الأربعاء، 14 مارس 2012

موسوعة الفقه - باب البيع : أحكام البيع وأنواع البيوع

الإنتقال للجزء الثانى من باب البيع 
البيع : الجزء الأول


.التبكير في طلب الرزق:
روي الترمذي عن صخر الغامدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم بارك لامتي في بكورها».
قال: «وكان إذا بعث سرية أو جيشا بعثهم أول النهار، وكان صخر رجلا تاجرا، وكان إذا بعث تجارة بعث أول النهار، فأثرى وكثر ماله».

.الكسب الحلال:
عن علي، كرم الله وجهه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يحب أن يرى عبده يعني في طلب الحلال»، رواه الطبراني والديلمي.
وعن مالك بن أنس، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «طلب الحلال واجب على كل مسلم» رواه الطبراني.
قال المنذري: وإسناده حسن إن شاء الله.
وعن رافع بن خديج أنه قيل: يا رسول الله، أي الكسب أطيب؟ قال: «عمل المرء بيده، وكل بيع مبرور» رواه أحمد والبزاز.
ورواه الطبراني عن ابن عمر بسند رواته ثقات.

.وجوب العلم بأحكام البيع والشراء:
يجب على كل من تصدى للكسب أن يكون عالما بما يصححه ويفسده لتقع معاملته صحيحة، وتصرفاته بعيدة عن الفساد.
فقد روي أن عمر، رضي الله عنه، كان يطوف بالسوق ويضرب بعض التجار بالدرة، ويقول: «لا يبع في سوقنا إلا من يفقه، وإلا أكل الربا، شاء أم أبى».
وقد أهمل كثير من المسلمين الان تعلم المعاملة وأغفلوا هذه الناحية وأصبحوا لا يبالون بأكل الحرام مهما زاد الربح وتضاعف الكسب.
وهذا خطأ كبير يجب أن يسعى في درئه كل من يزاول التجارة، ليتميز له المباح من المحظور، ويطيب له كسبه ويبعد عن الشبهات بقدر الإمكان.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة».
فليتنبه لهذا من يريد أن يأكل حلالا ويكسب طيبا ويفوز بثقة الناس ورضي الله.
عن النعمان بن بشير أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما يشتبه عليه من الاثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الاثم أوشك أن يواقع ما استبان والمعاصي حمى الله. من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه» رواه البخاري ومسلم.

.معنى البيع:
البيع معناه لغة: مطلق المبادلة.
ولفظ البيع والشراء يطلق كل منهما على ما يطلق عليه الاخر، فهما من الالفاظ المشتركة بين المعاني المتضادة.
ويراد بالبيع شرعا مبادلة مال بمال على سبيل التراضي أو نقل ملك بعوض على الوجه المأذون فيه.

.مشروعيته:
البيع مشروع بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
أما الكتاب فيقول الله تعالى: «وأحل الله البيع وحرم الربا».
وأما السنة: فلقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «أفضل الكسب عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور».
وقد أجمعت الأمة على جواز البيع والتعامل به من عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى يومنا هذا.

.حكمته:
شرع الله البيع توسعة منه على عباده، فإن لكل فرد من أفراد النوع الإنساني ضرورات من الغذاء والكساء وغيرها مما لا غنى للانسان عنه ما دام حيا، وهو لا يستطيع وحده أو يوفرها لنفسه لأنه مضطر إلى جلبها من غيره.
وليس ثمة طريقة أكمل من المبادلة، فيعطي ما عنده مما يمكنه الاستغناء عنه بدل ما يأخذه من غيره مما هو في حاجة إليه.

.أثره:
إذا تم عقد البيع واستوفى أركانه وشروطه ترتب عليه نقل ملكية البائع للسلعة إلى المشتري، ونقل ملكية المشتري للثمن إلى البائع، وحل لكل منهما التصرف فيما انتقل ملكه إليه بكل نوع من أنواع التصرف المشروع.

.أركانه:
وينعقد بالايجاب والقبول، ويستثنى من ذلك الشئ الحقير، فلا يلزم فيه إيجاب وقبول، وإنما يكتفى فيه بالمعاطاة، ويرجع في ذلك إلى العرف وما جرت به عادات الناس غالبا.
ولا يلزم في الايجاب والقبول ألفاظ معينة، لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالالفاظ والمباني.
والعبرة في ذلك بالرضى بالمبادلة، والدلالة على الاخذ والاعطاء، أو أي قرينة دالة على الرضى ومنبئة عن معنى التملك والتمليك، كقول البائع: بعت أو أعطيت أو ملكت، أو هو لك، أو هات الثمن.
وكقول المشتري: اشتريت أو أخذت أو قبلت أو رضيت أو، خذ الثمن.

.شروط الصيغة:
ويشترط في الايجاب والقبول، وهما صيغة العقد:
أولا: أن يتصل كل منهما بالاخر في المجلس دون أن يحدث بينهما مضر.
ثانيا: وأن يتوافق الايجاب والقبول فيما يجب التراضي عليه من مبيع وثمن، فلو اختلفا لم ينعقد البيع.
فلو قال البائع: بعتك هذا الثوب بخمسة جنيهات، فقال المشتري: قبلته بأربعة، فإن البيع لا ينعقد بينهما لاختلاف الايجاب عن القبول.
ثالثا: وأن يكون بلفظ الماضي مثل أن يقول البائع: بعت، ويقول المشتري: قبلت.
أو بلفظ المضارع إن أريد به الحال، مثل: أبيع وأشتري، مع إرادة الحال.
فإذا أراد به المستقبل أو دخل عليه ما يمحضه للمستقبل كالسين وسوف ونحوهما كان ذلك وعدا بالعقد.
والوعد بالعقد لا يعتبر عقدا شرعيا ولهذا لا يصح العقد.

