الجمعة، 16 مارس 2012

موسوعة الفقه : الحكم الشرعى وأقسامه

الحكم الشرعى

تعريف الحكم الشرعي
تعريف الحكم لغة:

        الحكم في اللغة يعني إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، ويعني أيضاً القضاء والإلزام والمنع قال جرير:

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا

        ويقال أحكمت فلاناً أي منعته، وبه سمى الحاكم حاكماً لأنه يمنع الظالم، وحكمت السفيه وأحكمته إذا أخذت على يده وحكمة اللجام ما أحاط بحنكي الدابة. (لسان العرب. مادة حكم (12/144))

تعريف الحكم اصطلاحاً:

أ- اصطلاح الأصوليين:

        يعرف علماء أصول الفقه الحكم الشرعي بأنه (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين طلباً أو تخييراً أو وضعاً)، فيعنون بخطاب الله كل ما يدخل تحت الدليل الشرعي كالقرآن، والسنة، والإجماع، والقياس لأن كل ذلك إما أن يكون خطاب الله مباشرة كالقرآن وإما أن يعود إلى القرآن والسنة، فالسنة شارحة للقرآن عائدة إليه والإجماع بتوفيق الله للأمة لأن الأمة لا تجتمع بتوفيق الله على ضلالة، وأما القياس والاجتهاد فهو ما يظن أيضاً أنه حكم الله وخطابه إلى المكلفين، والمهم أن التعريف الأصولي يعني (بخطاب الله) كل ذلك.

        وقولهم (المتعلق بأفعال المكلفين) خرج بذلك خطاب الله الذي لا يتعلق بأفعال المكلفين، كأسماء الله وصفاته والغيب والآخرة.

        وأما قولهم (طلباً) أي ما طلب منهم فعله أو الكف عنه، وما طلب الله فعله ينقسم إلى واجب ومستحب، وما طلب الكف عنه ينقسم إلى قسمين أيضاً، حرام ومكروه.

        وقولهم (أو تخييراً) يعنون به قسماً واحداً وهو المباح.

        وقولهـم (أو وضعاً) يعنون به ما جعله الله شرطاً لحكم ما، أو مانعاً منه، أو سبباً، وهكذا ينقسم الحكم الشرعي في
اصطلاح الأصوليين إلى قسمين من حيث الجملة:

(1) الحكم الشرعي التكليفي.

(2) الحكم الشرعي الوضعي

الحكم الشرعي... (في : اصطلاح الفقهاء ، واصطلاح الأصوليين)
الفقهاء وعلماء الفروع يعنون بالحكم الشرعي في لغتهم الأثر الذي يترتب على الدليل كالوجوب والحرمة والإباحة، وأما علماء الأصول فيعنون دليل الحكم الذي هو الآية أو الحديث أو نص الإجماع وهكذا.

        فمثلاً قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} (البقرة:43) هذا هو الحكم نفسه عند الأصوليين، وأما عند الفقهاء فيعنون ما يترتب على هذا النص وهو وجوب الصلاة
...........................................

أقسام الحكم الشرعي التكليفي
ينقسم الحكم الشرعي التكليفي إلى خمسة أقسام هي: (الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والتحريم) وهي -كما ترى- طرفان وواسطة.

        فالطرف الأول: هو المطلوب من المكلف الإتيان به، وهو الواجب والمندوب فالواجب ما طلب منا فعله على وجه الإلزام، والمستحب ما طلب منا فعله على وجه الندب والاستحباب.

        أما الطرف الثاني: فهو المطلوب منا تركه والكف عنه وهو الحرام والمكروه، فالحرام مطلوب منا الكف عنه إلزاماً، والمكروه ما طلب منا الكف عنه تنزيهاً فقط دون الإلزام.

        وأما الواسطة: فهو المباح الذي لا إلزام فيه بالفعل أو الترك فهو مخير فيه
أولا : الواجب
الواجب في اللغة: هو الحتم اللازم يقال وجبت الشمس إذا سقط قرصها وغاب، وقال تعالى: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} (الحج:36)

        أي سقطت على الأرض بعد النحر، والمعروف أن الإبل تنحر واقفة معقلة بإحدى الرجلين الأماميتين.

        والواجب في اصطلاح علماء الأصول هو: ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه.. كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وإخراج الزكاة المفروضة، والحج مرة في العمر، وبر الوالدين، وقول الصدق ونحو هذا.

        والخلاصة أن الواجب هو ما أمرنا به أمراً لازماً ولا فرق في اصطلاح جمهور علماء الأصول بين الواجب والفرض، ولكن علماء الحنفية في مصطلحاتهم فرقوا بين الفرض والواجب، فقالوا: الفرض ما ثبت بدليل قطعي (كالقرآن والسنة المتواترة) والواجب ما ثبت بدليل ظني كسنة الآحاد (وسيأتي شرح معنى الدليل الظني في مبحث القرآن والسنة إن شاء الله تعالى)

مباحث في الواجب

1- ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب:

        هذه إحدى القواعـد الأصولية الثابتة بالحقيقة العقلية ومعناها أن كل ما يوصل إلى الواجب فهو واجب ما دام أنه في قـدرة المكلف واستطاعته، مثال ذلك قراءة الفاتحة في الصلاة فهي واجبـة لقوله صلى الله عليه وسلم: [لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب] (رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت) ومعلوم أن هذا يحتاج إلى حفظ فيكون الحفظ واجباً، وهذا الحفظ قـد يكون بترديد السورة حتى تحفظ أو كتابتها أو سماعها مرات، وكل ذلك ما دام أنه لا يتم الواجب (وهو قراءة الفاتحة) إلا به فهو واجب.

        وهكذا القول في السعي إلى الصلاة المكتوبة، وتعلم أساليب العدو في القتال، وذلك لدفع عدوانه، وتعلم مباديء الكفر للرد عليها. فكل هذه ليست واجبة بالنص، وإنما تجب بأعمال هذه القاعدة وهي: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

        ومعلوم أن الدفاع عن أموال المسلمين وأعراضهم واجب ولا يتم هذا الواجب إلا بمعرفة خطط أعداء المسلمين، وكذلك الدفاع عن عقيدة المسلمين واجب ولا يتم ذلك إلا بدراسة شبهات الكفار، وعقائدهم الباطلة حتى نتعلم كيفية الرد عليها، وكيفية دعوتهم إلى الإسـلام، فالدفاع عن عقيدة الإسلام واجب بالنص كما قـال تعالى: {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً* فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً} (الفرقان:51-52)

        أي بالقرآن، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على النصارى واليهود والمشركين من واقع عقيدتهم وعلم صلى الله عليه وسلم أفكارهم ومعتقداتهم وجادلهم فيها، وكل ذلك من باب (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ما دام أنه في استطاعة المسلم فعل ذلك.

2- ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب:

        ولكن القاعدة السابقة أيضاً ليست على إطلاقها، حيث توجد أمور لا يتم الواجب إلا بها، وهي في طوق المكلف في العادة ولكن الشريعة الحكيمة لم توجبها، ومن ذلك إيجاب السعي على الفقير لتحصيل نصاب للزكاة حتى يخرج الزكاة الواجبة، وكذلك حتى يجمع مالاً يمكنه من الحج الواجب، وهذا لم توجبه الشريعة ولذلك فلا يجب، وذلك أن هذا كان في طوق المكلفين وقت نزول التشريع، ولم يوجبه الله عليهم، ويعرف علماء الأصول هذا الاستثناء بقولهم: (ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب) فوجوب الزكـاة يشترط له النصاب، ووجوب الحج يشترط له الاستطاعة ولا يجب على المكلف السعي لتحصيل النصاب، وبلوغ الحج.

3- ما لا يتم ترك الحرام إلا به فتركه واجب:

        هذه القاعدة تعني أنه إذا تعذر علينا أن نترك الحرام إلا بترك أمر ما فإن هذا الترك يكون واجباً، ومثاله: ما إذا اختلط الحرام بالحلال بصورة يستحيل تمييزها كمن اختلط عليه لحم مذكى بآخر ميتة، أو من اختلط عليه من يحل له الـزواج بها بأخته من الرضاع فعند ذلك يجب ترك الجميع لأنه لا يستطيع توقي الحرام إلا بفعل ذلك (الترك) فيكون الترك واجباً .

تقسيمات الواجب

1- الواجب العيني والواجب الكفائي:

ينقسم الواجب بحسب من يقوم به إلى قسمين:

        (أ) واجب عيني: وهو ما يجب ويلزم كل فرد من المكلفين كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت مرة في العمر... الخ، وهذه الواجبات ينظر فيها الشارع الحكيم إلى عين المكلف تهذيباً لنفسه، وعبادة لربه.

        (ب) واجب كفائي: وهو ما ينظر فيه الشـارع إلى نفس الفعل بصرف النظر عمن يقوم به ذلك كالإمامة الكبرى، وإمامة الصلاة، والدفاع عن المسلمين، وسد حاجة المحتاجين، ودفن الميت، وبناء المساجد، وصناعة السلاح، واكتفاء المسلمين في معاشهم عن الكفار...

