الجمعة، 16 مارس 2012

موسوعة الفقه : البيان والدلالات


البيان والدلالات

مصدر اللغة:

        البيان اللغوي من أعظم نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان.قال تعالى: {الرحمن* علم القرآن* خلق الإنسان* علمه البيان} (الرحمن:1-4)..

        فعن طريق هذا البيان تفاهم البشر كل في مجموعته وعرف الفرد مراد الآخرين، ونقلت العلوم ثم جاءت الكتابة فدونت هذه الأفكار والعلوم، ولا شك أنه كان يستحيل على البشر إقامة حضارتهم ونشوء
عمرانهـم وبقاء نوعهم، وعمارة هذه الأرض دون وجود اللغة التي يتفاهمون بها.

        ولا شك أن مصدر اللغات من الله إلهاماً وتوفيقاً وتمكيناً، قال تعالى عن آدم: {وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} (البقرة:31)

        فالرب سبحانه وتعالى هو الذي علم آدم أسماء كل شيء.. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (علمه أسماء كل شيء حتى القصعة من القصيعة)، أي التصغير والتكبير. ثم علم آدم أولاده، ثم تفرعت اللغات وتعددت اللهجات هذه. آية أخرى من آيات الله سبحانه وتعالى كما قال جل وعلا: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين} (الروم:22)، فكان هذا الاختلاف للتميز وليستطيع الناس معرفة بعضهم بعضاً، ولو كانوا أمة واحدة وشكلاً واحداً ولساناً واحداً.. لضعف العمران واختلط على الناس التمييز بين بعضهم بعضاً.

        والصحيح أن تعليم الله البشر للغات قد جاء عن طريق التوفيق لهم وكما قال تعالى: {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} (طه:50)، كما قـال تعالى: {والذي قدر فهدى} (الأعلى:3) فهو سبحانه الذي هدى كل مخلوق لما تقوم به حياته على هذه الأرض كما قال تعالى عن النحـل: {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} (النحل:68-69)

        فهداية البشر لاختراع لغاتهم، والنطق بلهجاتهم إنما هي على هذا النحو، وليست عن طريق إرسال رسل لتعليم الناس كيف يتكلمون وبماذا يسمون الأشياء وينطقون.

الحق والباطل في التسميات والإطلاقات:

        ولا شك أيضاً أن بعض الناس قد يطلق اللفظ الحسن على المعنى الفاسد تلبيساً على الناس، وإفساداً للعقول والقلوب، والأعمال، كما قال صلى الله عليه وسلم: [ليستحلن طائفة من أمتي الخمر يسمونها إياه، وفي رواية، يسمونها بغير اسمها] (رواه أحمد (5/318) وابن ماجه (3385) وصححه الألباني في الصحيحة (90))

        فقـوله صلى الله عليه وسلم عن الخمر يسمونها بغير اسمها كما سميت الآن بالشراب الروحي، والطلاء، والنبيذ، وغير ذلك من مسميات.. وكما يسمى الربا الآن الفائدة والائتمان، وسمي الزنا بالحب والرقص والغناء بالفن، ونحو ذلك كثير مما أطلقه من أطلقه من شياطين الإنس الذين أرادوا تبديل الشرائع بتبديل اللغات، وتغيير الأسماء، فمعلوم أن تبديل الاسم اللغوي الذي نطق به الشرع، هو تبديل للشرع بالضرورة والالتزام.. لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} (إبراهيم:4)

        فإذا جاء من يغير اللغة، فإنه يهدم بالتالي لغة الرسول وبالتالي يهدم البيان الشرعي الذي جاء به، وهدم البيان هدم للدين.. لأن الدين لا يفهم إلا عن طريق هذا البيان.

        ولذلك كان من أصول الدين الأصيلة المحافظة على أصل اللغة وأصولها لأن البيان الشرعي جاء بها ولأن تبديل هذه اللغة تبديل للدين.

ماذا يعني نزول القرآن بلغة العرب؟

        اختار الله سبحانه وتعالى عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون للعالمين نذيراً، وهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كان عربياً نشأ فيهم يتكلم لسانهم، وأنزل الله سبحانه وتعالى عليه كتاباً بلغة العرب {قرآناً عربياً غير ذي عوج} (الزمر:28).. {إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} (يوسف:2).. {إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} (الزخرف:3)

        ولما كان الكتاب الذي أمرنا بتدبره والعمل بأحكامه عربياً، ولسان النبي المبين للقرآن عربياً وجب علينا أن نفهم الكتاب من واقع هذا اللسان العربي.

