علم أصول الفقه
أولا مقدمة عن الشريعة
كل شريعة قامت على وجه هذه الأرض، وكل نظام أو قانون عاش فيها، لا بد أن يكون ناشئا عن أحد مصدرين اثنين لا ثالث لهما، فهي إما أن تكون من قبل الله سبحانه وتعالى خالق البشر ومربيهم، وإما أن تكون من صنع البشر أنفسهم.
فالنوع الأول هو ما يدعى بالشرائع السماوية، والنوع الثاني هو ما يسمى بالشرائع الوضعية، وعلى ذلك نرى أن شرائع العالم كله تنقسم إلى قسمين بحسب طبيعة مصدرها ومنشئها، وشريعتنا الإسلامية التي هي موضع دراستنا إنما هي شريعة من النوع الأول، إذ هي شريعة سماوية صادرة عن الله سبحانه، ولا دخل فيها لأي إنسان مهما ارتفعت رتبته وعلا مقامه، فالمشرع الأوحد عندنا هو الله سبحانه وتعالى، ولا يعترف المسلون لأحد غيره بحق التشريع، حتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنما نقبل قوله وعمله وتقريره لأنه مخبر عن الله تعالى وناقل لأوامره ونواهيه ليس إلا، ولذلك أجمع المسلون على أن الأقوال والأعمال التي صدرت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى الجبلة الإنسانية لا تعتبر تشريعا ملزما بحال، كطريقته - صلى الله عليه وسلم - في أكله وشربه ونومه …
وكذلك الفقهاء والعلماء والمجتهدون، فإنه لا دخل لهم في التشريع أبدا، وكل مالهم أن يفعلوه هو أن يعملوا عقولهم في فهم ما ورد عن الشارع من النصوص في حدود الضوابط التي وضعوها لهذا الفهم، دون الزيادة على هذه النصوص أو الإنقاص منهــا.
وعلى ذلك فإن المصدر التشريعي الوحيد في الشريعة الإسلامية إنما هو قول الله سبحانه وتعالى ليس إلا، قال سبحانه: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) (الأنعام:57)، فإنه هو المشرع الحقيقي ولا مشرع غيره. والقرآن كلام الله تعالى قامت على ذلك كل البراهين والأدلة النقلية والعقلية، وسوف نورد شيئا من ذلك في موضع حجية القرآن الكريم وأدلة هذه الحجية، ولذلك أجمع المسلمون على اختلاف نزعاتهم وآرائهم ومذاهبهم على أن القرآن مصدر من مصادر الشريعة، بل هو المصدر الوحيد فيها، وما عداه من المصادر المعتبرة إنما هو تابع للقرآن أو فرع عنه، لثبوت حجيته بالقرآن نفسه، فيكون اتباعه والاحتكام إليه واستنباط الأحكام منه وعده مصدرا أصليا إنما هو على سبيل المجاز لا الحقيقة، إذ إن إتباعه إنما هو اتباع للقرآن حقيقة، لأن القرآن هو الذي أمر باتباعه.
وعلى ذلك يكون القرآن هو المصدر الأصلي لهذه الشريعة، وما عداه من المصادر المتفق عليها والمختلف فيها إنما هي مصادر تبعية، أو مصادر مجازية إن صح التعبير، لأنها في ثبوت حجيتها محتاجة للقرآن ومتوقفة عليه.
وإلى هذا المعنى أشار الغزالي في المستصفى حيث قال: (واعلم أنا إذا حققنا النظر بأن أصل الأحكام واحد وهو قول الله تعالى: إذ قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس بحكم ولا ملزم، بل هو مخبر عن الله تعالى أنه حكم، كذا وكذا، فالحكم لله تعالى وحده، والإجماع يدل على السنة الشريفة ، والسنة على حكم الله تعالى، وأما العقل فلا يدل على الأحكام الشرعية، بل يدل على نفي الأحكام عند انتفاء السمع، فتسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تجوز على ما يأتي تحقيقه).
لكننا نرى بعض العلماء بل أكثرهم يذهبون إلى أن القرآن والسنة والإجماع والقياس مصادر أصلية كلها، وما عداها مصادر تبعية، فيخالفون بذلك ظاهر ما تقدم تفصيله من اعتبار القرآن أصلا وما عداه تبعا له.
والجواب أن لهؤلاء الفقهاء عذرهم في هذا التقسيم، وهو تقسيم اعتباري على أي حال لا يؤثر في جوهر الموضوع في شيء، وحجتهم في هذا التقسيم هي أن هذه المصادر الثلاثة بعد القرآن الكريم هي مصادر غنية بالأحكام كالقرآن، بل إن بعضها أكثر منه غناء من حيث الكم، كالقياس، ثم إن هذه المصادر أثبتت في كثير من الأحيان أحكاما سكت عنها القرآن الكريم بتاتا ولم يتعرض إليها، كالسنة في كثير من مواضعها أو بعضها في بعض الأحيان تنسخ أحكاما جاء بها القرآن عند أكثر الفقهاء، فهي لهذه الأسباب تعد مصادر أصلية، بمعنى أنها مستقلة في إنشاء الأحكام عن القرآن الكريم، ولا يضر كونها ثبتت حجيتها بالقرآن في جعلها أصلية بحال، بخلاف المصادر الأخرى، فإنها لم تنفرد عن القرآن الكريم وهذه المصادر الثلاثة التي بعده في تشريعها للأحكام، بل هي تفسير لها أو استثناء منها أو علامة عليها، ولذلك فهي محتاجة إليها وفرع عنها، فكانت تبعية لذلك، كالاستحسان والاستصحاب وعمل الصحابي وغيره.…
هاتان هما وجهتا نظر الفقهاء في بيان الأصلي والتبعي من المصادر، عرَّفتهما وبينت مناط الاختلاف فيهما، وأشرت إلى أن لكل منها وجهة نظر سليمة وموضوعية.
والحق أن القول الأول هو الأقرب للواقع، بل هو عين الواقع، وإن كان القول الثاني، أسهل في التبويب والتنسيق، وعلى كل، ذلك اصطلاح ولا مشاحَّة في الاصطلاح كما يقول الأصوليون، وإنني في هذه الدراسة الموجزة لمصادر التشريع الإسلامي سوف أمشي على القول الثاني لسهولته ووضوحه، فأقسم المصادر إلى قسمين: مصادر متفق عليها وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس، وتسمى بالمصادر الأصلية، ومصادر مختلف فيها، وهي ما عدا المصادر الأربعة الأولى، وتسمى بالمصادر التبعية
تعريف علم أصول الفقه
الأصولُ: جمعُ أصلٍ، وهو لُغةً: ما ينبني عليه غيرُهُ.
واصطلاحًا: يُطلقُ (الأصلُ) على أمورٍ، منها:
1- الدليلُ، ومنه: قولهمْ: (أصل هذه المسألةِ الكتابُ والسُّنة).
2- الرَّاجحُ، كقولهم: (الأصلُ في الكلامِ الحقيقة) أي لا المجازُ، لأنها أرجحُ منه.
3- القاعدةُ، ومنهُ قولهُم: (الأصلُ أنَّ الفاعلَ مرفوعٌ).
4- الاستصحابُ، ومنه قولُهم: (الأصلُ في الأشياءِ الإباحَـةُ)، وسيأتي بيانُ معناهُ.
