أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع ، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود فى عمومه وخصوصه ؛ مثاله ما نقل فى قوله تعالى : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا 000) [ فاطر : 32 ] ، الآية ، فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للحرمات ، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات 0 وتارك المحرمات ، والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات ؛ فالمقتصدون أصحاب اليمين ؛ والسابقون السابقون أولئك المقربون0
ثم إن كلا منهم يذكر هذا فى نوع من أنواع الطاعات ، كقول القائل : السابق الذى يصلى أول الوقت ، والمقتصد الذى يصلى فى أثنائه ، والظالم لنفسه الذى يؤخر العصر إلى الاصفرار0 أو يقول : السابق المحسن بالصدقة مع الزكاة ، والمقتصد الذى يؤدى الزكاة المفروضة فقط ، والظالم مانع الزكاة0
قال : وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما فى تنوع التفسير ؛ تارة لتنوع الأسماء والصفات ، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى ، هو الغالب فى تفسير سلف الأمة الذى يظن أنه مختلف0
ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملا لأمرين ؛ إما لكونه مشتركا فى اللغة ، كلفظ " قسورة" الذى يراد به الرامى ، ويراد به الأسد ، ولفظ " عسعس" الذى يراد به إقبال الليل وإدباره ؛ وإما لكونه متواطئا فى الأصل ؛ لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشخصين ، كالضمائر فى قوله : ( ثم دنا فتدلى ) [ النجم : 8 ] الآية ، وكلفظ الفجر والشفع والوتر وليال عشر ، وأشباه ذلك ، فمثل هذا قد يجوز أن يراد كل المعانى التى قالها السلف ، وقد لا يجوز ذلك 0
فالأول إما لكون الآية نزلت مرتين ، فأريد بها هذا تارة ، وهذا تارة ، وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه ، وإما لكون اللفظ متواطئا ، فيكون عاما إذا لم يكن لمخصصه موجب؛ فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثانى 0
ومن الأقوال الموجودة عنهم ، ويجعلها بعض الناس اختلافا أن يعبروا عن المعانى بألفاظ متقاربة ، كما إذا فسر بعضهم " تبسل " بـ " تحبس " ، وبعضهم بـ " ترتهن " ؛ لأن كلا منهما قريب من الآخر 0
ثم قال : فصل : والاختلاف فى التفسير على نوعين : منه ما مستنده النقل فقط ، ومنه ما يعلم بغير ذلك ، والمنقول إما عن المعصوم أو غيره ، ومنه ما يمكن معرفة الصحيح منه من غيره ، ومنه ما لا يمكن ذلك ؛ وهذا القسم الذى لا يمكن معرفة صحيحه من ضعيفه عامته مما لا فائدة فيه ، ولا حاجة بنا إلى معرفته ؛ وذلك كاختلافهم فى لون كلب أصحاب الكهف واسمه ، وفى البعض الذى ضُرب به القتيل من البقرة ، وفى قدر سفينة نوح وخشبها ، وفى اسم الغلام الذى قتله الخضر ، ونحو ذلك ؛ فهذه الأمور طريق العلم بها النقل ؛ فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبى صلى الله عليه وسلم قبل ، وما نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب وقف عن تصديقه وتكذيبه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ، ولا تكذبوهم"0
وكذا ما نقل عن بعض التابعين وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب ، فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض ، وما نقل فى ذلك عن الصحابة نقلاً صحيحاً ، فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين ؛ لأن احتمال أن يكون سمعه من النبى صلى الله عليه وسلم أو من بعض من سمعه منه أقوى ؛ ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين0
ومع جزم الصحابى بما يقوله ، كيف يقال : إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نُهوا عن تصديقهم ! وأما القسم الذى يمكن معرفة الصحيح منه ؛ فهذا موجود كثيرا ولله الحمد ؛ وإن قال الإمام أحمد : " ثلاثة ليس لها أصل : التفسير والملاحم والمغازى" 0 وذلك لأن الغالب عليها المراسيل0
وأما ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل ؛ فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان ، فإن التفاسير التى يذكر فيها كلام هؤلاء صرفا لا يكاد يوجد فيها شئ من هاتين الجهتين ؛ مثل تفسير عبد الرازق والفريابى ، ووكيع وعبد وإسحاق وأمثالهم ؛ أحدهما قوم اعتقدوا معانى ، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها0 والثانى قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب ، من غير نظر إلى التكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به ؛ فالأولون راعوا المعنى الذى رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان ، والآخرون راعوا مجرد اللفظ ، وما يجوز أن يزيد به العربى من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم وسياق الكلام 0 ثم هؤلاء كثيرا ما يغلطون فى احتمال اللفظ لذلك المعنى فى اللغة ، كما يغلط فى ذلك الذين قبلهم ، كما أن الأولين كثيرا ما يغلطون فى صحة المعنى الذى فسروا به القرآن، كما يغلط فى ذلك الآخرون ؛ وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق ، ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق 0 والأولون صنفان : تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به ، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ، ولم يرد به ، وفى كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلا ، فيكون خطرهم فى الدليل والمدلول ، وقد يكون حقا ؛ فيكون خطرهم فى الدليل لا فى المدلول ؛ فالذين أخطئوا فيهما مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذاهب باطلة ، وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على رأيهم ، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين ؛ لا فى رأيهم ولا فى تفسيرهم ؛ وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم ، مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم والجبائىّ وعبد الجبار والرمانىّ والزمخشرىّ وأمثالهم0
ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة ، يدس البدع فى كلامه ، وأكثر الناس لا يعلمون كصاحب الكشاف ونحوه ؛ حتى إنه يروج على خلق كثير من أهل السنة كثير من تفاسيرهم الباطلة0 وتفسير ابن عطية وأمثاله أتبع للسنة ، وأسلم من البدعة ، ولو ذكر كلام السلف المأثور عنهم على وجهه لكان أحسن ، فإنه كثيرا ما ينقل من تفسير ابن جرير الطبرى ؛ وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدرا ، ثم إنه يدع ما ينقله عن السلف، ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين ، وإنما يعنى بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم ، وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة ؛ لكن ينبغى أن يعطى كل ذى حق حقه ، فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم فى الآية تفسير ، وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه ؛ وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين ، صار مشاركا للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع فى مثل هذا0 وفى الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا فى ذلك ، بل مبتدعا ، لأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه ، كما أنهم أعلم بالحق الذى بعث الله به رسوله0 وأما الذين أخطئوا فى الدليل لا المدلول فمثل كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء ، يفسرون القرآن بمعان صحيحة فى نفسها ، لكن القرآن لا يدل عليها ؛ مثل كثير مما ذكره السُّلمى فى الحقائق؛ فإن كان فيما ذكروه معان باطلة دخل فى القسم الأول 0 انتهى كلام ابن تيمية ملخصا ، وهو نفيس جدا0
المصادر والحواشى
1 السيوطى 00 الإتقان فى علوم القرآن 4/173
2 مناع القطان 00 مباحث فى علوم القرآن ص 323 ، 324
3 السيوطي 00 نفس المصدر 4/169
4 رواه : البخارى ومسلم 71
5 مناع القطان 00 نفس المصدر ص 325 ، 326
6 السيوطى 00 نفس المصدر 4/170 ،