الأحد، 25 مارس 2012

موسوعة العقيدة - أسماء الله الحسنى : المحيى المميت

المحيى المميت

الدرس الخامس والسبعين من دروس أسماء الله الحُسنى والاسم اليوم المحيي المميت، وأكثر الذين ألَّفوا عن أسماء الله الحُسنى جمعوا بين الاسمين في موضوعٍ واحد لأنَّ الله سبحانه وتعالى في أكثر الآيات التي ورد فيها اسم المحيي المميت ورد المحيي المميت معاً في آيةٍ واحدة.
أيُّها الإخوة الكرام... المعنى الأول لاسم المحيي أنَّ الله سبحانه وتعالى يُحيي الأجساد بإيجاد الأرواح فيها.
يعني العلقة في رحم الأم تنمو، لكن بعد أن تنمو يلقي الله فيها الروح، فتتحرَّك والقلب ينبض، والأجهزة تتكامل إلى أن يصبح الجنين طفلاً سوياً، دماغ جمجمة أعصاب للحس أعصاب للحركة، جهاز هضم متكامل، جهاز للتنفس، جهاز دوران، جهاز لطرح الفضلات عظام عضلات أربطة، طفل صغير كان قبل تسعة أشهر نطفةً من الماء المهين، كان حويناً من خمسمائة مليون حوين بعد تسعة أشهر والأم غافلةٌ عن ما في بطنها إذا طفلٌ يخرج من رحم أمِّه سويٌّ مكتمل الخلق.. من أودع فيه الروح ؟ قال تعالى:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً (85)﴾
(سورة الإسراء)
يعني لو درسنا مكوِّنات الحليب وجئنا بكلِّ هذه المكوِّنات هل نستطيع أن نصنع حليباً ؟ لو جئنا بكلِّ مكوِّنات البيضة هل نستطيع أن نصنع بيضةً ؟ ماذا يجري في بطن الدجاجة ؟ وماذا يجري في الخليَّة من الخلايا الثديية للبقرة ؟ هذه الروح.
الكبد.. ما دامت الروح في الإنسان له خمس آلاف وظيفة، فإذا مات الإنسان أُلقي في المهملات، كبد الدجاج.. والدجاج حيّ له وظائف خطيرة، فإذا مات الدجاج أصبح - سودة - ويؤكل، فما سر هذه الحياة ؟
هذه المعدة.. ما دامت الحياة فيها لا تهضم نفسها، أما إذا ذبح الخروف تأكلها وتهضمها معدتك، والحياة فيها لا تهضم بعد أن ماتت تهضم ؟ هناك أمثلة لا تُعدُّ ولا تحصى... فأول معنى من أسماء المحيي.. هو الذي يحيي الأجسام بإيجاد الأرواح فيها.
وردة صنعت من مادةٍ بلاستيكيَّة كبيرة ولها ألوان زاهية تجد أنَّ النفس تعافها، الوردة الطبيعيَّة تشعر وتحس بتعاطف معها عجيب، فيها حياة، فالطبيعي فيه حياة، أما الوردة البلاستيكيَّة لا يوجد فيها حياة.
وقد نرى في واجهات المحلات التجاريَّة أجساماً توضع عليها الأقمشة، تشعر أنَّها بلاستيك أو شمع ليس فيها حياة، أما إنسان أمامك يتكلَّم يتحرَّك يتفاعل يبتسم يضحك يفكِّر، يعتقد لا يعتقد، يناقش، يأكل يهضم يتنفَّس، إنسان.. فرقٌ كبير بين الدُمية وبين الإنسان، من الذي أوجد الروح في الإنسان ؟ الله جلَّ جلاله هو المحيي، فهل هناك أحد من الحاضرين ليس له أبٌ أو أم أو لا يعرف قصَّة خلقه، قصَّة خلقه هو أنَّ أباه تزوج أمِّه وخرج واحد خمسمائة مليون حوين مع البويضة هذا الحوين له غلاف نواة لها غلاف والنواة فيها خمسة آلاف مليون معلومة مبرمجة، وخمسة آلاف مليون معلومة مبرمجة بالبويضة، ويدخل الحوين إلى البويضة ويبدأ الانقسام، تنقسم البويضة الملقَّحة إلى عشرة آلاف قسم وهي في طريقها إلى الرحم من دون أن يزداد حجمها، لو ازداد حجمها لوقفت في الأنبوب وتعثَّر سيرها، كيف تغرس في الرحم ؟ كيف تأتي الدماء غزيرةً إلى الرحم ؟ كيف يتشكَّل هذا الجنين ؟ بِدءً من دماغه إلى قلبه إلى أحشائه إلى أطرافه إلى أن يكون في الشهر التاسع والأيام العشر بعد التاسع طفل مكتمل، يتثائب، يضحك يبكي، يتنفَّس، يهضم الحليب، فيه حياة، فالمحيي هو الذي يوجد الأرواح في الأجسام.
