الأربعاء، 28 مارس 2012

موسوعة علوم الحديث : التدوين فى عهد الصحابة

التدوين فى عهد الصحابة

ما روي من كراهة الصحابة رضي الله عنهم لكتابة الحديث
        مع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من إباحة للكتابة، ومع ما كتب في عهده من الأحاديث علي يدي من سمح لهم بالكتابة ـ نرى الصحابة يحجمون عن الكتابة ، ولا يقدمون عليها في عهد الخلافة الراشدة، حرصًا منهم علي سلامة القرآن الكريم والسنة الشريفة.

        فنجد بينهم رضوان الله عليهم من كره كتابة السنة، ومن أباحها، ثم ما لبث الأمر أن كثر المجيزون للكتابة، بل روي عن بعض من كره الكتابة أولا إباحته لها أخرا، وذلك حين زالت علة الكراهية.

        روى الحاكم بسنده عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان خمسمائة حديث، فبات ليلة يتقلب كثيرًا.. فلما أصبح قال: (أي بنية ، هلمي الأحاديث التي عندك، فجئته بها، فدعا بنار فرقها(1)).

        وهذا عمر بن الخطاب يفكر في جمع السنة، ثم لا يلبث أن يعدل عن ذلك: ( عن عروة ـ بن الزبير ـ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأشاروا عليه بأن يكتبها ، فطفق عمر يستخبر الله فيها شهرًا ، ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له، فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا، فاكبوا عليها وتركوا كتاب الله وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء ابدأ(2)).

        وفي رواية عن طريق مالك بن أنس أن عمر قال عندما عدل عن كتابة السنة :"لا كتاب مع كتاب الله(3)".

        وكان خوف عمر من إقدامه علي كتابة السنة أن ينكب المسلمون علي دراسة غير القرآن ويهملوا كتاب الله عز وجل(4).

        ولذلك نرى عمر رضي الله عنه يمنع الناس من أن يتخذوا كتابًا مع كتاب الله، وينكر إنكارً شديدًا علي من نسخ كتاب(دانيال) ويضربه ويقول له:(أنطلق فامحه... ثم لا تقرأه ولا تقرئه أحدًا من الناس، فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحدًا من الناس لأنهكنَّك عقوبة(5)).

        ولهذا نراه يخطب في الناس قائلا: (أيها الناس ، إنه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب، فأحبها إلي الله أعدلها وأقومها ،فلا يبقين أحد عنده كتاب إلا أتاني به، فأرى فيه رأي ـ قال ـ فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها، ويقومها على أمر يكون فيه اختلاف ، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار ثم قال:"أمنية كأمنية أهل الكتاب(6))كما أنه كتب إلي الأمصار ( من كان عنده منها شيء فليمحه(7)).

        كل هذا يدل علي خشية عمر من أن يهمل كتاب الله أو أن يضاهى به كتاب غيره، ونحن نرى عمر نفسه يأبى أن يبقى رأيه مكتوبًا ويأبى إلا أن يمحوه، فعندما طعن استدعى طبيًبا فعرف دنو أجله، فنادي ابنه قائلا:"يا عبد الله بن عمر، ناولني الكتف، فلو أراد الله أن يمضي ما فيه أمضاه ، فقال له ابن عمر : أنا أكفيك محوها، فقال: لا والله ، لا يمحوها أحد غيري، فمحاها عمر بيده، وكان فيها فريضة الجد(8).

        ونرى عمر نفسه حين يأمن حفظ القرآن ، يكتب بشيء من السنة إلي بعض عماله وأصحابه ( عن أبي عثمان " النهدي" قال: كنا مع عتبة بن فرقد، فكتب إليه عمر بأشياء يحدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان فيما كتب إليه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يلبس الحرير في الدنيا إلا من ليس له في الآخرة منه شيء إلا هكذا ، وقال بأصبعيه السباب والوسطي، قال أبو عثمان فرأيت أنها أزرار الطيالسة حين رأينا الطيالسة(9)).

