الأحد، 25 مارس 2012

موسوعة العقيدة - أسماء الله الحسنى : المانع

المانع

مع الاسم السابع والسبعين من أسماء الله الحُسنى، والاسم هو المانع.
 فالله سبحانه وتعالى مانع، قد تفهم من كلمة مانع أنَّه يُعطي ويمنع، يخفض ويرفع، يُعزُّ ويذل، ولهذا الاسم معانٍ كثيرة غير المعنى الأوليّ الذي يتبادر إلى ذهنك.
 المنعُ في اللغة ضدُّ الإعطاء.. في البلاغة ما يسمَّى بالمطابقة.. كأعطى ومنع، ضرَّ ونفع، خفض وأعلى، قبض وبسط، هذه بالأفعال، أما بالأسماء.. حرٌّ وقر، عدلٌ وجور، صالحٌ وطالح، كريمٌ وبخيل.. إلى آخره.. إذا جاءت الكلمات متعاكسة في معانيها فهذا ما يسمَّى بالمطابقة، فإذا جاءت مجموعة كلمات تعاكس مجموعة كلمات في جملة واحدة فهذا ما يسمَّى بالمقابلة.
 فالمانع في اللغة.. المنع ضدُّ الإعطاء، منع ضدُّه أعطى، والمنع ضدُّ العطيَّة، يعطي أو يمنع، والمعنى الذي قد لا يخطر في البالي: هو المانع بمعنى الحماية.. يمنعك من خصومك، يمنعك من أعدائك، يمنعك من أن ينزل بك شر، يمنعك من الأشرار، يحميك، يحفظك، أنت في حمايته، أنت في مَنَعة، لا أحد يصل إليك، لا أحد يستطيع أن ينال منك، فهذا معنى آخر من معاني المانع.
 المانع: هو الذي يمنعك من كلِّ ما يؤذيك، يمنعك من العطب في دينك ودنياك، الله عزَّ وجلَّ مانع للمؤمنين، يدافع عنهم ويحفظهم ويوفِّقهم، ويؤيِّدهم.
 المانع بشكل مطلق.. هو الذي يجعل الحيلولة بين شيئين، إنسان هجم على إنسان لينال منه فاحتمى بإنسان قوي، فهذا القوي منع الأول من أن يعتدي على الثاني فهو مانع أي جعله في منعة وحماية، وهذا غير معنى المانع ضدُّ الإعطاء، المانع هو الحافظ.
 قولهم.. حصنٌ منيع أي لا يستطيع أحدٌ أن يصل إليه، فلانٌ في عزٍّ ومنعة، أي هو عزيز ممتنع على من يرومه، الشعور بالمنعة شعور رائع جداً تشعر أنَّك في حماية الله، أنَّ الله معك، أنَّ الله يحفظك، أنَّ الله يؤيِّدك، أنَّ أحداً لا يستطيع أن يصل إليك، هذا الشعور يقابل الطمأنينة، يقابل الشعور بالأمن.
 فأحياناً الإنسان يركب بمركبة حديثةً جداً فيشعر بعدم وجود مشكلة فيها ولن تقطعه بالطريق، وأحياناً يركب مركبةً قديمةً جداً وقد يصل بسلامة لكنه طوال الطرق يكون قلقاً يخشى أن تتعطَّل، فالمنعة شعور بالأمن والاطمئنان، عدم توقُّع المصيبة.. وقد قالوا: توقُّع المصيبة مصيبةٌ أكبر منها.
 وقالوا: أنت من خوف الفقر في فقر، وأنت من خوف المرض في مرض. لذلك فالله عزَّ وجلَّ إذا أراد أن يعاقب المعرضين ينزع من أحدهم شعور الأمن، هم أغنياء وأقوياء وأذكياء ومع ذلك خائفون، يقذف الله في قلوب المشركين الرعب بسبب شركهم، وعلامة الإيمان الطمأنينة لأنَّك مع الله، والله معك، ومن كان مع الله لا يخشى أحداً إلا الله، وللأنبياء مواقف صعب تفسيرها.. فهذا سيِّدنا هود يخاطب قومه قائلاً لهم:
﴿مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56))
(سورة هود)
 فبالنهاية لك مشاعر نفسيَّة، هذه المشاعر النفسيَّة مهمةٌ جداً جداً في حياتك، وفي معادك إلى الله، لأنَّ هذه المشاعر الراقية تقودك إلى أن تعمل عملاً صحيحاً، والعمل الصحيح سبب سعادتك في الدنيا والآخرة، والمشاعر السوداويَّة تثبِّط عزائمك، فأحياناً الإنسان يصاب بمرض نفسي، هذا المرض يقعده في البيت، يمنعه من العمل، فيلجأ إلى التدخين، إلى المخدرات أحياناً، وبهذا المرض النفسي يتوهَّم أنَّ الناس كلَّهم أعداؤه، فالحالة النفسيَّة مهمِّة جداً، أهم شيء تعيشه حالتك النفسيَّة، فالمؤمن له حالة شعورية عالية جداً، وأساسها أنَّه ممنوع، أي أنَّ الله منع خصومه أن يصلوا إليه، ومعنى قوله تعالى:
﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا )
(سورة الطور)
﴿ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾
 أي بحفظنا وتوفيقنا ورعايتنا.