أو المحيي خالق الحياة ومعطيها لمن يشاء، أحياناً إنسان تجده في بيته مصدراً لسعادة البيت كلّه، إذا دخل تلاقي البيت صار عيداً كله، الأولاد يتراكضون إليه يتعلَّقون عليه يجلسون في حضنه الزوجة تستقبله الضيوف يرحَّب بهم، فإذا مات خاف أقرب الناس إليه الدخول إلى غرفته، فأين هو ؟ أقرب الناس إليه زوجته أولاده الضيوف، ما الذي فقده ؟ لو وزناه قبل أن يموت وبعد أن يموت وزنه هو هو، انسحبت الروح فأصبح مخيفاً، هناك من يخاف أن ينظر إلى ميت، من الذي أودع فيه الروح ؟ الله جلَّ جلاله.
الله عزَّ وجلَّ من أسمائه المحيي أي أنَّه خالق الحياة في كلِّ شيءٍ حي، في النبات.. الشجرة حطب يابس يأتي الربيع تزهر، تورق، تثمر، من دبَّ فيها الحياة ؟، هرَّة تولد أمامك أربع هرر صغيرة تنمو ترضع، من أودع فيها الحياة ؟ الله جلَّ جلاله هو المحيي، أتعبد مخلوقاً يحتاج إلى من يحييه ؟ أتعبد مخلوقاً سوف يموت ؟ أم تعبد الخالق المحيي المميت ؟
خالق الحياة في كلِّ شيء، النبات فيه حياة، لو توسَّعنا أكثر: هذه الطاولة التي تبدو لكم جماداً لا يتحرَّك ولا يدرك ولا يسمع ولا ينظر، اسألوا علماء الفيزياء فيها حياة ؟ هذه الطاولة تتألَّف من ذرَّات، والذرَّة عبارة من نواة وكهارب تدور حول النواة، وكل ذرَّة لها معينة الكهارب ومسارات معيَّنة وسرعات معيَّنة، وقد ينتقل العنصر من الطبيعة الغازيَّة إلى الطبيعة الجموديَّة باختلاف كهروبٍ واحد على السطح الخارجي، فحتى الجماد فيه حياة، قال تعالى:
﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)﴾
(سورة الأنبياء الآية: 33 )
﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) ﴾
(سورة يس)
﴿ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾
كلُّ ما في الكون يسبح في أفلاك مغلقة، بدأً من الذرَّة وانتهائاً بالمجرَّة، من الذي أودع الحياة في الجماد ؟ الجماد حيّ والنبات حي والحيوان حي والإنسان حي والله هو المحيي.
أما الجماد.. يشغل حيِّزاً له طول وعرض وارتفاع، لكنَّه لا ينمو ولا يتحرَّك، أما النبات.. يشغل حيِّزاً وله وزن إلا أنَّه ينمو، والحيوان.. يشغل حيِّزاً وينمو ويتحرَّك.
أما الإنسان.. له وزن يشغل حيِّزاً، وينمو ويتحرَّك ويفكِّر. قال تعالى:
﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) ﴾
(سورة الرحمن)
من الذي أودع الحياة ؟ هو الله جلَّ جلاله هو المحيي.
الآن.. يحيي الخلق من العدم، ويحيي الخلق بعد الموت.. إحيائين. قال تعالى:
﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾
(سورة غافر)
الإحياء الأول الإحياء من العدم، والإحياء الثاني الإحياء بعد الموت، أمتنا اثنين وأحييتنا اثنين، معنى الإحياء أنَّه يحيينا من العدم، سبقنا عدم في بطون أمهاتنا، والإحياء الثاني يحيينا يوم القيامة، يبعثنا من قبورنا ونحيا مرَّةً ثانية.
الآن.في حياة معنى آخر، تجلس مع إنسان كتلة من لحم ودم لا يعي خير يوجد، يريد أن يأكل وأن يشرب وأن يتمتَّع، لا يعبأ بقيمة ولا بخلق ولا مبدأ ولا بدين ولا بعقيدة، كائن يبحث عن طعامٍ وشراب وعن لذَّةٍ يقتنصها، تشعر أنت بكل خليَّةٍ في جسمك وبكل قطرةٍ في دمك أنَّ هذا الإنسان ميِّت، أما قلبه في أعلى درجة ونبضه نظامي، تنفسُّه جيِّد، ضغطه جيِّد لو فحصته فهو في أحسن حال مئة في المئة، لكنَّه ميِّت، قلبه ميِّت.
معنى المحيي معنىً جديد.. هو الذي يحيي القلوب بمعرفته والاتصال به، يحيي الأجسام بالأرواح، ويحيي النفوس بمعرفته وطاعته.. تجلس مع مؤمن فيه حياة فيه مبدأ فيه خُلق فيه خجل من رحمة من إنصاف من تواضع وعلم، قال تعالى:
﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾
(سورة الأنعام)
﴿ َوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾
بالمعنى الثالث.
أول معنى.. يحيي الأجسام بإيجاد الأرواح فيها وهي من عدم .