        وغير ذلك مما يحتـاج إليه مجتمع المسلمين ليكون مجتمعاً كاملاً متكاملاً آمنا عزيزاً قوياً مؤدياً لحقوق الله، وكل هذه الواجبات تجب على مجموع الأمة فإن قام بها بعض منهم سقط الواجب على جميع الأمة لقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} (النساء:58)

        وهذا خطاب للأمة كلها فإن قامت به، وعينت الإمام العادل الكفء سقط الإثم عنها، وحصلت المثوبة لها، وإن لم يقم به أحد كان الجميع آثمون.

        وهكذا رد الغاصب المحتل والدفاع عن حوزة الدين من المارقين والكافرين، ونشر راية الإسلام في العالمين، كل ذلك واجب على مجموع الأمة فإذا قام بعضهم بذلك بالغاً مبلغ الكفاية سقط الإثم عن الجميع، وإن قصر الجميع فيه ولم يقم أحد به، كان الجميع آثمين، ولذلك قلنا إن الشرع ينظر إلى نفس الفعل لا عين الفاعل، وسميت هذه الواجبات واجبات كفائية لأن الأمة إذا قام بعضها بهذا الواجب فقد كفى البقية.

2- الواجب المضيق والواجب الموسع:

ينقسم الواجب بحسب وقت أدائه إلى قسمين أيضاً:

        (أ) واجب مضيق: وهو ما كان وقته المحدد له شرعاً لا يسع إلا فعله فقط كصوم رمضان، فإنه لا مجال فيه لتأخيره وهو شهر محدد يجب صومه كله على من شهده سليماً حاضراً في بلده، ولا يجوز تأخير صومه إلى شهور أخرى.

        (ب) واجب موسع: وأما الواجب الموسع فهو ما يمكن أن يؤدي فيه هذا الواجب في وقته المحـدد له شرعاً ويبقى فائض آخر من الوقت، وذلك كالصلاة فإن لكل صلاة وقتاً طويلاً يسع الصلاة، ويبقى فائض من الوقت.

        وقد لجأ علماء الأصول إلى هذا التقسيم بناء على تصورهم أن الواجبات التي تجب على المسلم هي حقوق في ذمته لله، وأنه لو أوقعها في أي وقت من حياته فإنها تقع صحيحة، ولكنه يأثم بالتأخير فقط، ولذلك سموا فعل الصلاة في وقتها المحدد شرعاً (أداء).. وأما إيقاعها وفعلها في غير وقتها المحدد شرعاً فإنهم اصطلحوا على تسميتها (قضاء)، وأن المكلف إذا فعل الصلاة في وقتها المحدد شرعاً فهي أداء يؤجر عليه، ويسقط عنه الإثم في تركها، وأما إذا فعلها في غير وقتها المحدد شـرعاً كأن صلى الظهر مثلاً ليلاً، وصلى العشاء صبحاً، والفجر ضحىً أو عصراً فإنه يكون (قضاء) ويعنون بذلك أن الفاعل يثاب على فعلها، ولكنه يعاقب على تأخيرها، وهي صحيحة عندهم، وهذا السبب في تقسيم علماء الأصول للواجب إلى موسع ومضيق.

والصحيح أن هذا الذي ذهبوا إليه خطأ من وجوه كثيرة أهمها ما يلي:

أ- اصطلاح (القضاء والأداء) خطأ:

        أن الاصطلاح على تسمية فعل العبادة في غير وقتها المحدد شرعاً (قضاء) يخالف نصوص القرآن التي نصت على أن إيقاع العبادة في وقتها المحدد شرعاً (قضاء)، كما قال تعالى عن صلاة الجمعة التي تصلى في وقتها: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} (الجمعة:10)

        وفي الحج الذي يؤدى في وقته: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً} (البقرة:20)

        فسمى الله فعل الصلاة في وقتها المحدد شرعاً، وكذلك الحج في وقته المحدد شرعاً قضـاء ولم يسمه أداء والواجب علينا مراعاة المدلول الشرعي للكلمة وعـدم وضع مصطلحات تخالف المدلول الشرعي.

        ب- القول بأن الواجبات المحددة بمواقيت معينة هي واجبات في الذمة وأن المكلف يأثم فقط بالتأخير وأنها تقبل منه في أي وقت أداها من عمره.

        هذا القول كذلك فيه تهوين من شأن العبادة، واستهانة بالتوقيت الشرعي في الصلاة وغيرها من العبادات المؤقتة.. يقول تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} (النساء:103)

        و{موقوتا} هنا صفة للمكتوب وهو الصلاة، والصفة ملازمة للموصوف لا تنفك عنه، لذلك جاءت الأحاديث التي تبين هدم العمل السابق لتارك صلاة واحدة متعمداً كقوله صلى الله عليه وسلم: [من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله] (البخاري (553) من حديث بريدة)

        ومثل هذا الذي يحبط عمله بترك صلاة العصر لا يمكن أن يكون قد ارتكب مجرد ذنب التأخير بل قـد ارتكب إثماً عظيماً هدم عمله السابق الصالح كله حسب نص الحديث، ولذلك فالقول بأن مؤخر الصلاة عن وقتها المحدد لها شرعاً تصح منه الصلاة في أي وقت ويأثم فقط بالتأخير قـول خاطيء مبني على قاعدة فاسدة من قواعد أصول الفقه، ومما يدلك أيضاً على فسـاد هذه القاعدة قول النبي صلى الله عليه وسلم: [ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تشرق الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر] (رواه البخاري (579)، ومسلم (608) من حديث أبي هريرة)

        وذلك دليل واضح على أن المكلف يستحيل أن يدرك الصلاة إذا تركها حتى يذهب وقتها المحدد لها شرعاً.

        هذا بالطبع في المتعمد بخلاف الناسي والنائم فهما معذوران -كما مر بنا- في بحث المكلف أن الناسي والنائم غير مكلفين وقت النوم والنسيان، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: [من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك]

        ولذلك قلنا أن بعض ما ينبني على هذه القاعدة وهي تقسيم الواجب إلى موسع ومضيق باطل.

3- الواجب المعين والواجب المبهم:

        يقسم علماء الأصول أيضاً الواجب إلى قسمين بحسب تعيينه والتخيير فيه إلى قسمين:

(أ) واجب معين لا يقوم غيره مكانه وذلك كالصلاة والصوم.

(ب) واجب مخير فيه، كحال كفـارة اليمين، فإن الحانث مخير بين أمور ثلاثة هي: عتق رقبة، أو إطعـام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فإن لم يستطع شيئاً من هذه الثلاثة صام ثلاثة أيام كما قال تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم، واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون} (المائدة:89)

الحكمة في الإيجاب الشرعي:

يظهر لنا من دراسة الواجب أن المقاصد الشرعية فيه هي:

        التعبد لله سبحانه وتعالى بتقديسه وامتثال أوامـره لذلك خلقنا، ثم لإصلاح نفس العابد، ولا يتأتى هذا الإصلاح إلا بإلزامه بما يصلحه ويوجهه.

        ثم إصلاح الأمة وذلك بالواجبات الكفائية التي ألزم الله بها الأمة إقامة لمجتمعها وصيانة لها، وحفاظاً لعزتها وكرامتها، وقد فصلنا ذلك في باب المقاصد العامة للشريعة الإسلامية والمقصود هنا التنبيه والتذكير
ثانيا : المندوب
المندوب لغة:

هو الأمر الذي يطلب من فاعله دون إلزام له وإيجاب عليه قال الشاعر:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم لنائبات على ما قال برهاناً

أي حين يحثهم على القتال معه، ونصرته، وأخذ حقه.

        ويعرف المندوب شرعاً: بأنه (ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه) أو (المأمور به أمراً غير لازم). ويسمى المندوب بأسماء كثيرة منها:

* المستحب: أي ما حببنا الله فيه دون إلزام.

* والنفل: وهو بمعنى الزيادة لأن المندوب زيادة في الخير على الواجب.

* وكذلك يسمى السنة: ووجهه أنه ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم زائداً على الفرض، وذلك لأن أكثر المندوبات جاءت بالحديث ولا ينافي هذا أن يكون كثيراً من المندوبات قد ثبت بالقرآن أيضاً، ويسمى التطوع وهو مأخوذ من قوله تعالى: {فمن تطوع خيراً فهو خير له} (البقرة:184) أي زاد عن المفروض طواعية من عنده.

أبواب المندوب واسعة جداً:

        أبواب المندوب واسعة جداً بحيث لا يستطيع فرد مهما أوتي من قوة التحمل ووافر الهمة عزيمة النفس أن يحيط بها جميعاً أو يحصيها كلها.. ففي باب الصلاة -مثلاً- شرعت صلاة الليل بداءً من ثلث الليل إلى ثلثيه، وهذه عبادة لا يقوى عليها إلا الأفذاذ من أهل الهمة والعزيمة، وكانت واجباً في حق النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} (الإسراء:79)

        ولكنها مستحبة في حق الأمة لقوله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه، وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واقرضوا الله قرضاً حسناً وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} (المزمل:20)

        وهذه الآية ناسخة لوجوب قيام الليل على المسلمين الذي كان فرضاً عليهم في أول الإسلام والثابت بقوله تعالى: {يا أيها المزمل* قم الليل إلا قليلاً} (المزمل:1-2)

        ويأتي بعد قيام الليل الرواتب في الصلوات وهي اثنتا عشرة ركعة: ركعتا الفجر، وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعده، وركعتان قبل العصر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، ويأتي بعد ذلك النفل المطلق غير هذا وهذا، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [الصلاة خير موضوع] (رواه الطبراني في الأوسط وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3870))

        ونفل الصيام حد النبي صلى الله عليه وسلم أقصاه بأنه صيام يوم وإفطار يوم، ونفل الصدقة والزكاة وهو إخراج كل ما فاض عن الحاجة الضرورية للإنسان وقد ندبنا إلى الحج والعمرة ولو كان ذلك كل عام، وتأتي نوافل الخير المطلق، من صلة الأرحام، وبر الوالدين، والسعي في حاجات الناس، والذكر والدعاء، ونشر العلم، وقراءة القرآن والدعوة إلى الله... الخ.