 وفي بعض المعاجم.. المانع في أسمائه جلَّ ذكره هو الذي يمنع من يستحقُّ المنع، ما كلُّ واحدٌ من الناس يستحقُّ المنع، فهناك إنسان لا يستحقُّ المنع بل يستحقُّ أن يتورَّط، يستحقُّ أن يكون مكشوفاً، يستحقُّ أن يصل أعداؤه إليه، فقد قال تعالى:
﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا )
(سورة الممتحنة)
 إذا لم يستقم الإنسان يفتن بالكفَّار، ينالون منه، لهم عليه ألف سبيلٍ وسبيل، لأنَّ الله لم يمنعه، لأنَّه ما استحقَّ المنع، استحقَّ أن يصلوا إليه، استحقَّ أن ينالوا منه، استحقَّ أن يتحكَّموا فيه، استحقَّ أن يقهروه، أما إذا كنت مطبِّقاً لمنهج الله، إذا كنت مع الله عزَّ وجلَّ فأنت ممن يستحقّ المنع، عندئذٍ يمنعك الله عزَّ وجلَّ.
 وبعد، فالعوامل الممرضة موجودة في الدنيا، إنسان يصاب، إنسان آخر لا يصاب، الذي لم يُصب ممنوع من قبل الله عزَّ وجلَّ، والذي أُصيب سمح الله لهذا الجرثوم ولهذا المرض أن يفعل فعله، كلمة (ممنوع) شيء دقيق الدلالة جداً، يعني أنت تحوطك رعاية الله، لا يسمح الله لأحدٍ أن يصل إليك، إنَّك معه، هو يحميك.. فقد قال تعالى:
﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )
(سورة يوسف)
﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾
 سبق أن ذكرت كيف أنَّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام اتجه إلى بني النضير مع ثُلّة من كبار أصحابه ليطالبهم بما عليهم من عهدٍ وقَّعه معهم، فجلس في مكانٍ في حيهم وأسند ظهره إلى جدار بيت فأتمروا به بأن يصعد أحدهم إلى السطح ويلقي عليه صخرةً يقتله ويستريح منه الناس بزعمهم، فجاءه الوحي بالخبر فنهض النبيّ من مجلسه وتبعه أصحابه وفوّت الله على العدو تدبيرهم، وأنت كمؤمن لن يأتيك الوحي ولكن يأتيك من الله إلهام.
 امرأة صالحة تطهو طعامها في قِدْر تعمل بالبخار- طنجرة بخار - يبدو أن فيها خللاً وصارت على وشك الانفجار، وإذا انفجرت شيء مخيف جداً، وقبيل أن تنفجر بدقيقةٍ واحدة قُرِع الجرس، ذهبت لتفتح فلم تجد أحداً، كان طفل صغير يلهو فقرع الجرس وهرب، في أثناء فتحها للباب انفجرت القِدر - الطنجرة - فالله مانع، منع المرأة أن تصاب بأذى.
 إخوةٌ كُثُر.. حدَّثوني وكانوا في طريقهم في سفر، وبعد أن قطع أحدهم ألفاً وخمسمائة كيلو مترٍ من الطريق وأوقف السيارة أمام البيت تفككت بعض قطع السيارة وتساقطت على الأرض - فرطت - لو أنَّها أصابها الخلل أثناء السير لهلكوا كلَّهم، من الذي منع وقوع الحادث ؟ الله جلَّ جلاله.. الله يمنعك من الحوادث.
 قال لي أحد الطلاب الذين يدرسون الطب.. ركب سيارة عازماً على السفر إلى محافظة إدلب.. فجاء إنسان فظ غليظ وشأنه غير معقول فهو كالوحش، فتح الباب وبدلاً من أن يقول لهذا الطالب اسمح لي بهذا المقعد، وهذا الطالب حجمه صغير، فحمله ووضعه على الأرض وركب بدلاً منه وأخذ مكانه، فقال لي هذا الطالب: امتلأت غيظاً إلى حد كبير وغير معقول، ومضت ساعة ونصف حتى تمكَّن من ركوب سيارة أخرى، وعند قرية - تفتناز وهي إحدى قرى محافظات الشمال- وجدت السيارة الأولى قد تدهورت وفيها أربعه قتلى من ركابها الخمسة، والناس متجمِّعون حولها.. كان أحد ركاب تلك السيارة المنكوبة لكنه أرغم على النزول.. من الذي منعه وأنزله منها ؟ الله جلَّ جلاله، إما عن طريق إلهام، أو عن طريق سبب آخر.
 ولقد وقع قديماً حادثٌ بمكان سمعت أنَّ كل من كان في هذا المكان قُتلوا، ولي صديق موظَّف في المكان نفسه وتوقَّعت أنه في عداد القتلى، ثم فوجئت به في الطريق بعد أيام فسألته عن أحواله فقال لي: قبل خمس دقائق من الحادث خطر لي أن أشتري ربطة من الخبز من مكان قريب فخرجت، وأثناء غيابي وقع الحادث.