.العقد بالكتابة:
وكما ينعقد البيع بالايجاب والقبول ينعقد بالكتابة بشرط أن يكون كل من المتعاقدين بعيدا عن الاخر، أو يكون العاقد بالكتابة أخرس لا يستطيع الكلام، فإن كانا في مجلس واحد، وليس هناك عذر يمنع من الكلام فلا ينعقد بالكتابة، لأنه لا يعدل عنا لكلام، وهو أظهر أنواع الدلالات، إلى غيره إلا حينما يوجد سبب حقيقي يقتضي العدول عن الالفاظ إلى غيرها.
ويشترط لتمام العقد أن يقبل من كتب إليه في مجلس قراءة الخطاب.

.عقد بواسطة رسول:
وكما ينعقد العقد بالالفاظ والكتابة ينعقد بواسطة رسول من أحد المتعاقدين إلى الاخر بشرط أن يقبل المرسل إليه عقب الاخبار.
ومتى حصل القبول في هاتين الصورتين تم العقد، ولا يتوقف على علم الموجب بالقبول.

.عقد الاخرس:
وكذلك ينعقد بالاشارة المعروفة من الاخرس، لأن إشارته المعبرة عما في نفسه كالنطق باللسان سواء بسواء.
ويجوز للاخرس أن يعقد بالكتابة بدلا عن الاشارة إذا كان يعرف الكتابة.
وما اشترطه بعض الفقهاء من التزام ألفاظ معينة لم يجئ بما قالوا فيه كتاب ولا سنة.

شروط البيع:
لابد من أن يتوافر في البيع شروط حتى يقع صحيحا، وهذه الشروط: منها ما يتصل بالعاقد، ومنها ما يتصل بالمعقود عليه، أو محل التعاقد، أي المال المقصود نقله من أحد العاقدين إلى الاخر، ثمنا أو مثمنا، أي مبيعا.

.شروط العاقد:
أما العاقد فيشترط فيه العقل والتمييز فلا يصح عقد المجنون ولا السكران ولا الصبي غير المميز.
فإذا كان المجنون يفيق أحيانا ويجن أحيانا كان ما عقده عند الافاقة صحيحا وما عقده حال الجنون غير صحيح.
والصبي المميز عقده صحيح، ويتوقف على إذن الولي، فإن أجازه كان معتدا به شرعا.

.شروط المعقود عليه:
وأما المعقود عليه فيشترط في ستة شروط:
1- طهارة العين.
2- الانتفاع به.
3- ملكية العاقد له.
4- القدرة على تسليمه.
5- العلم به.
6- كون المبيع مقبوضا.
وتفصيل ذلك فيما يأتي:
.1- الأول: أن يكون طاهر العين:
لحديث جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والاصنام فقيل: يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويتصبح بها الناس فقال: لا، هو حرام». والضمير يعود إلى البيع، بدليل أن البيع هو الذي نعاه الرسول على اليهودي في الحديث نفسه.
وعلى هذا يجوز الانتفاع بشحم الميتة بغير البيع فيدهن بها الجلود ويستضاء بها وغير ذلك مما لا يكون أكلا أو يدخل في بدن الادمي.
قال ابن القيم في أعلام الموقعين: في قوله صلى الله عليه وسلم «حرام» قولان:
أحدهما: أن هذه الافعال حرام.
والثاني: أن البيع حرام.
وإن كان المشتري يشتريه لذلك.
والقولان مبنيان على أن السؤال: هل وقع عن البيع لهذا الانتفاع المذكور، أو عن الانتفاع المذكور؟ والأول اختاره شيخنا وهو الاظهر.
لأنه لم يخبرهم أولا عن تحريم هذا الانتفاع حتى يذكروا له حاجتهم إليه، وإنما أخبرهم عن تحريم البيع فأخبروه أنهم يبيعونه لهذا الانتفاع فلم يرخص لهم في البيع ولم ينههم عن الانتفاع المذكور، ولا تلازم بين عدم جواز البيع وحل المنفعة. اهـ.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: «قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه».
والعلة في تحريم بيع الثلاثة الأولى، هي النجاسة عند جمهور العلماء، فيتعدى ذلك إلى كل نجس.
والظاهر أن تحريم بيعها لأنها تسلب الإنسان أعظم مواهب الله له وهو العقل فضلا عن أضرارها الاخرى التي أشرنا إليها في الجزء التاسع.
وأما الخنزير فمع كونه نجسا إلا أن به ميكروبات ضارة لا تموت بالغلي وهو يحمل الدودة الشريطية التي تمتص الغذاء النافع من جسم الإنسان.
وأما تحريم بيع الميتة فلأنها غالبا ما يكون موتها نتيجة أمراض فيكون تعاطيها مضرا بالصحة، فضلا عن كونها مما تعافه النفوس.
وما يموت فجأة من الحيوانات فإن الفساد يتسارع إليه لاحتباس الدم فيه.
والدم أصلح بيئة لنمو الميكروبات التي قد لا تموت بالغلي.
ولذلك حرم الدم المسفوح أكله وبيعه لنفس الاسباب.
واستثنى الأحناف والظاهرية كل ما فيه منفعة تحل شرعا فجوزوا بيعه، فقالوا: يجوز بيع الارواث والازبال النجسة التي تدعو الضرورة إلى استعمالها في البساتين، وينتفع بها وقودا وسمادا.
وكذلك يجوز بيع كل نجس ينتفع به في غير الأكل والشرب كالزيت النجس يستصبح به ويطلى به.
والصبغ يتنجس فيباع ليصبغ به ونحو ذلك، مادام الانتفاع به في غير الأكل.
روى البيهقي بسند صحيح أن ابن عمر سئل عن زيت وقعت فيه فأرة فقال: «استصبحوا به وادهنوا به وأدمكم».
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم على شاة ليمونهة فوجدها ميتة ملقاة فقال: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه وانتفعتم به فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة فقال: إنما حرم أكلها.
ومعنى هذا أنه يجوز الانتفاع في غير الأكل.
وما دام الانتفاع بها جائزا فإنه يجوز بيعها مادام القصد بالبيع المنفعة المباحة.