المعنى الثاني.. يحيي النفوس بعد موتها، المعنى الثالث.. يحيي القلوب بمعرفته والإقبال عليه.
المؤمن حيّ.. يا بُني مات خُزَّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم موجودة.
أيُّها الإخوة.
﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾
هذا المعنى الثالث.. تجد المؤمن حيِّ القلب، إذا قرأ القرآن تدمع عينيه، إذا قرأ القرآن يقشعرُّ جلده، يَجِفُ قلبه ويضطرب، يحبُّ ربَّه، يحبُّ طاعته، يحبُّ الخير، يصغي إلى الحق، ينطق بالحق، يذكر الله، يذكِّر بالله يدعو إلى الله يفصِّل يبيِّن يشرح، له أهداف كبيرة سامية جداً يسعى إلى مرضاته.
يحيي الأجسام بإيجاد الأرواح فيها، ويحيي القلوب بمعرفته والإقبال عليه، قال تعالى:
﴿يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾
(سورة الحديد)
﴿وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) ﴾
(سورة النحل)
﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)﴾
(سورة فاطر)
﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(5)﴾
(سورة الجاثية)
﴿ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾
بإنزال المطر.
والمحيي كما قال بعض العلماء: " يحيي العوالم بسرِّه "، العوالم جمع عالم كما في قوله تعالى:
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)﴾
(سورة الفاتحة)
﴿ الْعَالَمِينَ ﴾
جمع عالَم، عالَم الحشرات، عالَم الفيروسات، عالم البكتيريات، عالم الأحياء الدقيقة، الآن توجد بحوث جديدة تشير إلى أنَّ هناك مسببات للمرض هي كائنات حيَّة أقلُّ من الفيروس، أصغر مخلوق هو الفيروس، الآن في مسببات تسببها هذه الكائنات التي هي أصغر من الفيروس مرض جنون البقر، أقل من الفيروس وهو كائن حي.
أحياناً ترى على صفحة الكتاب نقطة تمشي أقل من عُشر الملِّيمتر فلو قسمنا المليمتر إلى عشر أقسام لكانت هذه الدويبية عشر المليمتر تمشي، ولو وضعت يدك أمامها لوقفت، ومعنى ذلك أنَّها أدركت أنَّ هناك حاجز أمامها، والجرثوم أصغر منها، والفيروس أصغر من الجرثوم وبعض مكوِّنات الأمراض أصغر من الفيروس، أودَعَ فيها الحياة.
وهناك الحوت الأزرق يزن مئة وخمسين طناً، ووجبته المعتدلة أربعة أطنان، وإذا أرادت أُنثاه أن ترضع وليدها ترضعه في الرضعة الواحدة ثلاثمائة كيلو من الحليب، أي طناً من الحليب في الرضعات الثلاث، يستخرجون منه تسعين برميلاً من الزيوت، خمسين طناً من اللحم، خمسين طناً أخرى من الدهون، ودماغة كتلة كبيرة جداً، وهذا الفيروس فيه حياة، أقل من الفيروس في حياة، والحوت الأزرق فيه حياة، هو المحيي.
إذاً أحيا العوالم بسرِّه.. عالم الأسماك، عالم الطيور، عالم الحشرات، عالم الفراشات، عالم البكتيريات، عالم الفيروسات، عالم الإنسان، عالم الحيوانات البريَّة، عالم النباتات، كل شيء بيده.
قال أحيا العوالم بسرِّه، وغمر الموجودات بوافر برِّه، فهل هناك مخلوقٌ لا يأكل أو لا يشرب ؟ ببعض قمم جبال هيمالايا توجد ينابيع ماء، فما معنى أن تجد ينبوع ماء في قمَّة جبل، كطالب دارسٍ للفيزياء بحسب معلوماتك عن قانون الأواني المستطرقة ؟ ما معنى وجود حاء في جبل ؟ معنى فيه مستودعات للمياه وهناك تمديدات إلى الجبل الأدنى ارتفاعاً، لأنَّ هناك أنواعاً من الوعول تعيش في قمم الجبال، رحمةً بها جعل الله لها بعض الينابيع في قمم الجبال.
إذاً.. هو الذي أحيا العوالم بسرِّه، وغمر الموجودات بوافر برِّه، فلو مسكت بسنبلة من القمح فهي غذاء كامل، ساق هذه السنبلة بفرمِهِ يصبح تبناً، وهذا التبن هل تصدِّق أنَّ ساق السنبلة غذاء كامل للحيوان، وهو أرقى أنواع العلف، وأغلى أنواع العلف، كيف أنَّ القمح غذاءٌ كامل، ساق السنبلة غذاءٌ كامل، من صمَّم السنبلة للإنسان وساق السنبلة للحيوان؟ قال تعالى:
﴿وَفَاكِهَةً وَأَبّاً (31) ﴾
(سورة عبس)
الفاكهة للإنسان، والأبُّ للحيوان.
قال: وجمَّل نفوس المخلصين بالمجاهدة.