والفقهُ؛ لغةً: الفهمُ.
واصطلاحًا: العلمُ بالأحكامِ الشَّرعيَّة العمليَّة المُكتسبة من أدلَّتِها التَّفصيليَّة.
تفسير التَّعريف:
1- الأحكام: جمع حُكمٍ، وهو: إثباتُ شيءٍ لشيءٍ.
2- الشَّرعيَّة: المستفادة من الشَّريعةِ، فتخرُج منها أحكامُ العقلِ المحضة.
3- العمليَّة: المتعلقة بأفعالِ المكلَّفين، فيخرجُ منها الأحكامُ الاعتقاديَّة والسُّلوكيَّة.
4- المكتسبة: المستفادة بطريقِ النَّظرِ والاستدلالِ، فيخرُجُ من الفقهِ نوعانِ من العلمِ:
( أ ) علم الله تعالى أو رسولهِ صلى الله عليه وسلم ، فأما علمُ الله تعالى فهو وصفٌ لازمٌ له على وجه الكمالِ، ولو عُلِّق بالاستنباط لكانَ نقصًا يُنزَّه عنه سبحانه وتعالى.
وأمَّا علمُ رسولهِ صلى الله عليه وسلم فمصدرهُ الوحيُ الَّذي هو من علمِ الله تعالى.
( ب ) علمُ المقلَِّّد، فإنه لم يستفدْهُ بالنَّظر والاستنباطِ، إنما حملهُ عن غيرهِ.
5- الأدلَّة: جمعُ (دليلٍ) وهو لغةً: الهادي.
واصطلاحًا: ما يُستدل بالنَّظر الصَّحيح فيه على حكمٍ شرعيٍّ عمليٍّ على سبيل القطعِ أو الظَّنِّ.
6- التَّفصيليَّة: الجزئيَّة أو الفرعيَّة.
فالأدلة نوعان :
أدلة كلية وهي الكتاب ، و السنة ، و الإجماع ، والقياس، فهذه أدلة كلية.
والأدلَّة التفصيليَّة، هي كلُّ دليلٍ يختصُّ بمسألةٍ معيَّنةٍ، كاختصاصِ قوله تعالى: { ولا تقربوا }[الإسراء:32] بحرمةِ الزِّنا، فهذه الآية دليلٌ تفصيليُّ يختصُّ بمسألةٍ معيَّنةٍ هي الزِّنا، وسميت بالأدلة التفصيلية ؛ لأنها جزء من الأدلة الكلية.
فالقرآن الكريم كله دليل كلي ، و الأية منه التي تدل على حكم دليل تفصيلي.
ومثل ذلك قوله تعالى: { و لا تقربوا مال اليتيم}[الإسراء: 34]، فهذا دليلٌ تفصيليُّ على مسألةٍ معيَّنةٍ أخرى هي حرمَةُ أكلِ مالِ اليتيمِ.
وأصول الفقــه:
هي القواعد والأدلَّة العامَّةُ الَّتي يُتوصَّلُ بها إلى الفقهِ.
أي : هو العلم بالقواعد العامة التي تستخدم في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
أو هو العلم بالقواعد العامة التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
ومن أمثلة القواعدِ:
1- الأمر للوجوبِ حتَّى تصرفَهُ قرينةٌ عن ذلكَ.
2- النَّهي للتَّحريمِ حتَّى تصرِفه قرينةٌ عن ذلك.
3- العامُّ شاملٌ لجميعِ أفرادِهِ ما لم يرِدِ التَّخصيصُ.
والأدلَّةُ هي مصادرُ التَّشريعِ، كـ:الكتابِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ، والقياسِ
..............................................
الفرق بين أصول الفقه و القواعد الفقهية
القاعدةُ الأصوليَّةُ هي: دلالةٌ يهتدي بها المجتهدُ للتَّوصُّلِ إلى استخراجِ الأحكامِ الفقهيَّة، فهي آلتُهُ الَّتي يستعملُها لاستفادَةِ تلكَ الأحكامِ مثل :
1- الأمر للوجوبِ حتَّى تصرفَهُ قرينةٌ عن ذلكَ.
2- النَّهي للتَّحريمِ حتَّى تصرِفه قرينةٌ عن ذلك.
3- العامُّ شاملٌ لجميعِ أفرادِهِ ما لم يرِدِ التَّخصيصُ
أما القاعدةُ الفقهيَّةُ: فهيَ الجملةُ الجامعةُ من الفقهِ تندرجُ تحتهَا جزئياتٌ كثيرةٌ، بمنزلةِ النُّصوصِ الجوامعِ للمعاني،
أو هي قاعدة كلية تنطبق على كثير من جزئياتها.
كالمُناسبةِ الَّتي تُلاحظها بين القاعدةِ الفقهيَّةِ: (الأمور بمقاصدها)، وبين قوله صلى الله عليه وسلم : ((إنما الأعمال بالنِّيات)) .
أو بين القاعدةِ الفقهيَّةِ: (المشقَّةُ تجلِبُ التَّيسيرَ)) وقوله تعالى:{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}[البقرة: 286].
فالقاعدة الفقهيَّةُ جملةٌ جامعةٌ لجزئيَّاتٍ كلُّهنَّ من بابها وموضوعها، بمنزلةِ المستفاد من آيةٍ جامعةٍ أو حديثٍ جامعٍ، كالمثاليين المذكورين.
ولو تأمَّلتَ اعتبار جميع التصرفات بالمقاصد فكم تُرى يندرجُ تحت ذلك من المسائل الفرعيَّةِ في العبادات والمعاملاتِ والجناياتِ والعقوباتِ، فأفعال المصلِّي والمزكي والبائع والمشتري والنَّاكح والمُطلق والسَّارق والزَّاني والقاتل والحالفِ والقاضي، إلى غير ذلك ممَّا تعتبرُ فيه النِّياتُ والإراداتُ كلُّه مندرجٌ تحت هذه الجملةِ، فلمَّا جاءتْ على الاستيعاب للأمورِ الكثيرةِ سمِّيتْ (قاعدة)، ولما كانتْ في المسائلِ الشَّرعيَّة العمليَّة سميَّتْ (فقهيَّة)، وهذه بخلافِ (الأصوليَّة) فإنَّها لا تندرجُ تحتها الفروعُ العمليَّة، إنما هي أداةٌ لمعرفتها من الدَّليلِ الشَّرعِّ
...............................................................
موضوع علم أصول الفقه
ذهب الآمدي من الأصوليين إلى أن موضوع علم أصول الفقه هو الأدلة الإجمالية الأربعة، من حيث إثباتها للأحكام الشرعية، فلا يبحث فيه عن هذه الأحكام إلا بطريق العرض ليتمكن من نفيها أو إثباتها.
وذهب الإمام الغزالي إلى أن موضوعه الأحكام التشريعية من حيث ثبوتها بالأدلة، فتكون الأحكام عن هذه الحيثية أصلاً وجزءاً من أجزاء هذا العلم.
وذهب الإمام سعد الدين التفتازاني مذهباً وسطاً بين المذهبين السابقين، فنص على أن موضوعه الأدلة من حيث إثباتها للأحكام والأحكام من حيث ثبوتها بالأدلة، فيكون بذلك كل من الأحكام والأدلة أساسا من أسس هذا العلم. وهذا هو المذهب الذي ارتضاه أكثر الأصوليين
..............................................................