.2- الثاني: أن يكون منتفعا به:
فلا يجوز بيع الحشرات ولا الحية والفأرة إلا إذا كان ينتفع بها.
ويجوز بيع الهرة والنحل وبيع الفهد والاسد وما يصلح للصيد أو ينتفع بجلده، ويجوز بيع الفيل للحمل ويجوز بيع الببغاء والطاووس والطيور المليحة الصورة، وإن كانت لا تؤكل، فإن التفرج بأصواتها والنظر إليها غرض مقصود مباح، وإنما لا يجوز بيع الكلب لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهذا في غير الكلب المعلم وما يجوز اقتناؤه ككلب الحراسة وككلب الزرع، فقد قال أبو حنيفة بجواز بيعه، وقال عطاء والنخعي: يجوز بيع كلب الصيد دون غيره لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد. رواه النسائي عن جابر.
قال الحافظ: ورجال إسناده ثقات.
وهل تجب القيمة على متلفه؟ قال الشوكاني: فمن قال بتحريم بيعه قال بعدم الوجوب. ومن قال بجوازه قال بالوجوب. ومن فصل في البيع فصل في لزوم القيمة.
وروي عن مالك أنه لا يجوز بيعه وتجب القيمة.
وروي عنه أن بيعه مكروه فقط.
وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه ويضمن متلفه.
بيع آلات الغناء: ويدخل في هذا الباب بيع آلات الغناء.
فإن الغناء في مواضعه جائز والذي يقصد به فائذة مباحة حلال، وسماعه مباح، وبهذا يكون منفعة شرعية يجوز بيع آلته وشراؤها لأنها متقومه.
ومثال الغناء الحلال:
1- تغني النساء لاطفالهن وتسليتهن.
2- تغني أصحاب الاعمال وأرباب المهن أثناء العمل للتخفيف عن متاعبهم والتعاون بينهم.
3- والتغني في الفرح إشهارا له.
4- والتغني في الاعياد إظهارا للسرور.
5- والتغني للتنشيط للجهاد.
وهكذا في كل عمل طاعة حتى تنشط النفس وتنهض بحملها.
والغناء ما هو إلا كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، فإذا عرض له ما يخرجه عن دائرة الحلال كأن يهيج الشهوة أو يدعو إلى فسق أو ينبه إلى الشر أو اتخذ ملهاة عن الطاعات، كان غير حلال.
فهو حلال في ذاته وإنما عرض ما يخرجه عن دائرة الحلال.
وعلى هذا تحمل أحاديث النهي عنه.
والدليل على حله:
1- ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة، رضي الله عنها، أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان وتضربان بالدف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى بثوبه فانتهرهما أبو بكر، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه وقال: «دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد».
2- ما رواه الإمام أحمد والترمذي بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في بعض مغازيه فلما انصرف جاءته جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى.
قال: «إن كنت نذرت فاضربي».فجعلت تضرب.
3- ما صح عن جماعة كثيرين من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يسمعون الغناء والضرب على المعازف.
فمن الصحابة: عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن جعفر وغيرهما.
ومن التابعين: عمر بن عبد العزيز، وشريح القاضي، وعبد العزيز بن مسلمة، مفتي المدينة وغيرهم.

.3- الثالث: أن يكون المتصرف فيه مملوكا للتعاقد:
أو مأذونا فيه من جهة المالك، فإن وقع البيع أو الشراء قبل إذنه فإن هذا يعتبر من تصرفات الفضولي.

.بيع الفضولي:
والفضولي هو الذي يعقد لغيره دون إذنه، كأن يبيع الزوج ما تملكه الزوجة دون إذنها، أو يشتري لها ملكا دون إذنها له بالشراء.
ومثل أن يبيع إنسان ملكا لغيره وهو غائب، أو يشتري - دون إذن منه - كما يحدث عادة.
وعقد الفضولي يعتبر عقدا صحيحا، إلا أن لزومه يتوقف على إجازة المالك أو وليه، فإن أجازه نفذ وإن لم يجزه بطل.
ودليل ذلك ما رواه البخاري عن عروة البازقي أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بدينار لاشتري له به شاة، فاشتريت له به شاتين بعت إحداهما بدينار وجئته بدينار وشاة، فقال لي: «بارك الله في صفقة يمينك».
وروى أبو داود والترمذي، عن حكيم بن حزام، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ليشتري له أضحية بدينار، فاشتري أضحية فأربح فيها دينارا فباعها بدينارين، ثم اشترى شاة أخرى مكانها بدينار، وجاء بها وبالدينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «بارك الله لك في صفقتك».
ففي الحديث الأول أن عروة اشترى الشاة الثانية وباعها دون إذن مالكها، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع إليه وأخبره أقره ودعا له، فدل ذلك على صحة شراء الشاة الثانية وبيعه إياها.
وهذا دليل على صحة بيع الإنسان ملك غيره وشرائه له دون إذن.
وإنما يتوقف على الاذن مخافة أن يلحقه من هذا التصرف ضرر.
وفي الحديث الثاني أن حكيما باع الشاة بعدما اشتراها وأصبحت مملوكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم اشترى له الشاة الثانية ولم يستأذنه، وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على تصرفه وأمره أن يضحي بالشاة التي أتاه بها ودعا له، فدل ذلك على أن بيعة الشاة الأولى وشراءه الثانية صحيح.
ولو لم يكن صحيحا لا نكره عليه وأمره برد صفقته.