        وروي عن عبد الله بن مسعود كراهيته لكتابه الحديث الشريف:(عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: جاء علقمة بكتاب من مكة أو اليمن، صحيفة فيها أحاديث في أهل البيت : بيت النبي صلى الله عليه وسلم فأستاذنا علي عبد الله، فدخلنا عليه، قال: فدفعنا إليه الصحيفة قال: فدعا الجارية ثم دعا بطست فيه ماء، فقلنا له يا أبا عبد الرحمن ، انظر فيها ، فإن فيها أحاديث حسانا قال : فجعل يميثها(10) فيها ويقول:" نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ "القلوب أوعية، فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بما سواه(11)).

        إلا أن هناك رواية تنص علي أن ما في الصحيفة كان من كلام أبي الدرداء وقصصه، (12) وفي رواية قال أحد الرواة ( يرى أن هذه الصحيفة أخذت من أهل الكتاب، فلهذا كره عبد الله النظر فيها(13)).

        ولا يمكننا أن نجزم بأن ما في تلك الصحيفة كان من القصص أو مما أخذ عن أهل الكتاب، لأنه ثبت عن الأسود بن هلال أنه قال:(أتي عبد الله بصحيفة فيها حديث، فدعا بماء فمحاها، ثم غسلها ، ثم أمر بها فأحرقت ، ثم قال: أذكر الله رجلا يعلمها عند أحد إلا أعلمني به، والله لو أعلم أنها بدير هند لبلغتها، بهذا أهلك أهل الكتاب قبلكم حين نبذوا كتب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون (14)).

        إن تصرف ابن مسعود يدل علي أنه خشي أن يشتغل الناس بكتابة السنة ويدعوا القرآن أو أن يشتغلوا بغير القرآن الكريم، ونراه يكتب بعض السنة بيده حين زالت علة المنع، فعن مسعر عن معن قال:(أخرج إلي عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود كتابا وحلف لي أنه خط أبيه بيده(15)).

        وهذا علي رضي الله عنه يخطب في الناس قائلا:أعزم على كل من كان عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حيث اتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم(16)).

        وأبى زيد بن ثابت أن يكتب عنه مروان بن الحكم(17) وقال:(لعل كل شيء حدثتكم به ليس كما حدثتكم(18)) وفي رواية قال: ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا ألا نكتب شيئا من حديثه)(19).

        وكذلك أبى أبو هريرة أن يكتب عنه كاتب مرون بن الحكم(20))وكان أحيانا يقول: إن أبا هريرة لا يكتم ولا يكتب(21) وفي روية (نحن لا نكتب ولا نكتب(22)).

        وقال ابن عباس:(إنا لا نكتب العلم ولا نكتبه(23))، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان ينهي عن كتابة العلم، وقال:(إنما ضل من كان قبلكم بالكتب(24)).

        وقد تمسك أبو سعيد الخدري بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه في النهي عن كتابة غير القرآن, وأبى أن يُكتب أبا نضرة حين قال له هذا ألا تكتبنا فإنا لا نحفظ؟ فقال أبو سعيد : لا إنا لن نكتبكم، ولن نجعله قرآنا ، ولكن احفظوا عنا كما حفظنا نحن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (25).

        ويروى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه كان يكره كتابة الحديث، روي عن سعيد بن جير أنه قال:(كنا نختلف في أشياء فنكتبها في كتاب، تم أتيت بها ابن عمر أسأله عنها خفيًا(26)،فلو علم بها كانت الفيصل بيني وبينه(27)).

