موضوع علم التوحيد
وأمّا موضوع علم التّوحيد فهو: المعلوم من حيث يتعلّق به إثبات العقائد الدّينيّة، إذ موضوع كلّ علم هو ما يُبْحَثُ في ذلك العلم عن عوارضه الذّاتيّة، ولا شكّ أنّه يبحث في هذا العلم عن أحوال الصّانع من القِدَمِ والوَحْدَةِ والقدرة والإرادة وغيرها ممّا هو عقيدةٌ إسلاميّةٌ ليعتقد ثبوتها لـه، وعن أحوال الجسم والعرض من الحدوث والافتقار والتركيب والأجزاء، وقبول الفناء ونحو ذلك ممّا هو وسيلة إلى عقيدة إسلاميّة؛ فإنّ تركيب الجسم وقبولـه للفناء دليل افتقاره إلى الموجِدِ لـه، وكلّ هذا بحثٌ عن أحوال المعلوم لإثبات العقائد الدينيّة.
وكون موضوعِ علم التوحيد هو المعلومَ من الحيثيّة المذكورة؛ هو التحقيق بلا ريب، فالمسلم عندما يشرع بنشر دعوته والاستدلال عليها فإنّه سوف يكون مضطّرا لاستعمال كلّ ما عنده من العلوم لإثبات عقيدته، وعندما نقول العلوم، نقصد كلّ ما يشمل العقليّات والتجريبيّات والمتواترات وغيرها ممّا يفيد العلم والقطع، بل الأصل في كلّ مبدأ كليّ أن يكون معتمدا على العلوم، بمعنى أن تكون كل العلوم مؤيّدة لـه، لا بمعنى أنّه لا يقوم إلاّ بالعلوم أي بكلّ علم منها، بل يكفي للمبدأ أن يكون قائما على المعقولات وبعض الحسيّات مثلا، ثمّ يشترط فيه بعد ذلك ألاّ يتعارض في كلّ ما يأتي به مع أيّ مصدر من مصادر العلوم.
ومن ثمّ لا يُمْنَعُ أن يَستَخْدِمَ الإنسانُ أيَّ صنف من العلوم لإثبات عقائد الدّين أو ما يخبر به القرآن، وهذا يحتاج إلى احتياط شديد لخطورته، كما يحتاج إلى علم دقيق بالدّين أوّلا، ثمّ بذلك الصّنف من العلوم ثانيا. ولا بدّ من عدم التّسرع والانجراف وراء الدّعايات التي من شأنها أن تذاع في كلّ عصر من العصور، لأن بعض النظريات قد تعرض على الناس بشكل يتوهمون منه أنها قطعية، فينخدع به الناظر، فلا يجوز الاعتماد اعتمادا مطلقا على مثل تلك النظريات، لأنّ أيّ غلط في أيّ جهة من هذه الجهات فإنّه سوف يوجَّه إلى الدّين بشكل رئيسي، ولن يُقال عند كثير من النّاس: إنّ هذا الناظر أخطأ في فهم وتفسير هذا النّصّ أو ذاك أو في استعمال هذه النظرية أو تلك، بل سوف يشاع من قبل أعداء الدّين والمتشكّكين ممّن ينتمون ظاهرا إليه أنّ هذا الدّين متناقض، وأنّ المبدأ المتناقض لا يصلح أن تقام عليه حياة، ويستغلون ذلك كلـه للـهجوم على المبادئ الحقيقية للدين. فيتبيّن لك من ذلك مدى خطورة الخوض في هذا المجال، بل وفي كلّ مجال من الدّين، ولـهذا كان ذلك الموقع المتين للعلماء والحذاق من بني البشر.
ولأنّ موضوع علم التوحيد هو المعلوم من حيث كونه موصلا إلى تثبيت العقائد، فلا يجوز لأحد أن يعترض حين يرى علماء التوحيد يخوضون في الطّبيعيّات والرّياضيّات والطب بل والفلسفة وغير ذلك من أنواع الفنون والعلوم، لأنّ هذا من صلب وأساس مهمّتهم، وإذا سمحت لنفسك أن تُجَرِّدَهم من ذلك، فأنت في الحقيقة إنّما تلغي هذا العلم مطلقا. وليس هذا الأسلوب من الخوض في سائر العلوم وإظهار أصالة الدين عليها أمرا مُبْتَدَعاً، بل هو الفهم الصّحيح المستمدّ من القرآن الكريم، فانظر في الكثير من الآيات التي تتكلّم في حقائق الوجود، وحقائق النّفس، وفي الآيات التي تحثّ على النّظر في الكون وفي السماوات والأرض، فإذا لم تكن هذه دليلا على ما نقول فكيف يقام أي دليل على أي أمر بعد ذلك؟!
