مبادئ علم التوحيد
من الواجب على كلّ طالب علم أن يتصوّره، ولو برسمه ليكون على بصيرة في طلبه. وأن يعرف موضوعه ليميزه عن غيره. وأن يعرف غايته لئلاّ يكون اشتغالـه به عبثا. وأن يعرف استمداده، ومنفعته، وواضعه.
تعريف علم الكلام:
وحدّ الكلام كما قال بعض الشّيوخ: علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينيّة على الغير، وإلزامها إياه؛ بإيراد الحجج وردّ الشّبه قال الإمام العضد في المواقف:"والكلام علمٌ يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه والمراد بالعقائد ما يقصد به نفس الاعتقاد دون العمل، وبالدينية المنسوبة إلى دين محمد صلى اللـه عليه وسلم"( ). وقال الإمام سعد الدين التفتازاني:"الكلام هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية"( ) وقال ابن الـهمام في المسايرة:"والكلام معرفة النفس ما عليها من العقائد المنسوبة إلى دين الإسلام عن الأدلة علما وظنا في البعض منها"( )
ومن ذلك يُفهم أنّ هذا العلم يفيد تثبيت العقيدة في النّفس، وفي إفحام المخالف وإلزامه. والإنسان إذا فهم العقيدة الصحيحة، وثبتت في نفسه، فإنّه يحصل على السّعادة المنشودة في الدّنيا والآخرة، لأنّه يكون قد ملك صورة صحيحة للواقع، وكيّف نفسه بحيث يكون متوافقا في وجوده مع أصول الوجود. ومن كان كذلك، كيف لا يصل إلى السّعادة وهي كمال الوجود؟! أو هي عبارة عن الترقّي في الوجود الجائز إلى أعلى درجاته.
ولا يصل الإنسان إلى ذلك إلاّ بعقيدة الإسلام. فعند ذلك تتكامل علاقته مع الكون ومع الحياة، فيصبح فاهما ومدركا لطبيعتها، وأهدافها، وإلى أيّ الغايات تسير. فينعدم التناقض في حياته، ويطّرد التكامل، ويدرك أيضا علاقته مع غيره من النّاس، فيعاملـهم بكيفيّة هي الحقّ، وهي العدل؛ ويضع كلّ شيء في موضعه اللائق به، وهي هذه حقيقة السعادة والخير.
ومن المرفوض أن يقال إنّ العلم الذي يوصل إلى هذه الغايات النّبيلة هو علم مرذول، بل من قال بهذا فهو لا يعي ما يقول، لأنّ العلم الذي يوصل إلى ما ذكرنا يجب أن يكون في أعلى مراتب العلوم، وهو كذلك في حقيقته عند كبار العلماء من أهل الحقّ. فلا تغترّ بمن ينفّرك عن هذا العلم بِتَخْيِـيْلـه إليك أنّه من البِدَعِ؛ فهل الوصول إلى الخير من البدع، وهل من البدع التسلّح بأسلحة نقاوم بها الكفر في النّفس، وندرأ بها الكفر عن الغير، ونردّ بها الكفر عن أن يدمّر الخير والحقّ والدّين العظيم!!! وكلّ من لديه أدنى معرفة بهذا العلم، يدرك فعلا كم هي فائدته حقّا في طمأنينة النّفس، وانكشاف الحقيقة لديها، وفي إفحام الخصوم المشكّكين من أهل البدع والكفر. وبدراسة هذا العلم، يتبيّن الإنسان فعلا أنّ الإسلام هو الدّين الحقّ عن دليل وبيّنة، لا عن تقليد وتعصّب أعمى.
ولذلك كلـه فالمُعْتَبَر في أدلّة هذا العلم هو اليقين فقط( )، واليقين يجب أن يكون هو الأساس في هذا العلم في النفي والإثبات المتعلقين بالأحكام والمفاهيم، فلا عبرة بالظنّ في الاعتقادات، وإن كان لـه اعتبار في العمليّات. فكلّ ما كان النّظر السليم فيه لا يفضي إلى القطع، فلا يجوز اتخاذه دليلاً على مسألة من مسائل الاعتقاد، لأنّ الظنّ يجوز عليه الخطأ، ولا يجوز أن تكون العقيدة مبنيّة على أمر قابل للغلط، وكلّ من يجوّز بناء عقيدته على أمر ظنيّ فهو لا يفهم معنى الاعتقاد.