        وهكذا نجد أن أبواب المندوب أبواب واسعة لا يستطيع المسلم مهما أوتي من الجلد والقوة أن يحيط بها جميعاً وأن يغطي كل أبوابها، ولذلك شرع لنا أن نأخذ منها ما نستطيع، وأن لا نغالي فيها حتى لا تنقطع النفس، وتفتر العزيمة.

حكمة المندوب:

وقد شرع المندوب لحكم عظيمة منها:

(1) جبر النقص الحاصل في الواجبات، وذلك أن الإنسان مهما أوتي من الحرص والحذق لا بد وأن يحصل له بعض التقصير في الواجبات لذلك شرعت النوافل تتميماً وتكميلاً لنقص الفرائض والواجبات.

(2) فتح المجال لصلاح النفوس، وإشباع نهمتها من العبادة والتقرب، وفي هذا إفساح المجال للطاقة، وبناء الشخصية الإسلامية، والترقي بالإنسان في مجال الكمال الإنساني، وكل ذلك من أهداف الشريعة الإسلامية.

(3) فتح المجال لإصلاح المجتمعات بدفع الناس إلى البر والإحسان وتحسس حاجات الفقراء والمساكين، والسعي في مصالح الناس، وإصلاح المجتمع والإرتقاء بالأمة وهذا الأمر مقصد شرعي.

(4) بناء حصون مضاعفة بين المؤمن والفساد فمعلوم أن كل نفل من النوافل هو بمثابة بعد جديد وستار بين المسلم والمعصية فصيام يوم إنما هو بناء سور جديد بين الصائم والمعصية، وصلاة ركعتين ذكرى جديدة {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} (العنكبوت:45) ودينار صدقة إنما هو رقـة جديدة للقلب وتذكير بالآخرة وبالتالي حاجز جديد بين المؤمن والوقوع في المعاصي.

(5) بالنوافل يتفاضل المؤمنون في الإيمان والصلاح والتقوى فعلى قدر العمل الصالح والتقوى يكون القرب من الله والفوز بمحبته ورضوانه كما قال تعالى في الحديث القدسي: [ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به... الحديث] (رواه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة)
والجنة مائة درجة وتفاضل أهل الجنة إنما يكون بحسب تقواهم وعملهم الصالح فليس ثواب من أدى الواجبات واكتفى كمن تدرج في مدارج الكمال، وكان له باع طويل في النوافل والمستحبات، وأهل الجنـة يتفاضلون تفاضلاً عظيماً بذلك، بل تفاضل أهل الجنة فيها أعظم من تفاضل أهل الدنيا فيها كما قال تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً* ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً* كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً* انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض، وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً} (الإسراء:18-21)

        ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: [إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفـق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم...] (رواه البخاري (3256) من حديث أبي سعيد)
ومما فضل به أبو بكر الصديق رضي الله عنه كثرة نوافله وتطوعه في الخير ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من أصبح منكم اليوم صائماً؟] قال أبو بكر: أنا، قال: [فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟] قال أبو بكر: أنا، فقال: [فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟] قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما اجتمعن في امريءٍ إلا دخل الجنة] (رواه مسلم (1028) من حديث أبي هريرة)

        وفي الحديث الآخر عن أبي هريرة أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من الجنة: يا عبدالله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة]، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على أحد دعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [نعم وأرجو أن تكون منهم] (رواه البخاري (1867) من حديث أبي هريرة)

        وباختصار فالمندوب أبواب كثيرة من الخير ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: [الإيمان بضع وستون شعبة: أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق] (أخرجه البخاري (9) ومسلم (35) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم)

        وقد شرع المندوب لما ذكرناه من الحكم العظيمة
ثالثا : المباح
المباح لغة:

هو ما ليس دونه مانع يمنعه قال عبيدالله بن الأبرص مفاخراً:

        وقد أبحنا ما حميت ولا مبيح لما حمينا

        أي أن نهبنا وأخذنا ما تحمونه حدث دون مقاومة منكم ومعارضة لنا، ولا يستطيع أحد أن يبيح ويستبيح ما نمنعه ونحميه.

المباح اصطلاحاً:

        هو ما أذن الله لنا في فعله وتركه بغير مؤاخذة ولا مدح بين الفعل والترك.

الطريق إلى معرفة المباح:

يعرف المباح في الشرع بطريقتين:

1- الإباحة العقلية، أو البراءة الأصلية:

        والمقصود بذلك ما لم ينزل فيه نص من الله سبحانه وتعالى يحرمه أو ينهى عنه فالأصل في الأشياء والأعمال الإباحة ما لم يأتنا دليل شرعي ينقلنا عن هذه الإباحة ودليل هذه الإباحة العقلية أن الله خلق الإنسان في هذه الأرض ليعمرها ولم يكلفه سبحانه إلا بما يأمره به على ألسنة رسله، فما لم يأتنا به الشرع فالأصل فيه الإباحة لأن مجرد خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض هو بمثابة الإذن له بالسعي والكد، وسلوك سبيل الحياة المناسب كما قال تعالى على لسان صالح عليه السلام: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} (هود:61)

        ومعنى {استعمركم} أي خلقكم لتعمروها ولا تكون عمارتها إلا بالسعي والكدح واستكشاف المجهول والتعلم عن طريق التجربة والخطأ...

        وكذلك قال تعالى: {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهـرة وباطنة} (لقمان:20)، وهذا التسخير يعني إباحة ما في السموات والأرض لمنفعة الإنسان وحياته ومعاشه.

        وهذه الإباحة العقلية تسمى أيضاً في علم الأصول (استصحاب العدم الأصلي) وسيأتي تفصيل آخر لها في باب الأدلة إن شاء الله تعالى.

2- الإباحة الشرعية:

        والمقصود بها ما ثبتت إباحته بنص شرعي على خصوصه كقوله تعالى: {وأحل الله البيع} (البقرة:275).. وقوله: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} (البقرة:187) أو إباحة شرب الخمر المفهوم من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} (النساء:43)، وذلك كان قبل النسخ .

الفرق بين الإباحة العقلية والشرعية:

        والفرق بين الإباحتين من جهة النسخ، فإذا أنزل الله قرآناً أو تكلم الرسول بحكم يرفع الإباحة العقلية فإن هذا لا يسمى نسخاً. فتحريم الربا ليس نسخاً لحكم شرعي لأن المسلمين كانوا يفعلونه على البراءة الأصلية والإباحة العقلية قبل ورود النص فيه، وأما تحريم الخمر الثابت في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} (المائدة:90) هو نسخ للإباحة الشرعية السابقة في قوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} (النساء:43)

مباحث في الإباحة العقلية:

هناك خلاف بين علماء الأصول حول هذه الإباحة ومحصلته ما يلي:

(أ) قال بعضهم الأصل في الأشياء والأعمال هو المنع حتى يرد دليل شرعي لأن التصرف في ملك الغير مذموم، ولا يجوز للإنسان أن يتصرف في ملك الله بغير إذنه وهذا القول لا شك في خطئه لأن في هذا تحجيراً كبيراً على تصرف الإنسان وتجميداً للحياة على الأرض، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن كان شيئاً من أمر دنياكم فشأنكم به، وإن كان من أمور دينكم فإلي] (رواه أحمد (6/123) وابن ماجه (2471) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (2003))

        وهذا دليل واضح على أن الدنيا يسعى فيها، وتعم كل سبيل دون انتظار للأمر الشرعي في شئونها فإذا ورد الأمر الشرعي فهو الحاكم، فشئون الزراعة، والصناعة، والرعي، وعلوم الأحياء، والكائنات، والكون، كل ذلك مباح للإنسان قد أذن الله فيه إذناً عاماً له بمجرد أن أهبطه إلى هذه الأرض، وكان هذا هو ما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم فقد تعاملوا بما كانوا يتعاملون، وعاشوا حياتهم كما كانوا يعيشون ولم ينتهوا عن أمر ما إلا بعد أن وصلهم الحكم الشرعي فيه.

(ب) وقال آخرون بل الأصل في الأشياء والأعمال هو التوقف، وهذا في النهاية مرده إلى القول الأول لأن المتوقف عن الفعل وإن لم يحرم ما توقف عنه إلا أنه منتظر أيضاً وصول الأمـر الشرعي كالذي يحرم تماماً، والرد على هؤلاء هو الرد على أولئك ولذلك فالصحيح هو ما قدمناه من أن الأصل في الأشياء والأعمال هو الإباحة والبراءة الأصلية، ولا شك أن من ثمـار هذا الأمر أن ينطلق الإنسان إلى الإبداع والاختراع والسعي والتحصيل، والعلم.. قال تعالى: {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} (الملك:15)

        وهذا حث على السعي والتعلم والكسب، وهذه الآية نص في الإباحة العامة والبراءة الأصلية
رابعا : الحرام
الحرام لغة:

        هو الممنوع. يقال: أرض حرام أي ممنوع دخولها أو الصيد فيها، ومنه سميت أرض مكة بالحرام، لأن الله حرم فيها ما أباح في غيرها من الصيد،وقطع الشجر، ومن هذا المعنى قوله تعالى عن موسى عليه السلام: {وحرمنا عليه المراضع من قبل} (القصص:12)، أي معناها وهو طفل أن يقبل غير ثدي أمه...