        ولما كان للعرب طرائقهم في التعبير، وتصرفهم في الكلام فإنه يتوجب فهم لغة العرب كما نزل بها القرآن، وهذا يستلزم معرفة قواعد النحو، والصرف، والبلاغة، ومراد العرب من ألفاظهم وتراكيبهم.

ويتأتى ذلك باتباع الخطوات الآتية:

الحقيقة اللغوية: (المعنى الأصلي للكلمة):

        الخطوة الأولى في فهم دلالة كلام العرب على معانيه أن يعرف المعنى الأصلي للكلمة، ويسمى المعنى اللغوي لها، وهو المعنى الذي أرادته العرب فاستعملت فيه اللفظ، فلفظ (البحر) مثلاً أساسه الشق، ومنها سميت الناقة التي يشقون أذنها علامة على تسييبها لأصنامهم البحيرة، وفي حديث عبدالمطلب: "وحفر زمزم ثم بحرها بحراً أي شقها ووسعها حتى لا تنزف"، وسمى الشق الواسع المملوء ماءً بحراً..

        ولما كان واسعاً منبسطاً سمى كل ما اتصف بالسعة بحراً، كما قال صلى الله عليه وسلم في فرس أبي طلحة: [وجدناه بحراً] (البخاري (2820)، ومسلم (2307) من حديث أنس بن مالك)

        أي واسع الخطو عظيم الجري، وسمى ابن عباس رضي الله عنه بحراً لسعة علمه وكثرته. وهـذا مثال واحد يبين لك كيف أنه يجب أولاً فهم المعنى اللغوي للكلمة، وما الذي أراده العرب بها عند نطقهم لها،وكيف تصرفوا فيها بعد ذلك.

الحقيقة الشرعية (المعنى الشرعي للكلمة):

        ثم يأتي بعد فهم المعنى اللغوي إدراك المعنى الشرعي الذي ساق الشارع الكلمة فيه.

        وذلك أن المعاني الشرعية التي نقلت إليها الألفاظ العربية معاني مخصوصة تتفق في أصل الوضع اللغوي وتختلف بأنواع من التخصيص عن المعنى اللغوي الأول، فلفظ الإسلام والإيمان، والتوحيد، والشرك، والكفر، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج يختلف مدلولها الشرعي عن المدلول اللغوي.

        فلفظ الإيمان في لغة العرب يعني التصديق بخبر ما في أمر يغيب عن المخاطب، ونقل في لغة القرآن والسنة إلى التصديق بالغيب وهـو الله، وكتبه، ورسالاته، والبعث بعد الموت، وسائر ما أخبرنا الله عنه من الغيب.

        والإسلام في اللغة الاستسلام، وفي لغة القرآن الاستسلام لدين الإسلام، والانقياد له.

        والصلاة في اللغة الدعاء، وهي في الشرع أدعية وأذكار مخصوصة تؤدى مع حركات مخصوصة وطهارة مخصوصة في أوقات مخصوصة...

        والصـوم في اللغة هو الإمساك مطلقاً، ولكنه في القرآن والسنة إمساك مخصوص في أوقات مخصوصة..

        والزكاة في اللغة هي الطهارة والنماء، ولكنه في الشرع إخراج مال مخصوص وفق أحكام مخصوصة...

        وهذا يعني أنه يجب تحديد المفهوم الشرعي للكلمة بعد فهم معناها اللغوي.

المصطلحات الأصولية للدلالات اللغوية:

        وضع الأصوليون مصطلحات لهم من أجـل التعرف على الدلالات اللغوية وكانت مصطلحاتهم على النحو التالي:

- اللفظ والعبارة العربية إما أن تكون مما لا يحتمل إلا معنى واحداً وهذا سموه (النص).

- وإما أنه يحمل معنيين أو أكثر دون أن يترجح أحدهما على الأخر عند المستمع فهذا سموه (المجمل).
- وإذا جاء ما يرفع إشكال هذا الإجمال ويوضح المعنى المراد سمي هذا (تفسيراً)

- وإذا كان اللفظ مما يحتمل معنيين أحدهما ظاهر، والآخر خفي، سمي المعنى الأول (الظاهر)، والثاني الخفي سمي (المؤول).