 قد يحدث حريق أو انفجار لأسطوانة الغاز، أو يكون الشخص بمطعم فتنفجر أسطوانة الغاز ويكون مقدراً لها أن تقتل عشرة أشخاص وفيهم شخص ممنوع فيخطر في باله بالخروجُ لشراء شيء ما وأثناء خروجه تنفجر، فليس هناك شيء يقع صدفةً في الكون كله أبداً، فالله عزَّ وجلَّ مانع.. يمنع الخطر.
 لذلك فالمؤمن يشعر بطمأنينة لا يعلمها إلا الله لأنَّه لم يؤذِ أحداً، ولم يكن سبباً في ألم إنسان أو ترويعه، ولم يكن سبباً في ابتزاز إنسان أو سبباً في إدخال الرعب على قلب أحد، لم يبنِ مجده على أنقاض الآخرين ولم يبن غناه على فقرهم، بل هو محسن في كل عمل فالله عزَّ وجلَّ يمنعه.. فمن أسماء الله الحسنى المانع.. يمنع كثيراً.. وفي هذا المجال توجد أكثر من ألف واقعة وحادثة.. فأحياناً يكون سنتيمتر أو مليمتر أو دقائق بينه وبين الخطر.. فالله يمنعه وينجيه، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
 قال العلماء: " هو الذي يمنع من يستحقُّ المنع "، فكن أنت مستحقاً للمنع، ما رأيت دعاءً يقطُر أدباً كدعاء النبي:
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى الأَسْلَمِيِّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى اللَّهِ أَوْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ لِيَقُلْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ وَالسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ أَسْأَلُكَ أَلا تَدَعَ لِي ذَنْبًا إِلا غَفَرْتَهُ وَلا هَمًّا إِلا فَرَّجْتَهُ وَلا حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إِلا قَضَيْتَهَا لِي ثُمَّ يَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مَا شَاءَ فَإِنَّهُ يُقَدَّرُ ))
(سنن الترمذي)
 أي كُن أهلاً للمنع فيمنعك الله من خصومك، لن يسمح بك، فسيدنا سُراقة بن مالك قبل أن يسلم أراد قتل النبي ليأخذ مئة ناقة وضعت مكافأة لمن يأتي به حياً أو ميِّتاً، هل استطاع أن يصل إليه ؟ اقترب منه غارت قوائم فرسه في الرمال، مرة أولى، وثانية، وثالثة.. فقال: إنَّه ممنوعٌ مني.
 فإذا كان الله مع أحد فهنيئاً له، فلا يخشى أحداً، ولكن بأدب وليس بوقاحة كأن يقول: أنا لا أخاف من أحد.. فهذا من سوء الأدب، اجعلها بينك وبين ربَّك.
 فأحد الأشخاص فهم ذات غلطاً وقال: أنا لا أخاف من أحد ولا من فلان ولا من فلان طوّل بالك.. لا فهذا اسمه تحدٍ، وسوء فهم، فكن أديباً، فهذا الحال شعور بينك وبين الله، فإذا كنت مع الله كان الله معك، إذا كنت مع الله أشعرك بالأمن وأشعرك بالمودَّة.. إذاً هو الذي يمنع من يستحقُّ المنع.
 قال العلماء: هو يمنع أهل دينه.. هل تجد إنساناً ينتمي إلى جماعة متنفذة وليس له ميِّزات ؟ مستحيل.. فكيف إذا انتميت إلى أهل الله ؟ أو إلى الدين، ليكن انتماؤك إلى الله فهو الركن الركين.
 أحد العلماء المشاهير في إحدى الدول العربيَّة، أراد أن يجري عمليّة في بريطانيا، فوضعت أربع طائرات في خدمته ليختار إحداها، وصل إلى بريطانيا وأجريت له العملية، ولم يلبث أن وصلت إليه هواتف كثيرة ورسائل بأعداد غير معقولة وبالآلاف مما لفت إليه أنظار المسؤولين، وأجرى معه مذيع من إذاعة لندن مقابلة، قائلاً له: ما هذه المكانة التي تتمتَّع بها، الأمر غير معقول كأنك أسمى مكانة من الملوك.. سمعتها من شخص.. فبماذا أجاب هل سيقول: لأنني مخلص أحظى بهذه المكانة، أو لأنني عالم، أو لأنني محبوب ؟.. هذا افتخار وادعاء.. ولكنَّه قال: لأنني محسوبٌ على الله.
 كلمة فيها أدب بالغ جداً، فهو قد قال: أنا لست أهلاً لذلك، ولكنني محسوبٌ لا على أهل الأرض ولكن على رب السماء، أنا محسوبٌ على الله.