الفائدة من دراسة علم أصول الفقه
لابد لكل علم من ثمرة وفائدة يقطفها الإنسان من وراء نصبه وتعبه في تتبع نظريات هذا العلم، وإذا كانت الفائدة من دراسة الفقه هي تصحيح الأعمال والأقوال وفق حكم الله تعالى، فما هي إذا الفائدة من دراسة علم أصول الفقه.
الفائدة الأصلية من علم أصول الفقه هي معرفة طرق استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها وضوابط هذا الاستنباط، وبذلك يكون هذا العلم الأداة التي يستخدمها المجتهد في استخراجه الأحكام من أدلتها، وإذا كان الأمر كذلك فهذا يعني أن علم الأصول لا يستطيع أن يستفيد منه إلا المجتهدون، بل هو مقصور عليهم، وبذلك يثار تساؤل كبير، فأي فائدة لنا من هذا العلم بعد ما أقفل كثير من الفقهاء باب الاجتهاد، وعلى التسليم بعدم إقفال هذا الباب فأي فائدة لطالب العلم العادي أو للفقيه بصورة عامة من هذا العلم إن لم يبلغ درجة الاجتهاد؟ والجواب على ذلك واضح لا لبس فيه، نعم إن الفائدة الأساسية لهذا العلم هي التبصر بقواعد الاستنباط مما يمكِّن المجتهد من استنباط الأحكام من أدلتها، وعلى ذلك لا يكون مفيداً إلا للمجتهدين فقط، ولكن لا يعني هذا أنه ليس هناك أي فائدة أخرى لهذا العلم وراء تلك الفائدة! إذ هنالك فوائد أخرى كثيرة تأتي تبعاً لتلك الفائدة الرئيسة، وأهم هذه الفوائد هـي:
1- الفائدة التاريخية، وهي اطلاع المتعلم على تلك القواعد الدقيقة التي استنبط الفقهاء بواسطتها الأحكام، ليزداد وثوقه بدقة الأحكام وأصالتها، مما يثير العزة في نفوس المؤمنين والرضا الكامل عما قدمه المجتهدون لهم من علم الفقه الذي يحتكمون إليه في كل علاقاتهم ومعاملاتهـم.
2- اكتساب الملكة الفقهية التي تمكن الطالب من الفهم الصحيح والإدراك الكامل للأحكام الفقهية، والإطلاع على طرق الاستنباط الدقيق للاستفادة منها والقياس عليها إذا ما دعت الحاجة، وهي لابد داعية إلى ذلك، فإن النصوص التشريعية والقواعد الفقهية محدودة ومشاكل الناس ومسائلهم لا حدود لها، ومن المنطقي أن لا يصلح المحدود حلا لغير المحدود، مما يضطر الفقيه عند تعرضه لبعض الوقائع التي لا نص عليها لدى الفقهاء من إعمال فكره والاستفادة من الملكة الفقهية التي احتواها في استنباط أحكام هذه المسألة على النسق الذي استنبط المجتهدون به مسائلهم وأحكامهم.
3- الموازنة والمقارنة بين المذاهب والآراء الفقهية لبيان الأرجح والأصح والأولى بالقبول منها، استناداً إلى الدليل الذي صدر عن قائلها، فإن لكل قول من أقوال الفقهاء معياراً أصولياً خاصاً استند إليه، ولابد في الترجيح من جمع هذه المعايير والموازنة بينها على أسس علم أصول الفقه وقواعده، للوصول إلى الرأي أو المذهب الذي يشهد له الدليل الأقوى والأصح
.........................................................
مصادر علم أصول الفقه
لابد لكل علم من مصادر يستمد منها قواعده وأحكامه.
فالفقه مستمده المصادر التشريعية، وعلم النحو والقواعد مستمده لغة العرب في جاهليتهم، بالإضافة إلى القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، فما هي مصادر أصول الفقه؟.
علم أصل الفقه مستمد من عدة علوم لا من علم واحد، فهو علوم في علم، وهو بحق كما يسميه بعض العلماء مفتاح العلوم، وهو بالجملة مستمد من العلوم التالية:
1) علم الكلام أو علم التوحيد، وذلك لتوقف الأدلة الشرعية على معرفة الله تعالى المشرع الأوحد، ورسله الذين ينقلون شرعه إلى أنبيائه، وهما من موضوع علم الكلام.
2) اللغة العربية بكل ما تضمنه من علوم لغوية و نحوية و بلاغية أو غيرها، وذلك لأن المصادر الأصلية للفقه وأصوله إنما هي الكتاب والسنة وهما عربيان، ولابد في فهم نصوصهما والوقوف على دقائق معانيهما من التمرس بأساليب اللغة العربية وعلومها، حتى إن بعض الفقهاء ذهب إلى أن معنى حصر الرسول- صلى الله عليه وسلم - الخلافة في قريش إنما هو سعة اطلاعهم أكثر من غيرهم على أساليب اللغة العربية واللهجة القرشية التي بها نزل القرآن خاصة، كما روى عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه شكل لجنة من كبار الصحابة لجمع القرآن بقوله: (إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش فإنه بلغتهم نزل).
3) الأحكام الشرعية، فإنها المعين الأصيل لهذا العلم، بل هي المعين الأول له، ويدخل في الأحكام الشرعية مصادرها، فيكون بذلك الكتاب والسنة المعين الأول الرافد لهذا العلم
......................................................................
أسباب الاختلاف بين الفقهــــاء
أهم أسباب الاختلاف بين الفقهاء يمكن إدراجها فيما يلي من النقاط:
1- اختلاف أساليب اللغة العربية ودلالة ألفاظها على المعاني، فإن اللغة العربية دون شك هي أوسع لغات العالم في المفردات وأدقها في التعبير، ولكنها مع ذلك – شأنها شأن سائر لغات العالم – تتعدد فيها وتختلف معاني الألفاظ، غرابة واشتراكا، كما تتراوح بين الحقيقة والمجاز، والعموم والخصوص، إلى غير ذلك مما هو معروف في كتب اللغة وأصول الفقه من طرف دلالة اللفظ على المعنى، وحيال هذا العدد والاختلاف لابد أن تتعدد الأفهام وتختلف الاستنباطات، فتختلف بذلك الأحكام.
من ذلك مثلا قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(البقرة:228).
فقد اختلف الفقهاء في هذه الآية على معنى (القرء) إذ هو في اللغة اسم للحيض والطهر معا، فذهب الحنفية إلى أن المراد به في هذه الآية الحيض، واستدلوا على ذلك بأدلة وقرائن كثيرة أيضا، ومناط اختلافهم الأصلي في هذه المسألة إنما هو الوضع اللغوي لكلمة قرء، وإنها مشتركة بين الطهر والحيض معا على التساوي.
ومن ذلك أيضا اختلافهم في حكم لمس يد الرجل المرأة هل ينقض الوضوء أو لا، فذهب الشافعية إلى أنه ينقض الوضوء، وذهب الحنفية إلى أنه لا ينقضه، ومناط اختلافهم هو معنى المس الذي ورد في قوله تعالى: (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً) (النساء:43).
فقد ذهب الشافعية إلى أن المراد بذلك هو حقيقة المس لغة، وهو حاصل بمجرد اتصال بشرة الرجل ببشرة المرأة، لأن أصل الوضع اللغوي لهذا اللفظ هو ذلك، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل، ولا دليل هنا يقتضي العدول.
