المقدم المؤخر
الاسم السادس والسبعين من أسماء الله الحُسنى، والاسم هو المقدِّم والمؤخِّر.
شاءت حكمة الله جلَّ جلاله أن يكون الناس درجاتٍ في حياتهم الدنيا قال تعالى:
﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾
(سورة الإسراء الآية: 21)
من حيث الشكل أشكال متباينة، ومن حيث المال مستويات متباينة، من حيث القوَّة مستويات مختلفة، من حيث الذكاء مستويات متفاوتة، فربنا عزَّ وجلَّ قدَّم إنساناً وأخَّر إنساناً.
كلُّكم يعلم أنَّ الإنسان مكلَّف، وهو مخيِّر فيما كُلِّف، لكنَّه مسيَّر في أشياء كثيرة فالإنسان مسيَّر من حيث والداه، من حيث مكان ولادته، من حيث زمن ولادته، من حيث قدراته من حيث إمكاناته، أشياء كثيرة قدرها الله عزَّ وجلَّ على الإنسان لكن يجب أن يعلم الإنسان علماً يقينياً أنَّ هذا الذي قدَّره الله عليه لصالحه، وليس في الإمكان أبدع مما كان، وإذا كُشِف الغطاء اخترتم الواقع، فالإنسان إذا صدَّق الله عزَّ وجل وعلم أنَّ حكمة الله حكمةٌ مطلقة وأنَّ حكمته تقتضي أنَّ كلَّ شيءٍ لو كان على غير ما كان عليه لكان نقصاً في حكمة الله يرضى ويستسلم.
قد يفضل الله عزَّ وجلَّ إنساناً بالشكل، وقد يفضّله بالذكاء، وقد يفضِّله بالمال، أو يفضِّله بالقوَّة، أو يفضِّله بأن يكون ابناً لملك، أو يكون ابناً لإنسان عادي جداً، فالله عزَّ وجلَّ يقدِّم ويؤخِّر، إما أنَّه يقدِّم رُتبةً أو أنَّه يقدِّم زمناً... إنسان قبل فلان جاء زماناً أو مكانة، فقد نجد أنفسنا نذهب لنعزي أناساً في عميد أسرتهم وفي نفس اليوم قد نذهب ونهنئ أُناساً آخرين بمولودٍ جديد، من قرر أنَّ هذا الذي توفَّاه الله اليوم مثلاً ولِد قبل هذا الذي ولد اليوم بسبعين سنة؟ تقديم زمني، و تقديم رُتبي، فالله عزَّ وجلَّ هو المقدِّم وهو المؤخِّر.
إذا أيقنت بحكمته، وإذا أيقنت برحمته، وإذا أيقنت بعدالته تستسلم وترضى.
فأولاً: " التقديم كما قال بعض العلماء ضدُّ التأخير، والمقدِّم لُغةً هو الذي يقدِّم الأشياء ويضعها في موْضعها، فمن استحقَّ التقديم قدَّمه ".. وبعد فلدينا معنى جديد وهو أن الله يقدِّم استحقاقاً، ويؤخِّر استحقاقاً، يقدِّم رتبةً استحقاقاً ويؤخِّر رتبةً استحقاقاً، ويوجد مع التقديم حكمة، ومع التقديم عدالة، ومع التقديم علم.
والله تعالى هو المقدِّم الذي قدَّم الأحبَّاء بخدمته.. فهل من الممكن أو من المعقول أنَّ إنساناً خطب ودَّ الله عزَّ وجلَّ والله لا يقدِّمه ؟! إنسان أطاع الله والله لا يقدِّمه ؟ فإذا لم يقدِّم الله عزَّ وجلَّ الطائعين واستوى عند الناس الطائع والعاصي، فالطائع عندئذ فقد الباعث والحافز والعاصي فقد الرادع، وإذا لم يقدِّم الله الطائع ولم يؤخِّر العاصي، وإذا لم يقدِّم المحسن ولم يؤخر المسيء، وإذا لم يقدِّم المستقيم ولم يؤخر المنحرف، وإذا لم يقدِّم الرحيم ولم يؤخر القاسي.. فالرحيم يَمًلُّ من عمله والمنحرف يستمرء عمله.
لذلك هناك بعلم التربية قاعدة أساسيَّة.. ما لم يُكافأ المحسن ويُعاقب المسيء فالأمور تصبح فوضى. على مستوى مدرسة، على مستوى مشفى، على مستوى معمل.. فمثلاً يتأخر عامل كل يوم ساعة ولا يعاقب، وعامل ينضبط أشدَّ الانضباط ولا يكافأ ! بعد حينٍ نجد المنضبط يتفلَّت والمقصِّر يزداد تقصيراً.
فكأن اسم المقدِّم والمؤخِّر مرتبطٌ باسم المربي.. والله يقدِّم ويؤخِّر، فهل من المعقول أنك شابٌ تستقيم ولا يقدِّمك ؟ ليس هذا معقولاً بل يقدِّمك ويكرمك، فالله عزَّ وجلَّ قال:
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)﴾
(سورة الشرح)
فهل تجد إنساناً بالأرض يُذكر مع الله إلاّ رسول الله ؟ ألا تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
﴿ رَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾
كلمة محمد الآن في العالم ضمن خمسة آلاف مليون إنسان كم إنسان يذكر كلمة محمد ؟
﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾
الله تعالى هو المقدِّم الذي قدَّم الأحباء بخدمته.. أجل لقد قدَّمهم، دائماً أريد من المؤمنين أن تكون معنوياتهم عالية، اللهمَّ صلِّ عليه ذهب إلى الطائف بعد أن أخرجته مكَّة وكذَّبته ونكَّلت بأصحابه، ذهب إلى الطائف يستنصرهم فكذَّبوه وردّوا دعوته وسخروا منه وأغروا سفهاءهم بإيذائه، فلما عاد قال له سيِّدنا زيد: يا رسول الله أتعود إلى مكَّة وقد أخرجتك؟ قال:
((إنَّ الله ناصر نبيِّه.))