        وكره أبو موسى أن يكتب ابنه عنه مخافة أن يزيد أو ينقص ، ومحا ما كتبه بالماء (28) وفي رواية قال:(احفظوا عنا كما حفظنا(29)) ، وفي رواية عنه أنه قال: (إن بني إسرائيل كتبوا كتابا واتبعوه ..وتركوا التوراة)(30).
------------------
(1)- تذكرة الحفاظ ص5ج1.
(2) - جامع بيان العلم وفضله ص46ج1،ونحوه في تقييد العلم ص50،
(3) - جامع بيان العلم وفضلة ص64ح1.
(4) - اتنظر تقييد العلم ص50.
(5) - تقيد العلم ص52 ونحو مختصرا في جامع بيان العلم ص42 ج2.
(6) - تقييد لعلم ص52، ورواه محمد بن القاسم.
(7)- تقييد العلم ص53،وجامع بيان العلم وفضله ص65ج1.
(8) - طبقات ابن سعد ص247قسم 2ج3.
(9) - مسند الإمام أحمد ص261ج1.
(10) - ماثه: مرسه، أي فكره ليذوب في الماء وتتفرق اجزاؤه.
(11) - تقييد العلم ص54 وورد عنه النهي عن كتابة ما سوى القرآن، عندما علم أن بعضهم يكتب كلامه انظر سنن الدارمي ص125ج1والآية هي: يوسف (3).
(12)- انظر تقييد العلم ص 54-55.
(13)- جامع بيان العلم وفضله ص 66 ج1 ونحو هذا في سنن الدرامي ص 124 ج1.
(14) - المراجع السابق ص65ج1 ونحوه في سنن الدرامي وفيه لو أنها" بدار النهدارية" يعني ـ مكانا بعيدًا بالكوفة ـ إلا أتيته ولو مشيا ص 124ج1.
(15) - جامع بيان العلم وفضله ص72ج1.
(16) - المرجع السابق ص63ج1.
(17)- انظر جامع بيان العلم وفضله ص 63ج1
(18)- المرجع السابق ص65ج1.
(19)- تقييد العلم ص35.
(20)- انظر تقيد العلم ص41والإصابة ص 202 ج7.
(21)- انظر طبقات ابن سعد ص 119 قسم 2ج2 ونحوه في تقييد العلم ص42.
(22)- جامع بيان العلم ص66ج1وقارون بسنن الدارمي ص122ج1.
(23)- جامع بيان العلم ص65ج1 ونحوه في تقييد العلم ص 42.
(24)- جامع بيان العلم ص65ج1، تقييد العلم ص43.
(25)- سنن الدرامي ص122ج1، وانظر تقييد العلم فيه روايات مختلفة عنه ص36، 38 وكذلك في جامع بيان العلم وفضله ص64 ج1،وفي رواية عن أبي سعيد قال:"أتدرون أن يجعلوها مصاحف، إن نبيكم صلى الله عليه وسلم كان يحدثنا فنحفظ فاحفظوا كما كنا نحفظ" انظر جامع بيان العلم ص64ج1 وانظر كتاب العلم لزهير بن حرب ص191.
(26)- يريد خفية ، أي ينظر إلي الكتاب من غير أن يشعر بن عمر بذلك.
(27)- جامع بيان العلم ص66ج1 وتقييد العلم ص44.
(28)- انظر المحدث الفاصل نسخة دمشق ص6ج4وقارون بكتاب العلم لزهير بن حرب ص193وسنن الدرامي ص122ج1.
(29)- جامع بيان العلم ص66ج1.
(30) - تقييد العلم ص56.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما روي من إباحة الصحابة رضي الله عنهم لكتابة الحديث
        إن بعض الصحابة أنفسهم قد أجاز الكتابة، وكتب بعضهم بيده، وتغير رأي من عرف منهم النهي عن كتابة الحديث حينما زالت أسباب المنع، وخاصة بعد أن جمع القرآن في المصاحف وأرسل إلي الآفاق.

        ولا ينقض هذا الرأي الذي ذهبنا إليه، ما روي عن أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق كتب له فرائض الصدقة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)،بأن هذا كان قبل نسخ المصاحف، لأننا لم نجعل الخشية من التباس الكتاب بالسنة السبب الوحيد لمنع الكتابة، بل هناك أسباب أخري .