 المؤمن ربَّاني.. فقد تجد شخصاً ينتمي إلى فلان أوفلان أوفلان أي ينتمي إلى شيء مآله إلى الزوال.. انتهى أمره فهو مجيَّر لصالح فلان، معروف كم هو سعرك، أما أن تكون محسوباً على اللَّه.. فوالله الذي لا إله إلا هو أيها الأخوة القراء والأخوات: لا يليق بالإنسان أن يكون لغير الله، ولكن كونوا ربَّانيين، لا تكن لصالح زيد أو عبيد، لصالح فلان أو علاَّن، لا تكن محسوباً على أهل الأرض، ولا على جهات الأرض، ولا على قِوى الأرض، ولا على تجمُّعات الأرض، كن محسوباً على الله..لكن الذي يحسب على الله يجب أن يكون مطيعاً لله.
 إذاً هو الذي يمنع أهل دينه.. أي يحوطهم وينصرهم..
 وقيل: هو الذي يردُّ أسباب الهلاك والنقصان في الأديان والأبدان.. كما كان يدعو النبيَّ عليه الصلاة والسلام:
(( اللهمَّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، وأجعل الحياة زاداً لنا من كلِّ خير، وأجعل الموت لنا راحةً من كلِّ شر ))
 أيها القارئ الكريم... قد يكون الإنسان مستقيماً ويمشي ببطء إلى الله.. والله عزَّ وجلَّ سيمنعه من التقصير.. وهذا معنى جديد.. فالمعنى الأول.. يمنع أي لا يُعطي، والمعنى الثاني: يمنع أي يحفظ من الشر.
 وإليك المعنى الثالث: يمنعك من التقصير.. فقد يكون أب حريص على أن ينال ابنه الدرجة الأولى، ليس حريصاً على أن ينجح ابنه فحسب.. لا.. حريص على أن ينال الدرجة الأولى، أكثر معالجات المؤمن أن يمنعه من التقصير، فكلما قصَّر يأتي الله له بمشكلة، كلما قصَّر يلوح له شبح مصيبة، كلَّما قصَّر يحبط الله بعض عمله فيفرُّ المؤمن إلى الله عندئذٍ ينوب وبضرع.
 فمن معاني اسم المانع.. يمنعك من النقص في دينك.. والله عزَّ وجلَّ هو الرب، هو ربُّ العالمين.
 وقيل: " هو الذي يمنع البلاء حفظاً وعنايةً، ويمنع العطاء عمن يشاء إبتلاءً وحمايةً ".
 لا يُعطي لأنَّه يعلم، كما أنَّ الأب الطبيب الماهر الذي يعلم أنَّ ابنه مصابٌ بالتهابٍ في معدته، وأنَّ هذه الأكلة تؤذيه، يمنعه من هذا الطعام بحزمٍ وقسوةٍ، والطعام شهي وطيِّب وإخوته يـأكلون في حضوره، لكن الأب مصرٌ على منع هذا الابن من هذه الأكلة الشهيَّة الطيِّبة لأنَّها تؤذي معدته، فهو يمنعه.. ولكن هذا المنع لحكمةٍ بالغة.
 ابن عطاء الله السكندريُّ يقول: " إذا فتح الله بصيرتك رأيت المنع عين العطاء ".
 أحياناً قد بيعدك الله عزَّ وجلَّ عن مجال معين، لأن هذا المجال فيه دنيا، كأن يعمل شاب في محل تجاري فخم والراتب مُغرٍ جداً والبضاعة والبيع للنساء وهو شاب في أوَّل نشأته، ومقاومته هشَّة ضعيفة، فلسببٍ أو لآخر يصرفه صاحب العمل، ما وافق وضعه صاحب المحل فوضع دونه شرطاً تعجيزياً، أو لعدم التزامه صرفه، فيبدو آنياً أنَّه قد منع من هذا المرتب الضخم، ولكن هذا المكان مكانٌ موبوء وهذا الشاب طاهر ومقاومته هشَّة لا تحتمل هؤلاء الغاديات والرائحات، فالله عزَّ وجلَّ صرفه عن هذا العمل، وهو في ظاهر الأمر وباطنه منعه.. والأمثلة في هذا المجال كثيرة لا حصر لها، كيف أنَّ الله سبحانه وتعالى صرف عن أحبابه ما يبدو لهم أنَّه منعٌ وهو في الحقيقة عطاء.. صَرفه عنهم عين العطاء.
 قد تجد ابناً نشأ بالنعيم، والأب غني ومتساهل مَرِن فيعطي ابنه مايشتهي، وأحياناً ينشأ ابن يتيم في حرمان وفقر وله أُم حازمة مربيِّة، ودخلُهم قليلٌ جداً، فتحضُّه على الدراسة، لا تنيمه الليل تحثُّه، ليس في البيت مغريات أو ملهيات ولا ماديَّات، فبحسب الظاهر أنَّ الأول مدلل وابن أسرة غنية يأكل ما يشتهي ويذهب إلى حيث يشتهي ويريد، والثاني طفلٌ يتيمٌ ومحرومٌ، ولكن بعد حين ترى أنه شتَّان بين الاثنين، اليتيم في تألُّق كبير ورفعة، والآخر في شقاءٍ وتراجع، فاليتم والحرمان مع أمٌ حازمةٌ مربيةٌ دفعته إلى أن يبني نفسه بناءً صحيحاً وغرست فيه القيم الأخلاقيَّة فأصبح إنساناً عظيماً بهذه النشأة المتقشِّفة، وذاك الطفل الذي نشأ برخاء منقطع النظير، ينام في غرفة خاصة فيها حاسوب- كمبيوتر - كما حوت غرفته كل الألعاب، وقد يشحن أبوه سيارته من الخليج إلى الشام ليستمتع بها في المصايف والمنتزهات، دون أن يكلف نفسه عناء قيادتها ولا أسرته متاعب السفر.