حينما كان في طريقه إلى الهجرة تبعه سُراقة بن مالك قال: كيف بك يا سُراقة إذا لبست سواري كِسرى، معنى ذلك أنَّ النبيَّ واثقٌ من نصر الله عزَّ وجلَّ، فأنت كمؤمن يجب أن تؤمن أنكَّ إذا استقمت على أمر الله، وإذا أحببته وإذا أخلصت له، وإذا أقبلت عليه فلا بدَّ من أن يُقدِّمك أبداً.. هكذا حكمة الله وهكذا عدالته وهكذا رحمته.
قال العلماء: " الله تعالى هو المقدِّم قدَّم الأحباء بخدمته، وعصمهم من معصيته". وقال بعض العارفين: "المقدِّم هو الذي قدَّم أحبابه وأسعدهم بالفهم والحِكم، والذي قدَّم العارفين على الجاهلين ". الله عزَّ وجلَّ قال:
﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾
(سورة الزمر الآية: 9)
﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾
ليس هناك نسبة.. فهل يكون إنسان طائع كالعاصي، أو أن تجد إنساناً مستقيماً كالمنحرف، فالله يقدِّم المستقيم ويدافع عنه.
فقد حدَّثني أخ يعمل في دائرة له مدير غير ملتزم إطلاقاً، لكنَّه يحترم هذا الموظَّف أشدَّ أنواع الاحترام لأنه ملتزم، ويتورَّع هذا المدير عن أن يرتكب مخالفة للشرع أمام هذا الموظَّف.. ففي ظاهر الأمر أنَّ هذا موظف بسيط والمدير لا شك أعلى مرتبة منه، فانظر إلى الأعلى يحترم الأدنى لدينه، فالله قدَّمه، فبدينك واستقامتك قد تكون مكانتك أعلى من مرتبتك.
قد يكون هناك في البيت شاب، وله أربعة أو خمسة إخوة متفلتون يأتون في ساعة متأخرة ليلاً لهم أصدقاء وأصحاب منحرفون، هذا الشاب الورع المستقيم له مكانة في البيت لا تقل عن مكانة والده، هذا المقدَّم.. الله قدَّم، كل إنسان في عمله و في حيِّه و في أسرته إذا كان مستقيماً له اتصال بالله عزَّ وجلَّ الله يقدِّمه، هو المقدِّم.
قال العلماء: قدَّم العارفين على الجاهلين وفتح لهم أبواب اليقين، قدَّم العلماء على الجهلاء، وجعلهم نجوم الاهتداء، قدَّم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بدءاً وختاماً.
سيِّدنا عمر عندما وقف على المنبر ليخطب بعد أن تولى الخلافة نزل درجة، وقال: ما كان الله ليراني أضع نفسي في مقام أبي بكر.. معنى ذلك أنَّ مقام أبي بكر محفوظ أشدَّ الحفظ.
الله عزَّ وجلَّ قدَّم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على كلِّ الرسل والأنبياء، قال تعالى مخاطباً رسله وأنبياءه:
﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ﴾
(سورة آل عمران الآية: 81 )
قدَّمه ليلة الإسراء حيث صلَّى بجميع الأنبياء.. أريد أن أستخلص من هذا الشرح أنَّك لك مكانة عند الله بحجم عملك الصالح، هذه المكانة تنالها بدقةٍ بالغة وبعدالةٍ مطلقة، لا يمكن أن يستوي عند الله إنسانان متفاوتان في عملهما أبداً، إذا كان عملك أصلح فمرتبتك أعلى، ورعك أكثر فمرتبتك أعلى، محبَّتك أسمى فمرتبتك أعلى، استقامتك أبلغ فمرتبتك أعلى، فقد قال تعالى:
﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ (133)﴾
(سورة الأنعام)
كل واحد منا له عند الله مرتبة.. له درجة، له مكانة من خلال هذه المكانة يعامل، قد نرى إنساناً غالياً على الله، وقد نرى إنساناً هيِّناً على الله، فالكفار لهم صغارٌ عند الله.. قال تعالى:
﴿فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا(105)﴾
(سورة الكهف)
﴿ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾
يسقطون من عين الله، هناك أناس كما قال بعضهم: ومعنى هذه الكلمة محصور، لله رجال إذا أرادوا أراد. دعاؤهم مستجاب.
فالله يقدِّم.. وإذا قدَّم الله فالأمر عجيب مذهل، وإذا ألقى محبَّتك في قلوب الخلق هذه سعادةً كبيرةً جداً، الإنسان المؤمن كيفما تحرَّك يكون محبوباً، كيفما مشي يكون محترماً، في غيبته يُثنى عليه، وفي حضرته يُثنى عليه، فالله قدَّمه.. لماذا قدَّمه ؟ لعمله الصالح، لطهارته قدَّمه لإخلاصه وقدمه لاستقامته، الله مقدِّم ومؤخِّر.