        ثم إن أنسا رضي الله عنه ممن لا يلتبس عليه ذلك، لأنه خدم رسول الله عليه الصلاة والسلام وعرفه وتلقى عنه عشر سنوات، وعلى هذا نقول: إنه ثبت عن أبي بكر كتابة شيء من السنة وكذلك ثبت عن الفاروق مثل ذلك(2).

        وهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول:(ما كنا نكتب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الاستخارة والتشهد(3))، فهذا دليل علي كتابة الصحابة غير القرآن الكريم في عهده صلى الله عليه وسلم ، وعلي عدم كراهة ابن مسعود للكتابة، وقد روينا خبر الكتاب الذي كان عند ابنه بخط يده(4).

        وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان يحض على طلب العلم وكتابته، فقد قال:(من يشتري مني علمًا بدرهم؟ قال أبو خيثمة : يقول يشتري صحيفة بدرهم يكتب فيها العلم) (5)، وخبر صحيفة علي رضي الله عنه مشهور، وقد كانت معلقة في سيفه، فيها أسنان الإبل وشيء من الجراحات(6)....

        وهذا الحسن بن علي رضي الله عنهما يقول لبنيه وبني أخيه:(تعلموا تعلموا ، فإنكم صغار قوم اليوم، تكونون كبارهم غدًا، فمن لم يحفظ منكم فليكتب(7))، وفي رواية: (فليكتبه ، وليضعه في بيته(8)).

        وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول لابن أختها عروة بن الزبير: (يا بني ، بلغني أنك تكتب عني الحديث ثم تعود فتكتبه، فقال لها: اسمعه منك على شيء، ثم أعود فأسمعه على غيره، فقالت: هل تسمع في المعني خلافًا؟ قال: لا قالت لا بأس بذلك(9))، فلو كرهت عائشة رضوان الله عليها الكتابة لمنعته ونهته، ولكنه لم يحدث شيء من هذا، بل لم تر بأسا بعمله.

        وهذا أبو هريرة رضي الله عنه يسمح لبشير بن نهيك أن يكتب عنه، ويجيزه بالرواية عنه (10)،وفي رواية يقول بشير:(أتيت أبا هريرة بكتابي الذي كتبته، فقرأته عليه فقلت: هذا سمعته منك؟ قال: نعم(11))، وروى عمر بن أمية الضمري أنه رأى كتبا كثيرة عند أبي هريرة(12).

        وكتب معاوية بن أبي سفيان إلي المغيرة بن شعبة: (أكتب إلي بشي سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب المغيرة إليه: أنه كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال(13)).

        وكتب زياد بن أبي سفيان إلي السيدة عائشة رضي الله عنها يسألها عن الحاج الذي يرسل هَديه، وهل يحرم عليه ما يحرم علي الحاج حتى ينحر، كما أفتى ابن عباس؟ فأجابته عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (فلم يحرم رسول صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي(14)).

        وهذا ابن عباس يسأل أبا رافع صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه من يكتب له(15)،وفي رواية أنه كان معه ألواح يكتب فيها (16)، وكان ابن عباس يحض علي التعلم والكتابة ويقول: (قيدوا العلم بالكتاب ، من يشتري مني علما بدرهم؟(17))، وكان يقول أحيانًا:(إنا لا نكتب في الصحف إلا الرسائل والقرآن(18))إلا أننا نرى ابن عباس نفسه يكتب غير الرسائل ، فيملي التفسير على مجاهد بن جبير، ويقول له: اكتب(19)، ويكتب إليه الحجاج أمير العراق يستفتيه في رجل أكره أخته، فيكتب إليه بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (20).

        وهذا أبو سعيد الخدري الصحابي الجليل الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث"...من كتب عني غير القرآن فليمحه" يقول (كنا لا نكتب إلا القرآن والتشهد(21)).

        وكان البراء بن عازب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث ويكتب من حوله، فعن عبد الله بن خنيس قال:(رأيتهم عند البراء يكتبون على أيديهم بالقصب(22)).