.4- الرابع: أن يكون المعقود عليه مقدورا على تسليمه شرعا وحسا:
فما لا يقدر على تسليمه حسا لا يصح بيعه كالسمك في الماء.
وقد روى أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر».
وقد روي عن عمران بن الحصين مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روي النهي عن ضربة الغائض.
والمراد به أن يقول من يعتاد الغوص في البحر لغيره: ما أخرجته في هذه الغوصة فهو لك بكذا من الثمن.
ومثله الجنين في بطن أمه.
ويدخل في هذا بيع الطير المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه إلى محله، فإن اعتاد الطائر رجوعه إلى محله، ولو كيلا، لم يصح أيضا عند أكثر العلماء إلا النحل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الإنسان ما ليس عنده.
ويصح عند الأحناف لأنه مقدور على تسليمه إلا النحل.
ويدخل في هذا الباب عسب الفحل، وهو ماؤه، والفحل الذكر من كل حيوان: فرسا، أو جملا أو تيسا، وقد نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
كما رواه البخاري وغيره، لأنه غير متقوم ولا معلوم ولا مقدور على تسليمه.
وقد ذهب الجمهور إلى تحريمه بيعا وإجازة، ولا بأس بالكرامة، وهي ما يعطى على عسب الفحل من غير اشتراط شيء عليه.
وقيل: يجوز إجارة الفحل للضراب مدة معلومة وبه قال: الحسن وابن سيرين، وهو مروي عن مالك، ووجه للشافعية والحنابلة.
وكذلك بيع اللبن في الضرع - أي قبل انفصاله - لما فيه من الغرر والجهالة.
قال الشوكاني: إلا أن يبيع منه كيلا، نحو أن يقول: بعت منك صاعا من حليب بقرتي.
فإن الحديث يدل على جوازه لارتفاع الغرر والجهالة.
ويستثنى أيضا لبن الظئر فيجوز بيعه لموضع الحاجة.
وكذا لا يجوز بيع الصوف على ظهر الحيوان، فإنه يتعذر تسليمه لاختلاط غير المبيع بالمبيع.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع تمر حتى يطعم، أو صوف على ظهر أو لبن في ضرع، أو سمن في اللبن. رواه الدار قطني: والمعجوز عن تسليمه شرعا كالمرهون والموقوف، فلا ينعقد بيعهما.
ويلحق بهذا التفريق بالبيع بين البهيمة وولدها لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان.
ويرى بعض العلماء جواز ذلك قياسا على الذبح وهو الأولى.
وأما بيع الدين: فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز بيع الدين ممن عليه الدين - أي المدين.
وأما بيعه إلى غير المدين، فقد ذهب الأحناف والحنابلة والظاهرية إلى عدم صحته لأن البائع لا يقدر على التسليم.
ولو شرط التسليم على المدين فإنه لا يصح أيضا لأنه شرط التسليم على غير البائع، فيكون شرطا فاسدا يفسد به البيع.

.5- الخامس: أن يكون كل من المبيع والثمن معلوما:
فإذا كانا مجهولين أو كان أحدهما مجهولا فإن البيع لا يصح لما فيه من غرر، والعلم بالمبيع يكتفى فيه بالمشاهدة في المعين ولو لم يعلم قدره كما في بيع الجزاف.
أما ما كان في الذمة فلا بد من معرفة قدره وصفته بالنسبة للمتعاقدين.
والثمن يجب أن يكون معلوم الصفة والقدر والاجل.
أما بيع ما غاب عن مجلس العقد، وبيع ما في رؤيته مشقة أو ضرر، وبيع الجزاف، فلكل واحد من هذه البيوع أحكام نذكرها فيما يلي:

.بيع ما غاب عن مجلس العقد:
بشرط أن يوصف وصفا يؤدي إلى العلم به، ثم إن ظهر موافقا للوصف لزم البيع وإن ظهر مخالفا ثبت لمن لم يره من المتعاقدين الخيار في إمضاء العقد أو رده، يستوي في ذلك البائع والمشتري.
روى البخاري وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: بعت من أمير المؤمنين عثمان مالا بالوادي بمال له بخيبر.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اشترى شيئا لم يره فله الخيار إذا رآه».
أخرجه الدار قطني والبيهقي.

بيع ما في رؤيته مشقة أو ضرر:
وكذا يجوز بيع المغيبات إذا وصفت أو علمت أوصافها بالعادة والعرف.
وذلك كالاطعمة المحفوظة والادوية المعبأة في القوارير وأنابيب الاكسوجين وصفائح البنزين والغاز ونحو ذلك مما لا يفتتح إلا عند الاستعمال لما يترتب على فتحه من ضرر أو مشقة.
ويدخل في هذا الباب ما غيبت ثمارة في باطن الأرض مثل الجزر واللفت والبطاطس والقلقاس والبصل، وما كان من هذا القبيل.
فإن هذه لا يمكن بيعها بإخراج المبيع دفعة واحدة لما في ذلك من المشقة على أربابها، ولا يمكن بيعها شيئا فشيئا لما في ذلك من الحرج والعسر، وربما أدى ذلك إلى فساد الأموال أو تعطيها.
وإنما تباع عادة بواسطة التعاقد على الحقول الواسعة التي لا يمكن بيع ما فيها من الزروع المغيبة إلا على حالها.
وإذا ظهر أن المبيع يختلف عن أمثاله اختلافا فاحشا يوقع الضرر بأحد المتعاقدين ثبت الخيار، فإن شاء أمضاه وإن شاء فسخه، كما في صورة ما إذا اشترى بيضا فوجده فاسدا فله الخيار في إمساكه أو رده دفعا للضرر عنه.