        وكذلك قوله تعالى عن بني إسرائيل: {فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض} (المائدة:95) وذلك بعد أن أحجموا عن القتال، وجبنوا، والمعنى ممنوع عليهم دخولها قهراً، وجبراً من الله، وهذا المعنى أيضاً جاء في قوله تعالى: {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} (الأنبياء:95)

وأما الحرام اصطلاحاً:

        فهو ما يعاقب فاعله، ويثاب تاركه، وهو بهذا المعنى ضد الواجب، ومن أمثلة الحرام الشرك بالله، وقتل النفس التي حـرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وهكذا سائر المعاصي والذنوب فالحرام كل ما نهى الله عنه نهي تحريم لا نهي تنزيه.

مباحث في الحرام

1- الذنوب كبائر وصغائر:

        ينقسم الحـرام إلى قسمين كبائر هي الذنوب والمعاصي الكبيرة البالغة مبلغها في القبح والفحش والفظاعة، وصغائر دون ذلك والدليل على ذلك قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً} (النساء:31).. وقوله تعالى: {ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، الذين يجتنبون كبائر الإثم، والفواحش إلا اللمم.. الآية} (النجم:31-32)

        وقـد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على كثير من الكبائر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حـرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات] (رواه البخاري (2766)، ومسلم (89) من حديث أبي هريرة)

        ولا شك أن هذه ليست هي الكبائر كلها، ولذلك قال ابن عباس لما سئل عن الكبائر سبع هي؟ قال: هي إلى السبعين أقرب، وأما الصغائر فهي غير ذلك ومثالها: لمزة وغمزة، وتطفيف حبة، ونظرة إلى غير محرم ونحو ذلك.

        وينبني على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر الحكم بالتثبت، ورد الشهادة لا يكون إلا لمرتكب الكبائر، وذلك أن الصغائر لا يكاد أحد يسلم منها لقوله تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} (النجم:32)

        وقـال أيضاً صلى الله عليه وسلم: [كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون] (رواه الترمذي وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4515))

        فلا يجوز رد الشهادة بعمل الصغائر التي لا يسلم منها أحد، وكذلك بالكبائر التي تاب منها صاحبها، وأما فاعل الكبائر المجاهر بها فحريٌّ به أن ترد شهادته، ويتثبت في أخباره وأقواله.

2- الحرام لذاته، والحرام لسد الذرائع:

        ينقسم الحرام أيضاً إلى قسمين: حرام لذاته وهو الأمر الفاحش الغليظ الذي يؤدي إلى فساد عظيم في إحدى الضرورات الست (الدين والنفس، والمال، والعرض، والنسل، والعقل) وعموم الكبائر كذلك وهناك من الحرام ما حرمه الله سبحانه وتعالى سداً لذريعة الوصول إلى الحرام كتحريم الخلوة بالأجنبية والنظر إليها،وسفر المرأة بغير محرم لأنه قد يجر إلى الزنا، وتحريم قبول الهدية من المدين لأنه قد يفضي إلى الربا، وتحريم استعمال أواني الخمر، وشهود مجالسها وإن لم يشرب الشاهـد والحاضر حتى لا ينزلق إلى الشرب، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها لأنه يفضي إلى قطع الأرحام.

        وهكذا قد سد الشارع الحكيم أبواب الذنوب الكبيرة التي حرمت لذاتها وضررها بأمور ليست ضارة ولا فاسدة في ذاتها، وإنما توصل إلى حرام فإنه حرمها.

        ولا شك أن هذا الذي حرم لما يجر إليه من حـرام، وليس لذاته، قد يباح بعضه أحياناً لمصلحة راجحة كما أبـاح الله النظر إلى المخطوبة قبل الزواج، وذلك لدوام العشرة، وقد يباح أيضاً هذا النظر في العلاج، وما هو من جنس الحاجات فضلاً عن الضرورات، وأما المحرم لذاته فإنه لا يباح إلا في ضرورة.

3- هل يكون العبد طائعاً عاصياً في وقت واحد؟:

هذه المسألة يذكرها علماء الأصول في هذا الباب ويضربون لذلك أمثلة منها:

        الصلاة في الأرض المغصوبة، فالإمام أحمد يرى في هذه المسألة أن الصلاة عينها في غصب لأن قيام المصلي، وقعوده في ملك غيره غصب، وليس صلاة، فالصلاة هنا لاغية لأن فعل الطاعة هو نفس فعل المعصية، وجمهور العلمـاء يرون أن الصلاة حقيقة مستقلة عن الغصب، فالصلاة طاعة، والغصب معصية... ولذلك فصلاة المصلي صحيحة.

        وأما على قول الإمام أحمد فصلاته باطلة، وعليه إعادة هذه الصلاة في أرض ليس غاصباً لها، ويورد الجمهور على الحنابلة في هذه القضية الصلاة في الحرير والذهب فيقولون: إذا كانت الصلاة في الأرض المغصوبة باطلة فكذلك يجب عليكم أن تقولـوا في الصلاة مع لبس الحرير ولبس الذهب لأن المصلي عاص أيضاً وقت صلاته، والحنابلة يرون هنا أن جهة النهي منفكة لأن اللبس غير القيام والقعود في الأرض المغصوبة.

        ومن المسائل أيضاً التي تذكـر هنا:سرقة المصلى أثناء صلاته، والصحيح أن مثل هذه المسألة لا يجوز التوقف في القول ببطلان صلاة من صلى وسرق، لأنه حتماً ساهٍ عن صلاته، ولاهٍ عن غايتها وثمرتها، فكيف يكتب له ثواب صلاة يسرق فيها!

        وعلى كل حال فإن من قال ببطلان الطاعة وقت المعصية يوجب الإعادة، ومن قال الطاعة هنا منفصلة عن المعصية لا يوجب الإعادة، وهذه المسألة مبنية على قاعدة أصولية وهي: هل الأمر بالشيء نهي عن ضده؟

        بعض الأصوليين يرون أن الأمر بالشيء غير النهي عن ضده، وآخرون يرون أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، ومذهب ثالث يرى أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن الضد وهذا المذهب الأخير هو الصحيح فلا يجوز أن يكون وقت الطاعة هو عينه وقت المعصية.

حكمة وجود الحرام في الشريعة:

1- التعبد، والابتلاء.

2- الحفاظ على الضرورات الست: الدين، العقل، النفس، العرض، المال، النسل.

3- سد الذرائع إلى الفواحش والإثم وكبائر الذنوب

خامسا : المكروه
المكروه لغةً:

        ما تعافه النفس، وتنفر منه.

ولكن معناه الاصطلاحي:

        هو الأمـر الذي لا يعاقب فاعله ويثاب تاركه. ومعنى ذلك أنه الشيء الذي نهينا عنه نهى تنزيه فقط لا إلزام معه بالترك، ولكن اعلم أن المكروه قد جاء في القـرآن بمعنى الحرام، ومن ذلك قوله تعالى في سورة الإسراء بعد أن ذكر قتل النفس والزنا، وأكل مال اليتيم، واتباع الظن والكبر قال تعالى: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً} (الإسراء:38)

        ومعلوم أن بعض ما ذكر من الكبـائر العظيمة، ولذلك فالمعنى الاصطلاحي هنا يخالف المدلول الشرعي للكلمة، ولكن جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يفرق بين الحرام والمكروه فيجعل المكروه درجة أخف من الحـرام ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: [إن الله تعالى حـرم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم:قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال] (متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة)

        ومعلوم أن الذنوب الثلاثة الأولى في الحديث من الكبائر وأنها أعظم من الذنوب الثلاثة الأخرى، ولكن على كل حال ليست الكراهة في الحديث هنا أيضاً كراهة بمعنى التنزيه فقط الذي لا إثم فيه بل يشعر الحديث أن هناك إثماً لمن فعل ذلك، وهذا غير المكروه بالمعنى الاصطلاحي لأن المكروه في عرف الفقهاء واصطلاحهم هو ما لا يعاقب فاعله.

        ويدخل في المكروه كثير من الأمور التي يجب أن يتورع عنها المسلم تنزهاً كفضول القول والجدال العقيم الذي لا فائدة منه، وقد يمثل له أيضا بالبول واقفاً، والمزاح في غير حاجة، وكثرة الضحك، ونحو ذلك من عادات السلوك السيئة التي لم يأت نص قاطع بتحريمها.

