تدوين الحديث فى عهد التابعين
تدوين الحديث في عصر التابعين رضي الله عنهم
لقد تلقى التابعون علومهم علي يدي الصحابة ، وخالطوهم وعرفوا كل شيء عنهم، وحملوا الكثير الطيب من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريقهم وعرفوا متى كره هؤلاء كتابة الحديث ومتى أباحوه، فقد تأسوا بهم وهم الرعيل الأول الذين حفظوا القرآن والسنة، فمن الطبيعي أن تتفق أراء التابعين وآراء الصحابة حول حكم التدوين.
فإن الأسباب التي حملت الخلفاء الراشدين والصحابة علي الكراهية هي نفسها التي حملت التابعين عليها، فيقف الجميع موقفًا واحدًا، ويكرهون الكتابة مادامت أسباب الكراهية قائمة، ويجمعون علي الكتابة وجوازها عند زوال تلك الأسباب .
بل إن أكثرهم يحض علي التدوين ويشجع عليه، ولن نستغرب أن نرى خبرين عن تابعي أحدهما يمنع الكتابة والآخر يبيحها، ولن نعجب من كثرة الأخبار التي تدل علي الكراهة في مختلف أجيال التابعين ـ كبارهم وأوسطهم وصغارهم ـ والأخبار التي تدل علي الإباحة ـ مادمنا نوجه كل مجموعة من هذه الأخبار وجهة تلائم الأسباب التي أدت إليها .
ونرى أن سبيل الصحابة المتأخرين وكبار التابعين إباحة تقييد الحديث، بشروط تمتنع معها كراهته المأثورة عندهم عن النبي وكبار الصحابة، (1) .
فقد امتنع عن الكتابة من كبار التابعين :-
- عبيدة بن عمرو السلماني المرادي (-72هـ).
- وإبراهيم بن يزيد التيمي (-92هـ) .
- وجابر بن زيد(-93).
- وإبراهيم النخمي(-96هـ) .
ولم يرض عبيدة أن يكتب عنده أحد، ولا يقرأ عليه أحد (2)،وقد نصح إبراهيم فقال له: " لا تخلدن عني كتابًا"(3)،وقبل وفاته دعا بكتبه فأحرقها وقال: (أخشي أن يليها قوم يضعونها غير مواضعها(4)، وكره إبراهيم النخعي أن تكتب الأحاديث في الكراريس، وتشبه بالمصاحف،(5) وكان يقول: ( ماكتبت شيئا قط) (6)، حتى إنه منع حماد بن سليمان من كتابة أطراف الأحاديث(7)،ثم تساهل في كتابتها ، قال ابن عون:(رأيت حمادا يكتب عن إبراهيم فقال له إبراهيم: ألم أنهك؟ قال إنما هي أطراف)(8).
ونسمع عامرًا الشعبي (17-103هـ) يردد عبارته المشهورة: (ما كتبت سوداء في بيضاء، ولا سمعت من رجل حديثًا فأردت أن يعيده علي (9)).
وقد ازدادت كراهية التابعين للكتابة عندما اشتهرت آراؤهم الشخصية ، فخافوا أن يدونها طلابهم مع الحديث، وتحمل عنهم ، فيدخله الالتباس.
ويمكننا أن نستنبط أن من كره الكتابة وأصر، إنما كره أن يدون رأيه ، وفي هذا يقول أستاذنا الدكتور يوسف العش: (وأما من ورد عنهم الامتناع عن الإكتاب من هذا الجيل، فيؤول امتناعهم بما لا يخالف ما انتهينا إليه، فهم جميعًا فقهاء(10)،وليس بينهم محدث ليس بفقيه، والفقيه يجمع بين الحديث والرأي، فيخاف تقييد رأيه واجتهاده إلي جانب أحاديث الرسول صلي الله عليه وسلم (11)).