.بيع الجزاف:
الجزاف: هو الذي لا يعلم قدره على التفصيل.
وهذا النوع من البيع كان متعارفا عليه بين الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان المتبايعان يعقدان العقد على سلعة مشاهدة لا يعلم مقدارها إلا بالحرز والتخمين من الخبراء وأهل المعرفة الذين يعهد فيهم صحة التقدير، فقلما يخطئون فيه، ولو قدر أن ثمة غررا فإنه يكون يسيرا يتسامح فيه عادة لقلته.
قال ابن عمر رضي الله عنه: كانوا يتبايعون الطعام جزافا بأعلى السوق، فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه.
فالرسول أقرهم على بيع الجزاف، ونهى عن البيع قبل النقل فقط.
قال ابن قدامة: يجوز بيع الصيرة جزافا، لا نعلم فيه خلافا، إذا جهل البائع والمشتري قدرها.

.6- السادس: أن يكون المبيع مقبوضا:
إن كان قد استفاده بمعاوضة وفي هذا تفصيل نذكره فيما يلي: يجوز بيع الميراث والوصية والوديعة وما لم يكن الملك حاصلا فيه بمعاوضة قبل القبض وبعده. وكذلك يجوز لمن اشترى شيئا أن يبيعه أو يهبه أو يتصرف فيه التصرفات المشروعة بعد قبضه.
أما إذا لم يكن قبضه فإنه يصح له التصرف فيه بكل نوع من أنواع التصرفات المشروعة، ما عدا التصرف بالبيع.
أما صحة التصرف فيما عدا البيع فلان المشتري ملك المبيع بمجرد العقد، ومن حقه أن يتصرف في ملكه كما يشاء.
قال ابن عمر: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حبا مجموعا فهو من مال المشتري. رواه البخاري.
أما التصرف بالبيع قبل القبض فإنه لا يجوز، إذ يحتمل أن يكون هلك عند البائع الأول فيكون بيع غرر، وبيع الغرر غير صحيح سواء أكان عقارا أم منقولا وسواء أكان مقدرا أم جزافا.
لما رواه أحمد والبيهقي وابن حبان بإسناد حسن أن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم؟ قال: «إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه».
وروى البخاري ومسلم: أن الناس كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانه حتى يؤدوه إلى رحالهم.
ويستثنى من هذه القاعدة جواز بيع أحد النقدين بالاخر قبل القبض.
فقد سأل ابن عمر الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن بيع الإبل بالدنانير وأخذ الدراهم بدلا منها فأذن له.

.معنى القبض:
والقبض في العقار يكون بالتخلية بينه وبين من انتقل ملكه إليه على وجه يتمكن معه من الانتفاع به فيما يقصد منه، كزرع الأرض وسكنى المنزل والاستظلال بالشجر أو جني ثماره ونحو ذلك.
والقبض فيما يمكن نقله كالطعام والثياب والحيوان ونحو ذلك يكون على النحو الاتي:
أولا: باستيفاء القدر كيلا أو وزنا إن كان مقدرا.
ثانيا: بنقله من مكانه إلى كان جزافا.
ثالثا: يرجع إلى العرف فيما عدا ذلك.
والدليل على أن القبض في المنقول يكون باستيفاء القدر ما رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن عفان رضي الله عنه: «إذا سميت الكيل فكل».
فهذا دليل على وجوب الاكتيال عند اشتراط التقدير بالكيل.
ومثله الوزن لاشتراكهما في أن كلا منهما معيار لتقدير الاشياء، فوجب أن يكون كل شيء يملك مقدرا يجري القبض فيه باستيفاء قدره سواء أكان طعاما أم كان غير طعام.
ودليل وجوب النقل من مكانه من رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه».
وليس هذا خاصا بالطعام بل يشمل الطعام وغيره كالقطن والكتان وأمثالهما إذا بيعت جزافا، لأنه لا فرق بينهما.
أما ما عدا هذا مما لم يرد فيه نص فيرجع فيه إلى عرف الناس وما جرى عليه التعامل بينهم، وبهذا نكون قد أخذنا بالنص ورجعنا إلى العرف فيما لا نص فيه.

.حكمته:
وحكمة النهي عن بيع السلع قبل قبضها زيادة على ما تقدم: أن البائع إذا باعها ولم يقبضها المشتري فإنها تبقى في ضمانه، فإذا هلكت كانت خسارتها عليه دون المشتري.
فإذا باعها المشتري في هذه الحال وربح فيها كان رابحا لشئ لم يتحمل فيه تبعة الخسارة، وفي هذا يروي أصحاب السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ربح ما لم يضمن.
وأن المشتري الذي باع ما اشتراه قبل قبضه يماثل من دفع مبلغا من المال إلى آخر ليأخذ في نظيره مبلغا أكثر منه، إلا أن هذا أراد أن يحتال على تحقيق قصده بإدخال السلعة بين العقدين، فيكون ذلك أشبه بالربا.
وقد فطن إلى هذا ابن عباس، رضي الله عنهما، وقد سئل عن سبب النهي عن بيع ما لم يقبض، فقال: «ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ».