أمثلة للمكروه:

        تأخير الصـلاة عن أول وقتها (وقت الكراهة).. التوسع في المآكل والمشارب والملابس والزينة فهو مباح مع الكراهة، فإذا بلغ حد الإسراف فهو حرام.. تأخير الفطور، وتعجيل السحور في الصوم.. دخول عرفة قبل الزوال.. المزاحمة عند الحجر الأسود.. والخروج من منى لغير حاجة.. كثرة السؤال.. إضاعة المال.. قيل وقال.. يكره سؤال الناس.. وقبول هدية المنان.. رفع الصوت لغير حاجة.. وزيارة المسلم وهو مستاء والبقاء في ضيافته أكثر منثلاث.. والجلوس على مكرمته إلا بإذنه.. ودخول منزله في غيبته حتى وإن أذن له.. والتعرض لمواطن الشبهة.. ومنه الأكل في الطرقات، والجلوس عليها مع أداء حقها..

حكمة المكروه:

1- الحفاظ على جانب الحرام، وهذه درجة بعد سد الذرائع.

2- استكمال النزاهة، وسمو الخلق، وحسن السمعة.

3- الحرص على الفضائل
.................................................................

الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي
اعلم أنه يفرق بين خطاب التكليف وخطاب الوضع بفارقين ظاهرين:

وهما أن خطاب الوضع علامته أنه إما ألا يكون في قدرة المكلف أصلاً كزوال الشمس والنقاء من الحيض أو يكون في قدرته ، ولا يؤمر به كالنصاب للزكاة والاستطاعة للحج وعدم السفر للصوم.

وبهذا تعرف أن خطاب التكليف علامته أمران أن يكون في قدرة المكلف، ويؤمر به فعلاً كالوضوء للصلاة أو تركا كسائر المنهيات.

وخطاب الوضع أعم من خطاب التكليف لأن كل تكليف معه خطاب وضع إذ لا يخلو من شرط أو مانع مثلاً ، وقد يوجد خطاب الوضع حيث لا تكليف كلزوم غرم المتلفات وأروش الجنايات لغير المكلف كالصبي.
..........................................................
أقسام الحكم الوضعي
الحكم الوضعي: هو ما اقتضي أن يكون شيء سبباً لشيء أخر، أو شرطاً له، أو مانعاً منه .

        فمن خلالِ تعريفِ الحكمِ الوضعيِّ يُلاحظُ أنَّ البحثَ فيه يعودُ إلى أنواعٍ ثلاثةٍ:

        ( أ ) السَّبب.

        ( ب ) والشَّرطِ.

        ( ج ) والمانعِ.

        ووجودُ كلٍّ منها أو تخلُّفُه (عدَمُ وجودِهِ) يتفرَّعُ عنه:

        (د ) صحّةُ العملِ أو فسادُهُ.

        كما يتفرَّعُ ما وضعَتْهُ الشَّريعةُ من الاعتباراتِ التَّابعةِ لقُدرةِ المكَلَّفِ على الامتثالِ إلى:

        ( هـ ) عزيمة، ورُخصة.

        فهذه خمسةُ أقسام: ( السَّببُ، الشَّرطُ، المانعُ، الصِّحَّةُ والبُطلانِ (أو الفَساد)، الرُّخصةُ والعزيمةُ).


أولا : السبب
تعريفـه:

        لُغَةً: كُلُّ شيءٍ يُتوصلُ بهِ إلى غيرِهِ.

        واصطلاحًا: الأمرُ الَّذي جعلَ الشَّرعُ وجودَهُ علامةً على وجودِ الحُكمِ، وعدَمَهُ علامةً على عدَمِ الحُكمِ.

        أي هو الذي يلزم من وجوده وجود الحكم و يلزم من عدمه عدم الحكم.

        فإذا كانَ السَّببُ معقولَ المعنى يُدرِكُ العقلُ مناسبَتَهُ للحُكمِ سُمِّي بـ(العلَّة) كما يُسمَّى (السَّببُ)، مثلُ: الإسكَارِ علَّةٌ لتحريمِ الخمْرِ.

        وإذا كانَ السَّببُ غيرَ معقولَ المعنى، بأنْ خفِيَ علَى العقلِ أنْ يُدركَ مُناسبَتَهُ للحُكمِ، فيُقتصرُ على تسميتهِ (سببًا) ولا يُسمَّى (علَّةً)، مثلُ: دخولِ الوقتِ سببٌ لوجوبِ الصَّلاةِ.

        فائدةُ هذا التَّفصيلِ:

        ما سُمِّي (علَّةً) صحَّ فيه القياسُ، وما لمْ يُسمَّ (علَّةً) امتنعَ فيهِ القياسُ.

        ومِمَّا يُساعدُ على معرفةِ كونِ الشَّيءِ سببًا: إضافَةُ الحُكمِ إليهِ، تقولُ مثلاً: (صلاَةُ المغربِ، وصومُ الشَّهرِ، وحدُّ الشُّربِ، وكفَّارةُ اليمينِ)، فالمغربُ والشَّهرُ والشُّربُ واليمينُ أسبابٌ لما أُضيفَتْ إليه من الأحكامِ.

        تقسيمـه:

        ينقسمُ (السَّببُ) باعتبارِ من سبَّبه إلى قسمينِ:

        1ـ ما جعلتْهُ الشَّريعةُ سببًا ابتداءً من غيرِ أن يكونَ للمكلَّفِ فعلٌ فيه.

        من أمثلتـهِ:

        ( أ ) زوالُ الشَّمسِ لوجوبِ صلاةِ الظُّهرِ، قال تعالى: { أقم الصلاة لدلوك الشمس} (الإسراء: 78).

        ( ب ) دُخولُ الشَّهر لوُجوبِ صومِ رمضانَ، قال تعالى: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } (البقرة: 185).

        ( ج ) الاضطِرارُ لجوازِ أكلِ الميتَةِ، قال تعالى: { فمن اضطر غير باغ و لا عاد فلا إثم عليه}(البقرة: 173).

        ( د ) المرضُ لإباحةِ الفِطرِ، قال تعالى: { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}(البقرة: 184).


        2ـ ما سببُهُ المكلَّفُ فرتَّبَتِ الشَّريعة الآثارَ على وجودِهِ.

        من أمثلتِـهِ:

        ( أ ) السَّفرُ لإباحةِ الفِطرِ، قال تعالى في الآية المتقدمة: { أو على سفر} .

        ( ب ) الزِّنَا لإقامةِ الحدِّ، قال تعالى: { الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}(النور: 2).

        ( ج ) الرِّدَّة لإباحةِ دَمِ المرتدِّ، قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم : ( من بدَّل دينَهُ فاقْتُلوهُ) ، أخرجه البُخاريُّ.

        ( د ) الإهداءُ لمِلكِ المُهدَى إليهِ للهديَّة، والبيعُ لِملكِ المشتري للسِّلعةِ، والتَّصدُّقُ لملكِ المُتصدَّقُ عليه للصَّدقَةِ، فهذهِ وشِبهُهَا أسبابٌ لنقلِ ملكيَّةِ الشَّيءِ لمن صارتْ إليهِ، ويكونُ بها حُرَّ التَّصرُّفِ فيها
وقيل بينهما عموم وخصوص من وجه واعتمده القرافي في الفروق
ثانيا الشرط
        تعريفـه:

        لُغَـةً: العلامَةُ.

        واصطلاحًا: ماتوقَّفَ وجودُ الشَّيءِ على وجودِهِ، وليسَ هوَ جزْءًا من ذاتِ ذلكَ الشَّيءِ، بلْ هوَ خارجٌ عنهُ، كما لا يلزمُ من جودِهِ وُجودُ ما كانَ شرْطًا فيهِ.

        أي هو ما لا يلزم من وجوده وجود الشيء ، و لكن يلزم من عدمه عدم الشيء.

        من أمثلتِهِ:

        ( أ ) الوُضوءُ لصحَّةِ الصَّلاةِ، قال تعالى: { يا أيها الذين أمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم...}الآية (المائدة: 6)، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( لايقبلُ الله صلاةً بغيرِ طُهورٍ)) ، أخرجهُ مسلمٌ وغيرُهُ عن ابن عمرَ.
فصحَّةُ الصَّلاةِ موقوفةٌ على وجودِ شرطِ الوُضوءِ،وليسَ الوُضوءُ جزءًا من نفسِ الصَّلاةِ، كما لا يلزمُ من وُجودِ وجودُ الصَّلاةِ.

        ( ب ) إذنُ وليِّ الزَّوجةِ شرْطٌ لصحّةِ عقدِ النِّكاحِ عندَ جُمهورِ العلماءِ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا نكاحَ إلاَّ بِولِيٍّ) ، حديثٌ صحيحٌ رواهُ أصحابُ السُّنن وغيرُهم.

        الفرق بين الشَّرط والرّكن:

        يشتركُ (الشَّرطُ) و (الُّركن) في أنَّ كُلاًّ منهما يتوقَّفُ عليهِ وجودُ الشَّيءِ، فالوضُوءُ شرطٌ للصَّلاةِ، والرُّكوعُ رُكنٌ فيها، ولا بُدَّ من وجودِ كلٍّ منهمَا لصحَّةِ الصَّلاةِ، لـكنْ يُلاحظُ الفرقُ بينهمَا في أنَّ:

        الشَّرطَ : خارجٌ عن نفسِ الصَّلاةِ ليس جُزءًا منها.

        والرُّكنَ : جزءٌ من نفسِ الصَّلاةِ.

        أقسـامـه:

        ينقسمُ الشَّرطُ باعتبارِ مُشترِطِهِ إلى قسمينِ:

        ( أ ) شرطٌ شَرْعِيٌّ:

        وهوَ الَّذي جعلتْهُ الشَّريعةُ شرطًا، كَحَولِ الحوْلِ علَى المالِ الَّذي بلغَ النِّصابَ لإيجابِ الزَّكاةِ فيهِ.