فهناك شباب يعيشون حياةً خياليَّة، يحمل هاتفاً - تليفوناً - خلوياً ثمنه ثمانون ألف ليرة، وله هاتفان أو ثلاث، وسيارتان أو ثلاثة، فتجد ذاك الشاب الذي نشأ في أسرة فقيرة ولكن فيها الكثير من القيم تجده إنساناً عظيماً.. لذلك لو كُشف الغطاء لاخترتم الواقع.
 يقول سيدنا على رضي الله عنه: " والله لو كُشف الغطاء ما ازددتُّ يقيناً "، يقينه قبل كشف الغطاء كيقينه بعد كشف الغطاء.
 وكذلك يقول سيدنا علي كرَّم الله وجهه: " والله لو علمت أنَّ غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي ".. لشدَّة مسارعته إلى الله.
 إذاً العطاء قد يكون منعاً، ولكن هذه تحتاج إلى ثقة بالله، وإلى إيمان، وإلى يقين بحكمة الله، وبمحبَّة الله.
 فالإنسان هو خاطيء.. فإذا اجتمع للإنسان مال وكانت صحَّته سليمة وهو بعافية، وفي حال مبسوط النفس، وبيته ممتاز فإنه يظن أنَّ الله يحبُّه، وإذا كان بيته داني المستوى ودخله قليل وصحَّته معلولة ظن أن الله لا يحبُّه قال تعالى:
﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17))
(سورة الفجر)
﴿ كَلا ﴾
 كلا كلامكم غلط، كلامكم غير صحيح، ليس عطائي إكراماً، ولا منعي حرماناً، إنَّ عطائي إبتلاء، وحرماني دواء.
 أيُّها القراء الكرام... لا بدّ أن تعلموا علم اليقين أنَّ الفقير المؤمن أفضل عند الله ألف مرَّة من الغني العاصي.. لأنَّ الدنيا عرضٌ حاضر يأكل منه البرُّ والفاجر، وعندنا أدلَّة قويَّة جداً.. منها قارون، قال تعالى:
﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ )
(سورة القصص)
 أعطى الله سبحانه وتعالى المال لقارون وهو لا يُحبَّه، وأعطى فرعون الملك وهو لا يُحبُّه.. الدنيا لا قيمة لها.
 إذاً.. هو الذي يمنع البلاء حفظاً وعنايةً، ويمنع العطاء عمن يشاء ابتلاءً أو حماية.. ويعطي الدنيا لمن يُحبُّ ولمن لا يُحب، ولا يُعطي نعيم الآخرة إلا لمن يُحب.
 أجل يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب.. فقد قال تعالى على لسان سيدنا إبراهيم:
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آَمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126))
(سورة البقرة)
﴿ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾
 تجد بعض الناس يقع في غلط فاحش فيقول: لأن الله يحبني أعطاني هذا البيت فيجعل عطاء الدنيا مقياساً لمحبة الله، فالله أعطى شخصاً كافراً منزلاً أكبر من منزلك بمئة مرة، يوجد ملوك الحديد والصُلب، وملوك المعامل الضخمة في أوروبا وأمريكا، معهم أموال خيالية، وبيوتهم مدن بأكملها، قصره في غابة، فهل معنى ذلك أنه يحبه ؟ لا.. لا تجعل الدنيا مقياساً للمنع والعطاء، فالدنيا لحقارتها عند الله، لم يشأ أن يجعلها علامة رضوانه، ولا علامة بغضه، إن الدنيا لصغر شأنها عند الله أبى أن يجعلها علامة رضوانه، وأبى أن يجعاها علامة سخطه، فلا علاقة لها برضوانه ولا بسخطه، لكن لها علاقةٌ بحكمةٍ يريدها الله عزَّ وجلَّ.
 إنَّ من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى، فإذا أفقرته أفسدت عليه دينه، وإنَّ من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر، فإذا أغنيته أفسدت عليه دينه.
 في أسماء الله تعالى المانع.. قال: هو الذي يدفع عن أهل طاعته، يدفع عنهم البلايا، ويحوطهم وينصرهم، يمنع ما يريد من خلقه مما يريد.