بقي شيء الحقيقة أنَّ المؤمن حيّ تنجذب نحوه ماالذي يَجذبُ فيه ؟ أنت ضع في إناءين باقة من الورد البلاستيك وباقة من الورد الطبيعي وانظر إليهما تجد نفسك منجذباً للطبيعي، تشمُّها وتنتعش، تنظر إليها وتستمتع، فيها حياة نضارة في ألوانٌ رائعة، كذلك المؤمن كالوردة الطبيعيَّة.
فقد تجد إنساناً ذكياً وعاقلاً ومتجمِّلاً وأنيقاً لكنه كالوردة البلاستيكيَّة. النفوس لا تنجذب إليها، لذلك أمدَّ أحبابه بنور المعرفة والمحبَّة، منح المخلصين أنوار القربات، أوصلهم إليه بعد الغربة، قال تعالى:
﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ﴾
أيُّها الإخوة... أنت بإمكانك أن تملأ قلبك حياةً بالاتصال بالله، أن تملأ قلبك غنىً بالاتصال بالله، أن تملأ قلبك طمأنينةً بالاتصال بالله، أن تملأ قلبك قناعةً بالاتصال بالله، أن تملأ قلبك أمناً بالاتصال بالله، القلب الموصول حيّ، والاتصال ثمنه الطاعة، قضيَّةً سهلةً بسيطةً جداً أطع واتَّصل، فأنت مؤمنٌ حيُّ القلب، لا سمح الله أعصِ وانقطع. القلب ميِّت، حقدٌ على ضغينةٍ على لؤم على كبر على أنانية، على استعلاء، على كذب على جحود، على خيانة القلب مقطوع وميِّت.
قال: أدب المؤمن مع هذا الاسم هو الإكثار من ذكر الحيّ، أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيوم وأتوب إليه. نقولها بعد الصلاة، أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم بعد الصلاة الحيَّ القيوم مصدر حياة قلوبنا، مصدر حياة أرواحنا.
قال: أدب المؤمن مع هذا الاسم هو الإكثار من ذكر الحيّ حتى يحيي القلب بنور المعرفة، وتُضيء النفس بأسرار المكاشفة، والإكثار من ذكره ولا سيما في جوف الليل.
كانت إحدى المؤمنات التقيَّات وهي السيِّدة رابعة العدويَّة إذا كانت في جوف الليل قالت: يا رب أغلقت الملوك أبوابها، وخلا كلُّ حبيبٍ بحبيبه، وها أنا ذا بين يديك أتوسَّل إليك، أرجوك أن تغفر لي ذنبي، أن تحيي قلبي، أن تقيل عثرتي، أن تقبل توبتي، أن تمدَّني بمدد من عندك.
إذا لم يكن للإنسان مع الله مناجاة وصلة في جوف الليل، في الصلوات المكتوبات، في السجود، فليس هناك شيء أجمل من أن تناجي خالق الكون من أن تتصل به، لكن الله عزَّ وجلَّ كلُّنا عباده وليس هناك فرقاً بين عبداً وآخر إلا بالطاعة، أطعه وادخل عليه، أطعه، أطعه وأقبل عليه، أطعه وناجِه، أطعه وابتهل إليه ترَ بابه مفتوحاً لك أبداً.
قال أحد العارفين بالله الفضيل بن عياضٍ كان مضرب المثل بالصبر سُئل مرةً يا فُضيل ممن تعلَّمت الصبر؟ قال: من طفلٍ صغير. قالوا: كيف ؟ قال: كنت في أحد سكك المدينة، فإذا بابٌ يفتح ويلقى منه طفلٌ صغير ويغلق الباب، هذا الطفل بدلاً من أن يعدو مبتعداً عن بيته وقف على عتبة البيت يبكي ويستعطف ويرجو ويعِد، إلى أن فتحت له أُمُّه الباب وضمَّته وقالت: يا ولدي من لي غيرُك ! الفضيل صار يبكي، قال: سبحان الله لو صبر الناس على باب الله لفتحه لهم.
لو صبر الناس على باب الله.. صليت وما شعرت بشيء أعد الصلاة، قرأت القرآن وما شعرت بشيء فأعد القراءة، جلست لذكر الله وبعد المئة تسبيحة الأولى اكتفيت.. لم تصبر، سلعة الله غالية، سلعة الله لا تأخذها مباشرةً إلا بعد تعطيش لنفسك وتأخير، قال: سبحان الله لو صبر الناس على باب الله لفتحه لهم.. لذلك:

أخلِقْ بذي الصبر أن يحظى بحاجته
ومدمن القرع للأبواب أن يلجأ
***
أخلق.. إخواننا الكرام... صدقوني ما في أعظم من إنسان له صلة بالله، فأحياناً إذا كان هناك إنسانٌ عظيمٌ ينادونه قائلين: سعادة فلان.. وقديماً دولة فلان.. لأنَّه دولة، فالله سمَّى إبراهيم: أمَّة فقد قال تعالى:
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ﴾
(سورة النحل)
وإذا كان من له صلة بالله، فالصلة فيها علم، فيها حلم، فيها توازن، فيها طمأنينة فيها حكمة، فيها رحمة، فيها إنصاف، فيها عدل، فعلاً صار أمَّة.
﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾
فالقضيَّة بسيطة جداً، لا يكلِّف الله نفساً إلا وسعها، أطعه واتصل به فأنت حي.
لو تفلَّتَّ من منهجه وانقطعت عنه فأنت ميِّت، ولو كنت في أوج حياتك، في أوج شبابك، في أوج نشاطك.. ميِّت.
﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾
﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾
قال تعالى:
﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)﴾
(سورة فاطر)
مرة التقيت بإنسان من بلد أجنبي فقلت بنفسي لعليِّ أذكِّره بالله، فذكرت له بعض الكلمات فقال لي: هذه المعلومات لا تهمُّني ولا أهتمُّ بها ولا تعنيني ولا أبحث عنها، أنا يعنيني امرأةٌ جميلة، وسيَّارةٌ فارهة ومنزلٌ واسع. وانتهى الأمر بحياتي لم أشعر بإنسان ميِّت كهذا الإنسان، منتهي، فأحياناً يأتي الطبيب فيجس النبض فلا يجد نبضاً فيطلب مرآة فيضعها أمام الأنف فلا يجد بخاراً من الماء خارجاً مع التنفُّس، ويأخذ كاشفاً للضوء فيفتح عينه ويسلط عليها الضوء فلا تصغر الحدقة إذاً هذا ميِّت انتهت حياته، وعظَّم الله أجركم، فالفحص الأول بالنبض، وبالتخطيط الدماغي إذا كان الخط مستقيماً فهذا ميِّت، فطالما هناك تعرُّجاً فهناك حياة، فموت الدماغ ولو كان قلبه يعمل إذا ظهر التخطيط خطاً مستقيماً ينتهي ! فلم أشعر بإنسان ميِّت كهذا.. فقد تكلَّمت معه عن خلق الله وهن إعجاز الكون، قال: هذه المعلومات لا تعنيني ولا أعبأ بها ولا أكترث لها، فقط ثلاثة تعنيني: امرأةٌ جميلة، وسيَّارة فارهة، ومنزلٌ واسع.. وقد مات منذ حوالي سنتان بحادث.. فقال تعالى:
﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105) ﴾
(سورة الكهف)
هان الله عليه فهان على الله.
ورد اسم المحيي في القرآن الكريم، فجاء في سورة الروم:
﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْييِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾
(سورة الروم)
ألم تدخل إلى بستان في الربيع ؟ قطعة من الجنة، انظر إليه في الشتاء موت، ترى الأرض جرداء، شجر كأنه حطبٌ يابس، أدخل إلى البستان في الربيع.
﴿ فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْييِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
وفي سورة فصلت قال تعالى:
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(39)﴾
(سورة فصلت)
وفي سورة البقرة:
﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ﴾
(سورة البقرة)
وفي سورة آل عمران قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(156)﴾
(سورة آل عمران)
وفي سورة الأعراف قال تعالى:
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(158)﴾
(سورة الأعراف)
آياتٌ كثيرةٌ جداً ورد فيها اسم المحيي والمميت معاً يحيي ويميت.
كلٌّ منا يتمتع بصحته والحمد لله، هل يدري متى سيموت ؟ وفي أي مكان سوف يموت؟ وبأي سببٍ سوف يموت ؟ يموت في بلده أم في بلدٍ آخر ؟ يموت ليلاً أو نهاراً ؟ يموت صبحاً أو مساءً ؟ يموت وحوله أهله أم وحده ؟ من يدري.. يحيي ويميت، ومادام الإنسان لا يدري متى يموت، ينبغي أن يستعدَّ للموت، فقد قال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) ﴾
(سورة آل عمران)
أي لا يأتيكم الموت إلا وأنتم في أعلى درجات الاستسلام إلى الله عزَّ وجلَّ.
الآن الموت ضد الحياة، ماتت الريح إذا ركدت وسكنت، مات الإنسان إذا نام، سُمي النوم موتاً لأنَّه يزول معه العقل والحركة تمثيلاً وتشبيهاً لا تحقيقاً، والموات الأرض التي لم تُزرع.. من أحيا أرضاً مواتاً فهي له، وفلان موتان الفؤاد أي بليد غير ذكي.
ليس من مات فاستراح بميِّتٍ إنما الميِّتُ ميِّتُ الأحياء
***
المميت في حق الله تعالى هو مُقَدِّرُ الموت على كلِّ من أماته، ذكرت قصَّة أعيدها كثيراً لأنَّها مؤثِّرة، جلست مع إنسان ساعة تقريباً حدَّثني عن طموحاته إلى عشرين عاماً.. سيسافر من البلد الفلاني إلى البلد الفلاني إلى البلد الفلاني إلى الفلاني، وسيعود وسيفتح محلاً تجارياً، ويكبر أولاده، وفي اليوم نفسه رأيت نعوته على الجدران مساءً.