        ( ب ) شرطٌ جَعْلِيٌّ:

        وهو الَّذي يضعُهُ النَّاسُ باختيارِهم في تصرُّفَاتِهمْ ومُعاملاَتِهِمْ لا في عبادَاتِهم، كَالشُّرُوطِ الَّتِي يصطلحونَ عليها في عُقُودِهِمْ.

        والفُقهاءُ مختلفُونَ في هذا النَّوعِ من الشُّروطِ في صحَّتهَا أو فسادِهَا، وما تدلُّ عليهِ الأدلَّةُ فيه التَّفصيلُ، وذلكَ بتقسيمِهِ إلى قِسمينِ:

        [1] شرْطٌ صحيحٌ: وتُعرفُ صحَّتُهُ بأنْ لا يكونَ ورَدَ في الشَّرعِ ما يُبطِلُهُ، مثالُهُ: اشْترَاطُ البائعِ منفعةً معيَّنةً على المشتري في عقْدِ البَيعِ لا تُنافي مقصودَ البَيعِ، فقدْ صحَّ عن جابرِ بن عبدِالله رضي الله عنهما أنَّهُ كان يسيرُ على جملٍ لهُ قَدْ أعْيَا، فمرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فضرَبَهُ، فسارَ سَيْرًا ليسَ يسيرُ مِثْلَهُ، ثمَّ قالَ: (بِعْنِيهِ بِأوقيَّةٍ) فبِعتُهُ، فاسْتَثْنيتُ حُمْلانَهُ إلى أهلِي، فلمَّا قَدِمْنَا أتيتُهُ بالجمَلِ ونقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثمَّ انصرَفْتُ، فأرسَل على أثرِي قالَ: (مَا كُنتُ لآخُذَ جمَلَكَ، فَخُذْ جمَلكَ ذلكَ فهُوَ مَالُكَ) متَّفقٌ عليه.

        وما رُوي من النَّهي عن بيعٍ وشرطٍ فلا يصحُّ من جهةِ الإسنادِ، وكذلك كلُّ شرطٍ عُرفيٍّ في أيِّ عقدٍ ليس معارضًا لدليل في الشَّرعِ فهو شرطٌ صحيحٌ.

        والدَّليل على صحَّةِ الشُّروطِ في الأصلِ قوله تعالى: { يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود}(المائدة: 1) ، وقوله: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} (الإسراء: 34)، وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم : (أحقُّ الشُّروطِ أن توفُو بها ما استحللْتُم بهِ الفُروجَ) ، متفقٌ عليه عن عقبة بن عامرٍ.

        [2] شرطٌ باطلٌ: ويعرفُ بُطلانه بوُرود ما يُبطِلهُ في الشَّرعِ، ومثالهُ: حديثُ عائشة رضي الله عنها قالتْ: جاءتْني بريرةُ فقالتْ: كاتبتُ أهلي على تسعِ أواقٍ، في كلِّ عامٍ أُوقيةٌ، فأعينيني، فقالت: إن أحبُّوا أن أعدَّها لهم ويكونَ ولاؤُُكِ لي فعلتُ، فذهبتْ بريرةُ إلى أهلها فقالت لهم، فأبوا عليها، فجاءتْ من عندِهِم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ، فقالتْ: إنِّي عرضتُ ذلك عليهم، فأبوا إلاَّ أن يكونَ الولاءُ لهم فسمعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبرتْ عائشةُ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((خُذيها واشترطِي لهمُ الولاءَ، فإنما الولاءُ لمن أعتقَ، ففعلتْ عائشةُ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في النَّاسِ فحمدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: (ما بالُ رِجالٍ يشترطُونَ شروطًا ليستْ في كتابِ الله؟ ما كانَ من شرْطٍ ليس في كتابِ الله فهوَ باطلٌ وإن كانَ مائَة شرْطٍ، قضاءُ الله أحقُّ، وشرْطُ الله أوثقُ، وإنما الولاءُ لمنْ أعتقَ) (مُتَّفقٌ عليه).

        والمقصودُ من كونِ الشَّرطِ في كتابِ الله أو ليس فيهِ أن يكونَ مشروعًا لا ممنوعًا، وهو التَّقسيمِ المذكُورِ. على هذا مذهبُ الحنابلةِ وطائفةٍ غيرهِم من الفُقهاءِ، والدَّليلُ فيه أبينُ، وهو المناسبُ لاعتبارِ المصالحِ والمفاسِدِ.

        ومذهبُ الحنفيَّةِ قريبٌ منه، لكنَّهم قالوا: هو ثلاثَةُ أقسامٍ: شرطٌ صحيحٌ، وشرطٌ فاسدٌ، وشرطٌ باطلٌ، وفرَّقوا بين الفاسِدِ والباطلِ بأنَّ الفاسدَ ما كانَ فيه منفعةٌ لكنَّه معارضٌ لوصفِ الصَّحيحِ فيفسُدُ به العقدُ لذلكَ، أما الباطلُ فليسَ ممَّا يصحُّ العقدُ به أو يفسدُ بلْ هو شيءٌ خارجٌ عن نفسِ العقدِ، فهوَ بمنزلَةِ اللَّغوِ لا يُؤثِّرُعلى العقدِ،

ثالثا : المانع
تعريفـه:

        لُغةً: من (المنع) وهوَ أن تحولَ بين الشَّخصينِ وبينَ الشَّيءِ فتجعلَ بينهما (مانعًا).

        واصطلاحًا: ما رتَّب الشَّرعُ على وجودِهِ العدَمَ.
        أي هو ما يلزم من وجوده العدم.

        هو قسمان:

        ( أ ) مانعٌ للحُكمِ:

        والمعنى: أن يقعَ فعلٌ من المكلَّف يستوجبُ حُكمًا شرعيًّا بأن وُجدَ في ذلكَ الفعلِ تحقُّقُ الأسبابِ الموجِبةِ لذلكَ الحُكمِ، فوضعَت الشَّريعَةُ (مانعًا) دونَ تنفيذِ ذلك الحُكْم.

        مثالهُ: قوله صلى الله عليه وسلم : (لا يُقتلُ والدٌ بولَدِهِ) حديثٌ صحيحٌ لغيره أخرجهُ التِّرمذيُّ وغيرُهُ، فهذا (مانعٌ) عند جمهورِ العلماءِ من إقامةِ القِصاص على الوالدِ إذا قتلَ ابنَه عمدًا، فمعَ استيفاءِ الوالدِ لشُروطِ القِصاصِ فقدْ جعلتِ الشَّريعَةُ أبوَّته مانعةً من القصاصِ.

        ( ب ) مانعٌ لسبب:

        والمعنى: أن تكونَ الشَّريعةُ قرَّرت حكمًا تكليفيًّا بناءً على وجودِ سببٍ اقتضى وجودُهُ وجودَ ذلك الحُكمِ، لكنْ عرضَ دُون إعمالِ ذلك السَّببِ (مانِعٌ) أسقطَ السَّببَ والحُكمَ.

        مثالُهُ: مكلَّفٌ ملكَ نصابَ الزَّكاةِ وحالَ الحولُ عليهِ عندَهُ، لكنَّه جمع ذلكَ المالَ لدينٍ عليهِ، فظاهرُ الأمرِ وجوبُ تنفيذ حكمِ إخراجِ الزَّكاةِ لوجودِ السَّببِ المقتضي لذلكَ وهو ملكُ النِّصابِ، لكنْ عرض لذلكَ السَّببِ (مانعٌ) من الاعتبارِ فألغاهُ، وهوَ (الدَّين)، فقد صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا صدَقة إلاَّ عن ظهرِ غِنًى) رواه أحمدُ وغيرهُ بسندٍصحيحٍ من حديثَ أبي هريرةَ، والله عزَّ وجلَّ جعل في أصنافِ الزَّكاةِ الغارمينَ، وصاحبُ الدَّينِ غارمٌ، فاستقامَ أن لا تجبَ عليهِ الزَّكاةُ وإن وُجدَ سببُ الوجوبِ وهو بلوغُ النِّصابِ، لأنهُ إنَّما يجمعُ لأجلِ الدَّينِ

رابعا : الصحة والفساد والبطلان
أفعال المكلَّفين إذا استوفتْ شروطَها وانتفتْ موانِعُها ووقعتْ على أسبابهَا فقد حكمَ الشَّرعُ بأنَّها (صحيحةٌ) ، وإذا اختلَّ ذلك أو بعضُهُ فقد حكم َ الشَّرعُ بأنَّها (باطلةٌ).
و(الصَّحيحُ) ما ترتَّبتْ عليه آثارُهُ الشَّرعيةُ، من: براءةِ الذِّمةِ وسُقوطِ المطالبةِ في العباداتِ، ونفاذِ العقدِ في العقُودِ والتَّصرُّفاتِ فلاَ يُطالبُ المكلَّفُ بإيقاعِ نفسِ العبادةِ مرَّةً أخرى ما دامَتْ قدْ حقَّقتْ وصفَ الصِّحَّةِ، كما أنَّ عقدَ البيعِ مثلاً حوَّل مِلكيَّةَ المبيعِ من البائعِ إلى المشتري بغيرِ ريبَةٍ ما كانَ العقدُ قدْ حقَّقَ وصفَ الصِّحَّة.