ويوضح هذا بأمثلة تثبت ماذهب إليه،فيقول: (إننا نجد في الواقع أخبارا تروي كراهتهم لكتابة الرأي، كاعتذار زيد بن ثابت عن أن يكتب عنه كتاب مروان ..وجاء رجل إلي سعيد بن المسيب ـ وهو من الفقهاء الذين روي امتناعهم عن الإكتاب ـ فسأله عن شيء فأملاه عليه ، ثم سأله عن رأيه فأجابه، فكتب الرجل، فقال رجل من جلساء سعيد: أيكتب يا أبا محمد رأيك؟ فقال سعيد للرجل ناولنيها، فناوله الصحيفة فخرقها(12)،وقيل لجابر بن زيد: إنهم يكتبون رأيك، قال: تكتبون ما عسي ارجع عنه غدًا(13)؟.
وكل هذه الأقوال رويت من علماء ، حدث المؤرخون عنهم أنهم كرهوا إكتاب الناس، وهي تدل دلالة صريحة علي أن الكراهة ليست في كتابة العلم ( أي الحديث )، بل في كتابة الرأي ، وأن الأخبار التي وردت في النهي دون تخصيص إنما قصد بها الرأي خاصة ، ويشابه هذا الأمر ما حدث في أمر كراهة الرسول والصحابة الأولين: من التباس الحديث بالقرآن ، أو الانكباب عليه دونه، فما كانوا يخشونه من الحديث، ، أصبح خشية للتابعين الأولين من الرأي والتباسه بالحدث)(14).
ويقوي هذا الرأي عندنا ما ورد عن هؤلاء التابعين من أخبار يحثون فيها علي الكتابة، ويسمحون لطلابهم أن يكتبوا عنهم،وقد نشطت الكتابة عندما فرق طلاب العلم بين النهي عن كتابة الرأي والنهي عن كتابة الرأي مع الحديث ونري التابعين ينكبون علي الكتابة ، في حلقات الصحابة.
بل إن بعضهم كان يحرص علي الكتابة حرصًا شديدًا، فهذا سعيد بن جبير(-95هـ)، كان يكتب عن ابن عباس، فإذا ما امتلأت صحفه كتب في نعله حتى يملأها(15)، وعنه قال: (كنت أسير بين ابن عمر وابن عباس، فكنت أسمع الحديث منهما، فأكتبه علي واسطة الرحل حتى أنزل فأكتبه(16).
ورخص سعيد بن المسيب(94هـ) لعبد الرحمن بن حرملة بالكتابة حينما شكا إليه سوء حفظه (17)ـ ونري عامرًا الشعبي بعد أن كان يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء، يردد قوله:(الكتاب قيد العلم(18))، وكان يحض علي الكتابة ويقول : (إذا سمعتم مني شيئا فاكتبوه ولو في حائط)(19)، ومع هذا فقد روي أنه لم يوجد له بعد موته إلا كتاب بالفرائض والجراحات(20)،وإذا كانت كتبه التي تركها قليلة ولا تدل علي نشاطه العلمي ـ فإننا نعزو هذا إلي القوة حافظته، لأنه كان يعتمد علي الحفظ أكثر من اعتماده علي الكتابة، وهذا لا ينافي قط املاءه لطلابه وحبهم علي الكتابة ويقول الضحاك بن مزاحم(-105هـ) :(إذا سمعت شيئا فاكتبه ولو في حائط) كما أنه أملى على حسين بن عقيل مناسك الحج(21).
وانتشرت الكتب حتى قال الحسن البصري(-110هـ) : ( إن لنا كتبا كنا تتعاهدها(22)).
وكان عمر بن عبد العزيز (61-101هـ) يكتب الحديث، روي عن أبي قلابة قال:(خرج علينا عمر بن عبد العزيز لصلاة الظهر ومعه قرطاس ، فقلت له : يا أمير المؤمنين ، ما هذا الكتاب؟ قال: حديث حدثني به عون بن عبد الله فأعجبني فكتبته(23).....) .
وهذا يدل علي أن الكتابة قد شاعت بين مختلف الطبقات ولم يعد أحد ينكرها في أواخر القرن الأول الهجري وأوائل القرن الثاني، وقد كثرت الصحف والكتب في ذلك الوقت حتى لنرى مجاهد بن جبر(-103هـ) يسمح لبعض أصحابه أن يصعدوا إلي غرفته فيخرج إليه كتبه فينسخون منها(24).