وذهب الحنفية إلى أن المراد بالمس هنا ليس هو حقيقته اللغوية، بل المراد به المباشرة الفاحشة، وهي تماس الفرجين مع الانتشار، وذلك بدلالة وقرائن كثيرة مفصلة في كتب المذهب كافية في نظرهم لنقل هذا اللفظ من الوضع اللغوي إلى وضع شرعي خاص به، فمثار الخلاف إنما هو احتمال اللغة لهذا وذلك.
2- اختلاف الأئمة في صحة الرواية في الحديث، فالسنة المطهرة هي المصدر الثاني لهذه الشريعة بعد القرآن الكريم.
والسنة وردت إلينا منقولة في صدور الرجال، وهؤلاء الرجال بشر يصدقون ويكذبون، كما أنهم يحفظون وينسون، ولا يمكن رفعهم فوق هذه المرتبة، كما أن العلماء الذين اقتفوا أثرهم ودرسوا حياتهم وسلوكهم رجال أيضاً، تختلف أنظارهم في الراوي، فمنهم من يراه موثوقاً به، ومنهم من يراه غير ذلك، ولذلك كان طبعياً أن يختلف الفقهاء في الاحتجاج ببعض الأحاديث دون الأحاديث الأخرى.
وطبعي أيضاً أن يذهب إمام إلى ترجيح رواية راو على رواية آخر لوثوقه به أكثر، ويذهب فقيه آخر لترجيح مخالف لهذا الترجيح، اعتماداً منه على وثوقه بالراوي الآخر.
وهذا الاختلاف أدى بطبيعة الأمر إلى الاختلاف في كثير من الأحكام الفرعية تبعاً للاختلاف في مدى الوثوق بالراوي.
كما أن اختلاف الفقهاء فيما بينهم على طرق ترجيح الروايات إذا ما تعارضت، ومدى أخذهم ببعض أنواع الحديث أو اعتذارهم عنه كان له أثر كبير في اختلافهم في الأحكام الفرعية.
من ذلك مثلاً الحديث المرسل، يأخذ به الحنفية ويفضلونه على الحديث المتصل أحياناً، خلافاً للشافعية الذين يرفضون الاحتجاج بالمرسل مطلقاً، إلا مراسيل سعيد بن المسيب التي ثبت بتتبعها أنها كلها متصلة.
كما أن اختلاف الفقهاء في الأخذ بقول الصحابي وعمله وعدم الأخذ بهما كان له أثر كبير في الاختلاف، فالحنفية لا يجيزون الخروج على قول الصحابة إلى قول غيرهم، ويعتبرون قول الصحابي حجة، أما الشافعية فيجيزون الخروج على قولهم في كثير من المواضع.
3- اختلاف الفقهاء فيما بينهم على قوة الاحتجاج ببعض المبادئ والقواعد الأصولية، من ذلك مثلاً أن الحنفية يذهبون إلى أن العام قطعي الدلالة قبل التخصيص، فإذا دخله التخصيص نزل إلى مرتبة الظنية، أما الشافعية فيعتبرون العام ظنياً قبل التخصيص وبعده، وعلى ذلك فإنهم يجيزون تخصيص العام بالدليل الظني دون الحنفية الذين لم يجيزوا تخصيصه للمرة الأولى إلا بدليل قطعي.
ومن ذلك أيضاً اختلافهم في حمل المطلق على المقيد، فقد توسع الشافعية في حمل المطلق على المقيد فقيدوا بذلك الرقبة الواردة في كفارة الإيمان بالمؤمنة جرياً على تقييدها في كفارة القتل بذلك، خلافاً للحنفية الذين لا يقيدونها بذلك.
ومنه أيضاً اختلافهم على الاحتجاج بمفهوم المخالفة، فقد ذهب إلى الاحتجاج به الشافعية في أكثر المواضع خلافاً للحنفية الذين رفضوا التعويل عليه في أكثر المواضع.
ومنه أيضاً اختلافهم على جواز نسخ القرآن الكريم بالسنة الشريفة والسنة بالقرآن، فقد أجازه الحنفية والجمهور ومنعه الشافعية.
ومثل هذا كثير يعرف في كتب الأصول.
4 - اختلافهم على كثير من قواعد التعارض والترجيح بين الأدلة التي ظاهرها التعارض والتناقض، وهذا الاختلاف يعتبر صدى لاختلافهم في النسخ وقواعده وشروطه، والتخصيص وطرقه وشروطه وضوابطه، إلى غير ذلك من القواعد الأصولية الخاصة بالترجيح بين الأدلة التي ظاهرها التعارض، وهو مبسوط في كتب الأصول أيضاً.
5- اختلافهم في القياس وضوابطه، فالفقهاء مع اتفاقهم على الاحتجاج بالقياس والاستدلال به ـ عدا الظاهرية ـ يختلفون في شروط القياس وشروط العلة التي يصح القياس بها ومسالكها ومناطاتها، وترجيح علَّة على أخرى عند تعارضها وطرق ثبوت العلة وغير ذلك من الاختلافات المشروحة في كتب أصول الفقه. حتى أنك لا تكاد ترى أصلاً واحدا اتفقوا على القول بحجيته في القياس.
6- اختلافهم في صحة الاعتماد على الكثير من الأدلة الإجمالية، كالاستحسان الذي ذهب الحنفية إلى الاحتجاج به، وذهب الشافعية إلى عدم الاحتجاج به، حتى نقل عن الشافعي قوله (من استحسن فقد شرع)، والاستصلاح الذي ذهب إلى الاحتجاج به المالكية ولم يعتبره الحنفية أصلاً من أصولهم وإن كانوا يأخذون به ضمناً، وقول الصحابي الذي تقدم بيان اختلافهم فيه، وعمل أهل المدينة الذي ذهب إلى اعتباره المالكية دون غيرهم، حتى إنهم قدموه على القياس، وغير ذلك من الأصول الكثيرة التي اختلفوا على الاحتجاج بها أو شروط ذلك الاحتجاج وحدوده.
7- اختلاف بيئات الفقهاء وعصورهم، فقد كان لذلك أثر كبير في اختلافهم في كثير من الأحكام والفروع، حتى إن الفقيه الواحد كان يرجع عن كثير من أقواله إلى أقوال أخرى إذا تعرض لبيئة جديدة تخالف البيئة التي كان فيها، ومن ذلك ما حدث للإمام الشافعي بعد مغادرته بغداد إلى مصر، فقد عدل عن كثير من آراءه الماضية التي استقر عليها مذهبه في بغداد، وقد كثر هذا العدول حتى عد ذلك مذهباً جديداً له، ومنها عدول
...................................................................
العلوم المساعدة للتمكن من علم الأصول
علم الأصول هو الأساس للنظام المتكامل لحياة الإنسان.
فبعلم الأصول تتضح المنابع وتعرف المناهج التي تقود إلى الوصول للأحكام التي تنظم حياة الأفراد والجماعات في جميع صورها وجميع مراتبها.