        وهذا وراد كاتب المغيرة بن شعبة يكتب بين يدي المغيرة(23).

        ويروى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان لا يخرج من بيته غدوة حتى ينظر في كتبه(24).

        وهذا أنس رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وملازمه في بيته ليلا ونهارًا عشر سنوات، كان يقول لبنيه: (يا بني قيدوا العلم بالكتاب(25))، وكان يملي الحديث (26)، حتى إذا ما أكثر عليه الناس جاء بمجال (27) من كتب، فألقاها ثم قال: (هذه أحاديث سمعتها وكتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرضتها عليه (28)).

        تلك أخبار متعاضدة، تثبت أن الصحابة رضوان الله عليهم قد أباحوا الكتابة، وكتبوا الحديث لأنفسهم ، وكتب طلابهم بين أيديهم ، وأصبحوا يتواصون بكتابة الحديث وحفظه ، كما ثبت ذلك عن علي رضي الله عنه، وعن ابن عباس، وعن الحسن ، وأنس بن مالك رضي الله عنهم، بعد أن كرهها بعض الصحابة عندما كانت أسباب المنع قائمة.
------------------
(1) - انظر تقييد العلم ص87، وفي مسند الإمام أحمد أن أبا بكر كتب لهم (إن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله) انظر ص183ج1.
(2) - انظر مسند الإمام أحمد ص261ج1،والكفاية ص336.
(3) - مصنف ابن أبي شبه ص115:ب،ج1.
(4) - انظر جامع بيان العلم ص72ج1.
(5) - العلم لزهير بن حرب ص193 : ب وتقييد العلم ص90.
(6) - انظر مسند الإمام أحمد ص45و122 ج1، وغيرها وتقييد العلم ص88 ـ99 .
(7) - الكفاية ص229.
(8) - تقييد العلم ص91.
(9) -الكفاية ص205.
(10) -انظر العلم لزهير بن حرب ص193: ب والمحدث الفاصل ص128.
(11) - طبقات ابن سعد ص162ج7وجامع بيان العلم ص72ج1
(12) - انظر جامع بيان العلم ص74ج0، فتح الباري ص217ج1
(13) - معرفة علوم الحديث ص100واختصر الحاكم الخبر وتجد تفصيل ما كتبه المغيرة إلي معاوية في حديث جامع شامل للبخاري في صحيحه ، انظر فتح الباري ص95 ج 9طبعة مصر بولاق سنة 1312هـ.
(14) - الإجابة لما استدركته عائشة علي الصحابة من 95-96 .
(15) - انظر ترجمة عبد الله بن عباس في الإصابة.
(16)- انظر تقييد العلم ص91-92-109.
(17) - العلم لزهير بن حرب ص193وجامع بيان العلم ص72ج1،وتقييد العلم ص92.
(18) - العلم لزهير بن حرب ص187.
(19) - انظر تفسير الطبري بتحقيق أحمد محمد شاكر ص31ج1.
(20) - انظر البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث ص214، 215ج2 وقد ذكر هذا في سبب ورود حديث( من تخطي الحرمتين فغطوا وسطه بالسيف) وهنا حرمة الزنا وحرمة الأخوة، وكان ابن عباس يفتي كتابة أيضًا، انظر فتواه لنجده بن عامر في مسند الإمام أحمد ص 56ج4.
(21) -تقيد العلم ص93.
(22) -جامع بيان العلم 81ج1، وانظر كتاب العلم لزهير بن حرب ص193: ب
(23) -انظر كتاب العلم لزهير بن حرب ص187.
(24) -انظر الآداب الشرعية ص125ج2.
(25) - انظر كتاب العلم لزهير بن حرب ص192وتقييد العلم ص96 ونحوه في ص 97وانظر صحيح مسلم بشرح النووي ص 244 ج1 حيث أعجبه حديث فأمر ابنه بكتابته.
(26) -انظر تاريخ بغداد ص259ج8.
(27) -مجال جمع مجلة والمجلة صحيفة يكتب فيها، أي القي إليهم صحفا، انظر لسان العرب مادة (جلل) ص127ج13.
(28) -تقييد العلم ص95-96

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التوفيق بين الكراهة والإباحة
        بعد إثبات رأي معظم الذين كرهوا كتابة الحديث في الصدر الأول إلى جانب وجهة نظرهم فيما ذهبوا إليه من المنع والكراهية، يمكن استنتاج أسباب هذه الكراهية.