لا أحد منا يعرف متى سيموت ؟ هل سيموت في الستين من عمره أم في الخامسة والخمسين أم في الثامنة والأربعين، أم في الثالثة والسبعين، أم في التسعين من عمره ؟ لا أحد يعرف، فهناك شبابٌ يموتون.
إنسان مات قبل عامين ترك ألف مليون، أحد الورثة نصيبه تسعين مليون، أغلق محلَّه التجاري وبدأ في متابعة المعاملات فذلك أربح من كل عمله، و ستَّة أشهر بالتمام والكمال من دائرة إلى دائرة لاستخراج براءة الذمَّة، ودخل إلى الحمام فإذا به يموت فجأة قبل أن يقبض قرشاً واحداً، فيا ترى وهو يبحث من مكان إلى مكان هل كان يتصوَّر أنَّه سيموت قبل أن يقبض هذا المبلغ ؟ الذي مات مسكين ما زال شاباً لن يدركه الموت بعد.
من منا يعرف متى سيموت ؟ تجد شخصاً بذهنه بخطط يستغرق عشر سنوات لتحقيقها، ويأتي الموت فجأةً:
كم من عروسٍ زيَّنوها لزوجها وقد قُبِضت أرواحهم ليلة القدر
***
ليلة العرس ماتت.. فما دام الموت ليس بيدنا فالإنسان العاقل هو الذي يكون مستعداً للموت، وهو شاب يدرس يؤسس عملاً ما يتزوَّج، فالموت ليس معناه أن لا يعمل الإنسان ولكن إن حسب للموت حساباً يستقيم، فإذا قال: أنا سوف أموت فجأةً سيستقيم، أيَّةُ ساعةُ جاء الموت أهلاً وسهلاً، مرحباً بالموت.
وا كربتاه يا أبتِ. قال: لا كرب على أبيكِ بعد اليوم، غداً نلقى الأحبَّة محمداً وصحبه.
شيء عند معظم الناس مصيبة ولكنَّ عند المؤمن عرس هو الموت، والله سمَّاه في القرآن مصيبة الموت لأنَّ الإنسان في حياته الدنيا ينمو، قد يكون طالباً فيحصل على الليسانس ثم الدكتوراه فيصبح دكتوراً، يتعيَّن بمشفى وظيفة ويشتري بيتاً ويتزوَّج، ثم ينتقل إلى بيت أكبر ثم يضع جهازاً للتكييف، ثم يشتري سيارة، وبعد ذلك يأخذ بيتاً في المصيف، ينمو ويكبر، من بيت كانت مساحته مئة متراً إلى بيت مساحته مائتان من الأمتار وبمنطقة جميلة، فهو ينمو يحسِّن أثاثه، ويزين بيته وبالسجاد فهو ينمو، ثم يأتي ملك الموت ويخلِّصه من الدنيا وينزعه منها في أقل من ثانية التي قام بجمعها في خمسين سنة أو بثمانين سنة درجة درجة، ويقبض روحه في ثانية واحدة ولا يأخذ شيئاً معه، حتى لو كان في فمه سناً من الذهب لخلعوه - بالبنسة - ويقولون من حرصهم الحي أبقى من الميِّت.. لذلك: الله محيي مميت.
قال: مقدِّر الموت على كلِّ من أماته ولا مميت سواه.. يجب أن تعتقد اعتقاداً جازماً أنَّه ليس في الكون جهةٌ تقرر إنهاء الحياة إلا الله، ولو بدا لك بالعين أنَّ فلاناً أنهى حياته.. لا مهما بدا لك بعينك القاصرة وعقلك الضعيف أن فلاناً أنهى حياة فلان، فلاناً قتل فلان، لا يموت الإنسان إلا بأجله الذي حدده الله له.
لذلك كلمة الحق لا تقطع رزقاً ولا تقرِّب أجلاً، الذي أودع الحياة هو وحده الذي يقرر الموت علاقتك مع الله، إن آمنت هذا الإيمان تغدو شجاعاً، تغدو جريئاً، تغدو صادقاً، تعتمد على الله لا تخاف أحداً، أما إذا توهَّمت أنَّ فلاناً يمكنه أن ينهي الحياة عبدَّته وأنت لا تشعر، عبدَّته من دون الله، وأرضيته بسخط الله، وأشركته مع الله.
ولا مميت سواه... قَهَر عباده بالموت، مهما كبر الإنسان وعلا سيموت.
فقد قرأت كتاباً لطبيبٍ لامع حوالي مئتي مقالة كل واحدة أروع من الأخرى، كيف يجب عليك أن تتجنَّب الملح، وكيف تقوم بأداء التمارين الرياضيَّة، والمحافظة على المفاصل الجلد المعدة الأمعاء القلب، والفيتامينات، والمواد السيللوزيَّة الفواكه الخضراوات، نضارة الجلد، نضارة القلب، فمعنى ذلك أنَّه لو قرأ أحد الكتاب وقام بتطبيق ما فيه من تعليمات فلن يموت أبداً.. لكن المؤلِّف بعد ذلك هو الذي مات.