- وإذا حمل اللفظ على المعنى الأول قيل هذا اللفظ على ظاهره.. وإذا كان المقصود هو المعنى الثاني الخفي وأريد حمل اللفظ عليه كان هذا (تأويلاً).

- واللفظ إذا كان يندرج تحته أفراد كثيرون قيل عنه لفظ (عام).. وإذا كان يراد به فرد بعينه أو جماعة بعينها سمي (بالخاص).

- وإذا كان لفظ قد ورد دون قيد من صفة أو عدد أو حالة تقيده سمي (مطلقاً).. وإذا جاء ما يحدده بصفة أو عدد أو حالة سمي (مقيداً).

- والكلام إما أن يفهم المعنى المراد منه من نفس الصيغة، فهذا هو مدلول (النص)

- وإما أن يكون معنى آخر خارجاً عن الصيغة يقتضيه اللفظ فهو (المقتضي) أو يشير إليه فهو (الإشارة).

- وقد ينص المتكلم على أمر ما، ولا ينص على مساويه فيدخل المساوي تحت الحكم وإن لم يكن منصوصاً عليه وهذا يسمى عندهم (مفهوم الموافقة).

- وكل كلام فإن له ضد يفهم منه فإذا قلت هذا رجل فإنه يفهم منه أن المشار إليه ليس امرأة وهذا المفهوم يسمى (مفهوم المخالفة).

وإليك تفصيل هذه المجملات:

أولاً: النص

        النص في اللغة: هو الظهور.

ويأتي في اصطلاح أهل الأصول لمعنيين:

(1) الكلام المأثور عن الله سبحانه وتعالى، وكلام رسوله.

(2) الكلام الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً فقط وهو المـراد هنا كقوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} (البقرة:196)

        وقول النبي صلى الله عليه وسلم: [من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام فما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل أن يثوي عنده حتى يحرجه] (رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع (6502)) وقوله: [احفظ عورتك إلا من زوجتك وما ملكت يمينك] (رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني في صحيح الجامع (203))
وحكم النص هو العمل به، وعدم العدول عن منطوقه إلا بناسخ.

ثانياً: الظاهر:

        وهو اللفظ الذي يحتمل أكثر من معنى، ولكن أحد هذه المعاني ظاهر والمعاني الأخرى خفية وقد يكون هذا الخفاء لأسباب منها:

(1) أن يكون خارجـاً عن طريق المجاز كاستعمال الأسد في الرجل الشجاع، والبدر في الوجه المنير، والذهب والسبيكة في الإنسان الخالص الذي لا شبهة عليه... وطويل العماد، وكثير الرماد، وندى الكف في الرجل الكريم...

        والأصل حمل النص على ظاهره إلا إذا جاءت قرينة تصرف عن المعنى الظاهر، كما حمل زوجـات النبي صلى الله عليه وسلم قوله عليه السلام: [أولكن بي لحوقاً أطولكن يداً] (رواه البخاري (1420) ومسلم (2452) من حديث عائشة) على الظاهر حتى علمن أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم (هو أكرمكن).

        وطول اليد كناية عن البذل والعطاء.

(2) أن يكون للفظ معنى آخر خفياً كلفظ (الصقب) فإنه ظاهر في الجار، خفي في الشريك... وقد حمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: [الجار أحق بصقبه] (رواه البخاري (2258))

        في هذا الحديث إلى الشريك وهو المعنى الخفي فعن جابر رضي الله عنهما قال: [قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة] (رواه البخاري (2257))

        وحكـم هذا النوع هو ألا يحمل اللفظ على المعنى المرجوح إلا بقرينة صارفة عن إرادة المعنى الظاهر.

(3) أن يكون اللفظ عامـاً ولكن خرج منه بعض أفراده فيظن السامع أن اللفظ باق على عمومه والحال أنه قد خصص كما فهم نوح عليه السلام من قوله تعالى: {أحمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول...} الآية (هود:40)

       وبعد هلاك ابنه غرقاً بسبب عصيانه لأبيه دعا نوح عليه السلام ربه قائلاً: {رب إن ابني من أهلي} (هود:45) وظن أنه داخل في عموم الأهل فأجابه الله أنه قد عمل عملاً غير صالح أخرجه من عموم الأهل..
وكما ظن الصحابة أن قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (المائدة:3) يمكن أن يستثني منه شحومها للاستصباح فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن شحمها كلحمها في الحرمة، كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو بمكة عام الفتح: [إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس، فقال: لا هو حرام، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه] (رواه البخاري (2236)، ومسلم (1581))