ويطلب هشام بن عبد الملك من عامله أن يسأل رجاء بن حيوة(-112هـ) عن حديث، فيقول رجاء: ( فكنت قد نسيته لولا أنه لكان عندي مكتوبا)(25) .
وكان عطاء بن أبي رباح (-114هـ) يكتب لنفسه، ويأمر ابنه أحيانا أن يكتب له(26)، وكان طلابه يكتبون بين يديه (27)،وقد بالغ في حض طلابه علي التعلم والكتابة، فعن أبي حكيم الهمداني قال:( كنت عند عطاء بن أبي رباح، ونحن غلمان، فقال:يا غلمان ، تعالوا كتبوا ، فمن كان منكم لا يحسن كتبنا له ، ومن لم يكن معه قرطاس أعطيناه من عندنا (28)!!) .
ونشطت الحركة العلمية وازدادت معها الكتابة والقراءة علي العلماء ، ويدل علي هذا ما روي عن الوليد بن أبي السائب قال: رأيت مكحولا ونافعا وعطاء تقرأ عليهم الأحاديث(29)، وعن عبيد الله بن أبي رافع ، قال: (رأيت من يقرأ علي الأعرج ـ عبد الرحمن بن هرمز(-117هـ)،حديثه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول: هذا حديثك يا أبا داود؟ قال : نعم(30)....).
وها هو ذا نافع مولي ابن عمر(-117هـ) يملي العلم على طلابه ، وطلابه يكتبون بين يديه (31)،ويصور لنا قتادة بن دعامة السدوسي (-118هـ) بإجابته لمن يسأله عن كتابة الحديث ـ موقف هذا الجيل من التابعين من الكتابة، وبعد أن فشت فيهم وانتشرت وأصبحت من ضروريات كل طالب علم، فيقول:(وما يمنعك أن تكتب، وأخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب:"قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى(32)"؟ .؟
وكثرت الصحف المدونة ، حتى إن خالدًا الكلاعي(-104هـ) جعل علمه في الصحف له أزرار وعرًا(33).
------------------
(1) - انظر تقييد العلم : انظر تصدير أستاذنا الدكتور يوسف العش ص19 ومقالته في مجلة الثقافة المصرية : العدد (352) السنة السابعة الصفحة (8).
(2),(3) جامع بيان العلم ص67 ج1 وتقييد العلم ص45، 46.
(4) - جامع بيان العلم وفضله ص67ج1 ونحوه في سنن الدرامي ص121 ج1.
(5) -انظر سنن الدرامي 121ج1، وجامع بيان العلم وفضله ص67ح1وتقييد العلم ص48.
(6) -تقييد العلم ص60، وكان يقول: (لا تكتبوا فتكلوا) وانظر جامع بيان العلم ص68ج1.
(7) -انظر طبقات أبن سعد ص190ج1.
(8)- سنن الدرامي ص120ج1 ونحوه في كتاب العلم لزهير بن حرب ص194،
(9) -العلم لزهير بن حرب ص187: بن وجامع بيان العلم ص67ج1.
(10)-ذكر أستاذنا هنا أسماء بعض من ذكرتهم قبل وأضاف (سعيد بن المسيب (-94هـ) وطاوس (-106هـ) والقاسم (107هـ) وغيرهم) أنتهي مالم يذكره من النص.
(11) -تقييد العلم: التصدير ص20.
(12)-راجع الخبر في جامع بيان العلم ص144 ج2.
(13) -انظر جامع بيان العلم وفضله ص31ج2.
(14)- مجلة الثقافة المصرية : الصفحة 8-9 من العدد 352في السنة السابعة.
(15)- انظر تقيد العلم ص 102
(16) - تقييد العلم ص103 ونحوه في جامع بيان العلم ص72 ج1
(17) -انظر المحدث الفاصل نسخة دمشق ص4:ب ج4، وجامع بيان العلم وفضله ص73ج1
(18) - تقيد العلم ص99، وجامع بيان العلم ص75ج1.