فسبحان الذي قهر عباده بالموت، فالطغاة يموتون، الأنبياء يموتون، كذلك الصالحون الأشرار يموتون، الأذكياء يموتون، الأغبياء يموتون، النساء تموت والرجال يموتون أبداً فسبحان من قهر عباده بالموت.
فقد قرأت كتاب قصص العرب وهو كتاب ممتِع جداً، فيه قصص واقعيَّة وقعت في العالم العربي، وبعد ما قرأته نظرت نظرة كانت بالغة الموعظة، قلت كلُّ هؤلاء ماتوا، الأغنياء والفقراء، الأقوياء والضعفاء، الأصحاء والمرضى، الأذكياء والأغبياء، الظُلاَّم والمظلومين كلُّهم ماتوا، وسيأتي يومٌ بعد حين كلُّ من تراه عينك في الطريق سيموت.. فنحن الموجودين هنا بعد مئة سنة لن تجد أحداً هنا وكلَّنا تحت رحمة الله، وتحت أطباق الثرى، وقبل مئة سنة لم يكن أحد منا موجوداً.. محيي مميت، سبحان من قهر عباده بالموت.
الإنسان يكون كل شيء بيده وكل الأطباء في خدمته، أي دواء من أي مكان يأتي فوراً، ومع ذلك يموت الإنسان، فالله قدَّر الموت على العباد، فالأنبياء ماتوا وسيِّدنا النبي محمد مات اللهمَّ صلِّي عليه، فالموت هذا مما قهر الله به عباده.
فعادوا إلى الأرض وطواهم التراب.. فأكبر موعظة إن كان لديك وقت فراغ ورأيت جنازة فامشِ وراءها، فلاحظ عندما يضعون النعش على قبرين ويرفعوا الغطاء ويحملون الميِّت، وينزل شخصٌ إلى القبر ليستلقيه ويضعونه ويكشفون عن وجهه ويلقِّنونه، ويطلع الحفَّار من حفرة القبر ويضع بلاطات من الأحجار ويجرف عليها التراب، ويقف أولاده يتقبلون التعازي في والدهم وصفحة انطوت.. وفي بيته لا أحد يتسائل لماذا فلان لم يَعُد ؟ لن يرجع وانتهى الأمر بموته، أما إذا كان حيّاً يسألون عنه وعن سبب تأخيره حتى الساعة الثانية عشر فأين هو، وإن كان يزور أخته فيخبرونه ويسألون عنه، أما إذا مات ودفن فلن يسألوا عنه، حتى ملابسه لكي لا يتذكَّروه يعطونها للفقراء على الفور، فأكثر الأسر لا يتركون له غرضاً من أغراضه من ألبسة أو من أحذية أو أي شيء له حتى لا يتذكَّروه، فكأن صفحة وانطوت.
فالإنسان عندما يولد كلُّ من حوله يضحك وهو يبكي وحده، وإذا مات كلُّ من حوله يبكي.. فإذا كان بطلاً يضحك وحده، فالآن يجب علينا جميعاً أن نعمل ونشتغل بطاعة الله وبذكره بالعمل الصالح بطلب العلم بتعليمه، بالأمر بالمعروف بالنهي عن المنكر، بالأذكار بالأوراد، بالتلاوة للقرآن، فباب الله مفتوحٌ للكل.. يجب أن نستعدَّ للموت بطاعة الله، أن نستعدَّ للموت بالتوبة إلى الله، أن نستعدَّ للموت بالعمل الصالح، ومفهوم الغِنى والفقر بعد العرض على الله، هو الغنى غنى العمل، والفقر فقر العمل.
فهناك أغنياء تركوا مبالغ خياليَّة.. ثلاثين مليار دولار، وابنته انتحرت، فبالعالم الغربي أغنياء مخيفة تبلغ أموالهم أرقاماً فلكيَّة.. كملك الحديد، وملك الصلب، وغيرهم ماتوا كلُّهم.
المميت.. قال: هو الذي أمات الجبابرة رحمةً بأحبّابه، أمات الظلمة لعدم احترامهم لجنابه، أمات الأرض إذ خلت من النبات.
هو المميت.. فأحياناً تجد أرضاً ميِّته لعدم هطول الأمطار.. فقد رأيت صورة عن أفريقيا. شيء مخيف، الأشجار يابسة والحيوانات كلَّها نافقة، والشعب هاجر من البلاد وتركها لعدم سقوط المطر، فأمات الجماد وأمات الحيوان وأمات النبات وهجَّر الإنسان، تجد فلاحاً يملك بقرة ثمنها سبعين ألف وتموت فجأةً، ففي ثانية واحدة أين ثمنها ؟ فقد ذهبت وذهب ثمنها.. فالحياة بيد الله عزَّ وجلَّ.