.الإشهاد على عقد البيع:
أمر الله بالاشهاد على عقد البيع فقال: {وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد}.
والأمر بالاشهاد للندب والارشاد إلى ما فيه المصلحة والخير.
وليس للوجوب كما ذهب إليه البعض.
قال الجصاص في كتاب أحكام القرآن: ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الأمر بالكتابة والاشهاد والرهن المذكور جميعه في هذه الآية، ندب وإرشاد إلى ما لنا فيه الحظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا، وأن شيئا منه غير واجب.
وقد نقلت الأمة خلفا عن سلف عقود المداينات والاشرية والبياعات في أمصارهم من غير إشهاد، مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم، ولو كان الاشهاد واجبا لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به.
وف ذلك دليل على أنهم رأوه ندبا، وذلك منقول من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا.
ولو كانت الصحابة والتابعون تشهد على بياعاتها وأشريتها لورد النقل به متواتر مستفيضا، ولانكرت على فاعله ترك الاشهاد.
فلما لم ينقل عنهم الاشهاد بالنقل المستفيض ولا إظهار النكير على تاركه من العامة، ثبت بذلك أن الكتاب والاشهاد في الديوان والبياعات غير واجبين.اهـ.

.البيع على البيع:
يحرم البيع على البيع لما رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا بيع أحدكم على بيع أخيه» رواه أحمد والنسائي.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبيع الرجل على بيع أخيه».
وعند أحمد والنسائي وأبي داود والترمذي وحسنه: «أن من باع من رجلين فهو للأول منهما».
وصورته كما قال النووي: - أن يبيع أحد الناس سلعة من السلع بشرط الخيار للمشتري، فيجئ آخر يعرض على هذا أن يفسخ العقد ليبيعه مثل ما اشتراه بثمن أقل.
وصورة الشراء على شراء الاخر أن يكون الخيار للبائع، فيعرض عليه بعض الناس فسخ العقد على أن يشتري منه ما باعه بثمن أعلى.
وهذا الصنيع في حالة البيع أو الشراء، صنيع آثم، منهي عنه.
ولكن لو أقدم عليه بعض الناس وباع أو اشترى ينعقد البيع والشراء عند الشافعية وأبي حنيفة وآخرين من الفقهاء.
ولا ينعقد عند داود بن علي، شيخ أهل الظاهر، وروي عن مالك في ذلك روايتان. اه.
وهذا بخلاف المزايدة في البيع فإنها جائزة، لان العقد لم يستقر بعد، وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم عرض بعض السلع، وكان يقول: من يزيد.
.من باع من رجلين:
فهو للاول منهما من باع شيئا من رجل ثم باعه من آخر لم يكن للبيع الاخر حكم بل هو باطل لأنه باع غير ما يملك إذ قد صار في ملك المشتري الأول، ولا فرق بين أن يكون البيع الثاني وقع في مدة الخيار أو بعد انقضائها لأن المبيع قد خرج من ملكه بمجرد البيع.
فعن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة زوجها وليان فهي للاول منهما.
وأيما رجل باع بيعا من رجلين فهو للاول منهما.

.زيادة الثمن نظير زيادة الأجل:
يجوز البيع بثمن حال كما يجوز بثمن مؤجل، وكما يجوز أن يكون بعضه معجلا وبعضه مؤخرا، متى كان ثمة تراض بين المتبايعين.
وإذا كان الثمن مؤجلا وزاد البائع فيه من أجل التأجيل جاز، لأن للاجل حصة من الثمن.
وإلى هذا ذهب الأحناف والشافعية وزيد بن علي والمؤيد بالله وجمهور الفقهاء، لعموم الادلة القاضية بجوازه.
ورجحه الشوكاني.

.جواز السمسرة:
قال الإمام البخاري: لم ير ابن سيرين وعطاء وإبراهيم والحسن بأجر السمسار بأسا.
وقال ابن عباس: لا بأس بأن يقول: بع هذا الثوب فما زاد على كذا وكذا فهو لك.
وقال ابن سيرين: إذا قال بعه بكذا فما كان من ربح فهو لك أو بيني وبينك فلا بأس به.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم» رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة.
وذكره البخاري تعليقا.

.بيع المكره:
اشترط جمهور الفقهاء أن يكون العاقد مختارا في بيع متاعه، فإذا أكره على بيع ماله بغير حق فإن البيع لا ينعقد لقول الله سبحانه: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}.
والتجارة كل عقد يقصد به الربح مثل عقد البيع وعقد الاجارة وعقد الهبة بشرط العوض، لأن المبتغى في جميع ذلك في عادات الناس تحصيل الاعواض لا غير، وعلى هذا فالتجارة أعم من البيع.
ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما البيع عن تراض».
وقوله: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» رواه ابن ماجه ابن حبان والدارقطني والطبراني والبيهقي والحاكم.
وقد اختلف في حسنه وضعفه.
أما إذا أكره على بيع ماله بحق فإن البيع يقع صحيحا.
كما إذا أجبر على بيع الدار لتوسعة الطريق أو المسجد أو المقبرة.
أو أجبر على بيع سلعة ليفي ما عليه من دين أو لنفقة الزوجة أو الابوين.
ففي هذه الحالات وأمثالها يصح البيع إقامة لرضا الشرع مقام رضاه.
قال عبد الرحمن بن كعب: كان معاذ بن جبل شابا سخيا.
وكان لا يمسك شيئا، فلم يزل يدان حتى أغرق ماله كله في الدين، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه ليكلم غرماءه، فلو تركوا لاحد لتركوا لمعاذ لاجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله، حتى قام معاذ بغير شئ.