(19) - المراجع السابق ص100 والعلم لزهير ص139:ب.
(20) - انظر تاريخ بغداد ص 232اج11.
(21) - انظر جامع بيان العلم وفضله ص27 ج1.
(22) - جامع بيان العلم وفضله ص74ج1، والعلم لزهير ص189:ب.
(23) - سنن الدارمي ص130ج1
(24) - انظر سنن الدرامي ص128ج1، وتقييد العلم من 105
(25)- سنن الدرامي ص129ج1، وتقييد العلم ص108.
(26) - انظر المحدث الفاصل نسخة دمشق ص3:ب ج4.
(27) - انظر سنن الدرامي ص129ج5.
(28) - المحدث الفاصل نسخة دمشق ص3،ب ج4.
(29) - الكفاية في علم الرواية ص264.
(30) - طبقات ابن سعد ص209ج5.
(31) - انظر سنن الدرامي ص129و126ج1.
(32) - تقييد العلم ص103 والآية 52 من سورة طه
(33) - انظر تذكرة الحفاظ ص87ج1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تدوين الحديث في عهد عمر بن عبد العزيز
عاش عمر بن عبد العزيز في جو علمي ، فلم يكن بعيدًا ـ وهو أمير الأمة ـ عن العلماء، ورأيناه يكتب بنفسه بعض الأحاديث، ويشجع العلماء، وقد رأى أن يحفظ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ويجمعه.
وربما دعاه إلى هذا نشاط التابعين آنذاك وإباحتهم للكتابة حين زالت أسباب الكراهة، لأننا لا نعقل أن يأمر بجمع السنة وتدوينها والعلماء كارهون لهذا ، ولو كرهوا كتابتها ما استجابوا لدعوته، ومما لاشك فيه أن خشيته من ضياع الحديث دفعته إلى العمل لحفظه.
ويمكننا أن نضم إلى ما ذكرنا سببًا آخر كان له أثر بعيد في نفوس العلماء حملهم علي تنقيح السنة وحفظها، وهو ظهور الوضع بسبب الخلافات السياسية والمذهبية.
ويؤكد لنا هذا ما يرويه أخو ابن شهاب الزهري عنه قال:(سمعته ـ يعني ابن شهاب ـ يقول: لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها لا نعرفها ـ ما كتبت حديثًا ، ولا أذنت في كتابه(1)) .
ورأي الزهري هذا رأي أكثر علماء ذلك العصر، فإن حرصهم علي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يدرس لا يقل عن حرصهم على سلامته من الكذب والوضع.
فكان هذان العاملان من أقوى العوامل التي حفزت همم العلماء إلى خدمة السنة وكتابتها، عندما تبنت الحكومة جمعها رسميًا على يدي الخليفة الورع عمر بن عبد العزيز، الذي اتخذ خطوة حازمة فكتب إلى الآفاق:(انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه (2)).
وكان فيما كتب إلى أهل المدينة: ( انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه ، فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله(3)) , وكان في كتابه إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم (-117هـ) عامله علي المدينة أن (اكتب إلي بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبحديث عمرة، فإني خشيت دروس العلم وذهابه(4)) وفي رواية : أمره (أن يكتب له العلم من عند عمرة بنت عبد الرحمن(-98هـ) والقاسم بن محمد (-107هـ) ، فكتبه له (5))وفي رواية: (فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وليفشوا العلم، وليجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًا(6)).
كما أمر ابن شهاب الزهري(-134هـ) وغيره بجمع السنن (7)،وربما لم يكلف عمر بن عبد العزيز بأمر من أمرهم بجمع الحديث، فأرسل كتبًا إلى الآفاق يحث المسئولين فيها علي تشجيع أهل العلم على دراسة السنة وإحيائها.