يؤخِّر إنساناً.. هو يعمل لكن في عمله شرك خفي، هو يعمل ليرضي زيداً أو عُبيداً، لكنه لا يستطيع أن يرضى زيداً أو عُبيداً، فيؤخِّره الله عزَّ وجلَّ، إما أن يؤخِّره رُتبةً، أو أن يؤخِّره زمناً.
في القرآن الكريم في سورة ق قال تعالى:
﴿قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)﴾
(سورة ق)
أتظن أن الله عزَّ وجلَّ يظلمك ؟ ! أو يبخسك عملك ؟ ! ويقلل مكانتك التي تستحقُّها ؟! أو يطمس لك تألُّقك ؟ هذا شيء مستحيل، أنت بعلمك وعملك وإخلاصك واستقامتك تحتلُّ عند الله مرتبةً تتناسب مع أحوالك.
فمثلاً.. أتجد إنساناً قوياً جداً وتقول له افعل بي ما تشاء ؟ لا يمكن فلعل عندك أخطاءً سابقة فينتقم منك انتقاماً شديداً، أما سيِّدنا هود قال لقومه:
﴿مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) ﴾
(سورة هود)
بالمناسبة: الإنسان يمتحن مكانته عند الله بالدعاء، يقع في أزمة وفي شدَّة، فيدعو الله بإخلاصٍ شديد، إن أستجيب له معنى ذلك أنَّ له شأناً عند الله، دائماً كما قيل: ابتغوا الرفعة عند الله.
بعض الناس يبتغي الرفعة عند الخلق.. يُحسِّن بيته يزيِّن بيته، ويشتري أثاثاً فخماً ويركب مركبةً فخمةً ويرتدي ثياباً قشيبة غالية، يزهو بثيابه بمركبته ببيته، هو يحول أن ينتزع إعجاب الناس بهذه المظاهر الفارغة يسعى ليسمو مكانةً عند الناس، ومن علامات آخر الزمان أنَّ قيمة المرء متاعه.
عشرة أشخاص يملكون مركبات من ماركة واحدة لكن يتباهون.. فهذه مرسيدس مئة وتسعون، وهذه مئة وثمانون، وهذه مائتان وثمانون، هذه ستمائة.. فالإنسان ينتزع مكانته فقط من مركبته، من موقع بيته، من مساحة بيته، من ثيابه، وهذا كله من علامات تخلُّف المجتمع القول الرائع النافع " ابتغوا الرفعة عند الله ".
سُلَّمُ الرفعة عند الله بيد كلِّ إنسان، فهو بيدك.. ألا تستطيع أن تقيم الإسلام في بيتك ؟ ألا تستطيع أن تقيمه في عملك ؟ ألا تستطيع أن تضع متع الدنيا ومغرياتها تحت قدميك إرضاءً لله عزَّ وجلَّ ؟ ألا تستطيع أن تكون صادقاً، ألا تستطيع أن تصلِّي الصلوات على وقتها ؟ ألا تستطيع أن تضبط لسانك ؟ أن تضبط جوارحك، أن تربي أولادك ؟ سلُّم الرفعة إلى الله بيد كل واحد فالقول الدقيق ابتغوا الرفعة عند الله، هذا هو العاقل، إن هذه الرفعة تراها شيئاً لا يُقدَّر بثمن حينما ينتهي الأجل قال تعالى:
﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)﴾
(سورة يس)
الله هو الذي يقدِّم.. أنت ُتقدِم على الله فيقدمك، وتتأخر عن الله فيؤخرك، إذا الإنسان أخلص لله ألقى الله في قلب الناس محبته وهيبته، من اتقى الله هابه كل شيء، والإنسان إذا ازَوَّر عن الله، وأعرض عنه انتزع هيبته من قلوب الخلق، تطاولٌ، مزاحٌ رخيص، يمزح معه مَن هو دونه وقد ينال من كرامته.
المؤمن لا يبتغي الرفعة في الدنيا بل يبتغي الرفعة عند الله لكن الله عزَّ وجلَّ أجلّ وأكرم من أن يكافئه في الآخرة فحسب، ويدعه في الدنيا هيناً، فالدنيا تأتيه وهي راغمة تكرمةً له من ربه.
مادام الله عزَّ وجلَّ يقدم ويؤخر، أنت كعبد ألا تستطيع أن تتخلق بأخلاق الله ؟ أنت أمام ألف خيار ما الذي ينبغي أن تقدمه ؟ وما الذي ينبغي أن تؤخره ؟ المؤمن الصادق يقدم أعمال الآخرة، ويؤخر أعمال الدنيا.
إذا كان منهمكاً في عمل ودخل وقتُّ الصلاة، فإذا أخر الصلاة وتابع العمل فقد تخلف عن أن يتخلق بأخلاق الله، أما إذا قدم عمل الآخرة وأخر عمل الدنيا يكون عرف قيمة الدنيا، وعرف أنها مزرعة الآخرة، فكن ممن يقدم الأعمال الصالحة ففيها رفعة شأنك، ومن آثر الآخرة على الدنيا رح الدنيا والآخرة.
هناك أشخاص أرى نفسي معجباً بهم ففي حياتهم أولويات مثلاً حفاظه على أوقات صلواته، طلبه للعلم، طاعته لله عزَّ وجلَّ، فهو برمج حياته كلّها وفق هذه الأهداف، ووقته الزائد يصلح فيه شأن دنياه، فلن يؤثر نزهة على صلاة الجمعة ؟ ولن يقدم جلسة تافهة على مجلس علم ؟ دنياه مرتبتها الثانية في كل أحواله، يؤثر مرضاة ربه على سائر متطلباته.