لذلك الله عزَّ وجلَّ مميت ليعلم الناس أنَّ الله قادرٌ على التصرُّف بالإحياء وبالإماتة متى شاء ومتى أراد.
جاء من أمريكا وهو يحمل شهادة الدكتوراه والبورد، أنزل حقائبه من السيارة، وكان السائق ليس منتبهاً فرجع للخلف فصدمه وحصره بين السيارة والجدار، ودون أن يبلِّغ أهله بمجيئه.
أو يموت يوم عرسه، أو أخذ شهادة ويموت، فالقصص مذهلة سبحان من قهر عباده بالموت، شخصٌ خطب وذهب إلى أمريكا مسافراً وقد مات وهو في المطار ترك خلفه ملايين من الأموال، ولو كان العقد مكتوباً بينه وبين زوجته لربحت نصف المبلغ، ففاتها عليها كل شيء لعدم كتابة العقد، فلا أحد يعرف متى موته ولا بأي طريقة سيموت أو في أي مكان.
هناك إشكالٌ في موضوع المميت.. إذا كان الله تعالى هو المميت، فما معنى قوله تعالى:
﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ﴾
(سورة السجدة الآية: 11)
ومعنى قوله تعالى توفته رسلنا أيضاً:
﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) ﴾
(سورة السجدة)
يجيب بعض العلماء عن هذا التساؤل: خَلقُ الموت في الحقيقة من الله عزَّ وجلَّ، خلق فعل الموت من الله، لكنَّ الموت في عالم الأسباب مفوَّضٌ إلى ملك الموت أو إلى أتباعٍ وأعوان.
الفاعل في الحقيقة هو الله، أحياناً يضاف ملك الموت إلى فعل الموت أو يضاف إلى الأعوان.
﴿ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ﴾
إذا قال الله عزَّ وجلَّ:
﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ﴾
الفاعل الحقيقي هو الله، أما في عالم الأسباب عن طريق ملك الموت أو.
﴿ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ﴾
ففي الحقيقة الله المتوفِّي، وفي المجاز توفَّاه ملك الموت، أو توفَّته رسلنا، إلا أنَّ الموت ورد في القرآن الكريم بمعاني متعدِّدة، وهي خمسة معانٍ تقريباً.
أولاً.. الموت: انعدام القوَّة النامية في الإنسان والحيوان والنبات لقوله تعالى:
﴿يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾
(سورة الحديد الآية: 17)
حينما تنمو الأرض بالنبات هي الحياة، وحينما لا تنمو بالنبات هو الموت.. وهذا هو المعنى الأول للموت.
المعنى الثاني.. زوال القوَّة الحساسة في الإنسان كما جاء في القرآن الكريم على لسان السيِّدة مريم:
﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا﴾
(سورة مريم الآية: 23 )
﴿ يَالَيْتَنِي مِتُّ ﴾
يا ليتني لم أُحِسَّ بهذا الحمل.
النوع الثالث.. زوال القوَّة العاقلة كما قال تعالى:
﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
كان مغفَّلاً وكان جاهلاً فاستيقظ وأصبح حيّاً، فعدم النماء موت، عدم الإحساس موت عدم الإدراك موت.
النوع الرابع.. الحزن والألم والكدر، والضيق موت قال تعالى:
﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ﴾
(سورة إبراهيم الآية: 17 )
﴿ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ﴾
الطريق مسدود فبالبيت جحيم، والشغل متوقِّف أصدقاء تخلَّوا عنه،ويأتيه الموت من كل مكان.
﴿ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ﴾
انعدام السعادة انعدام التوفيق انعدام الحفظ، انعدام النجاح في الحياة، الطرق كلها مسدودة.. موت، يقول لك: الحياة مثل الموت هذا النوع الرابع.
النوع الخامس.. النوم، فالنوم موتٌ خفيف، والموت نومٌ ثقيل:
((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ لِيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ ثُمَّ لِيَقُلْ بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ ))
(صحيح البخاري)
فأحدنا إن نام إما أن يصحو من النوم أو لا يصحو، فإذا لم يصحُ من نومه الله يرحمه وإذا صحا من نومه الله يحفظه من المعاصي، قال تعالى:
﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) ﴾
(سورة الزمر)
حظُّ المؤمن من اسم المميت أن يذكره كثيراً، قال عليه الصلاة والسلام:
(( أكثروا ذكر هازم اللذات مفرِّق الأحباب مشتت الجماعات ))
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم:
((عش ما شئت فإنَّك ميِّت، أحبب ما شئت فإنَّك مفارق، اعمل ما شئت فإنَّك مجزيٌّ به.))
وقال:
((عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ))
(سنن ابن ماجة)
إنَّ أكيسكم - يعني أعقلكم - أكثركم للموت ذكرا، وأحزمكم أشدَّ استعداداً له، وإنَّ من علامات العقل التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والتزوِّد لسكنى القبور، والتأهُّب ليوم النشور