ومن هذا ما يرويه عكرمة بن عمار قال:(سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز يقول:(أما بعد فأمروا أهل العلم أن ينتشروا في مساجدهم، فإن السنة كانت قد أميتت(8))كما كتب (إنه لا رأي لأحد في كتاب، وإنما رأي الأئمة فيما لم ينزل فيه كتاب ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا رأي لأحد في سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم (9)).
بل هناك أخبار تثبت أن عمر بن عبد العزيز قد شارك العلماء في مناقشة بعض ما جمعوه , من ذلك ما رواه أبو الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي قال:(رأيت عمر بن العزيز جمع الفقهاء، فجمعوا له أشياء من السنن ، فإذا جاء الشيء الذي ليس العمل عليه،قال : هذه زيادة ليس العمل عليها(10)).
لقد بذل عمر بن عبد العزيز جهده في المحافظة على السنة، مع قصر مدة خلافته، فقد طلب من أبي بكر بن حزم جمع الحديث .
وأبو بكر هذا من أعلام عصره , قال فيه مالك بن أنس : ( ما رأيت مثل أبي بكر بن حزم أعظم مروءة ولا أتم حالا... ولي المدينة والقضاء والموسم(11))، وعنه قوله:(لم يكن عندنا أحد بالمدنية عنده من علم القضاء ما كان عند أبي بكر(12))..وكان قد طلب منه أن يكتب إليه حديث عمرة بنت عبد الرحمن، وهي خالته، نشأت في حجر عائشة ، وكانت من أثبت التابعين في حديث عائشة رضي الله عنها(13) .
وأما القاسم بن محمد بن أبي بكر(27-107هـ) الذي ذكر في بعض الروايات فهو أحد الفقهاء السبعة في المدنية، وعالم أهل زمانه، تلقي علمه عن عمته عائشة رضي الله عنها، وعائشة أم المؤمنين معروفة بعلمها وتعمقها في السنة، وهي غنية عن التعريف،.
وأما ابن شهاب أحد الذين شاركوا في الجمع والكتابة فهو أحد أعلام ذلك العصر، كان قد كتب السنن وما جاء عن الصحابة أثناء طلبه العلم (14)،وكان ذا مكانة رفيعة، فقد روي عن أبي الزناد أنه قال: (كنا نكتب الحلال والحرام وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس)(15).
وإذا كانت المنية قد اخترمت الخليفة الراشد الخامس قبل أن يرى الكتب التي جمعها أبو بكر ـ كما يذكر ذلك بعض العلماء(16)،ـ فإنه لم تفته أولى ثمار جهوده، التي حققها ابن شهاب الزهري الذي يقول :(أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن ، فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا(17)) وعلى هذا يحمل ما قاله المؤرخون والعلماء: (أول من دون العلم ابن شهاب(18)) وله أن يفخر بعلمه هذا، ويقول: ( لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني(19)).
وقد اعتبر علماء الحديث تدوين عمر بن عبد العزيز هذا أول تدوين للحديث ورددوا في كتبهم هذه العبارة:(وأما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع على رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز) أو نحوها.
وفهم من هذا أن التدوين الرسمي كان في عهد عمر بن عبد العزيز ، أما تقييد الحديث وحفظه في الصحف والرقاع والعظام فقد مارسه الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم ينقطع تقييد الحديث بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، بل بقي جنبًا إلى جنب مع الحفظ حتى قيض الحديث من يودعه المدونات الكبرى.
وهكذا كانت نهاية القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني خاتمة حاسمة لما كان من كراهة الكتابة وإباحتها، فدونت السنة في صحف وكراريس ودفاتر، وكثرت الصحف في أيدي طلاب الحديث.
----------------------
(1)- تقيد العلم ص108.
(2)- فتح الباري ص204 ج1 رواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان.
(3)- سنن الدارمي ص126ج1 .
(4)- سنن الدرامي ص126ج1.
(5)- تقدمة الحرج والتعديل ص21، والمراد أن يكتب له حديث عمرة ، لأنها توفيت قبل سنة (99)هـ ، السنة التي تولي فيها عمر بن عبد العزيز الخلافة ، وواضح هذا في الخبر الذي قبله.