فالمسائل العقديّة هي عبارةٌ عن مفاهيمَ كليّةٍ تُبْنَى عليها الحياة، ومن جوّز بناءَ حياته على أمر ظنيّ فهو يعتبر من العابثين بهذه الحياة. والإنسان العاقل، لا يجيز لنفسه أن يكون من العابثين اللاعبين.
وأمّا الأمور العمليّة فلأنّها أمور جزئيّة شخصيّة، ويستحيل أن تُبْنَى حياةٌ كاملةٌ على أمر شخصيّ جزئيّ، فلا يجوز ذلك عند العاقل، ولذلك فيجوز اتّباع الظنّ في الأمور الجزئية، لأنّ الأصل في الظنّ أن يكون صوابا مطابقا للواقع، مع احتمال الغلط، ولصعوبة التوصّل في الأمور الجزئيّة كلـها إلى اليقين والجزم، فلذلك لو اشترطنا اليقين في كل أمر جزئيٍّ لاستحالت كثير من الأفعال والأعمال المهمة في سيرورة الحياة وتوقفت كثير من نواحي الحياة العملية، فلذلك اكتُفِيَ فيها بالبناء على غلَبَةِ الظنِّ.
ولمّا كان خبر الآحاد بالنظر لِذاتِهِ ومِنْ دون اعتبار القرائن المحيطة لا يفيد القطع واليقين، لأنّه لا يوجد إنسان معصوم مطلقا، فلا يوجد خبر آحاد مقبول مطلقا، ونقصد بقولنا مطلقا هنا أي إنه يبعد أن يوجد خبرُ آحاد مقبولا في كل مواردِهِ، لأنه لا يكون كذلك إلا إذا كان صادقا في كلِّ موارده، ولكنه وبعد البحث والنظر عُلِمَ أن خبرَ الواحدِ لا يكون غالبا كذلك، فلـهذا لا يكون مقبولا في كلِّ موارده، بل يُقْبَلُ في بعضها ويُرفَضُ في الآخر، وذلك بحسب القرائن والأحوال الخاصة بكل خبرٍ، إلا إذا ثبتت يقينيته من كلِّ جهاته بالاستناد إلى دليل آخر.
فخبر الآحاد وحده مجردا عن القرائن والأحوال لا يفيد إلاّ الظنّ، وهذا على اعتبار ثقة الرّاوي، وإلاّ فإذا لم يكن ثقة فإنّه لا يفيد حتّى الظنّ، بل يكون مردودا أو مشكوكا فيه أو مكذوبا. لذلك لا يجوز بناء العقيدة على خبر الواحد، ولا تؤخذ العقائد من أخبار الآحاد، بل تؤخذ من الأدلّة القطعيّة، ومنها خبر التواتر، لأنّ التواتر يفيد اليقين. وهذا الكلام يبيّن كيف يؤخذ بالخبر الواحد الصحيح في العمليّات، ولا يؤخذ به في العقائد إلا إذا اعتضد بغيره من الأدلة كما بينه العلماء في الأصول.
ويفهم من التعريف أنّ العلم بغير الشّرعيّات ليس من العقائد، ولا يجوز اعتباره من العقائد، فلا يجوز اعتبار الطبيعيّات عقائد، ولا الرّياضيّات وغيرها، وكذلك الشّرعيّات الفرعيّة العمليّة لا يجوز اعتبارها من العقائد بل هي من الفقه، ولو اعتبرت الفرعيّات من العقائد للزم تكفير المخالف فيها أو تبديعه على الأقلّ والنّفور منه، وعدم الرّضا عنه، وينشأ عن هذا التقاطع ُ والاختلاف وعدمُ التوافق، ولو كانت الفرعيّات حكمها حكم العقائد، للزم عن ذلك وجوبُ النّفورِ منَ المسْلِمِ المخالفِ لا في العقيدة بل في مسائل الفقه، وهذا ينتج عنه من التفرّق والفساد ما لا يمكن وصفه على وجه الرّضا؛ وبهذا يظهر عدم سدادِ القائلين بأنّ الأحكام الفقهيّة لا تختلف من حيث طريقةُ أخذها عن الأحكام العقائديّة فيشترطون لـها أن تكون مقطوعا بها، أو يعتبرون ما قرروه على أنه من الفقه قطعيا، وهؤلاء يلزم عندهم أن تكون الموالاة والتبري مبنية على الخلاف حتى في مجرد الفقهيات مطلقا، ولو أنهم قيدوها بما قطع فيه من الفقه لكان قريبا، ولكن التعميم غريب، فهؤلاء ليسوا من أهل السّنة والجماعة، ولا من أهل الحقّ في منهجهم الذي يعتمدون، وقد أظهروا بقولـهم هذا مدى ابتعادهم عن النّهج القويم، والمسلك