        (الباطِلُ) ما لا تترتَّبُ عليهِ الآثارُ الشَّرعيَّة، فلا تبرأُ الذِّمةُ لمن صلَّى بغيرِ طُهورٍ مختارًا، ولا يصحُّ طلاقُ من أُكرِهَ على الطَّلاقِ، لوجودِ مانع من صحَّةِ هذا التَّصرُّفِ.

        لا فرقَ بين الباطل والفاسد:

        جمهورُالعلماء على عدمِ التَّفريق بين وصفِ الشَّيءِ بأنه (باطلٌ) أو (فاسدٌ).

        والحنفيَّةُ وافقوهم على عدمِ التَّفريقِ بين الوصفينِ في العباداتِ، لكن خالفُوهم في المعاملاتِ ففرَّقوا بينهما، فقالوا:

        1ـ الباطلُ: ما رجعَ الخللُ فيه إلى أركانِ العقدِ، مثل: (بيع المجنونِ) فإنَّ الشَّارعَ ألغى اعتبارَ عقُودِهِ وتصرُّفاتهِ، وأهليَّةُ العاقِدِ من أركانِ صحَّةِ البيعِ، فالبيعُ باطلٌ غيرُ نافِذٍ.

        2ـ الفاسدُ: ما رجعَ الخللُ فيه إلى أوصافِ العقدِ لا إلى أركانِهِ، مثل: (النِّكاح بغيرِ شُهودٍ) إذ الشُّهودُ فيه من أوصافِ العقدِ لا منْ أركانِهِ، فالعقدُ فاسدٌ لكن تترتَّبُ عليه آثارٌ شرعيَّةٌ، فيجبُ للمرأةِ المهرُ إذا دخل بها، كما تجبُ عليها العدَّةُ، ويُلحقُ الولدُبهمَا.

        وقولُ الجمهورِ أظهرُ في عدَمِ التَّفريقِ
خامسا : العزيمة والرخصة
العزيمةُ لغَةً: الإرادَةُ المؤكَّدة، ومنه قوله تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما}(طـه: 115) أيْ: قصدُ مؤكَّدٌ في فعلِ ما أُمِرَ به.

        وشرعًا: اسمٌ لما هوَ الأصلُ في المشروعاتِ غيرُ متعلِّقٍ بالعوارضِ.

        مثالهَا: الصَّلاةُ في أوقاتهَا هي الأصلُ، فهي العزيمةُ، وإتمامُ الصَّلاةِ هو الأصلُ فيها، فهو العزيمةُ، وحرمَةُ الميتةِ هي الأصل، فهي العزيمة.

        والرُّخصةُ لغةً: اليُسرُ والسُّهولَةُ.

        وشرعًا: اسمٌ لِما شُرعَ متعلِّقًا بالعوارضِ خارجًا في وصفِهِ عن أصلهِ بالعُذْرِ.

        مثالُها: جمعُ الصَّلاتينِ للعُذرِ كالسَّفرِ والمطرِ، وقصرُ الصَّلاةِ للمسافرِ، وإباحَةُ الميتةِ للمُضطَرِّ، أحكامٌ خارجَةٌ عن الأصلِ الَّذي هو العزيمَةُ، والمؤثِّرُ فيها العُذْرُ.
فالعزيمَةُ أصلُ الأحكامِ التَّكيفيَّة، والرُّخصَةُ الخرُوجُ عن الأصلِ بِعُذرٍ.
وعليه فالرُّخصةُ باقيةٌ ببقاءِ العُذرِ، متفيةٌ بانتفائِهِ.

        أسباب الرخص:

        الأسبابُ الَّتي ترجعُ إليها جميعُ الرُّخصِ الشَّرعيَّةِ سبعةٌ، إليكَهَا

        ( 1 ) ضعفُ الخلقِ، سببٌ لإسقاطِ التَّكليفِ عن الصَّبيِّ والمجنونِ، وتخفيفِ التَّكليفِ في حقِّ النِّساءِ فلم تجبْ عليهنَّ جُمُعةٌ ولا جماعةٌ ولا جهادٌ.

        ( 2 ) المرضُ، سببٌ للفطرِ في رمضانَ، والصَّلاةِ من قعُودٍ أوِ اضطِجاعٍ، وتناولِ الممنُوعِ للعلاجِ إن فقدَ سِواهُ.

        ( 3 ) السَّفرُ، سببٌ للفطرِ في رمضانَ، وقصرِ الصَّلاةِ الرُّباعيَّةِ، وسُقوطِ الجُمُعةِ، والزِّيادَةِ في مُدَّةِ المسحِ على الخُفَّينِ.

        ( 4 ) النِّسيانُ، سببٌ لإسقاطِ الإثمِ والمؤاخَذةِ الأخرَويَّةِ، وصحَّةِ الصَّومِ لمن أكَلَ أو شرِبَ وهوَ كذلكَ.

        ( 5 ) الجهلُ، سببٌ لإسقاطِ المُؤاخذَةِ إذا لم يقعْ بتقْصيرٍ في التَّعلُّم، كما يكونُ سببًا لرَدِّ السِّلعةِ بعدَ شِرائِهَا لعيبٍ جهِلَهُ المشترِي وقتَ التَّبايُعِ، كما يكونُ سببًا للعُذْرِ في خَطإ الاجتهادِ، لأنَّ المجتهِدَ بنى على ظنِّ العلمِ.

        ( 6 ) الإكراهُ، سببٌ لإباحةِ الوُقوعِ في المحظُوراتِ دَفْعًا للأذَى الَّذي لا يُحتَمَلُ.

        ( 7 ) عُمُومُ البلْوَى، وهوَ في الأمْرِ الَّذِي يَعْسُرُ الانفِكَاكُ عنهُ، كالنَّجاسةِ الَّتي يشقُّ الاحتِرازُ عنهَا، كمنْ بهِ سلسُ بوْلٍ، واحتمالِ يسيرِ الغَبْنِ في البُيُوع، ونحوَ ذلكَ.

        أنواعُ الرُّخص:

        الرُّخصُ الشَّرعيَّةُ تعودُ إلى أنواعٍ ثلاثةٍ:

        ( 1 ) إباحَةُ المحرَّم لعُذرِ الضَّرورةِ، وإليه ترجعُ قاعدَةُ: (الضَّرُوراتُ تُبيحُ المحظُوراتِ).

        مثالهَا: التَّلفُّظُ بكلمةِ الكُفرِ عندَ الإكراهِ، كما قال تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}{النحل: 116}، وأكلُ الميتةِ والدَّمِ ولحمِ الخنزيرِ وشُربِ الخمرِ للمُضطرِّ، كما قال تعالى:{ فمن اضطر غير باغ و لا عاد فلا إثم عليه}(البقرة: 173)، وقال: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه}(الأنعام: 119).

        ( 2 ) إباحَةُ تركِ الواجبِ، وفيهِ قوله صلى الله عليه وسلم : (وإذا أمرْتُكُم بأمرٍ فَأْتُوا منهُ ما استَطعتُمْ) ، متفقٌ عليه من حديثِ أبي هرَيرةَ.

        مثالها: تركُ القيامِ في الصَّلاةِ للعاجزِ مع فرْضِهِ، فعنْ عمرانَ بنِ حُصينٍ رضي الله عنه قال: كَانَتْ بي بواسيرُ، فسألتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الصَّلاةِ؟ فقال: ( صلِّ قائمًا، فإن لم تستطِعْ فقاعدًا، فإنْ لم تستطِعْ فعلى جنبٍ) ، أخرجه البُخاريُّ.
والفِطرُ في رمضانَ للمسافرِ والمريضِ، قال تعالى: { ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}(البقرة: 185).

        ( 3 ) تصحيحُ بعضِ العُقودِ مع اختلالِ ما تصحُّبه رفعًا للحرجِ وتيسيرًا على النَّاسِ.

        مثالها: الإذنُ في بيعِ السَّلمِ (أو: السَّلف)، أو عقدِ الاستِصناعِ، مع أنَّ كلاًّ منهما بيع معدومٍ ليسَ موجودًا وقتَ التَّعاقُدِ، نعمْ ذلك بشُروطٍ، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (منْ أسلفَ في شيءٍ ففي كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، على أجلٍ معلومٍ) ، متَّفقٌ عليه عن ابنِ عبَّاسٍ.

        درجات الأخذ بالرخص:

        الأخذُ بالرُّخصِ الشَّرعيَّةِ يتفاوَتُ حكمُهُ إباحَةً ونَدبًا ووجوبًا، فهو على أربعِ درجاتٍ:

        ( 1 ) التخييرُ بين الأخذِ بالرُّخصةِ وتركهَا.

        مثالهُ: الفطرُ للمسافرِ عند استواءِ حالهِ بالصَّومِ والفطرِ، فإنَّ له أن يُفطرَ أو يصومَ من غيرِ بأسٍ، كما قال حمزَةُ بنُ عمرٍو الأسلميُّ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَأصُومُ في السَّفرِ؟ وكان كثيرَ الصَّومِ، فقالَ: (إن شئتَ فصُمْ، وإنْ شئتَ فأفطِرْ) (متفقٌ عليه).