(6)- فتح الباري ص204ج1.
(7)- انظر جامع بيان العلم وفضله ص76ج1.
(8)- المحدث الفاصل ص153.
(9) -سنن الدارمي ص114ج1، وانظر جامع بيان العلم وفضله ص34ج2.
(10) - قبول الأخبار ص30، وتوفي أبو الزناد سنة (131هـ) ، ومن ذلك أيضًا ( ما روي عن يعقوب بن عبد الرحمن عن أبيه، قال: حضرت عبيد الله بن عبد الله ، دخل علي عمر بن عبد العزيز ،فأجلس قومًا يكتبون ما يقول، فلما أراد أن يقوم، قال له عمر: (صنعنا شيئا) قال: وما هو يا ابن عبد العزيز؟قال:(كتبنا ما قلت) قال: وأين هو؟ قال: فجيء به : فخرق ، تقييم العلم ص45، ربما كره الكتابة عنه لأنه ممن يحب الاعتماد على الحفظ .
(11) - تهذيب الهذيب ص39ج12.
(12) - تهذيب الهذيب ص39ج12.
(13) - انظر المرجع السابق ص438 ج12، وقال سفيان بن عبينة: أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة، القاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير، وعمرة بنت عبد الرحمن، انظر تقدمه الحرج والتعديل ص45.
(14) - انظر جامع بيان العلم وفضله ص76ج1 والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ص156ج1.
(15) - جامع بيان العلم وفضله ص73ج1 وانظر ترجمة ابن شهاب في الفصل الثاني من الباب الخامس من هذا الكتاب.
(16) - جامع بيان العلم وفضله ص76ج1.
(17) - المرجع السابق ص76ج1 وحيلة الأولياء ص363،ج3.
(18) -الرسالة المستطرفة ص4.
(19) -تدريب الراوي ص40وقواعد التحديث ص46 ـ ونحو هذا في توجيه النظر ص6 وإرشاد الساري ص14ج1
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراحل التصنيف في القرون الثلاثة الأولى
لم يلبث هذا التيار من النشاط العلمي وكتابة الحديث أن طالع للعالم بمدونات حديثة مختلفة على يدي أبناء النصف الأول من القرن الثاني الهجري، وقد ظهرت تلك المصنفات والكتب في أوقات متقاربة، وفي مناطق مختلفة من الدولة الإسلامية .
فبعد أن كان أهل الحديث يجمعون الأحاديث المختلفة في الصحف والكراريس ، أصبحوا يرتبون الأحاديث على الأبواب ، وكانت هذه المصنفات تشتمل على السنن وما يتعلق بها، وكان بعضها يسمى مصنفا وبعضها يسمى جامعًا أو مجموعاً وغير ذلك.
وقد اختلف في أول من صنف وبوب، فقيل عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح البصري (-150هـ) بمكة , ومالك بن أنس (93-189هـ) أو محمد بن إسحاق(-151هـ) بالمدينة المنورة ، وصنف بها محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب(80-158هـ) موطأ أكبر من موطأ مالك، والربيع بن صبيح (-160هـ) أو سعيد بن أبي عروبة (-156هـ) أو حماد بن سلمة (-167هـ) بالبصرة، وسفيان الثوري(97-161هـ) بالكوفة، ومعمر بن راشد (95-153هـ) باليمن، والإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (88-157هـ) بالشام، وعبد الله بن المبارك (118-181هـ) بخراسان، وهيثم بن بشير(104-183هـ) بواسط (1)،وجرير بن عبد الحميد(110-188هـ) بالري، وعبد الله بن وهب(125-197هـ) بمصر(2) , ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم.
وقد كان هذا التصنيف بالنسبة إلى جمع الأبواب وضمها إلى بعضها في مؤلف أو جامع، وأما جمع حديث إلى مثله في باب واحد، فقد سبق إليه التابعي الجليل عامر الشعبي (19-103هـ)،الذي يروى عنه أنه قال: هذا باب من الطلاق جسيم، إذا اعتدت المرأة ورثت(3)،وساق فيه أحاديث(4).