        فوجدت كما قال الخطيب البغدادي، (أن كراهة الكتابة في الصدر الأول إنما هي لئلا يضاهي بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه ونهي عن الكتب القديمة أن تتخذ، لأنه لا يعرف حقها من باطلها وصحيحها من فاسدها مع أن القرآن كفى منها، وصار مهيمنا عليها، ونهى عن كتب العلم في صدر الإسلام لقلة الفقهاء في ذلك الوقت، والمميزين بين الوحي وغيره، لأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين ، ولا جالسوا العلماء العارفين، فلم يؤمن أن يُلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه كلام الرحمن (1) ) .

        أضف إلي هذا ورع الصحابة وخشيتهم من أن يكون ما يملونه أو يقيدونه غير ما سمعوه من الرسول عليه الصلاة والسلام.

        من أجل هذا أولى الصحابة رضوان الله عليهم كتاب الله عز وجل في هذه الحقبة عناية الحفظ في الصحف والمصاحف وفي الصدور، وجمعوه في عهد الصديق، ونسخوه في عهد عثمان وبعثوا به إلى الأفق، ليضمنوا حفظ المصدر التشريعي الأول من أن تشوبه أية شائبة.

        ثم حافظوا علي السنة بدراستها ومذكراتها وكتابتها أحيانا عند زوال مانع الكراهية، وقد ثبت عن كثير من الصحابة الحث علي كتابة الحديث، وإجازة تدوينه.

        ولا نشك في هذه الأخبار كما شك غيرنا ، لأننا لا نرى فيها ذلك التعارض الذي تصوره بعض المستشرقين، حتى استجازوا لأنفسهم أن يحكموا على بعضها بالوضع والإختلاق.

        وحين نقلب النظر فيما روي عن محاولة عمر رضي الله عنه جمع السنة وتدوينها، كما جمع القرآن الكريم، ثم عدوله عن ذلك خوفًا من أن يلتبس الكتاب بالسنة، وخشية ألا يميز المسلمون الجدد بينهما.

        أقول: إن محاولته هذه تدل على اقتناعه بجواز كتابة الحديث الشريف وهذا ما انتهى به أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النهي عن الكتابة ولو شك عمر رضي الله عنه في الجواز، ما هم بأن يفعل ما منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما كرهه، فإحجام الفاروق لم يكن لكراهة الكتابة، بل لمانع يقتضي أن يتريث في التدوين والجمع لمصلحة أخطر وأعظم.

        ولذلك رأيناه يكتب بنفسه لمن يأمن عليه اللبس ويثق به، وربما سمح عمر رضي الله عنه بالكتابة بعد أن رأى حفظة الأمة لكتاب الله تعالى بجمعه في المصحف الشريف، ويقوي هذا ما يروى عن عمرو بن أبي سفيان من أنه سمع عمر بن الخطاب يقول:(قيدوا العلم بالكتاب(2)).

        ويتجلى لنا رجوع بعض من كره الكتابة عن رأيه مما رويناه عن ابن مسعود وعن أبي سعيد الخدري ، إذ بعد أن كانوا يكرهون أن يكتبوا في الصحف غير القرآن إنما كان مخافة أن يضاهى بكتاب الله تعالى غيره، وأن يُشتغل عن القرآن بسواه.