        ( 2 ) تفضيلُ الأخذِ بالرُّخصةِ.
مثالهُ: قصرُ الصَّلاةِ في السَّفرِ، فإنَّها رُخصةٌ جرىالعملُ النَّبويُّ على الأخذِ بها في جميعِ الأسفارِ، حتَّى أنهُ لم يصحَّ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أتمَّ صلاةً قطُّ في السَّفرِ، وهذه المُداومةُ دالَةٌ على تفصيل الأخذ بالرُّخصةِ.
هذا على مذهبِ جمهورِ العلماءِ في أنَّ قصرَ الصَّلاةِ في السَّفرِ سُنَّةٌ، خلافًا لمن ذهبَ إلى وجوبهَا.

        ( 3) تفضيل التَّرك للرُّخصةِ.

        مثالهَا: احتمالُ الأذى في الله لمن أُكرهَ على أن يقولَ كلمَةَ الكُفرِ بلسانِهِ، فإنْ أرادَ أن يأخذَ برُخصةِ الله لهُ فلهُ ذلكَ، وإن صبرَ وَاحتملَ ولو بلغَ الأمرُ إلى قتلِهِ فذلكَ أفضلُ، وقد كَانَ هذا حالَ المُرسلينَ وكثيرٍ من أتباعهمْ.

        ( 4 ) وجوبُ الأخذِ بالرُّخصةِ.

        مثالهُ: أكلُ المُضطرِّ للميتةِ دفعًا للهلكَةِ عن نفسهِ، فإنَّ تحريم الميتةِ إنَّما كان لضررهَا على النَّفسِ، فحينَ كانتْ سببًا للحياةِ أُبيحتْ، والهلاكُ أعظمُ الضَّررِ بالنَّفسِ، فيُدفعُ الضَّررُ الأكبرُ بارتكابِ الضَّررِ الأدنَى، قال الله تعالى: {ولا تقتلوا انفسكم إن الله كان بكم رحيما } (النساء: 29).

        هل يُمنعُ الأخذبالرُّخص؟

        صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ: (إنَّ الله يحبُّ أن تُؤتَى رُخصَهُ، كما يكرهُ أن تُؤتَى معصيتُهُ)، أخرجهُ أحمدُ وغيرُهُ، فما أحبَّهُ الله تعالى لا يصحُّ أن يقالَ: هو ممنُوعٌ منعَ كرَاهَةٍ ولا منعَ تحريمٍ.

        وفي الحديث المذكورِ كراهةُ تركِ الأخذ بالرُّخصِ تنزُّهًا عنها، فإنه لا يصحُّ التَّنزُّه عمَّا يُحبُّه الله تعالى، ويؤكِّدهُ حديثُ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: صنعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا فترخَّص فيه، فبلغَ ذلكَ ناسًا من أصحابهِ فكأنَّهُم كرهُوهُ وتنزَّهوا عنهُ، فبلغَه ذلكَ فقامَ خطيبًا فقالَ: (ما بالُ رِجالٍ بلغَهُم عنِّي أمرٌ ترخَّصتُ فيهِ فكرِهوهُ وتنزَّهُوا عنهُ، فوالله لأنا أعلمُهم بالله وأشدُّهُمْ لهُ خشيَةً) متفقٌ عليه.

        أمَّا ما يُروى عن بعضِ السَّلفِ والعلَماءِ من كرَاهةِ تتبُّعِ الرُّخصِ وذَمِّ من يفعلُ ذلكَ، فليسَ كلامُهُم في رُخصِ الله ورسولهِ ممَّا جاءتْ بِهِ الشَّريعةُ، إنَّما الرُّخصُ الَّتِي يستفيدُها النَّاسُ من خلافِ الفُقهاءِ، فهذا العالمُ حرَّمَ كذا وهذا رخَّص فيه، فذمَّ العلماءُ من يبحثُ عن تلكَ الرُّخص ويعملُ بها أو يُشيعُهَا بين النَّاسِ ذَمًّا شديدًا، لأنهَا تصيرُ بفاعلِ ذلكَ إلى استحلالِ ما حرَّم الله ورسولُه، فالمجتهِدُ قدْ يقُولُ الرَّأيَ في الشَّيءِ يخالفُ حكمَ الله ورسولِهِ صلى الله عليه وسلم ، لا بقصدٍ منهُ بلْ باجتهادِهِ ظنًّا منهُ أنَّهُ الصَّوابُ، فمن عمَدَ إلى رُخصَةِ هذا العالمِ أو ذاكَ ممَّا أخطأَوا فيهِ فتتبَّعَهُ فقدِ اجتمَعَ فيه الشَّرُّ كلُّهُ.

        حكى إسماعيلُ بنُ إسحاقَ القاضِي المالكيُّ أنَّهُ دخَلَ على الخليفةِ المعتضِدِ بالله العبَّاسِيِّ، قال: فدَفعَ إليَّ كتابًا، فنظرتُ فيهِ، فإذا قدْ جُمعَ لهُ فيه الرُّخصُ من زَللِ العلماءِ، فقلتُ: مُصنِّفُ هذا زِنْدِيقٌ، فقالَ: ألمْ تصحَّ هذه الأحاديثُ؟ قلتُ: بلى، ولكن من أباحَ المسكِرَ لم يُبِح المُتْعةَ، ومن أباحَ المُتعَةَ لم يُبِحِ الغِناءَ، وما من عالمٍ إلاَّ ولهُ زّلَّةٌ، ومن أخذَ بكُلِّ زَللِ العُلماءِ ذهبَ دينُهُ، فأمرَ بالكتابِ فأُحْرِقَ [سِير أعلام النُّبلاء 13/465].

        وإنَّما الواجبُ في هذا أن ينظُرَ في حُكمِ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فتُقاسَ رُخصُ المجتهدينَ بموافقَتهَأ للكتابِ والسُّنَّةِ أو مخالفتها لهمَا، فإن وافقَتْ فهي رُخصَةٌ شرعيَّةٌ يحبُّهَا الله والأخذُ بها حسنٌ، وإنْ خالفَتْ فلهَا حكمُهَا من الحُرمَةِ أو الكراهَةِ
سادسا : الأداء والقضاء والإعادة
( 1 ) الأَدَاءُ: وهوَ إيقاعُ العبادَةِ في وقتِهَا المعيَّنِ لها شرعًا.

        ( 2 ) القضاءُ: وهوَ إيقاعُ العبادَةِ خارجَ وقتِهَا الَّذِي عيَّنَهُ الشَّارعُ.

        وجديرٌ بالتَّنبيهِ عليه هـهُنَا أنَّ القضاءَ لم يرِدْ في نصوصِ الشَّرعِ إلاَّ في إيقاعِ العبادَةِ بعدَ خُروجِ وقتهَا بعُذْرٍ كالنَّومِ عن الصَّلاةِ، أو الصَّومِ للحائضِ أو النُّفسَاء، أمَّا خُروجِ الوقتِ بدونِ عُذْرٍ فلمْ يرِدْ فيهِ القضاءُ، بِخلافِ الَّذي عليهِ كثيرٌ من الفُقهاءِ.

        ويُؤكِّدُ ذلكَ مسألَةٌ أثارَهَا الأصُوليُّونَ، هيَ: هلِ القضاءُ يكونُ بالأمرِ الأوَّلِ الَّذي كان بهِ الأداء، أو يحتاجُ إلى أمرٍ جديدٍ؟ جمهُورُهُمْ أنهُ يحتاجُ إلى أمرٍ جديدٍ، وهذا هُو الصَّوابُ، فإنَّ العبادَةَ المعلَّقةَ بوقتٍ إنَّما مقصُودُ الشَّارِع أن تقعَ في الوقتِ الَّذِي حدَّدَه لها، فإذا أخلَّ المكلَّفُ بذلكَ فأدَّاهَا خارجَ وقتهَا بدونِ عُذرٍ فلمْ يقعْ فعلُهُ لهَا كمَا أُمرَ، وقدْ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (من عملَ عملاً ليسَ عليهِ أمرُنا فهُوَ رَدٌّ) أخرجهُ مسلمٌ عن عائشةَ، وهذا بخلافِ المعذُورِ، فهوَ إمَّا أن تكونَ الشَّريعَةُ أسقطتْ عنهُ القضاءَ فلمْ تأمُرْهُ بهِ، كما في قضاءِ الصَّلاةِ للحائضِ، وإمَّا أن تكونَ أَمَرَتْهُ بهِ بأمرٍ جديدٍ، كصلاَةِ النَّائمِ والنَّاسي، وقضاءِ الصَّومِ للحائضِ والنُّفساءِ والمريضِ والمسافِرِ، وقضاءِ الحجِّ عمَّنْ عجزَ عنهُ في حياتِهِ.

        ويتفرَّعُ عن هذا مسألةٌ مشهورَةٌ، وهي قضاءُ الصَّلاةِ والصَّومِ ونحوهِمَا لمن تركَ أدَاءَ ذلكَ في وقتِهِ متعمِّدًا، فهَذَا ليسَ لهُ رُخصَةٌ في القضاءِ، إنَّمَا سبيلُهُ التَّوبَةُ النَّصوحُ وأن يُكثِرَ من التَّطَوُّعِ.

        ( 3 ) الإعادَةُ: وهي إيقاعُ العبادَةِ في وقتِهَا بعدَ تقَدُّمِ إيقاعِهَا على خللٍ في الإجزاءِ، كإنقاصِ رُكنٍ