وكان معظم هذه المصنفات ، والمجاميع يضم الحديث الشريف وفتاوى الصحابة والتابعين ، كما يتجلى لنا هذا في موطأ الإمام مالك بن أنس(5).
ثم رأى بعضهم أن تفرد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في مؤلفات خاصة، فألفت المسانيد، وهي كتب تضم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيدها خالية من فتاوى الصحابة والتابعين ،تجمع فيها أحاديث كل صحابي ـ ولو كانت في مواضيع مختلفة ـ تحت اسم مسند فلان ، ومسند فلان وهكذا.
وأول من ألف المسانيد أبو داود سليمان بن الجارود الطيالسي(133ـ 204هـ) (6)، وتبعه بعض من عاصره من أبتاع التابعين وأتباعهم، فصنف أسد بن موسى الأموي(-212هـ) ، وعبيد الله بن موسى العبسي (-213هـ) ومسدد البصري(-822هـ) ، واقتفى الأئمة آثارهم، كأحمد بن حنبل(164-241هـ) وإسحاق بن راهويه(161-238هـ) وعثمان بن أبي شيبة (156-239هـ) وغيرهم(7).
ويعتبر مسند الإمام أحمد بن حنبل ـ وهو من أتباع اتباع التابعين ـ أو فى تلك المسانيد وأوسعها.
جمع هؤلاء الحديث ودونوه بأسانيده، واجتنبوا الأحاديث الموضوعة، وذكروا طرقًا كثيرة لكل حديث يتمكن بها جهابذة هذا العلم وصيارفته من معرفة الصحيح من الضعيف ، والقوي من المعلول، مما لا يتيسر لكل طالب علم.
فرأى بعض الأئمة أن يصنفوا في الحديث الصحيح، وظهرت الكتب الستة في هذا العصر، عصر إتباع إتباع التابعين، وكان أول من صنف ذلك الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري(194-256هـ) ، ثم الإمام مسلم بن الحجاج القشيري(204-261هـ) وأبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (202-275) ، وأبو عيسي محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (-279هـ) وأحمد بن شعييب الخراساني النسائي(215-303هـ) ، ثم ابن ماجه، وهو عبد الله بن محمد بن يزيد بن عبد الله بن ماجه القزويني (207-273هـ) (8).
وقد خدمت هذه الكتب بالشرح والتهذيب والاختصار والاستخراج عليها من قبل العلماء الذين جاءوا بعدهم.
--------------------------
(1)- انظر تاريخ بغداد ص85ج14، وتذكرة الحافظ ص229ج1.
(2) - انظر المحدث الفاصل ص155 ، وتدريب الراوي ص40.
(3) - المحدث الفاصل ص155والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع نسخة الإسكندرية ص188: أ، ومقدمة فتح الباري ، وتدريب الراوي ص40.
(4) - تدريب الراوي ص40 ومنهج ذوي النظر ص18.
(5) - في موطأ ثلاثة ألاف مسألة وسبعمائة حديث انظر الرسالة المستطرفة ص11.
(6) - انظر الرسالة المستطرقة ص46، وقد طبع هذا المسند طبعة جيدة في حيدر آباد بالهند سنة 1321.
(7) - انظر منهج ذوي النظر ص18، وتدريب الراوي ص40والرسالة المستطرقة ص36-47.
(8) - ليس من موضوعنا أن تتكلم على هذه الكتب الستة الان ولكن لابد لنا من أن نشير إلى أن صحيح الإمام البخاري وصحيح مسلم هما في الدرجة الأولي من هذه الكتب، ثم تأتي السنن الأربعة في رتبة تليها، وسنن ابن ماجه دونها جميعا لأن فيها ما أنكره وضعفه بعض العلماء، ولعلماء الحديث في ذلك أقوال يضيق بنا المقام لذكرها، انظر تدريب الراوي ص39-40، 47-49ا، وسبل السلام ص11-12ج1.
=========
المصدر :
انظر كتاب " السنة قبل التدوين" للدكتور / محمد عجاج الخطيب