        ويقول الخطيب البغدادي(فلما أمن ذلك ، ودعت الحاجة إلى كتب العلم ـ لم يكره كتبه، كما لم تكره الصحابة كتب التشهد، ولا فرق بين التشهد وبين غيره من العلوم في أن الجميع ليس بقرآن , ولن يكون كتب الصحابة ما كتبوه من العلم وأمروا بكتبه إلا احتياطًا كما كان كراهيتهم لكتبه احتياطًا ، والله أعلم.) (3)
---------------------
(1) - تقييد العلم ص57.
(2) - تقيد العلم ص88، وجامع بيان العلم ص72ج1،ووجد ابن عمر في قائم سيف أبيه صحيفة ، أنظر الكفاية ص354، وتوجيه النظر ص348.
(3) - تقييد العلم ص94

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصحيفة الصحيحة لهمام بن منبه
        لقي همام بن منبه أحد أعلام التابعين الصحابي الجليل أبا هريرة ، وكتب عنه كثيرًا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمعه في صحيفة أو صحف أطلق عليها اسم (الصحيفة الصحيحة(1)) .

        وربما سماها بالصحيحة على مثال (الصحيفة الصادقة) لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وحق له أن يسميها بالصحيحة لأنه كتبها عن صحابي خالط رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع سنين، وروى عنه الكثير.

        وقد وصلتنا هذه الصحيفة كاملة كما رواها ودونها همام عن أبي هريرة، فقد عثر على هذه الصحيفة الدكتور المحقق محمد حميد الله في مخطوطتين مماثلتين في دمشق وبرلين(2).

        وتزداد ثقتنا بصحيفة همام حينما نعلم أن الإمام أحمد قد نقلها بتمامها في مسنده، كما نقل الإمام البخاري عددًا كثيرًا من أحاديتها في صحيحه في أبواب شتى(3).

        ولهذه الصحيفة أهمية تاريخية في تدوين الحديث الشريف ، لأنها حجة قاطعة، ودليل ساطع على أن الحديث النبوي كان قد دون في عصر مبكر(وتصحيح الخطأ الشائع: أن الحديث لم يدون إلا في أوائل القرن الهجري الثاني (4)).

        ذلك لأن هماما لقي أبا هريرة، ـ ولا شك أنه كتب عنه ـ قبل وفاته وقد توفي أبو هريرة سنة (59)للهجرة فمعنى ذلك أن هذه الوثيقة العلمية قد دونت قبل هذه السنة، أي في منتصف القرن الهجري الأول.

        وقد ثبت لنا أن عبد الله بن عمرو دون في عهد الرسول صحيفته الصادقة، وها نحن أولاء يثبت لنا تدوين صحيفة همام في منتصف القرن الهجري الأول، مما يدل على أن العلماء كانوا قد باشروا التدوين فعلا قبل أمر عمر بن عبد العزيز رحمه الله .

        وكان من الأولي أن نذكر هذه الصحيفة بين كتب أبي هريرة، لأنها املاؤه لهمام، إلا أننا فضلنا الكلام عنها هنا لاشتهارها باسمه، وقد رواها عنه تلميذه معمر ابن راشد ثم عبد الرزاق عن معمر ثم هلم جرًا(5 ).

        وتضم صحيفة همام هذه (138)حديثًا وقد ذكر ابن حجر أن هماما سمع من أبي هريرة نحو أربعين ومائة حيث بإسناد واحد(6)، وهذا يزيدنا ثقة بهذه الصحيفة ، لاتفاق عدد ما جاء فيها من الأحاديث وما ذكره العلماء.
--------------------
(1) -أقدم تدوين في الحديث النبوي صحيفة همام بن منبه ص20 عن كشف الظنون.
(2) -راجع صحيفة همام ص21-23 حيث وصف الدكتور حميد الله المخطوطتين.
(3) -انظر المرجع السابق ص20.
(4) -علوم الحديث ومصطلحه للدكتور صبحي صالح ص22.
(5) -انظر صحيفة همام بن منبه ص20.
(6) -تهذيب التهذيب ص67ج11.


=========
المصدر :
انظر كتاب " السنة قبل التدوين" للدكتور / محمد عجاج الخطيب