ما معنى مقدم ومؤخر ؟ لقد تحدَّثنا قبل قليل عن أن الله جلّ جلاله يقدّم ويؤخرّ.. يقدم الصالح ويؤخر الطالح، يقدم العالم يؤخر الجاهل، يقدم المحب ويؤخر المبغض، ويقدّم الطائع ويؤخر العاصي، يقدم المقبل ويؤخر المعرض، يقدم مرتبةً ويقدم زمناً، وهذا كله عدل منه سبحانه.
إذا أدركت أنك عبد لله حقاً فما حظك من هذا الاسم ؟ أنت أمام خيارات كثيرة ينبغي أن تقدم ما كان لله ورسوله، أن تقدم ما كان للآخرة، تلاحظ بائعاً مثلاً لديه زبون فيهتم به اهتماماً بالغاً، فلو طلب منه شخص خدمة لله، فمادام عنده ازدحام زبائن، يقول له - مشغول ليس لدي فراغ - أي هو بحسب رؤيته أن هذا الزبون يأتيه منه ربح نقدي، وأما الآخر ربما يدعو له فماذا سيجني من الدعوة ؟ أما لو عرف قيمة حياته الدنيا وعرف أنها مزرعة الآخرة، لأقبل على العمل الصالح أكثر من إقباله على الربح المادي.
وثق أن هناك أشخاصاً يقدمون خدمات لله دون أن يرجو أحدهم أجراً، وإذا علموا ستقدم لهم أجراً لتألَّموا أشدَّ الألم، ولسارع قائلاً لك: أنا فعلت هذا لله، لا أريد جزاء ولا شكوراً.
قال لي يوماً أخ كريم.. لديه أزمة في قلبه، يحتاج إلى عملية، تكلِف مبلغاً ضخماً - فوق الثلاثمائة ألف - تلّقى اتصالاً هاتفياً من امرأةٍ محسنة، قالت له اتصل غداً بالطبيب الفلاني إنه سيجري لك العملية مجاناً، دفعت ثمن العملية...... بينما هناك إنسان آخر يقيم احتفالاً يكلف ملايين ليزهو أمام الناس ويضنُّ أن يتصدَّق بمئة ليرة.
الذي قدَّم العمل الصالح كان مقدَّماً عند الله، والذي قدم شهواته على أعماله الصالحة كان مؤخراً عند الله، فالله سبحانه وتعالى يقدِّم ويؤخِّر.
في الحقيقة ينبغي أن يكون مسارك في الحياة واضحاً جلياً.. فكثير هي المقاييس الماديَّة فإنسان يتقدَّم بماله، يتقدم بمرتبته، أحياناً يتقدم بنسبه، أو بقوَّته، يتقدم بذكائه، يتقدَّم تقدماً مبدئياً أو تقدُّماً مؤقَّتاً، فإن لم يكن مطيعاً لله أخره الله، هذا التقديم تقديم امتحان، أو تقديم استدراج إن لم يكن في مستوى هذا التقديم أخره الله عزَّ وجلَّ، إما أن يؤخره بفضيحةٍ، أو بكفِّ يدٍ، أو بإهمالٍ وإزراء، أو بخطأٍ فاحشٍ يرتكبه يعاقب عليه، أما المؤمن فدائماً خطُّه البياني صاعدٌ صعوداً مستمرا.
فالكافر قد يصعد خطُّه البياني صعوداً حاداً ليسقط سقوطاً مريعاً، أما المؤمن يصعد خطه صعوداً منتظماً بطيئاً مستمراً، وهذا الصعود إلى أبد الآبدين، الله مقدم ومؤخِّر، يقدم أُناساً ويؤخِّر أُناساً.
كلُّكم يعلم قصة سيدنا عبد الله بن رواحة عندما عيَّنه النبي قائداً ثالثاً لجيشٍ إسلامي، وكيف أنَّ القائد الأول سيدنا زيد تقدَّم وأخذ الراية فقاتل بها حتى قُتل، وقد قال عنه النبي: إني لأرى مقامه في الجنة، وكيف أنَّ سيدنا جعفراً رضي الله عنه أخذ الراية وتقدَّم بها فقاتل حتى قُتل وقال عنه النبي: وإني لأرى مقامه في الجنة، وتروي بعض الروايات أنَّ القائد الثالث سيِّدنا عبد الله بن رواحة لما رأى صاحبيه قُتلا في وقتٍ قصير تردد في أخذ الراية و قال بيتين من الشعر:
يا نفسُ إلا تُقتلي تموتي هذا حِمام الموت قد لَقيتِ
إن تفعلي فعلهما رضيت ِ.. وإن توليتِ فقد شَقيتِ.
***
حدَّث النبي أصحابه عن سيدنا زيد وسيدنا جعفر ثم سكت. قال أصحابه: يا رسول الله ما فعل عبد الله بن رواحة ؟! قال:
(( ثم أخذ الراية أخوكم عبد الله، فقاتل بها حتى قُتل وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه ))
لأنه تردد.. فالله يقدم ويؤخر، فقد قال صلَّى الله عليه وسلم:
((ما طلعت شمسٌ على رجلٍ بعد النبيين أفضل من أبي بكر، الله قدمه وجعله سيد الصحابة.))
وقال صلَّى الله عليه وسلم:
(( ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة، إلا أخي أبا بكر لم تكن له كبوة.))
وقال كذلك:
((تسابقت أنا وأبو بكر فكنا كهاتين ))
فالله قدمه.. ما أخذ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم من أحدٍ ماله كلَّه إلا أبا بكر.