.بيع المضطر:
قد يضطر الإنسان لبيع ما في يده لدين عليه، أو لضرورة من الضرورات المعاشية، فيبيع ما يملكه بأقل من قيمته من أجل الضرورة، فيكون البيع على هذا النحو جائزا مع الكراهة ولا يفسخ.
والذي يشرع في مثل هذه الحال أن يعان المضطر ويقرض حتى يتحرر من الضيق الذي ألم به.
وقد روي في ذلك حديث رجل مجهول.
فعند أبي داود عن شيخ من بني تميم قال: خطبنا علي بن أبي طالب فقال: «سيأتي على الناس زمان عضوض، يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤمر بذلك».
قال الله تعالى: {ولا تنسوا الفضل بينكم}، ويبايع المضطرون، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل أن تدرك.

.بيع التلجئة:
إذا خاف إنسان اعتداء ظالم على ماله فتظاهر ببيعه فرارا من هذا الظالم وعقد عقد البيع مستوفيا شروطه وأركانه فإن هذا العقد لا يصح، لأن العاقدين لم يقصدوا البيع فهما كالهازلين.
وقيل: هو عقد صحيح، لأنه استوفى أركانه وشروطه.
قال ابن قدامة: بيع التلجئة باطل.
وقال أبو حنيفة والشافعي: هو صحيح لأن البيع تم بأركانه وشروطه خاليا من مفسد فصح به، كما لو اتفقا على شرط فاسد ثم عقد البيع بلا شرط، ولنا أنهما ما قصدا البيع فلم يصح كالهازلين اه.

البيع مع استثناء شيء معلوم:
يجوز أن يبيع المرء سلعة ويستثني منها شيئا معلوما، كأن يبيع الشجر ويستثني منها واحدة، أو يبيع أكثر من منزل ويستثني منزلا، أؤ قطعة من الأرض ويستثني منها جزءا معلوما.
فعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والثنيا إلا أن تعلم.
فإن استثنى شيئا مجهولا غير معلوم لم يصح البيع، لما يتضمنه من الجهالة والغرر.
ايفاء الكيل والميزان يأمر الله، سبحانه، بإيفاء الكيل والميزان فيقول: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط}.
ويقول: {وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا}.
وينهى عن التلاعب بالكيل والوزن وتطفيفهما فيقول:
{ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين}.
ويندب ترجيح الميزان:
عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرفة العبدي بزا من هجر فأتينا به مكة، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي فساومنا سراويل فبعناه، وثم رجل يزن بالاجر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «زن وأرجح» أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه.
وقال الترمذي حسن صحيح.

.السماحة في البيع والشراء:
روى البخاري والترمذي عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى».

.بيع الغرر:
بيع الغرر هو كل بيع احتوى جهالة أو تضمن مخاطرة أو قمارا، وقد نهى عنه الشارع ومنع منه، قال النووي: النهي عن بيع الغرر أصل من أصول الشرع يدخل تحته مسائل كثيرة جدا.
ويستثنى من بيع الغرر أمران:
أحدهما: ما يدخل في المبيع تبعا، بحيث لو أفرد لم يصح بيعه، كبيع أساس البناء تبعا للبناء واللبن في الضرع تبعا للدابة.
والثاني: ما يتسامح بمثله عادة، إما لحقارته أو للمشقة في تمييزه أو تعيينه، كدخول الحمام بالاجر مع اختلاف الناس في الزمان، ومقدار الماء المستعمل، وكالشرب من الماء المحرز، وكالجبة المحشوة قطنا.
وقد أفاض الشارع في المواضع التي يكون فيها.
وإليك بعضها حسب ما كانوا يتعاملون به في الجاهلية.
1- النهي عن بيع الحصاة: فقد كان أهل الجاهلية يعقدون على الأرض التي لا تتعين مساحتها ثم يقذفون الحصاة حتى إذا استقرت كان ما وصلت إليه هو منتهى مساحة البيع. أو يبتاعون الشئ لا يعلم عينه، ثم يقذفون بالحصاة فما وقعت عليه كان هو المبيع. ويسمى هذا بيع الحصاة.
2- النهي عن ضربة الغواص: فقد كانوا يبتاعون من الغواص ما قد يعثر عليه من لقطات البحر حين غوصه، ويلزمون المتبايعين بالعقد فيدفع المشتري الثمن ولو لم يحصل على شئ، ويدفع البائع ما عثر عليه ولو أبلغ أضعاف ما أخذ من الثمن. ويسمى هذا ضربة الغواص.
3- بيع النتاج: وهو العقد على نتاج الماشية قبل أن تنتج، ومنه بيع ما في ضروعها من لبن.
4- بيع الملامسة: وهو أن يلمس كل منهما ثوب صاحبه أو سلعته فيجب البيع بذلك دون علم بحاله أو تراض عنها.
5- بيع المنابذة: وهو أن ينبذ كل من المتعاقدين ما معه، ويجعلان ذلك موجبا للبيع دون تراض منهما.
6- ومنه بيع المحاقلة: والمحاقلة بيع الزرع بكيل من الطعام معلوم.
7- ومنه بيع المزابنة: والمزابنة بيع ثمر النخل بأوساق من التمر.
8- ومنع بيع المخاضرة: والمخاضرة بيع الثمرة الخضراء قبل بدو صلاحها.
9- ومنه بيع الصوف في الظهر
10- ومنه بيع السمن في اللبن.
11- ومنع بيع حبل الحبلة:
ففي الصحيحين: كان أهل الجاهلية يتبايعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة: أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
فهذه البيوع وأمثالها نهى عنها الشارع لما فيها من غرور وجهالة بالمعقود عليه.