ولا تظنَّ أن كون موضوع علم التّوحيد هو المعلومَ، يُخْرِجُ الكتابَ والسنّة من أن يُستخْدَما لإثبات العقائد الدّينيّة، لأنّ الكتاب والسّنّة هما أيضاً من المعلومات التي تدلّ على العقائد الدّينيّة وتثبتها، فيكون استخدامهما لإثبات العقائد متمشيّا مع أصول هذا العلم، ولا تغتـرّ بمن يقول إنّ علماء التّوحيد من أهل السنّة -أي الأشاعرة والماتريديّة- لا يستدلّون بالقرآن ولا بالسنّة، بل يكتفون بالعقل في إثبات العقائد، فإنّ هذا القائل إنّما يدلّ بقولـه هذا على مدى جهلـه وظلمة عقله لا غير، فمن التّفاهة أن يُطلِِقَ القولَ هكذا من دون تقييد، وينسى من الذي حَمَلَ أحاديث الرّسول وأوصلـها إلينا في هذه الأزمان، ومن الذي حفظ علوم القرآن، ومن الذي برع في تفسير القرآن وشرح الحديث، بل من الظّلم الفاحش أن يقال هذا لأنّ كلّ ذرّة من علوم الإسلام تدلّ على خطأ هذا القول، فالمحقّقون من علماء الدّين هم من أهل السّنة، وكذا علوم اللّغة والتّاريخ، وكذلك كانوا في القرون الماضية في سائر العلوم الدّنيويّة، حتّى لا يستطيع أحد أن ينكر هذا إلاّ من على قلبه غشاوة؛ ومن بلغ إلى هذا المستوى، فالأحرى أن لا يناقش لأنّه أصبح كالسوفسطائيّة الذين لا يُناقَشون لاستحالة جدالـهم.
ثمّ إنّ أهل السّنة عندما يستخدمون العقل لإثبات العقائد فإنّ هذا يدلّ على ثقتهم بالدّين أولا وثقتهم بأنفسهم ثانيا، لأنّهم يكونون جازمين بأنّهم خلال بحثهم العقليّ هذا لن يتوصّلوا إلى شيء يخالف ما أتى به الدّين، بل سيصلون إلى استدلالات تدحض أعمدةَ الكفر وتهدمه، ولما كان الأمر كذلك، فلِمَ يمتنعون من هذا الطريق المستقيم.
وبناء على هذا، فعلى الذي يرغب بالخوض في هذا العلم أن تتوفّر فيه صفات خاصّة، لأنّ لكلّ علم أهلـه، وذلك حتّى لا يفاجأ عندما يرى المصطلحات العقليّة والعلميّة والأصوليّة كلـها تُتَداوَل في كتب هذا الفن، فعلى مَنْ يريد الخوضَ فيه أن يكون ملمّا بكلّ هذه العلوم.
و إذا كان من المسلّم به أنّ الدّين إنّما أنزل لـهداية النّاس إلى خير الدّنيا والآخرة، أي لإصلاح حياة الإنسان وآخرته، فعلى الإنسان أن يجزم بلا تردّد أنّه مهما خاض في علوم الدّنيا من الطّبيعيّات وغيرها، فلن يصطدم بأمر يكون خلاف الدّين ونقيضا لـه. ويجب عليه أن يعتقد جازما أنّ توسّعه في علوم الدّنيا ومعرفته لما في الأنفس، وما في الآفاق إنّما يزيد من إيمانه واطمئنانه إلى هذا الدّين، لأنّ هذه المعرفة نفسها سوف تكون أدلّة على ما أخبر به الشّرع، لأنهما من خالق واحد. واطمئنانه هذا لا يدفعه إلى التعنت في النظر والرأي، بل يكون باعثا لـه للتمسك بالقوانين الصحيحة للنظر، ومحاولة تحقيقها في نظره وبحثه، فلا تكون العقيدة أبدا باعثا للتعصب والتعنت.
وقولنا إنّ موضوع هذا العلم هو المعلوم قد يقصد بالمعلوم هنا الموجود والوجودي، حتى يدخل فيه الاعتباري، إلاّ إنّنا استخدمنا كلمة المعلوم، وقدّمناها على الموجود، ليصحّ التعريف على رأي من لا يقول بالوجود الذهنيّ، ولا يعرّف العلم بحصول الصّورة في العقل، ويرى مباحث المعلوم والحال خارج مباحث هذا العلم. وقد يراد بالمعلوم مطلق ما يصدق عليه ذلك اللفظ، فيدخل فيه حتى المستحيلات والموجودات الحقيقية والاعتبارات الانتزاعية والاختراعية، وتدخل حتى المعدومات التي يمكن أن تعلم. ولا إشكال في ذلك إن أمكن أن يستدلَّ بتلك الأمور على الله تعالى.
والحاصل أنّ هذا العلم يبحث فيه عن الأحكام الثابتة لذات اللـه تعالى وصفاته وأحوال الممكنات في المبدأ والمعاد على قانون الإسلام، والمقصود بقانون الإسلام هي أسباب المعرفة في الإسلام، إذ معلوم أنّ كلّ مبدأ شامل ونظام كامل لـه مقاييس وموازين يزن بها الأمور، وهذه الموازين هي وسائل المعرفة، ولا بدّ أن تكون المعلومات متماشية مع نظريّة المعرفة الإسلاميّة. وكل وسيلة معرفية ثبت كونها طريقة بالقطع، فإنها طريقة معرفية إسلامية