        وظنوا أن جلد الميتة يدخل في عموم التحريم فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن جلد الميتة له حكم آخر وهو جـواز الانتفاع به كما في حديث ابن عباس قال: (تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [هلا أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به؟]. فقالوا: أنها ميتة. فقال: [إنما حرم أكلها]) (رواه البخاري (1492) ومسلم (363)) وفي رواية: [إذا دبغ الإهاب فقد طهر] (رواه مسلم (366))

        والأصل في هذا النوع هو العمل بالعموم حتى يعلم دليل التخصيص، لأن العموم هو ظاهر اللفظ، والتخصيص هنا هو المعنى الآخر الخفي المؤول.

        الأصل في كل كلام أنه يحمل على ظاهره، ولا يتحول عن هذا (الظاهر) إلى المعنى (المؤول) إلا إذا تعذر الحمل على هذا الظاهر، أو كانت هناك قرينة واضحة أو نص تصرفه عن هذا الظاهر.

        والخلاف في هذا الأصل قد أدى بأقوام كثيرين إلى الضلال والزيغ، والإلحاد في أسماء الله تعالى وصفاته كما فعلته الفرق الكلامية فإن أصل بدعتهم هو صرف كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في أبواب الأسماء والصفات عن ظاهرها بحجة أن الظاهر غير مـراد، أو إن إثبات الظاهر تجسيم لله، ووصف له بصفات المخلوقين، ولذلك نفوا عنه المجيء والاستواء والعلو، والمحبة، والرضا، والغضب، والوجه، واليد، والكلام، وغلا عن هؤلاء غلاة الجهمية فنفوا تعدد الصفات، وقالوا السمع هو البصر، هو الحياة، هو الذات..

        وغلا فوق هؤلاء أناس فقالوا لا موجود ولا غير موجود، فنفوا الصفة وضدها كذلك، وكل هؤلاء كان معتمدهم هو ما سموه (تأويل) النص وصرفه عن ظاهره.. ومحل بيان هذا هو كتب التوحيد وأصول الدين.

واعلم أن التأويل في اصطلاح أهل الأصول على ثلاثة مراتب:

(1) تأويل صحيح يؤيده الدليل.

(2) تأويل فاسد أو تأويل بعيد.

(3) تأويل لعب وزندقة.

- فأما التأويل الصحيح فهو الذي يؤيده الدليل وتقوم القرينة عليه.

- وأما التأويل الفاسد أو البعيد كتأويل من فسر من الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم [أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل] (رواه أبو داود (2083) والترمذي (1102) وحسنه الألباني في إرواء الغليل (1840))
وأن هذا خاص (بالمكاتبة) وهذا تأويل بعيد لأن لفظ المرأة عام، وتخصيصه بالمكاتبة هنا لا دليل عليه، والولي أعم من السيد، ولفظ (أي) من صيغ العموم، وكذلك حمل قوله صلى الله عليه وسلم: [من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له] (رواه أبو داود (2405) وصححه الألباني في الإرواء (914)) على النذر والقضاء فقط، لأن اللفظ عام ويدخل فيه رمضان دخولاً أولياً ولا شك.

- وأما تأويل اللعب فهو تأويلات الباطنية والزنادقة كتأويل الشجرة الملعونة في القرآن ببني أمية، وتأويل (المشكاة) في آية النور بأنها فاطمة، والمصباح بأنه علي رضي الله عنه والزجاجة على أنه الحسن رضي الله عنه، والكوكب الدري الحسين!! الخ

- وتأويل الجبت والطاغوت بأبي بكر، وعمر، والسامري بعمر، وفرعون بأبي بكر، والفحشاء والمنكر والبغي بأبي بكر وعمـر وعثمان، فهذا من تأويلات الزنادقة الذين أرادوا هدم الإسلام، ومثل هذا تأويل الإسماعيلية للصلاة بالإمام، والصوم بعدم إفشاء أسرار الدين، والحج بزيارة إمامهم.