.حرمة شراء المغصوب والمسروق:
يحرم على المسلم أن يشتري شيئا وهو يعلم أنه أخذ من صاحبه بغير حق، لأن أخذه بغير حق ينقل الملكية من يد مالكه، فيكون شراؤه له شراء ممن لا يملك، مع ما فيه من التعاون على الاثم والعدوان.
روى البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اشتري سرقة وهو يعلم أنها سرقة فقد اشترك في إثمها وعارها».
بيع العنب لمن يتخذه خمرا وبيع السلاح في الفتنة لا يجوز بيع العنب لمن يتخذه خمرا، ولا السلاح في الفتنة ولا لاهل الحرب، ولا ما يقصد به الحرام.
وإذا وقع العقد فإنه يقع باطلا: لأن المقصود من العقد هو انتفاع كل واحد من المتبايعين بالبدل، فينتفع البائع بالثمن وينتفع المشتري بالسلعة.
وهنا لا يحصل المقصود من الانتفاع لما يترتب عليه من ارتكاب المحظور، ولما فيه من التعاون على الاثم والعدوان المنهي عنهما شرعا، قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان}.
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حبس العنب أبام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمرا، فقد تقحم النار على بصيرة».
وعن عمر بن الحصين قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السلاح في الفتنة» أخرجه البيهقي.
قال ابن قدامة: إن بيع العصير لمن يعتقد أن يتخذه خمرا محرم، إذا ثبت هذا فإنما يحرم البيع ويبطل إذا علم قصد المشتري بذلك، إما بقوله وإما بقرائن مختصة به.
فإن كان محتملا مثل أن يشتريها من لا يعلم حاله، أو من يعمل الخمر والخل معا، ولم يلفظ بما يدل على إرادة الخمر فالبيع جائز.
وهذا الحكم في كل ما يقصد به الحرام، كبيع السلاح لاهل الحرب، أو لقطاع الطريق أو في الفتنة...أو إجارة داره لبيع الخمر فيها وأشباه ذلك. فهذا حرام، والعقد باطل. اه.

.بيع ما اختلط بمحرم:
إذا اشتملت الصفقة على مباح ومحرم.فقيل: يصح العقد في المباح، ويبطل في المحظور.
وهو أظهر القولين للشافعي، ومذهب مالك.
وقيل: يبطل العقد فيهما.

.النهي عن كثرة الحلف:
1- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثرة الحلف فقال: «الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة» رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة.
لما يترتب على ذلك من قلة التعظيم لله، وقد يكون سببا من أسباب التغرير.
2- وعند مسلم: «إياكم وكثرة الحلف في البيع، فإنه ينفق ثم يمحق».
3- وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إن التجارهم الفجار، فقيل: يا رسول الله، أليس قد أحل الله البيع؟ قال: نعم، ولكنهم يحلفون فيأثمون، ويحدثون فيكذبون» رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح.
4- عن ابن مسعود، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان».
قال: ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله عزوجل:
{إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لاخلاق لهم في الاخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم}. متفق عليه.
5- روى البخاري أن اعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: الاشراك بالله.
قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس، قال: وما اليمين الغموس؟ قال: الذ يقتطع مال امرئ مسلم، يعني بيمين هو فيها كاذب.
وسميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في نار جهنم، ولا كفارة لها عند بعض الفقهاء، لأنها لشدة فحشها وكبر إثمها لا يمكن تداركها بالكفارة.
6- وعن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة. فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك». رواه مسلم.

.البيع والشراء في المسجد:
أجاز أبو حنيفة البيع في المسجد، وكره إحضار السلع وقت البيع في المسجد تنزيها له. وأجاز مالك والشافعي مع الكراهة.
ومنع صحة جوازه أحمد وحرمه.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك».

.البيع عند أذان الجمعة:
البيع عند ضيق وقت المكتوبة وعند أذان الجمعة حرام، ولا يصح عند أحمد لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}.
والنهي يقتضي الفساد بالنسبة للجمعة، ويقاس عليها غيرها من سائر الصلوات.

.جواز التولية والمرابحة والوضيعة:
تجوز التولية والمرابحة والوضيعة. ويشترط أن يعرف كل من البائع والمشتري الثمن الذي اشتريت به السلعة.
والتولية، هي البيع برأس المال دون زيادة أو نقص.والمرابحة، هي البيع بالثمن الذي اشتريت به السلعة مع ربح معلوم. والوضيعة، هي البيع بأقل من الثمن الأول.

.بيع المصحف وشراؤه:
اتفق الفقهاء على جواز شراء المصحف واختلفوا في بيعه.
فأباحه الائمة الثلاثة، وحرمته الحنابلة، وقال أحمد: لا أعلم في بيع المصاحف رخصة.

.بيع بيوت مكة وإجارتها:
أجاز كثير من الفقهاء، منهم الاوزاعي والثوري ومالك والشافعي.
وقول لابي حنيفة.

.بيع الماء:
مياه البحار والأنهار وما يشابهها مباحة للناس جميعا لا يختص بها أحد دون أحد، ولا يجوز بيعها ما دامت في مقارها.
وفي الحديث: يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «الناس شركاء في الماء والكلا والنار» فإذا أحرزها إنسان أو حفر بئرا في ملكه أو وضع آلة يستخرج بها الماء أصبحت ملكا له ويجوز له حينئذ بيع الماء، ويكون في هذه الحال مثل الحطب المباح أخذه، الذي يحل بيعه بعد إحرازه.
وفي الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لئن يحتطب أحدكم حزمة من حطب فيبيعها خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه».
وثبت أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة وفيها بئر تسمى بئر رومة، يملكها يهودي ويبيع الماء منها للناس، فأقره على بيعه وأقر المسلمين على شرائهم منه، واستمر الأمر على هذا حتى اشتراها عثمان رضي الله عنه وحبسها على المسلمين.
وبيع الماء يجري حسب ما يجري عليه العرف، إلا إذا كان هناك مثل العداد فإنه يحتسب به القدر المبيع.


 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