لذلك أنت حينما تعتمر تقف أمام مقام النبي ثم تقف أمام مقام سيدنا الصديق، ثم أمام مقام سيدنا عمر.
وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم في حقهما:
(( أبو بكر وعمر مني مثل السمع والبصر ))
الله قدّمهما.. ففي كل مجتمع مقدَّم ومؤخَّر، الله يقدم الطائع، فقد تجد إنساناً يعمل بلا ضجيج، وهؤلاء الأتقياء الأخفياء يعملون بصمت يعملون بلا ضجيج، يبذلون جهوداً كبيرة يعلِّمون، يتصدقون، يمسحون عن الناس جراحاتهم، هؤلاء قد تراهم في الظل وفجأةً يتقدمون.. فالله قدمهم، الله هو المقدِّم وهو المؤخِّر.
حتى في عملك إذا كنت من المحبوبين عند الله يقدمك في عملك، يلهمك من الأساليب التي لا يلهمها غيرك، يلهمك تصرُّفات لا يعرفها الآخرون، يدافع عنك في غيبتك فهو المقدِّم، يقدمك.
ورد في بعض الكتب أن سيدنا جبريل خاطب النبي عليه الصلاة والسلام قال: بلِّغ صاحبك أنَّ الله راضٍ عن أبي بكر. أهذه قليلة ؟ فالله قدمه.
المؤمن إذا أراد أن يتخلَّق بأخلاق الله، يقدم أمور الآخرة على أمور الدنيا.. فقد تجد إنساناً مستعداً لأن يترك صلاة ومجلساً للعلم لإصلاح آلة تافهة في بيته.. أليس كذلك ؟ أو يترك صلاة ومجلس علم لاستقبال ضيف بسيط حديثه فارغ، يستحي أن يقول له لدي الآن درس وهيا نذهب معاً إلى المسجد لسماعه..
المؤمن إذا أراد أن يتخلَّق بأخلاق الله يقدم أعمال الآخرة على أعمال الدنيا، ففي حياته أولويات.. تلاحظ أن أصحاب الأعمال الناجحين أحدهم يمضي وقتاً معيناً يقرأ جريدة، ويشرب كأساً من الشاي، لكن إذا جاءه زبون ترك الجريدة وترك كأس الشاي، وقام بإقناع الزبون بالبيع.. معنى ذلك أن هذا المحل تجاري وأساسه الربح، فإذا جاء زبون يجب أن نهتم جميعاً به، وليس من المعقول أن ينتظر الزبون حتى تنتهي المقالة التي نقرؤها ؟ لا أحد يفعل ذلك، الأهم على المهم، وإذا أنت فعلت ذلك فمن باب أولى أن تقدم الأهم على التافه، فأمور الدنيا تافهة.
قمنا بتشييع جنازة يوماً ودخلنا إلى المقبرة في الباب الصغير، قلت لمن كان إلى جانبي: كل هؤلاء الموتى ماتوا وفي دفاترهم قوائم لأعمال طويلة وكثيرة لم تنتهِ بعد.
الإنسان يُنتزع من بيته، من عمله، لم يفرغ بعد من صب سقفٍ لبيته، أو لم ينتهِ من دراسته الجامعية، فكل هؤلاء الموتى تركوا الدنيا وتركوا همومها ومتاعبها، كما تركوا قوائم أعمال لم تشطب بعد.. فعلى الإنسان أن يقدِّم الآخرة على الدنيا.
ومن معاني المؤخر في حقِّ الله تعالى كما يقول بعض العارفين: الذي يؤخِّر المشركين.. القتلى المشركون في بدر.. خاطبهم النبي واحداً واحداً وبأسمائهم قائلاً لهم: يا أمية بن خلف، يا فلان، يا فلان، يا فلان، هل وجدتم ما وعد ربُّكم حقا ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا، لقد كذَّبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، قالوا: يا رسول الله أتخاطب قوماً جيَّفوا !! قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم.
(( عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأُولَئِكَ الرَّهْطِ فَأُلْقُوا فِي الطُّوَى عُتْبَةُ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابُهُ وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ جَزَاكُمُ اللَّهُ شَرًّا مِنْ قَوْمِ نَبِيٍّ مَا كَانَ أَسْوَأَ الطَّرْدِ وَأَشَدَّ التَّكْذِيبِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تُكَلِّمُ قَوْمًا جَيَّفُوا فَقَالَ مَا أَنْتُمْ بِأَفْهَمَ لِقَوْلِي مِنْهُمْ أَوْ لَهُمْ أَفْهَمُ لِقَوْلِي مِنْكُمْ.))
(مسند الإمام أحمد)
الله أخّرهم.. ماتوا حتفَ أنوفهم، ماتوا كالجيف، أما أصحابه الكرام تألَّقوا كالنجوم.
فنحن نذكر اسم سيدنا عمر أكثر من مئات المرات، ونترضى عنه كل يوم وكل ساعة، وفي كل مسجد، وفي كل بلد إسلامي.. استحق ثناء الخالق والمخلوقين، بينما هناك من استحقَّ لعنة الله والملائكة والناس أجمعين كأبي جهل وأمثاله.
قال: المؤخِّر في حقِّ الله تعالى هو الذي يؤخر المشركين، ويرفع المؤمنين، يؤخر العصاة ويرفع الطائعين.
أبو سفيان.. كان سيد قومه، طبعاً أسلم في آخر حياته، ولكنه وقف على باب سيدنا عمر ساعات طويلة يريد الدخول عليه وما أذن له، أما بلال وصهيب فكانا يدخلان بلا استئذان فلما دخل عليه عاتبه قائلاً له: سيد قريش يقف على بابك ساعات طوالاً وبلال وصهيب يدخلان بلا استئذان ؟! فقال له: أأنت مثلهما ؟!