ثالثاً: المجمل:

        المجمل في الاصطلاح هـو ما احتمل معنيين كالقرء الذي يطلق على الحيض والطهر، والشفق الذي يطلق على الحمـرة والبياض، ويدخل في المجمل أيضاً اللفظ المشترك كالمشتري فإنه يطلق على النجم الذي في السماء، والمبتاع، وكذلك يطلق المجمل على اللفظ الذي يحتمل معان عدة كالعين فإنها تطلق على آلة البصر، وعين الماء الجارية، والذهب (النقود) وقد يكون الإجمال في حرف كالواو في قوله تعالى: {والراسخون في العلم} (آل عمران:7) فإنها تعرب استئنافية، وتعرب عاطفة، وفي كل نوع من أنواع الإعراب يكون للآية معنى آخر، وقد يكون الإجمال في اسم مركب كما في قوله تعالى: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} (البقرة:237) فهذا دائر بين ولي المرأة، والزوج.

        قال شيخنا محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-: "كل فعل على وزن افتعل إذا كان معتل العين: المختار، والمصطاد، والمجتاب، ومثاله في المضعف المضطر والمعتل، وكذلك كل صيغة [فاعل مضعفة] يستوي لفظ اسـم فاعلها "كمضار" لهما و "مضار" للفعلين ولأجله اختلف في إعراب والدة فيقوله تعالى: {لا تضار والدة} (البقرة:233) فقيل فاعل، وقيل نائب فاعل، وكذلك كاتب وشهيد في قوله تعالى: {ولا يضار كاتب ولا شهيد} (البقرة:282)" (المذكرة ص/180)

        وحكم المجمل هو التوقف حتى يعرف المراد منه ويأتي البيان له.

رابعاً: البيان:

        البيان في الاصطلاح هو إيضاح ما يشكل فهمه، بسبب إجمال أو غيره كما قال سبحانه وتعالى بعد ذكر الميتة فيما يحرم أكله مبيناً أنواعاً من الميتات {الميتة، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع إلا ما ذكيتم} (المائدة:3).

        وذلك أنه قد ينصرف إلى الذهن أن المقصود بالميتة ما مات حتف أنفه فقط وأما التي ماتت بسبب من هذه الأسباب الخنق والوقذ، والتردي ليست بميتة فجاء هذا (البيان) هنا لإجلاء ما قد يفهم خطأً من حصر الميتة فيما مات حتف أنفه.

        والبيان يمكن أن يكون تفسيراً بالكلام كما مضى في المثال السابق، ويمكن أن يكون بالإشارة كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد بأصبعه الإبهام والسبابة حلقه، وقال (هكذا) في حديث يأجوج ومأجوج.

        وكما عقد فتح أصابعه العشرة، وقال الشهر هكذا وهكذا هكذا. ثلاثين أو هكذا وهكذا وهكذا وفتح تسع أصابع فقط وقبض واحداً أي تسعاً وعشرين حتى يدرك منهم من لا يستطيع أن يفهم مدلول كلمة الثلاثين وتسع وعشرين.

        وقد يكون البيان رسماً توضيحياً كما خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً وقال هذا صراط الله مستقيماً، وخط على جانبي الخط المستقيم خطوطاً متعرجة، وقال هذه السبل على كل سبيل شيطان يدعـو إليه، وتلا قوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} (الأنعام:153) فكان هذا الرسم (بياناً) لمعنى الآية..

        وقـد يكون (البيان) بالفعل كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين فوق منبره فكبر وقرأ ثم تأخر فسجد في أصل المنبر ثم صعد فأكمل الركعة الثانية، وقال لهم: [صلوا كما رأيتموني أصلي] (رواه البخاري (631))، فكان هذا (بياناً) بالفعل وكذلك حج وقال [خذوا عني مناسككم] (رواه مسلم)

        والبيان من أعظم مهمات الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} (النحل:44) .

        وقد بين الرسـول صلى الله عليه وسلم الدين بياناً لا إشكال فيه كما قال: [ولقد تركتكم على مثل البيضاء] (رواه ابن ماجه (5) وحسنه الألباني في الصحيحة (688))

خامساً: العام والخاص:

        (العام): هو اللفظ الذي يدل بحسب وضعه اللغوي على شموله واستغراقه على جميع الأفراد التي يصدق عليها معناه من غير حصر في كمية معينة منها. كقول النبي صلى الله عليه وسلم: [المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله...الحديث] (رواه مسلم (2564)) فلفظ المسلم يعم كل من يشهد الشهادتين، ولفظ يظلمه يشمل جميع أنواع الظلم.