 المانع هو الله.. فمثلاً باليابان منطقة صناعية فيها أضخم المعامل والشركات كشركة - سوني، ومستوبيشي، ومازدا - وقد قاموا بتركيب أجهزة للإنذار المبكِّر للزلازل مربوطة بالكمبيوتر، فالله سبحانه أنزل بها أضخم زلزال وتعطل الكمبيوتر عن أداء وظيفته، فهل من مُدّكر ؟
 فكلمة.. يمنع من يريد ما يريد، لا مانع إلا الله، ما الذي يمنعك من المرض ؟ الله.. ما الذي يمنعك من حادث في الطريق ؟ الله.. من الذي يمنعك من شرّير ؟ الله.. من الذي يمنعك من الخوف ؟ الله.. يمنع من يريد ما يريد، لا مانع إلا الله.
 الإمام الغزالي يقول: " المانع هو الذي يردُّ أسباب الهلاك والنقصان في الأديان والأبدان، بما يخلق من الأسباب المعدَّة للحفظ ".
 ولا تنسى أن الله جعل نواميس وأسباباً.. أي يمنعك ولكن لا يمنعك بلا سبب، بل إن هناك للكون نظاماً،فالكون فيه نظام ولكل ما يقع أسباب.. فقد قال تعالى:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً(85))
(سورة الكهف)
﴿ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا ﴾
 فإذا أراد الله عزَّ وجلَّ أن يمنع إنساناً وأن يكون نظامه سائداً في المجتمع وفي الحياة، يلهم هذا الممنوع من هذا الشر أن يأخذ بالأسباب.. فكذلك منعُ الله علمي وليس منعاً عشوائياً، وفي بعض الحالات يمنع بلا سبب كما ورد في قوله تعالى:
﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62))
(سورة النمل)
﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ﴾
 أما الأصل أنَّه إذا أراد أن يمنعك يلهمك أسباب المنع.
 فمن فهم معنى الحفيظ فهم معنى المنع، المانع هو الحافظ.. قد يتبادر للمرء أنَّ المانع هو الذي لا يُعطي، فهذا معنى، وكذلك المانع هو الحافظ، أنت في حصنٍ منيع، أنت في حرزٍ حريز، أنت لا أحد ينالُك.
 قال بعض العلماء: " المنع يضاف إلى السبب المهلك، والحفظ يضاف إلى المحروس عن الهلاك "، أي لو إنساناً محروساً من أن يهلك فهذا محفوظ، وإنسان يمكن أن يهلك فهذا ممنوع.. فقد قال تعالى:
﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾
 قال: " كلُّ حافظٍ مانع، وما كلُّ مانع حافظ ".
 كلُّ حافظٍ مانع.. ما دام أنَّ الله حفظك فهو يمنعك من خصومك، وليس كل منع حفظاً.. أحياناً يكون المنع عقوبة، قد يحرم المرءُ بعض الرزق بالذنب يصيبه، قد يُحرم المرءُ بعض العلم بالذنب يصيبه، الذنب يمنعك من العلم ويمنعك من الرزق.
 يقول بعض العلماء: " المانع يعني أنَّ الممكنات بالنسبة إلى تأثير قدرته على السويَّة.. فدخول بعضها في الوجود دون البعض يكون بتخصيصه أو ترجيحه "، فكل شيء بيد الله عزَّ وجلَّ، والله دائماً قادر على أن يمنعك من أعدائك.
 فدخول بعضها في الوجود دون البعض يكون بتخصيصه أو ترجيحه.. كلُّ المؤثرات بيد الله عزَّ وجلَّ، فإذا أطلق واحدة ومنع واحدة فهناك ترجيح عند الله لحكمة، فلو أن شخصاً في جسمه ثلاث جراثيم حرَّك الله واحدة منها والاثنتان لم يحركهما، أجل ثلاث جراثيم، فربما واحدة منهم فعلت فعلها فكل الممكنات بيد الله عزَّ وجلَّ، وكل الأسباب بيد الله أطلق جرثوماً ومنع جرثومين.
 وبعد، فالمانع في وصفه سبحانه وتعالى منع البلاء عن أوليائه، أو منع العطاء عمن شاء مطلقاً، فإما أن يمنع العطاء تأديباً أو تحصيناً أو وقايةً بحسب الممنوع منه أو يمنع البلاء عن أوليائه.
 الأولياء يُمنعون من البلاء فهو مانعهم، وهو المانع أي الحافظ، أما المخطئون فيمنعون من العطاء تأديباً لهم، والمؤمنون يمنعون من بعض حظوظ الدنيا وقايةً لهم تأديباً للعصاة ووقايةً للمؤمنين، هذا المنع الثاني، وقد عرفنا من قبل أن المنع الأول: الحفظ.
 قال العلماء: " إذا منع البلاء عن بعض أوليائه كان ذلك لطفاً جميلاً، وإن منع العطاء عنهم كان ذلك فضلاً جزيلاً "، منع البلاء لطف، ومنع العطاء فضل.