الله قدم بلالاً وصهيباً وأخّر أبا سفيان.. أسلم متأخراً ورضي الله عنه، ولكن ليسوا سواءً، فمن خاض ضد رسول الله المعارك أكثر من عشرين سنة ثم بعد ذلك أسلم، كَمَنْ قام بنصره منذ البداية، فهناك فرقٌ كبيرٌ جداً بينهما ولكلٍ حسابه.
إذاً.. يؤخر المشركين، ويقدم المؤمنين، ويؤخر العصاة ويقدم الطائعين.
وأحياناً من معاني المؤخر.. أنه يؤخِّر العقوبة لحكمةٍ بالغةٍ، قد يكون إنسانٌ مرتكباً لمعصية، ومتلبساً بها ولكن في علم الله فيه خير، لو أن الله عاقبه بمعصيته لأهلكه، فالله عزَّ وجلَّ يعلم حقيقة نفسه فيؤخر عنه العقوبة فلعلَّه يتوب، فيكون التأخير منه سبحانه لحكمةٍ بالغة.
لذلك فالمصائب خمسة أنواع: مصائب المنحرفين، والعصاة، نوعان.. مصائب قصمٍ ومصائب ردعٍ، القصم كما قال الله عزَّ وجل عن قوم نوح:
﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) ﴾
(سورة هود)
هناك أشخاصٌ في علم الله لا يهتدون، لذلك يقصمهم الله عزَّ وجلَّ، أشخاص فيهم بقيَّة خير، فالله عزَّ وجلَّ يسوق لهم بعض الشدائد ليردعهم لكن لا يقصمهم، فالله يقدِّم هلاك إنسان ويؤخر هلاك إنسان، لذلك أخر فَتْحَ مكة قال الله عزَّ وجلَّ:
﴿وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطؤوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْم﴾
(سورة الفتح الآية: 45)
﴿ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطؤوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾
أناس مؤمنون ضعفاء خافوا أن يُعلنوا إيمانهم في مكة فالله عزَّ وجلَّ أخّر فتح مكة ومنع الصحابة الكرام من قتال أهل مكة إكراماً لهؤلاء.. معنى ثالث.. يقدم العقوبة أو يؤخرها، يقدم المكافأة أو يؤخرها.
أحياناً قد يقدّم له الله المكافأة لإنسان فيرتاح ويقعد ويتوانى ويتكاسل، وأحياناً الله يؤخر لإنسان المكافأة فييأس.. ولحكمةٍ أرادها الله يقدِّم المكافأة أو يؤخرُها، يقدم العقاب أو يؤخره.. فمن أسمائه المقدم والمؤخر.
قال العلماء: متى أشرق في قلبك نور اسمه المؤخر، صرت في كلِّ الأمور متدبِّراً فتؤخِّر كلَّ ما أخره الله، فما أخره الله تؤخره، وما قدمه الله تقدمه.
فالله يقدم ويؤخر.. وأنت كمؤمن من لوازم تأدُّبك مع اسم المقدم المؤخر أن تقدم أهل الإيمان، وأن تؤخر أهل الدنيا، فإذا دعي الإنسان العادي من قبل إنسانٍ غني تراه يلبي الدعوة مئة في المئة، أما إذا دعي من قبل إنسانٍ فقيرٍ يسكن في أطراف المدينة اعتذر متعللاً بعمله وانشغاله وبعدم فراغه وأنه محمي عن الطعام.. تلبية دعوة الأغنياء والأقوياء من الدنيا، وتلبية دعوة المؤمنين من الآخرة، قال عليه الصلاة والسلام:
((لو دُعيت إلى كُراعٍ لغنيمٍ لأجبت.))
والنبي عليه الصلاة والسلام بهذه المناسبة حضَّنا على تلبية الدعوة فقال:
(( من دُعي ولم يُلبِ فقد عصى أبا القاسم ))
وفي رواية أخرى:
((عَنْ نَافِعٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ دُعِيَ فَلَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ دَخَلَ عَلَى غَيْرِ دَعْوَةٍ دَخَلَ سَارِقًا وَخَرَجَ مُغِيرًا ))
(سنن أبي داوود)
دعي أحد الصحابة ذات مرة إلى وليمة فقال: إني صائم، فقيل له: اذهب معنا وصّلِ وقت طعامنا.
معنى ذلك أن ليس القصد من الدعوة أن تملأ البطن، القصد من الدعوة أن تلتقي بإخوانك، أن تجتمع إليهم، أن تذْكُر الله معهم، يعني أنَّك لو كنت صائماً فلبِّ الدعوة وإن لم تأكل شيئاً، فإذا كان الهدف الأكل ليس للدعوة أية قيمة في أن يلبي صائمٌ الدعوة، وأما إذا كان الهدف اللقاء مع إخوانك وأن تتذاكر معهم أمور الدين فالأكل أصبح شيئاً ثانوياً، فإذا كنت صائماً فلبِّ الدعوة واجتمع إليهم وصلِّ وقت الطعام، وإذاً من دعي ولم يلبِ فقد عصى الله ورسوله من دعي ولم يلبِ فقد عصى أبا القاسم.
حتى إن الرسول صلّى الله عليه وسلم قال لأحد الصحابة وكان صائماً: أفطر، أخوك دعاك وتكلَّف لك وتقول إني صائم، أفطر وصم يوماً مكانه، إذاً المؤمن يقدم أهل الإيمان ودعوة أهل الإيمان.