        ويختلف العام عن (المطلق) في أن المطلق يدل على فرد شائع أو أفراد شائعة لا جميع الأفراد كقوله تعالى لبني إسرائيل: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} (البقرة:67) فبقرة هنا يصدق على أي بقرة في الدنيا، ثم لما شددوا قيدت هذه البقرة بأوصاف، فالوصف الأول بكونها لا فارض ولا بكر، والوصف الثاني أنها صفراء فاقع لونها، والثالث أنها لا تثير الأرض و لا تسقي الحرث، ولا شية فيها.. وكل هذه قيود على الوصف الأول.

        فالعام يتناول معناه دفعة واحدة، والمطلق يتناول معناه فرداً فرداً فهو عام من كونه يصدق على أي بقرة، ولكنه لا يتناول البقر جميعاً دفعة واحدة، وإنما عن طريق البدل.

        وعند الأصوليين يستعملون العام للمعنى الأول.

ألفاظ العموم:

1- لفظ كل، وجميع، وكافة كقوله تعالى في الحديث القدسي: [يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته] (رواه مسلم (2577) وتقدم تخريجه).. وكقوله تعالى: {كل من عليها فان} (الرحمن:26) فإنها تشمل جميع من على الأرض، وأنه يفنى قبل يوم القيامة.
(وجميع): كما في قـوله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} (البقرة:30) فإنه لم يتخلف ملك عن السجود، ويشمل هذا جميع الملائكة بلا استثناء.

        (كافة): كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} (البقرة:208) أي ادخلوا في شرائع الإسلام كلها، أو ادخلوا جميعكم في شرائع الإسلام.

(2) الاسم المعرف بالألف واللام إذا لم تكن (أل) هـذه للعهد سواء كان في حالة الجمع كما في قـوله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات..} الآية (الأحزاب:
35) فإنها تعم كل مسلم ومسلمة، ومؤمن ومؤمنة.

        أو الأفراد كقوله تعالى: {والسارق والسارقة} (المائدة:38) وقوله: {والزانية والزاني} (النور:2) فإنها تشمل كل سارق وسارقة، وزانية وزان.

        أو التثنية كقوله صلى الله عليه وسلم: [إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار] (رواه البخاري (31)، ومسلم (2888))

        فإنه يعم كل المسلمين.

(3) الأدوات الآتية كـ: (من، وما، وأي، وأين، وأيان، ومتى) إذا جاءت في صيغة الشرط، أو كانت للصلة، أو كانت للاستفهام .

(4) النكرة إذا أضيفت إلى معرفة كما في قوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (إبراهيم:34) أي نعم الله.

(5) النكرة في سياق النفي (كلا إله إلا الله).. نفي لكل الآلهة، وإثبات إله واحد وهو الله سبحانه وتعالى وإذا أضيفت من قبل النكرة فإنها تكون نصاً في العموم كقوله تعالى: {وما من إله إلا الله} (آل عمران:62).

        وكقول المشركين: {ما جاءنا من بشير ولا نذير} (المائدة:19) فهو ادعاؤهم إنه لم يأتهم نذير قط..

        وكذلك إذا سبقها لا النافيـة للجنس العاملة عمل (إن) كما تقول: (لا رجل في الدار) نفي لوجود مطلق الرجل .

أحكام العام:

(1) يجب العمل باللفظ العام على عمومه، ولا يجوز تخصيصه إلا إذا جاء ما يخصصه.

(2) إذا ورد اللفظ العام على سبب خاص فإن العبرة تكون بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما جاء حكم السرقة بعد أن سرقت المخزومية، وحكم اللعان بعد أن اتهم عويمر العجلاني، وهلال بن أمية زوجتيهما، وحكم الزواج من الزانية بعد أن سأل مرثد بن أبي مرثد الغنوى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زواجه من (عناق) وهي بغي بمكة، والعبرة في كل ذلك بألفاظ العموم لا بخصوص الأسباب التي نزلت فيها الأحكام.
ويدل على هذا الأصل ما يلي:

(1) أن الوضع اللغوي للعموم يقتضي إعماله.

(2) أن قضاء الرسول وإفتاءه، وأمره ونهيه لواحد من المسلمين هو لكل المسلمين ما لم يدل دليل على هذه الخصوصية كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة لما استشاره في التضحية بالجذعة من الضأن [اذبحها ولن تجزي عن أحد بعدك] (رواه البخاري (955)، ومسلم (1961))

(3) أن ألفاظ العموم لو اقتصرت على السبب الخاص الذي نزل فيه لتعطلت عامة أحكام الشريعة فإن غالبها نزل لأسباب خاصة.