 لذلك المؤمن كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ مَعَ أَصْحَابِهِ إِذْ ضَحِكَ فَقَالَ أَلا تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمِمَّ تَضْحَكُ قَالَ عَجِبْتُ لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ إِنْ أَصَابَهُ مَا يُحِبُّ حَمِدَ اللَّهَ وَكَانَ لَهُ خَيْرٌ وَإِنْ أَصَابَهُ مَا يَكْرَهُ فَصَبَرَ كَانَ لَهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَمْرُهُ كُلُّهُ لَهُ خَيْرٌ إِلا الْمُؤْمِنُ ))
(مسند الإمام أحمد)
 بعض العلماء قال: " الله جلَّ جلاله يعطي كلَّ شيءٍ ما هو في مصلحته، بمعنى أنَّ حكمة الله مطلقة، وبمعنى أنَّه ليس في الإمكان أبدعُ مما كان. ويمنع ما هو سبب فساده، يغني من يشاء بالعطاء ويمنع من يشاء بالابتلاء، سبحانه يغني ويفقر، يسعد ويشقي، يعطي ويحرم، يمنح ويمنع فهو المعطي المانع ".
 إنسان ليس عنده أولاد (عقيم) لايترك طبيباً للمعالجة، ولكن لا جدوى فالمنع إلهي، إنسان آخر رزقه الله ذكوراً فقط، وإنسان آخر نسله إناث فقط، بينما إنسان رابع نسله ذكور و إناث، رجل أولاده نجباء، ورجل أولاده كالبلاء.
 فقد قال لي أحد الإخوة الكرام يوماً وقد أقسم بالله: إن مات ابنه فلسوف يقيم احتفالاً بمناسبة موت ابنه لشدة عقوقه، فابن يكون بلاءً ونقمة، وابن يكون عطاءً ونعمة قال تعالى:
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ )
(سورة الأنعام)
 والله سبحانه وتعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولكنَّه لا يحمي قلب عبدٍ عن المخالفات إلا وهو من خواصِّ أوليائه.
 قد تكون غالياً على الله وقريباً منه، و في ساعة غفلة تفكِّر بعمل لا يرضي الله تجد أن الله عزَّ وجلَّ وضع أمامك العراقيل منعك ولم يوافق المسؤولون لك على السفر مثلاً، فهناك منع قاسٍ وظاهره من البشر لكن حقيقته من ربِّ البشر، فالمؤمن محفوظٌ من المخالفات، فلعلَّه بهذا السفر تضعف مقاومته، أو عنده هشاشة في مقاومته فالله عزَّ وجلّ يعلم سرَّه وعلانيته.
 قال بعض العارفين.. وهذا الكلام يشبه كلام الإمام الغزالي: " المانع هو الذي يدفع أسباب الهلاك والنقص في الدين والدنيا، وذلك بخلق الأسباب التي تحفظ من الهلاك والنقصان ".
 يمنع الهلاك بأسباب النجاة من الهلاك، ويمنع النقصان بأسباب النجاة من النقصان، المنع بأسباب.. الله عزَّ وجلَّ يخلق بعض الممكنات، ويمنع وجود بعض الممكنات، يعطي الله لشخص مؤهَّلات ليتفوَّق، وقد لا يعطيها لآخر، فيعطي لحكمة ويمنع لحكمة، مرة أخرى: يعطي كلَّ شيءٍ ما هو في مصلحته ويمنع ما هو فيه فسادٌ لدينه فقد قال تعالى:
﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27))
(سورة الشورى)
 يعني أنا أريد في هذا البحث أن أبين أن المؤمن المتصل بربه يتلقى المنع برضى، والمؤمن المتفتح يرى يد الله فوق أيديهم، يرى يد الله تعمل في الخفاء، يتلو قوله تعالى:
﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى )
(سورة الأنفال الآية: 17)
 المؤمن البصير يذكر الحديث الشريف وهو قوله صلَّى الله عليه وسلَّم:
(( عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ ))
(مسند الإمام أحمد)
 لا يندم ولا يحقد ولا يتألَّم ولا يتذلل ولا يتضعضع، ولا يستخزي، ولا يُلح، اطلبوا الحوائج بعزَّة الأنفس، فإنَّ الأمور تجري بالمقادير.
 وما كان لمؤمنٍ أن يهون، بل لا ينبغي للمؤمن أن يُذِلَّ نفسه، هذا بسبب إيمانه أنَّ العطاء من الله والمنع من الله، فقد قال تعالى:
﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2))
(سورة فاطر)
 الشيء الدقيق جداً في هذا الموضوع.. هو أنَّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام يقول:
(( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ يَا غُلامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ ))
(سنن الترمذي)
 هذا هو التوحيد...
 وقال بعضهم: " المانع هو الذي يمنع من شاء ما يشاء، وقد يكون باطن المنع عطاء وهنا الدقة ".. قد يمنع العبد كثرة الأموال ويعطيه الكمال و الجمال، وقد يمنع العبد صحة الأجسام ويعطيه الرضى عن الأحكام.. المانع هو المعطي فقد يكون باطن المنع عطاءً وقد يكون في ظاهر العطاء بلاءً.
 كثيراً ما يطغى الإنسان في حال الغنى قال تعالى:
﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7))
(سورة العلق)
 النبي عدَّ الغنى بلاء فقال:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ))
(سنن الترمذي)
 قال العلماء: اسم المانع قريب في معناه من اسم الحفيظ، ولكن الفرق بينهما أن الحافظ مضاف إلى معنى والمانع مضاف إلى معنى آخر.