وعلم هذا شأنه لا بد من ترابطه مع علوم كثيرة تعالج حياة البشر من جوانبها المختلفة، فدراسة منابع الأحكام تتطلب:-
أولا:- دراسة القرآن الكريم
المنبع الأول للأحكام: حقيقة شموله لأحكام تفصيلية وقواعد عامة تندرج تحتها بقية الأحكام غير المنفصلة نصا، ومعانيه، والناسخ والمنسوخ منه، وألفاظه مما يقود إلى دراسة اللغة العربية، ولا معنى لدراسة القرآن الكريم كأصل من أصول الفقه إلا فهم حقيقته هذا الكتاب وفهم دلالاته والتعمق في دراسته.
ثانيا:دراسة السنة النبوية
بأنواعها وأقسامها ومصطلحاتها لتكون تفسيرا للقرآن الكريم ومفصلة له.
ثالثا:دراسة منابع الفقه
ومصادره دراسة دقيقة وافية مستوعبة لتفاصيل علم الفقه الإسلامي ومذاهبه واختلافات الأئمة والمنصوص عليه وغير المنصوص عليه، وأماكن الإجماع الخ، حتى يمكنه معرفة الأصول معرفة نظرية وتطبيقية عملية ولا يقتصر على المعرفة النظرية المجردة.
ولعله من الأكمل لدارس الأصول الإلمام بأصول ومنابع القوانين الوضعية؛ وذلك لإدراك مصادر تلك القوانين وكيفية استخراجها حتى ينجلي عنده سمو الشريعة الإسلامية ويستطيع بيان نقائص القوانين الوضعية.
رابعا:- دراسة تاريخ التشريع في الإسلام
وهو يشتمل على تاريخ الأصول والفقه، ودراسة الظروف التاريخية التي أحاطت بالفقه وأصوله وهذه دراسة تقود للإلمام بالتاريخ عموما من أوسع أبوابه ولا يقتصر على دراسة تاريخ الأصول والفقه وحده.
وبذلك يكون الأصولي على علم بكل الظروف التي مرّ بها العلم، وهذا بدوره يسوق لدراسة منطقية وعقلية تدور حول قضية القياس وما يرتبط به من مصادر عقلية للأحكام.
وإلى دراسة المقاصد الشرعية في الخلق والأهداف العامة والخاصة، وهذا بدوره يقود لدراسة النظريات والفلسفات الوضعية وتوضيح أهدافها ومقاصدها لمقارنتها وبيان أوجه النقص فيها.
خامسا:- دراسة المجتمع الإنساني
دراسة تكشف عن عادات الناس فيه واختلافات بيئاتهم وتأثير ذلك في تصرفاتهم، ومدى صلاح تلك التصرفات أو فسادها بمقياس الإسلام ومبادئه، وهذه الدراسة الاجتماعية يقدم عليها أصل من الأصول الفقهية التي اعتمدتها بعض المذاهب السنية وهو "العرف".
إلى جانب ما تقدم من علوم تتطلبها دراسة علم الأصول فهنالك علوم أخرى لها أهمية بالنسبة لدارس الأصول مثل علم الكلام أو العقيدة التي هي من مقدمات علم الأصول، ليتوصل بذلك إلى ثبوت الكتاب والسنة ووجوب صدقهما ليتوصل بذلك إلى الفقه .
وكذلك فإن قضايا متعددة خلال أبواب الأصول تحتاج إلى زاد من العقيدة مثل قضايا التعليل، وصفات الأفعال العقلية واتفاق أو عدم اتفاق الشرع معها، وغير ذلك من القضايا التي تتطلب التسلح بسلاح العقيدة ليكون بحثها على بينة من الأمر، فتلك العلوم مساعدة للتمكن من علم الأصول
الصعوبة والعلاج في أصول الفقه
إن من أهم علوم الشريعة وأجلها قدرا وأعظمها أثرا وأكثرها فائدة وأكبرها عائدة علم أصول الفقه ؛ لأنه الطريق لاستنباط الأحكام الشرعية ، فهو منهل الأئمة ومأوى المجتهدين ومورد المفتين ، لا سيما عند النوازل والمستجدات .
فبه يتمكن الفقيه من استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها على أسس سليمة .
وأصول الفقه أحد العلوم الإسلامية الأصيلة توالت المؤلفات فيه عبر التاريخ ، إلا أن ظاهرة صعوبة هذا العلم ملموسة ، وهذه الرؤية محاولة لعلاج صعوبة هذا العلم.
تعتري أصول الفقه جملة من المشكلات
في جوانب مختلفة منه في مضمونه أحياناً ، وفي منهج دراسة مسائله ، ومناقشة بعضها ، وفي الأسلوب الذي سطر به أحياناً ، وفي منهج تدريسه أحياناً أخرى ، وكلها مشكلات تسببت قلة الاستفادة من هذا العلم المهم.
لذا فهي بحاجة ماسة للحلول والعلاج من قبل المتخصصين فيه عسى الله عز وجل أن ينفع بها.
وأحاول في هذا المقال إن شاء الله تسليط الضوء على إحدى هذه المشكلات ، محاولاً طرح بعض الحلول لها حسب ما أراه مناسباً.
تتمثل هذه المشكلة في منهج تدريس أصول الفقه ، تلك التي نتج عنها قضيتان خطيرتان: الأولى عدم فهم أصول الفقه ، والثانية عدم معرفة كيفية الاستفادة منه بعد ذلك.
أما القضية الأولى:
فإن طلبة العلم الشرعي في الجامعات والمعاهد المتخصصة بل من هم دونهم يشكون من صعوبة فهم مادة أصول الفقه.
أما القضية الثانية:
فإن هناك عدداً لا بأس به من طلبة العلم إما لأنهم رزقوا فهماً قوياً ، أو لأنهم بذلوا جهداً مضاعفاً قد أدركوا وفهموا كثيراً من مسائل هذا الفن ولكنهم للأسف الشديد لا يستفيدون من هذا شيئاً في ممارساتهم العلمية ، وذلك لعدم معرفتهم بكيفية الاستفادة من هذا العلم!
الحل:-
إن حل هاتين المشكلتين موزع في نظري بين أطراف ثلاثة هي:
1- طالب العلم.
2- معلم مادة أصول الفقه.
3- المؤسسات العلمية والتعليمية المهتمة بتدريس هذه المادة والاستفادة منها.
أولاً:- طالب العلم.
إن أهم مسألة ينبغي أن تتوفر لدى طالب العلم تجاه هذا الفن بعد سلامة القصد هي إدراكه للغرض من دراسته والفائدة المرجوة منه ، ويحصل ذلك بمطالعة ما سطره العلماء في هذا الخصوص .
ويمكن جمع ذلك في ثلاث نقاط:
1- تحصيل ملكة الاستنباط للأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية وملكة الاستنباط هي رأس مال الجهد كما قال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني.
2- استنباط تلك الأحكام على وجه الصحة حسب نظر المجتهد لا في واقع الأمر، وهذا مبتغى ومطلب كل مجتهد صادق مخلص ، ورفع الإثم عنه عند الخطأ منوط بسلوكه المنهج القويم في الاجتهاد أي اعتماده قواعده الشرعية ، التي هي أصول الفقه.
3- معرفة سبب الاختلاف في جملة من الفروع الفقهية المختلف فيها بين العلماء إذ إن الاختلاف في القاعدة الأصولية قد يسبب اختلافاً في أحكام الفروع الفقهية ، مما يمهد ويختصر للطالب أسباب الترجيح.
4- استنباط أحكام النوازل باستخدام دليل القياس أو مقاصد الشريعة.