قواعد في العموم:

(1) النسـاء داخلات في خطاب التكليف ولو كان المخاطب هو الرجال.. إلا ما دل الدليل على اختصاصهن به فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا...} يدخل فيه النساء حتماً، ولا يخص ذلك الذكور.

        وكذلك جمع المذكر السالم يشمل النساء بدليل قوله تعالى: {وكانت من القانتين} (التحريم:12) ولم يقل من القانتات، وقوله: {إنها كانت من قوم كافرين} (النمل:43).

(2) خطاب الله سبحانه وتعالى لرسوله يعم المسلمين جميعاً ما لم يدل دليل على التخصيص كقوله تعالى: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً} (المزمل:1) فقد قام رسول الله والمؤمنين معه بدليل قوله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه، وثلثه وطائفة من الذين معك...} الآية (المزمل:20) وهذه ناسخة لقوله تعالى {قم الليل إلا قليلاً} ثم جاء استثناء الرسول صلى الله عليه وسلم من نسخ قيام الليل في حقه لقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} (الإسراء:79)

        وكذلك لما شرع الله لرسوله حكماً خاصاً في زواجه من الواهبة نفسها قال تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصـة لك من دون المؤمنين..} الآية (الأحزاب:50)
ومما يدل أيضاً على دخول المؤمنين في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم..} الآية (الطلاق:1)

سادساً: المطلق والمقيد:

        اللفظ المطلق هو الذي يتناول فرداً من نوعه أو جنسه غير مقيد بقيد خاص. فقوله تعالى لبني إسرائيل: {إن اللهيأمركم أن تذبحوا بقرة} (البقرة:67) يصدق وصف البقرة على أي بقرة في الدنيا صغيرة أو كبيرة صفراء أو سوداء أو بيضاء أو رقطاء... وقوله تعالى: {فتحرير رقبة} (المجادلة:3) يصدق على أي رقبة في الدنيا ذكراً أو أنثى مؤمنة كانت أو كافرة.

        واللفظ المقيد قد يكون مطلقاً من وجه آخر كقوله تعالى: {فتحرير رقبة مؤمنة} (النساء:92) فإنها قيدت بقيد الإيمان، ولكنها مطلقة من حيث الذكورة والأنوثة، والسلامة والعيب.

أحكام المطلق والمقيد:

        إذا جاء لفظ من ألفاظ الشارع مقيداً تارة، ومطلقاً تارة أخرى فما حكم ذلك؟

(1) إذا اتحد السبب والحكم وجب حمل المطلق على المقيد كما في قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحـم الخنزير..} الآية (المائدة:3) مع قـوله تعالى: {قل لا أجـد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً} (الأنعام:145) فالدم في هذه الآية جاء مقيداً بأنه مسفوح، وفي آية البقرة مطلقاً..

        والسبب والحكم هنا واحد وهو تحريم أكل الدم، ولا شك أنه لا يحرم إلا الدم المسفوح سواء عند الذبح أو ما كانت تصنعه العرب من فصد الحيوان واستقبال الدم ثم أكله إذا جمد.
وأما الدم الباقي في العروق أو على اللحم فإنه لا يحرم أكله، ولا يجب غسل اللحم تماماً حتى يخرج منه أثر الدم ...

(2) وأما إذا اتحد الحكم واختلف السبب كما جاء في كفارة القتل الخطأ {فتحرير رقبة مؤمنة} (النساء:92) قيدت الرقبة بوصف الإيمان، وأما في كفارة الظهار فجاءت الرقبة مطلقة {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} (المجادلة:3)

        فذهب بعض الفقهاء إلى وجوب حمل المطلق على المقيد، وذهب بعضهم إلى العمل بمنطوق كل آية في مكانها لاختلاف سبب الحكم.
(3) وأما إذا اختلف الحكم واتحد السبب كخصال الكفارة في الظهار فإن العتق، والصوم قيدا بأنه ذلك لا بد أن يكون {من قبل أن يتماسا} وأما في الإطعام فقد جاء مطلقاً..
وكذلك قيد الإطعام في كفـارة اليمين بأنه {من أوسط ما تطعمون أهليكم} (المائدة:89) وأطلقت الكسوة.. وفي هذه خلاف أيضاً بين أهل الأصول.

(4) وأما إذا اختلف الحكم والسبب جميعاً فلا خلاف من أنه لا يحمل هنا مطلق على مقيد