 المانع مضاف إلى سبب مهلك يمنعك من هذا السبب، أما الحافظ مضاف إلى شيء محروس في الأصل من قبل الله عزَّ وجلَّ.
 هذا الاسم الكريم ورد في الحديث الشريف، إلا أنه لم يرد في القرآن الكريم بل ورد معناه ليس المطابق ولكنه المقابل، لذالك قال تعالى:
﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(107))
(سورة يونس)
 الآية الكريمة أيها القارئ الكريم عميقة الدلالة جداً.
﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ ﴾
 لم يقل: وإن يمسسك بخيرٍ.. بل قال:
﴿ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
 وبعد... فينبغي لمن يتخلَّق باسم المانع ألا يسأل غير الله، لأنه هو وحده المعطى المانع، لا أحد يمنعك، ولا أحد يعطيك إلا الله، فالتخلُّق بهذا الاسم يعني أن تعقد الأمل على الله، وألاّ ترجو غير الله، وألاّ تغترَّ بإعطاء الإنسان، لأن عطاء الإنسان من عطاء الله.
 لذالك فالنبي الكريم كان يرجو ألا يجعل الله له خيراً على يد كافر أو منافق لأنَّ العطاء من الله عز وجل، وفي ساعة غفلة ترى أن العطاء أتى من زيد أو عبيد، والمؤمن إذا مُنِع شيئاً لا يرى هذا المنع إلا من الله، ولو رآه من زيد أوعبيد لوقع في حرجٍ شديد، اللهم لا معطيَ لما منعت ولا مانعَ لما أعطيت.
 وينبغي ألاّ تحقد على الناس لأنهم منعوا عنك شيئاً، فالله هو الذي منعه، العطاء من المعطي الحقيقي وهو الله، والمنع من المانع الحقيقي وهو الله، هذا ملخَّص الملخص للبحث.
 العطاء.. مطلق العطاء من المعطي الحقيقي وهو الله، والمنع مطلق المنع من المانع الحقيقي وهو الله، علاقتك مع الله فلا تحقد على أحد.. لا تحْمَدنَّ إنساناً على فضل الله، ولا تذمنَّه على ما لم يؤتك الله، إذا منعك إنسان لاتحقد عليه هو مانع صوري، أما المانع الحقيقي فهو الله، الله هو المعطي وهو المانع الحقيقي، وأحياناً يعطي مباشرةً ويمنع مباشرةً، وأحياناً يعطي من خلال عباده، ويمنع من خلال عباده، إن وافق لك المسؤول على السفر أو لم يوافق لك فقل: حسبي الله ونعم الوكيل، ولكن على يقين أن المانع والمعطي هو الله سبحانه، قال تعالى:
﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)
(سورة النور)
 ملخص البحث أيُّها القراء... أنَّ المعطي الحقيقي هو الله والمانع الحقيقي هو الله، قد يعطي مباشرةً، أو عن طريق خلقه، وقد يمنع مباشرةً، أو عن طريق خلقه، المؤمن موحِّد إن أُعطي مباشرة يحمد الله، وإن أُعطي عن طريق خلقه يحمد الله، إن مُنِع يرضى بقضاء الله، إن مُنِع عن طريق خلقه يرضى بقضاء الله، والمؤمن لا يحقد أبداً، وهذا هو التوحيد، وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد.
 ورد في أدعية النبي عليه الصلاة والسلام من حديث أخرجه البخاري:
(( اللهم من منعت فهو ممنوع. أي من حرمت فهو محروم لا يستطيع أحد أن يعطيه ))
 كقوله تعالى:
﴿وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِم)
(سورة الحج)
﴿ وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ﴾
 سبحانك فإنَّه لا يذِلُ من واليت ولا يعِزُّ من عاديت.. أيْ أَنْ ليس لنا إلا الله عزَّ وجلَّ، فلا تبذل ماء وجهك أمام أحد، كن عزيزاً، لا تبذل ماء وجهك إلا أمام ربِّك، لا تبذل دموعك إلا لله، إلا في السجود لله عزَّ وجلَّ، لا تبكِ أمام الناس لن يعطوك ولن يمنعوك، المانع هو الله، والمعطي هو الله، صُنْ ماء وجهك، احفظ ماء وجهك، لا تتضعضع لغني، تضعضع لله عزَّ وجلَّ، تذلل له، مرِّغ جبهتك في أعتابه، أما أمام الناس كن عزيز النفس.
 هذا هو ملخص البحث، واعلم علم اليقين أن الله عزَّ وجلَّ مانع بمعنى يمنعك من كلِّ ما يؤذيك، يحفظك، ويمنعك من كل ما يطغيك، ويمنعك تأديباً لك، فهو مانع بالمعاني كلَّها، وإذا أراد أن يمنعك مما يؤذيك ألهمك أسباب الحفظ والمنع، ووجهك وجهة الخير وقذف في قلبك الرضى.