كما على الطالب أن يستحضر أن أول من ألف في هذا الفن تأليفاً مستقلاً إمام جليل من أئمة أهل السنة والجماعة هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله مما يؤكد توجيه مسؤولية هذا العلم إلى من ينتمون إلى هذا المنهج منهج السلف الصالح تعلماً وتعليماً واستفادة وتجديداً.
إن إدراك طالب العلم لأهمية هذا العلم من خلال الوقوف على أغراضه وفوائده ، ثم مقارنة ذلك بحال كثير ممن تصدروا للفتيا والاجتهاد في أيامنا هذه سواء أكانوا ممن يدعون الالتزام بالنصوص الشرعية أو ممن يغلبون النظرة العقلية المصلحية على النصوص الشرعية على حد سواء ، وما ترتب على هذا من مفاسد ، لمن أهم أسباب تنشيط الهمة والجد والاجتهاد لفهم مسائل هذا العلم مهما كانت التضحية كبيرة.
ثانياً:- معلم مادة أصول الفقه.
تنتظم الاقتراحات المتعلقة بالمعلم في هذا الموضوع في مقدمتين:
المقدمة الأولى:
عُرّف أصول الفقه باعتباره لقباً بأنه (القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية) (1).
وقد عُرّفت القاعدة بأنها (حكم كلي ينطبق على جزئياته ليتعرف أحكامها منه كقولنا: كل حكم دليل على القياس فهو ثابت)(2)
المقدمة الثانية:
هذه القواعد إنما يتوصل إليها لتكون عند عملية الاستنباط (مقدمة كبرى في القياس الحملي أو ملازمة في القياس الاستثنائي ، بعد أن يقدم لها بمقدمة صغرى موضوعها جزئي من جزئيات تلك القاعدة ودليل تفصيلي يعرفه الفقيه بيسر وسهولة كالأمر بالصلاة في قوله تعالى: ( أقيمو الصلاة ) سورة البقرة:43 .
فيكون بذلك قياساً منطقياً هذه كيفيته:
المقدمة الصغرى: الصلاة مأمور بها في قوله تعالى: ( أقيموا الصلاة ) وهذا دليل تفصيلي.
المقدمة الكبرى: كل مأمور به واجب ( وهذه قاعدة أصولية أو دليل كلي إجمالي ).
النتيجة:
الصلاة واجبة ( وهذه النتيجة حاصلة بإسقاط الحد الأوسط المكرر ).
فمن هاتين المقدمتين :
ندرك أن أصول الفقه في الاصطلاح هو القواعد الكلية نحو ( كل أمر للوجوب ) التي يتوصل بها المجتهد إلى التعرف على الأحكام الشرعية الفرعية ( كوجوب الصلاة ) من الأدلة التفصيلية التي هي في هذا المثال قوله تعالى: ( أقيموا الصلاة ) ، وهكذا...(3)
الاقتراحات المترتبة على هاتين المقدمتين:
1- قيام مدرسي أصول الفقه بتدريسه على أساس ما عرف به سابقاً ، أي على شكل قواعد (أحكام كلية... »بحيث تكون القاعدة شكلاً ومضموناً هي موضوع الدرس يتناولها المدرس بالشرح والتفصيل.
2- قيامهم كذلك بتدريب الطلاب على كيفية الاستفادة منها عند التطبيق على الصفة المذكورة آنفاً ، مع ذكر الأمثلة الصحيحة الواقعة في مصنفات أهل العلم.
ويطلق على هذا المنهج (تخريج الفروع على الأصول) يستعين المدرس بما ألف فيه ، ومن ذلك: أصول الشاشي، تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ، مفتاح الوصول في بناء الفروع على الأصول للتلمساني ، التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للاسنوي، القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام ، وكلها كتب مطبوعة وفي متناول الجميع.
ولهذين الاقتراحين فوائد منها:
1- سهولة حفظ القاعدة واستذكارها عند الحاجة إليها باعتبارها المقصود الأول من الدرس.
2- يسر الاستفادة منها عند التطبيق كما هو مبين في ترتيب المقدمات بخلاف ما لو عرضت على شكل بحث مبسوط.
وبهذا إن شاء الله يجد الطالب نفسه أمام سبيل لا غموض فيه ، ولا صعوبة للتوصل إلى حكم شرعي في مسألة معينة ، ولم يبق منه سوى بذل الجهد في تحديد الأدلة المتعلقة بمسألته.
ثالثاً:- المؤسسات التعليمية والعلمية.
أرى أن المطلوب من هذه المؤسسات للمساهمة الجادة في حل هذه المشكلة جملة من الأمور:
1- عقد ندوات وجلسات يدعى إليها المتخصصون في هذا العلم لتشخيص المشكلة، ومحاولة تقديم حلول عملية لها.
2- المسارعة في تنفيذ ما توصل إليه أهل الاختصاص في هذا الشأن ونشره تعميماً للفائدة.
3- تكليف الباحثين في الدراسات العليا ممن تتعلق رسائلهم بالأحكام بوضع فهرس للقواعد الأصولية المذكورة في بحوثهم حتى يتمكن غيرهم من التعرف على كيفية استفادتهم من تلك القواعد.
4- على المؤسسات العلمية التي تقوم بإصدار الفتاوى والبحوث وضع فهرس للقواعد الأصولية المذكورة في مجلاتها الدورية للغرض السابق نفسه.
غير أنه بعد قراءة هذه المقترحات يتبادر إلى الذهن سؤال مهم وهو: هل القواعد الأصولية كلها قد صيغت على شكل قواعد؟ وهل هذه الصياغة موحدة بين الأصوليين؟
لا شك أن هاتين المسألتين في غاية من الأهمية بالنسبة لزماننا هذا على الأقل ، إذ قد لا تكون بهذه المثابة عند الأوائل لاعتبارات كثيرة ، فليس سهلاً أن يقوم أي طالب أو باحث بصياغة قاعدة من بعد إدراكه للدرس ، إذ يتطلب هذا العمل الدقيق إحاطة بجميع متعلقات القاعدة، وقد لا يتوفر هذا في غير أصحاب التخصص المتمرسين من أساتذة ومجتهدين.
.............................................................
الضرورات الست في الإسلام
وضعت الشريعة المطهرة الأسس التي تقام عليها أمة صالحة قائمة بأمر الله سبحانه وتعالى، وحيث أن هذه الأمة لا تقام إلا بالحفاظ على الضرورات الست: الدين، والنفس، والنسل، والعرض، والعقل والمال - فإن الشريعة قد جاءت بالحفاظ على هذه الضرورات على أكمل الوجوه،
..............................................................
تدرج علم الأصول عبر الأجيال والعصور
إذا علمنا أن علم أصول الفقه في أشمل تعريفاته
هو: أدلة الأحكام الشرعية- أي مصادرها- وكيفية أخذ الأحكام منها.
فإنا نرتب على ذلك أن هذه الأصول قد بدأ وجودها مع البعثة المحمدية، ومنذ بدأ القرآن يتنزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتأصلت جذورها خلال الثلاثة والعشرين عاما التي هي فترة اكتمال الرسالة الإسلامية. ففي هذه الفترة تكوّن الأصل الأول والمصدر الرئيسي للفقه الإسلامي وهو القرآن الكريم، وفي ذات الفترة تكوّن أيضا الأصل الثاني للفقه وهو السنة النبوية.