سرّني أن أحد الأشخاص وصل إلى منصب رفيع جداً، وزاره أستاذه وهو رجل علم ودين، فنزل من الطابق الثالث وفتح له باب السيارة واحترمه أمام الناس ورافقه في صعوده لمنزله، فهذه القصة بقيتْ في ذهني وانطربت لها، أن إنساناً على مستوى رئيس وزارة يزوره أستاذه في التعليم الثانوي مُفْتٍ في بعض المحافظات، له قيمته، رجل وقور مُعمِّر فنزل من الطابق الثالث، وفتح له باب السيارة أمام الناس كلهم، فاحترام العلم من الدين، طبعاً، وإن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم.
فأنت عندما تقدم أهل الإيمان تنعشهم، ألم يقل رسول الله: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، رضاً بما يصنع.. أنت عندما تتخلق بأخلاق الله، تقدم المؤمن وتحترمه، وإذا وجدت فاسقاً أو فاجراً تؤخره، تأخيرك إياه له معنى ردع له وتحجيم لحاله، أمّا أكثر الناس يعظمون أهل الدنيا، ويثنون عليهم، وقد يكون لا يصلي، بل ويشرب الخمر.
ولقد سمعنا عن أدباء في مصر من خلال كتاباتهم أنهم كانوا زُناة في أوروبا، والآن يوصف بأنه الأديب الكبير، المسرحي الكبير، فهذا إنسان غير ملتزم بقيم دينه، مقترف لأكبر المعاصي، فأنت كمؤمن عليك أن تتخلَّق بأخلاق الله، أن تقدم المؤمنين، أن تقدم الورعين، أن تقدم الأتقياء، وأن تؤخر أهل الدنيا العصاة، الفساق، لأن الله عزَّ وجلَّ كما ورد:
((إنَّ الله ليغضب إذا مُدح الفاسق.))
أي إذا مدحت فاسقاً فإنك قلبت الأمور رأساً على عقب، ابنك يعرفه مثلاً منحرفاً، يعرف بيته متفلتاً، وأنت تثني عليه أمام ابنك، وابنك في الصف السابع... تقول عنه: ما شاء الله فهم وذكاء ولباقة وعلم وأدب وأسرة راقية ونسب رغم أنه لا يصلي،سلوكه منحرف وكلامه أحياناً بذيء، والابن يراه أمامه، فهذا المديح لأشخاص ينبغي أن يؤخَّروا استهتار منك وهدر للقيم، أنت كمقدِّم يجب أن تقدم أهل الإيمان، وكلّ إنسان يقدم أهل العلم وأهل الإيمان، يكون ذا إيمان قوي، وإذا وَجَدَ إنساناً عاصياً ومنحرفاً وفاجراً أخّره.
لذلك من السُنّة ألا تحترم المبتدع، فالإنسان المبتدع عقيدته فاسدة، ويروِّج فكراً منحرفاً، ويروّج ضلالات. تحترمه وتعظمه وتبجله وتثني عليه ؟ أنت أحدثت في الناس فتنة وبلبلت الأمور، فإن الله ليغضب إذا مُدح الفاسق.
من تطبيقات هذا الاسم: يجب أن تقدم المستقيم المؤمن الورع، فإذا كانت قيمنا مادية، نقدم الأغنياء، ونقدم الأقوياء، أما إذا كانت قيمنا إسلامية نقدم أهل العلم، تقدم أهل الفضل، نقدم الورعين، الطائعين.
يقول عليه الصلاة والسلام:
((عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلا أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ))
(صحيح البخاري)
هذا هو ديننا، لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقت لقطعت يدها.
لذلك فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم.. فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( اللهمَّ لا تجعل لي خيراً على يد كافرٍ أو منافق ))
لا تخضع لكافر، لا تقبل منه عطاء أو نحوه كأن يقوم بإيصالك بمركبته ويستعلي عليك، فأنت عزيز، أما إذا كان مؤمناً فلا مانع من ذلك، لكن إذا كان إنساناً منحرفاً ومتفلِّتاً يمنّ عليك ويتفضَّل عليك أو تقبل عطاءه ؟ لا فلا تقبل منه شيئاً.
قال العلماء: من أدب المؤمن مع اسم المؤخر.. أن يؤخر حظوظ نفسه، وأن يؤخر نزواتها، أن يؤخر أهواءَها، إنَّ اتباع الهوى هوان وضلال.
واخجلتي من عتاب ربي إذا قال لي أسرفت يا فلان
إلى متى أنت في المعاصي ... تسير مرخى لك العنان
عندي لك الصلح وهو برِّي .. ولي عندك السيف والسنان
ترضى بأن تنقضي الليالي وما انقضت حربك العوان
***
يجب أن تؤخر حظوظ النفس، وقد ذكرت كثيراً: ضع حظوظ نفسك تحت قدميك، إذا كنت تحب الله ورسوله.
قال أحدهم لسيدنا عمر: أتحبني. فقال له: لا والله لا أحبك. فقال له: وهل يمنعك بغضك لي من أن تعطيني حقي ؟ قال له: لا والله، أنت تقدم الحق لأصحابه.
بعض العلماء يقول: " المقدم والمؤخر.. هو الذي يقدم من شاء ويؤخر من شاء على بابه ".
ففي بعض الأيام يفتح لك بابه، وفي بعضها الآخر يغلقه، وأحياناً يحجبك، وأحياناً يفتح قلبك، ويتجلَّى، أولا يتجلَّى، هو المقدم والمؤخر.