السّليم، وهؤلاء بقولـهم هذا يسبّبون من الفتن والمشاكل بين المسلمين ما يَنْتُجُ عنه تفرُّقُهُمْ وانكسارُهم أمام أعدائهم من الكفّار والمنافقين، ولذلك نرى دائما دولَ الظلمِ والكفرِ تشجّع مثل هؤلاء النّاس بآرائهم الفاسدة هذه، وتتيح لـهم المجال للانتشار وتشويه عقائد النّاس ونفسيّاتهم، وبلبلة فكرهم، وهذا ما يفرح لـه المجرمون لأنّه يسهّل أمامهم السّيطرة على عامّة النّاس وتسييرهم إلى الـهدف الذي يريدون، ويسهّل أمامهم استغلال الدّين لأمورهم ومآربهم الخاصّة، ويضع هذا التصرّف أسلحة عديدة بأيدي أعداء الدّين فَيُمَكِّنهم، إذا أرادوا تحطيم الدّعاة إلى الحقّ والـهدى، أن يشوّهوا صورتهم بكلّ سهولة أمام النّاس لأنّهم هم الذين يملكون وسائل التأثير على عموم الناس، ومن ثمّ إيجاد مبرّر لـهم لضربهم، بل وحتّى إفنائهم عن الوجود.
وأمّا المقلّد فهل ما يجده في صدره يطلق عليه أنّه علم أم لا؟
إذا اعتُبِرَ في مفهوم العلم كونه مُسْتَمدَّاً من دليل، فهذا الذي عليه المقلّد ليس علما قطعا، وإلاّ فهو علم، واختار بعض العلماء الثاني، وهذا قد يميل إليه الناظر، لأنّ المطلوب من الدّليل والنّظر هو الوصول إلى المفاهيم الصّحيحة، والتمسّك بها على سبيل الجزم والإذعان لـها والانقياد، والفرْضُ أن قد حصلت هذه الأمور في المقلد، فيصحّ أن يقال لمن ملك الفكرة السليمة، وجزم بها إنّه عالم بها، ولكنّه جاهل بدليلـها، ولا تعارض ولا تناقض بين هذين القولين؛ ويمكن للإنسان أن يقبلـهما بل يقبلـهما قطعا معا. وهذا دليل على أنّ العلم إنّما هو الإدراك الجازم المطابق، وكمال العلم أن يكون عن دليل، لذلك فالمقلّد الصّحيح العقيدة عنده علم كافٍ لتصحيح دخولـه في الإسلام والفوز بالجنّة في الدّار الآخرة بمشيئة اللـه تعالى.
ويمكن أن يقال، إننا نفرق بين قبول الإيمان، وبين مطلق مفهوم العلم، فقبول الإيمان قد لا يتوقف إلا على مطلق القطع ولو بلا دليل، وأما العلم فإنه القطع بواسطة الدليل. وهذا التفصيل يمكن بناءً عليه قبول إيمان المقلد، وعدم رفع الواجب المتعلق بذمته من العلم بالدليل.
ولا شكَّ في أنّ رتبة المقلّد الذي لا يعلم الدليل هي أدنى وأقل من رتبة من عرف الدّليل، ثمّ رتبة من عرف الدّليل أصالة بنفسه أعلى وأرفع من رتبة من تعلّمه من غيره. فهي درجات بعضها فوق بعض كالوجود كلـه؛ وهذا ما يتعلق بمطلق الإيمان.
وجمهور العلماء اختاروا أن العلم لا يكون إلا بموجب، والموجب قد يكون الحسَّ، وقد يكون النظر العقلي أو المعتمد على مقدمات نقلية، أو غير ذلك، كما قرروه في علم المنطق والأصول. وبناء على ذلك فلا يكون مجرد التصور المطابق علما، بل لا بد أن يُسْتَمدَّ من الدليل لكي يكون علما. فالعلم جزء من ماهية العلم. والعلم له ثلاث خصائص، الأولى الجزم، والثانية المطابقة، والثالثة أن يكون لموجب. فالجزم والمطابقة، لازمتان لا بد منهما، ولا يتصور سقوطهما من العلم، وأما كونهما عن موجب ودليل، فقد حصل فيه نزاعٌ من البعض. ومن أدخله جزءا وشرط الاعتقاد بالعلم، فمن لم يعلم الدليل، فاعتقاده باطل، وإن لم يشرط الاعتقاد بالعلم، بل اشترط له فقط التصور المطابق الجازم، فاعتقاد المقلد عنده صحيح، وأما من لم يدخله، وشرط العلم، فهو يصحح اعتقاد المقلد مباشرة، ولا يتصور عدم اشتراط الاعتقاد بالعلم بناء على هذا المذهب.