وقد أرسى هذان المصدران أسس وقواعد الفقه التي تبلورت فيما بعد في شكل علم منفصل قائم بذاته سمي علم أصول الفقه.
النظم السابقة للإسلام ليست رافداً من روافد الأصول:
مما هو معلوم أن المجتمعات التي عاشت قبل الإسلام كان لها بعض أعراف وتقاليد ونظم تسير عليها. كانت بعض هذه المجتمعات مكوّنة في جزيرة العرب وبعضها خارج الجزيرة .
ومهما بدا للناظر من عدالة بعض تلك النظم والأعراف فإن مما لا شك فيه أنها كانت ترتكز على ابتداعات البشر المعرضة للانحراف عن العدل فجاء كثير منها واضح الظلم والجور.
فلنأخذ مثلا المجتمعات التي كانت مكونة في بعض مدن الحجاز- مكة والمدينة على وجه الخصوص- فمكة مبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمدينة منطلق دعوته.
فقد كانت المجتمعات التي تعيش في هاتين المدينتين لا تنتظمها الدولة حقيقية مع أنها أكثر المدن تحضرا. فكان يسودها- كما هو معلوم- نظام القبيلة الذي يكون فيه الشيخ هو المصّرف لجميع الأمور. وهو المرجع لأفراد القبيلة في خصوماتها ومنازعاتها، وإن كان يشاركه في بعض الأوقات بعض الرجال من ذوي الرأي من العشائر والبيوت.
فقد نجد بعض الأفراد يلجأون إلى بعض ذوي الرأي لفض بعض الخصومات أو لتلقي المشورة، لكن شيخ القبيلة يظل المرجع الأهم والأعلى في هذا المضمار.
ويستند شيخ القبيلة وذوي الرأي ممن يطلب منهم إصدار الأحكام على الأسس التالية:-
أولا: العرف والتقاليد الجارية في القبيلة.
ثانيا: العقل المجرد وما يستحسنه الحاكم.
فهم لا يستندون إلى أصول مدونة ولا يرجعون إلى قوانين مكتوبة. وبديهي أن أحكاما كهذه معرضة للأخطاء والحيف.
فالعرف يمكن أن يكون عرفا فاسداً فبناء الأحكام عليه يقود إلى الاستمرار في الفساد والخطأ. فالعرف كما هو معلوم ينتج عن الممارسات البشرية التي ربما يبتدعها مزاج فاسد.
والعقل المجرد واستحسان الحاكم يتأثر بالطبع بميول الحاكم وظروفه وقوًته وضعفه، وقوة وضعف الخصوم ومكانتهم عنده.
ومن هنا ندرك أن هذه الأسس التي كانوا يستندون عليها كانت أسساً واهية، خاصة وأنهالم تكن مدَونة ولا خاضعة لمنهج.
وبالتالي لم تكن لتلك الأحكام التي تقوم على تلك الأسس الضعيفة احترام أو التزام من جانب كثير من الأفراد, فهم يقبلونها متى ما أرادوا, لا توجد قوة معنوية أو حسية تلزمهم بالامتثال.
ومهما قيل من أن بعض مدن الحجاز كانت قبل الإسلام قد وصلت إلى قدر من التطور في نظام الحكم فإن ذلك لا يرقى إلى أن يقال إن الأحكام التي كانت تُتّبع كانت قد ارتقت إلى درجة اعتبارها مستقاة من مصادر عامة وثابتة، أو أن تلك الأحكام كانت لها أسس وقواعد ترتكز عليها في استنانها.
أما النظم والأحكام التي كان يطبقها اليهود الذين نزحوا وأقاموا بالمدينة قبل الإسلام فإنها لم تكن معتمدة على التوراة المنزل على موسى عليه السلام بل كانت من نتاج أفكار أحبارهم بما يتفق مع مطامعهم وأغراضهم. وكما هو معلوم فإن تحريفهم وتبديلهم للدين اليهودي، أصوله وفروعه، كان واضحاً قبيل الإسلام فقد مسخوا الأحكام التي نزلت على موسى مسخا ومنذ زمان بعيد.
موقف الإسلام من هذه النظم:
هذه النظم المذكورة آنفا والتي وجدها الإسلام في مكة والمدينة أبطلها الإسلام ليحل محلها ما جاء به القرآن ووردت به السنة من مبادئ وأسس وأصول وفروع, وأصبحت الحياة الاجتماعية كلها خاضعة لهذه المبادئ الإسلامية الجديدة.
وما ظهر من أن الإسلام أبقى بعض الأحكام التي كانت مطبقة في الجاهلية أو كان يمارسها اليهود فإن ذلك الإبقاء كان لما أتفق مع مبادئ الإسلام وليس أخذاً من مصدر آخر سابق للقرآن والسنة، وما اتفق مع ما كان لدى اليهود ليس أخذا من مصادرهم ولكن اعتمادا على الوحي الذي يتنزل بالصحيح من المبادئ والأحكام التي نزلت على الرسل السابقين ولا عبرة بما لم يتنزل به القرآن فالذي صح من الديانات السماوية السابقة هو ما تنزل به القرآن وبينته السنة(1)
نعم إن اللّه تعالى شرع لنا من الدين ما شرعه على النبيين السابقين {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى الآية: 13).
ولكن ما شرع للأنبياء السابقين لا يكون شرعا لنا إلاّ إذا جاء به القرآن أو وردت به السنة.
والقسامة [ وهي أن يوجد قتيل ولا يُدرى من قتله فيدعى ولاة الدم على شخص ما فيحلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا ] التي كان معمولا بها في الجاهلية فعمل بها جمهور الفقهاء في الإسلام استنادا على حديث متفق عليه مختلف في ألفاظه ولم يعمل به آخرون من العلماء لمخالفتها لمبادئ الشرع الأخرى مثل أن يكون المُقْسم مقسما على ما علم قطعا.
هذه القسامة حتما قول من أخذ بها من الفقهاء في الإسلام فليس معنى ذلك أننا استقينا الحكم من أصل جاهلي ولكن استقيناه من أصل السنة النبوية لأن في العمل بها الاحتياط للدماء، لأن القاتل يحاول دائما أن يرتكب جرمه بعيدا عن أعين الناس, فكان فيها استثناء من قواعد الشرع لحفظ النفوس الذي هو من مقاصد الشريعة وأهدافها.
أما استخدام العقل لاستخراج الأحكام الشرعية عن طريق القياس في الشريعة فلا يشبه استخدام العقل الذي عمل به في الجاهلية لنفس الغرض. ففي الجاهلية استخدم العقل من غير ضوابط غير استحسان شيخ القبيلة أو من يوكل إليه أمر الفصل في نزاع. أما في الإسلام فالعقل البشري مقيّد ومضبوط بضوابط الشرع وحدود المصلحة الإسلامية.
والعرف الذي عمل به الجاهليون فقد ألغاه الإسلام إلاّ ما اتفق مع مبادئه- وبذلك نصل إلى أن ما سبق الإسلام من نظم لم يكن رافدا من روافد أصول الفقه في الإسلام. والذي دفعنا إلى الحديث في هذا الأمر ما يثيره بعض المغرضين من أن التشريع الإسلامي أخذ من بعض النظم السابقة له.
وكذلك دفعنا للتعرض لهذا الموضوع ما أثاره الأصوليون أنفسهم من نقاش حول ما إذا كان شرع من قبلنا هو شرع لنا.