فأنت لا تكن عبد الفتح بل كن عبد الفتاح، فالله إذا فتح فاحمد الله على ذلك، وإن لم يفتح فأنت مستقيم ولا تضجر، لا يفتح تعطيشاً لك ثم يفتح عليك فتحاً كبيراً، يضر لينفع، يأخذ ليعطي، ويذل ليعز، ويقبض ليبسط.
أحياناً الإنسان يكون صادقاً مع الله صدقاً من مستوى عالٍ، فالله يقدِّم له قدرات تتناسب مع هذا الصدق.
فلدينا سؤال له جواب وهو: لم أعطى الله فلاناً قدرات عالية ولم يعطها لفلان ؟ يكون هذا المُعطى له طلبٌ عالٍ جداً، الشاب إذا كان طموحاً جداً فيعطى إمكانات تتناسب مع طموحاته، فالله إذا أخر وقدم فالتقديم أولاً متعلِّق بتطلعات الإنسان ومتعلِّق بحكمة وعدالة، فقد تشعر بإنسان في نفسه طموحات عالية جداً، هذه الطموحات تحتاج لقدرات عالية فيمنح هذه القدرات، هذه القدرات قُدِّم بها ولكن لم يقدم بها ظلماً، أو تخصيصاً لا معنى له، بل قدم بها لسببٍ يعلمه الله عزَّ وجلَّ، فكن أديباً مع الله عزَّ وجلَّ.
فإذا قدم الله عليك إنساناً في باب الخير معنى ذلك أن صدقه أكبر من صدقك، ومعنى ذلك أن الله عنده علم أن هذا الشخص له قدم صدق عند ربه أعلى مما تتحلى أنت به، من صدق.
قال العلماء: " هو الذي قدم الأبرار وأخّر الفجار، قدم الأبرار وشغلهم به، وأخّر الفجار وشغلهم بالأغيار ".
فإذا استرذل الله عز وجل عبداً شغله بالدنيا، حتى لكأنه يعيش في قنوات المجاري، أما إذا أحب الله عبداً شرَّفه بمعرفته، فالنبي الكريم بالأُفق الأعلى منزلة، وهناك من يعيش في تفاهات الناس وقصصهم وخلافاتهم وصراعاتهم، في قلبه حسد وغيرة، وحشري في أمور الآخرين، ويدخل فيما لا يعنيه، فإذا غضب الله على إنسان شغله بتوافه الأمور، قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)﴾
(سورة المؤمنون)
اللغو كلُّ حديث فيما سوى مرضاة الله، إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها ودنيَّها، فليلاحظ أحدنا ما الذي يشغله ؟ قد تشغله معرفة الله وخدمة الخلق، ونشر الحق والأمر بالمعروف، وقد تشغله هموم المسلمين، وقد يشغله بيته، وأثاث بيته وطلبات زوجته ونزوات أولاده، فمن كان هذا مستواه فهو بالرثاء جدير، فكلما كبر الإنسان عند الله عزَّ وجلَّ تكبر همومه، وكلما صغر يصبح شغله الشاغل في تفاهاتٍ لا تقدِّم ولا تؤخر.
الإمام الغزالي يقول: " المقدم والمؤخر هو الذي يقرِّب ويبعد، يقرِّب أحبابه، يبعد أعداءه ".
فأكبر عقاب يناله أعداؤه أنه يلعنهم، يحجبهم، وأكبر مكافأة ينالها أحبابه أنه يتجلَّى على قلوبهم.
قال: " يقرّب أنبياءه وأولياءه بتقريبهم وهدايتهم، ويؤخر أعداءه بإبعادهم وضرب الحجاب بينه وبينهم ".
أيها القارئ الكريم... الإنسان يوم القيامة يُنبَّأ بما قدم وأخر.. مثلاً استحق على هذا الإنسان زكاة ماله، وبيته يحتاج إلى طلاء، فإذا قدم أداء زكاة ماله فهو مؤمن، أما إذا قدم طلاء بيته على أداء زكاة ماله أخَّر ما ينبغي أن يقدِّمه وقدَّم ما ينبغي أن يؤخِّره.. ينبأ الإنسان يومئذٍ بما قدَّم وأخَّر.
بعض الناس قد يقدِّم مصالحه الشخصيَّة على دينه، ويقدم دخلاً مشبوهاً على نزاهته، يقدم شيئاً ينفعه في دنياه لكن يغضب ربَّه، ينبأ الإنسان يومئذٍ بما قدَّم وأخَّر.
قد يقدِّم شهوته على طاعة ربه، يُقْدِم على كسب مال غير مشروع على طاعة ربِّه، وكل إنسان يوم القيامة يُنبَّأ بما قدَّم وأخَّر، هذا قدمته وهذا أخرته، هذا فضلته وهذا أهملته، هذا أعطيته وهذا منعته، هذه الشهوة فعلتها خلاف منهج الله، وهذه الطاعة تركتها خلاف منهج الله، فقد قال تعالى:
﴿يُنَبَّؤا الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) ﴾
(سورة القيامة)
من أدعية النبي عليه الصلاة والسلام أنَّه كان يدعو ويقول:
((عَنِ ابْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ وَعَمْدِي وَجَهْلِي وَهَزْلِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ))
(صحيح البخاري)
قدِّم كل ما يُرضي الله وأخِّر شهوتك وكل ما لا يُرضي الله، تكن من أسعد الناس في الدنيا والآخرة
محمد راتب النابلسى