وعلى كلٍّ، فأهل السنة، صحَّحَ جمهورهم اعتقاد المقلد، وأوجب عليه الدليل، وحكم بعصيان المقلد إذا لم يعرف الدليل.
أما ما يتعلق بعلم الكلام فإن الإنسان لا يصبح عالما بعلم التّوحيد وهو علم الأسماء والصّفات إلاّ بعد العلم بالأدلّة. وذلك لأنّ من المقصود بهذا العلم وهو إفحام الخصوم، وتثبيت العقائد في الصّدور وتوضيحها، وهذا لا يتمّ إلاّ بالأدلّة، ولا يجوز الخلط بين هذه المسألة وبين مسألة المقلّد؛ فمسألة المقلّد المبحوث فيها سابقا محلُّ الكلام فيها هو هل المقلّد إيمانه صحيح أم لا، ثمّ هل يسمى ما أدركه علما أم لا. وعلى كلّ الأقوال ينتج أنّ المقلّد ليس من أهل هذا الفنّ، ولا يجوز أن يُمْنَحَـهُ، من حيث ما هو مقلد، ويجوز من حيث ما هو طالب لـهذا العلم، بل ربّما لو عرض هذا الفنّ على المقلّد لنتج عنه من الفتن والمشاكل أمرٌ عظيمٌ، ولذلك يقول كثير من أهل العلم: إنّ علم الكلام وهو علم التوحيد علم خاصّ لا يُبْذَلُ للعامّة، بخلاف علم الفقه؛ ولكن التحقيق أنه حتّى علم الفقه فليس كلّ ما فيه من مسائل يجوز نشرها وبثها للعوام، ويعرِفُ صدقَ هذا الأمر من هو خائض في الفقه ومسائلـه.
ولـهذا كلـه، يجب أن تُراعى أحوالُ النّاس في تعليمهم العلومَ مطلقا، والعلوم الشّرعيّة خاصّة. ولا يجوز لأحد أن يستغرب منكرا هذا الكلام فيقول: كيف يكون أمرٌ هو من أمور الدّين ويجوز أن لا يُعَلَّم للجميع؟ فيقال لـه على سبيل الإلزام والإفحام: هل تعني أنّ جميع ما يعرفه الرّسول من معارف دينيّة ومن أمور الغيب يَعْلَمُها كل واحد من النّاس، لو قلت نعم لخالفت قول الرّسول صلّى اللـه عليه وسلّم: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا وبكيتم كثيرا. ولخالفت ما صرّح به الإمام عليّ بن أبي طالب كرّم اللـه وجهه حين قال: خاطبوا النّاس بما يعقلون، أتريدون أن يكذّب اللـه ورسولـه. فكثير من المعارف الدّينيّة لا يعلمها إلاّ القليل من النّاس، وهم أهل العلم. ولذلك كان النّاس بعضهم فوق بعض درجات، ولذلك فضّل اللـه أهل العلم على من سواهم، ولذلك أمر اللـه تعالى عامة الناس بسؤال أهل العلم، وحرمت الشريعة سؤال الجاهل عن أمور الدين، وحرَّم على الجاهل الدخولَ في مثل هذه الأمور، ولذلك قرن اللـه تعالى طاعته وطاعة رسولـه الأعظم بطاعة أهل العلم. وأيضا فلا يجوز أن يؤخذ هذا الأمر على أنه إخفاء للأمور التي يجب إظهارها للجميع، بل هو إخفاء للأمور عمن لا يستحق معرفتها، أو عمن لا يجب علينا تعريفه بها، ولا يخفى على العقلاء أن كثيرا من الأمور لا يمكن أن تبينها لكثير من الناس، فليس هذا إذن من باب الإخفاء والتعمية على الناس، بل هو تنزيل للأمور منزلتها اللائقة بها. وفي هذا فليتفكّر العاقلون