إرساء القرآن لأسس الفقه:
لقد أرسى القرآن الكريم أسس الفقه في الفترتين ما قبل الهجرة وما بعدها. ومع ما يلاحظ من أن فترة ما قبل الهجرة كان القرآن يركز فيها على تأكيد العقيدة وتمكينها بالدعوة إلى الإيمان بالله وحده واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيِّين، والابتعاد عن الإشراك بالله، والتذكير بنعيم الآخرة وعذابها، والدعوة إلى مكارم الأخلاق والابتعاد عن مساوئها.
مع التركيز على أصول الدين والعقيدة فإن الآيات المكية قد اشتملت على بعض آيات الأحكام الشرعية العملية مثل آيات تشريع الصلاة والزكاة إجمالا.
أما السور والآيات المدنية والتي ركزت على إرساء التشريع والأحكام الفقهية العملية، فإننا نجدها تشتمل على الكثير من الآيات التي تثبت العقيدة وأركانها وتنفر من الكفر ومغباته وعواقبه، وتحكى القصص للاعتبار, فهي لم تقتصر على آيات الأحكام بل فاضت بآيات العقيدة وأصول الدين .
فالقرآن الكريم وحدة متكاملة وكتاب منزل على نسق واحد وأسلوب واحد ولأجل هدف واحد. فكون للآيات المكيةّ خصائص وللآيات المدنية خصائص لا يعني أن القرآن منقسم إلى قسمين لكل دوره المستقل الذي يؤديه كما يروج لذلك الدائبون على حرب الإسلام ومحاولة هدمه.
فكل ما في الأمر أن سُنّة التدرج وتقديم الأهم في ظرف ما اقتضت تكثيف آيات العقيدة في مكة وتكثيف آيات التشريع في المدينة. ولو لم يهاجر الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأقام بمكة جميع حياته لنزل القرآن الكريم كما هو واكتمل الدين كما اكتمل ولتمت النعمة كما أتمها الله.
ولعلنا استرسلنا في هذه المسألة لنتمكن من الحديث عن أن القرآن الكريم هو الأصل الأول من أصول الفقه.
وبذلك فهو مبدأ هذا العلم وأساسه ومنشؤه. وما درج عليه الأصوليون من أن علم الأصول بدأ بعد بداية علم الفقه، وأن علم الفقه نفسه بدأ عقب وفاة الرسول صلى اللّه عليه وسلم فإن المقصود به بداية تنظيم العلم وكتابته وتسميته بهذا الاسم الاصطلاحي, وهذا لا خلاف عليه.
وأما الذي قصدناه هنا فهو أن حقيقة الأصول ونشوءها وإرساء قواعدها بدأ تكوينها منذ بدء الرسالة واكتملت مع اكتمال القرآن والسنة، ثم جاء فصلها في علم خاص لاحقا، ولم يسبق تكوين الأصول أو يتأخر مبدؤه عن بدء البعثة المحمدية.
وفيما يلي:-
سوف نعطي نبذة عن علم الأصول في مراحله المختلفة ابتداء من عهد الرسول صلى اللّه عليه وسلم.
وستكون هذه النبذة مائلة إلى الإجمال، ثم نتعرض بعد ذلك للأصول التي سيرد ذكرها في هذا العرض بشيء من التفصيل والمقارنة، موضحين أوجه الاتفاق والاختلاف بين المراحل المختلفة وبين المدارس الفقهية المتعددة.
أصول الفقه في حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
مما لا يختلف عليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في حياته المرجع للأحكام الشرعية- فعنه صلى الله عليه وسلم تصدر الأحكام التي يوحيها له الله تعالى قرآنا كريما متلواً مرتلا أو يلهمه إياها تعالى فتأتي سنة نبوية شريفة.
فمصدر التشريع كان الوحي الإلهي الذي يأتي على لسان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
وبينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصدر الأحكام من خلال القرآن والسنة كان يرسي من خلال هذين المصدرين الرئيسيين أصول الفقه الأخرى وقواعد الاجتهاد والبحث عن الحكم الشرعي. فأصول الفقه وقواعده التي تزخر بها كتب الأصول تستمدد شرعيتها وصلاحيتها من القرآن والسنة وتسترشد بها إلى غايات وأهداف الشريعة. فهي لا تتعارض مع هذين الأصلين الرئيسيين و إلاّ أسقطت من الحساب واعتبرت من الانحرافات التي لا يجوز الأخذ بها.
وعندما نقول أصول الفقه غير القرآن والسنة فإننا نقصد الإجماع والقياس وما يلحق به من أصول تستند على العقل والشرع.
ومما لا شك فيه أنه لا فصل بين نصوص القرآن والسنة وبين استخدام العقل البشري في استخراج الأحكام. فنصوص القرآن والسنة تتطلب استخدام العقل والنظر في تخصيص العام وتقييد المطلق وترجيح النصوص والنسخ الخ. والاجتهاد العقلي خارج دائرة النصوص ليس اجتهادا عقليا مطلقاً بل يقوم على تأييد النصوص له في المبدأ والمسار.
ويجدر أن نشير هنا إلى الدليل المستقى من الكتاب والسنة على إقرار مبدأ العمل بالأصول الأخرى غير القرآن والسنة من إجماع واجتهاد عقلي، ثم نترك تفصيل ذلك الاستدلال ومناقشته إلى مكانه من الحديث عن هذه الأصول.
إرساء أصل الإجماع في عهد النبوة:
هذا المصطلح يعني عند الأصوليين اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم في عصر من العصور على حكم واقعة من الوقائع(2).
ولقد قرر العلماء بأن الإجماع بهذا المعنى قد تقررت حجيته في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة. وجاء عمل الصحابة موافقا لهذا التقرير كما اعتقد التابعون حجية الإجماع بناء على نصوص من القرآن والسنة(3).
ومما أورده العلماء من الكتاب الكريم كدليل على حجية الإجماع قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء الآية:115) .
فقد استدلوا بهذه الآية على أن إجماع المسلمين المتمثل في إجماع مجتهديهم حجة يجب اتباعه وتحرم مخالفته كما تحرم مشاققة الرسول صلى اللّه عليه وسلم.
ومما أورده العلماء من السنة النبوية كدليل على حجية الإجماع قوله صلى اللّه عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" (4)
وقوله: "من خالف الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" (5) .
فقد استدل العلماء بهذين الحديثين أيضا على أن إجماع أئمة المسلمين حجة يجب اتباعه واستقاء الأحكام منه.
وكما أشرنا فقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا الدليل وعملوا بمقتضاه، وكذلك فعل التابعون, فكان موقفهم دليلا آخر على حجية الإجماع يضاف إلى هذه النصوص.
ومن هنا نستطيع القول أن الإجماع قد تقررت حجيته كَأصل من أصول الفقه في حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
=================
(1) إرشاد الفحول للشوكاني، ص210.
(2) الأحكام للآمدي، ج1 ص180.
(3) المعتمد لأبي الحسين البصري، ج2 ص 472 .
(4) كشف الخفاء للعجلوني، ج1 ص67 .
(5) صحيح ابن خزيمة، ج3 ص195.
*المصدر : مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، العدد:52 ، دراسات في أصول الفقه ، للدكتور علي أحمد محمد باكر.