الاثنين، 12 مارس 2012

موسوعة الفقه - باب الحدود : حد الزنا


حد الزنا


1- دعا الإسلام إلى الزواج وحبب فيه، لأنه هو أسلم طريقة لتصريف الغريزة الجنسية، وهو الوسيلة المثلى لاخراج سلالة يقوم على تربيتها الزوجان ويتعهدانها بالرعاية، وغرس عواطف الحب والود، والطيبة، والرحمة، والنزاهة والشرف، والاباء، وعزة النفس.
ولكي تستطيع هذه السلالة أن تنهض بتبعاتها، وتسهم بجهودها في ترقية الحياة وإعلائها.
2- وكما وضع الطريقة المثلى لتصريف الغريزة منع من أي تصرف في غير الطريق المشروع، وحظر إثارة الغريزة بأي وسيلة من الوسائل، حتى لا تنحرف عن المنهج المرسوم. فنهى عن الاختلاط، والرقص، والصور المثيرة، والغناء الفاحش، النظر المريب، وكل ما من شأنه أن يثير الغريزة أو يدعو إلى الفحش حتى لا تتسرب عوامل الضعف في البيت، والانحلال في الاسرة.
3- واعتبر الزنا جريمة فانونية تستحق أقصى العقوبة لأنه وخيم العاقبة، ومفض إلى الكثير من الشرور والجرائم.
فالعلاقات الخليعة والاتصال الجنسي غير المشروع، مما يهدد المجتمع بالفناء والانقراض، فضلا عن كونه من الرذائل المحقرة. {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا}.
4- لأنه سبب مباشر في انتشار الأمراض الخطيرة التي تفتك بالابدان، وتنتقل بالوراثة من الآباء إلى الابناء، وأبناء الابناء، كالزهري، والسيلان، والقرحة.
5- وهو أحد أسباب جريمة القتل، إذ أن الغيرة طبيعية في الإنسان، وقلما يرضى الرجل الكريم، أو المرأة العفيفة بالانحراف الجنسي، بل إن الرجل لا يجد وسيلة يغسل بها العار الذي يلحقه ويلحق أهله إلا الدم.
6- والزنا يفسد نظام البيت، ويهز كيان الاسرة، ويقطع العلاقة الزوجية، ويعرض الأولاد لسوء التربية مما يتسبب عنه: التشرد، والانحراف والجريمة.
7- وفي الزنا ضياع النسب، وتمليك الأموال لغير أربابها عند التوارث.
8- وفيه تغرير بالزوج: إذ أن الزنا قد ينتج عنه الحمل، فيقوم الرجل بتربية غير ابنه.
9- إن الزنا علاقة مؤقتة لا تبعة وراءها، فهو عملية حيوانية بحتة ينأى عنها الإنسان الشريف.
وجملة القول أنه قد ثبت عمليا ثبوتا لا مجال للشك فيه عظم ضرر الزنا، وأنه من أكبر الاسباب الموجبة للفساد وانحطاط الآداب، ومورث لاقتل الادواء، ومروج للعزوبة واتخاذ الخدينات، ومن ثم كان أكبر باعث على الترف والسرف والعهر والفجور.
لهذا كله وغيره جعل الإسلام عقوبة الزنا أقسى عقوبة.
وإذا كانت هذه العقوبة تبدو قاسية، فإن آثار الجريمة المترتبة عليها أشد ضررا على المجتمع.
والإسلام يوازن بين الضرر الواقع على المذنب، والضرر الواقع على المجتمع، ويقضي بارتكاب أخف الضررين، وهذه هي العدالة.
ولا شك أن ضرر عقوبة الزاني لا توزن بالضرر الواقع على المجتمع من إفشاء الزنا، ورواج المنكر، وإشاعة الفحش والفجور.
إن عقوبة الزنا إذا كان يضار، بها المجرم نفه، فإن في تنفيذها حفظ النفوس، وصيانة الاعراض، وحماية الاسر، التي هي اللبنات الأولى في بناء المجتمع، وبصلاحها يصلح وبفسادها بفسد.
إن الأمم بأخلاقها الفاضلة، وبآدابها العالية، ونظافتها من الرجس، والتلوث، وطهارتها من التدلي والتسفل.
على أن الإسلام - من جانب آخر - كما أباح الزواج أباح التعدد حتى يكون في الحلال مندوحة عن الحرام، ولكي لا يبقي عذر لمتقرف هذه الجريمة.
وقد احتاط في تنفيذ هذه العقوبة بقدر ما أخاف الزناة وأرهبهم:
1- فمن الاحتياط أنه درأ الحدود بالشبهات، فلا يقام حد إلا بعد التيقن من وقوع الجريمة.
2- وانه لابد في إثبات هذه الجريمة من أربعة شهود عدل من الرجال، فلا تقبل فيها شهادة النساء، ولا شهادة الفسقة.
3- وأن يكون الشهود جميعا رأوا عملية الزنا نفسها كالميل في المكحلة، والرشاء في البئر، وهذا مما يصعب ثبوته.
4- ولو فرض أن ثلاثة منهم شهدوا بهذه الشهادة وشهد الرابع بخلاف شهادتهم، أو رجع أحدهم عن شهادته أقيم عليهم حد القذف.
فهذا الاحتياط الذي وضعه الإسلام في إثبات هذه الجريمة، مما يدفع ثبوتها قطعا.
فهذه العقوبة هي إلى الارهاب والتخويف أقرب منها إلى التحقيق والتنفيذ.
وقد يقول قائل: إذا كان الحد مما يندر إقامته، لتعذر ثبوت الادلة، فلماذا إذن شرعه الإسلام؟
والجواب كما قلنا: أن الإسلام إذا لاحظ قسوة الجريمة وضراوتها فإنه يعمل لها ألف حساب وحساب قبل أن تقترف.
فهذا نوع من الزجر بالنسبة لهذه الجريمة التي تجد من الحوافز والبواعث ما يدفع إليها، ولا سيما وأن الغريزة الجنسية من أعنف الغرائز، إن لم تكن أعنفها على الاطلاق، ومن المناسب أن يواجه عنف الغريزة عنف العقوبة، فإن ذلك من عوامل الحد من ثورتها
التدرج في تحريم الزنا:
يرى كثير من الفقهاء أن تقرير عقوبة الزنا كانت متدرجة كما حدث في تحريم الخمر، وكما حصل في تشريع الصيام.
فكانت عقوبة الزنا في أول الأمر الايذاء بالتوبيخ والتعنيف.
يقول الله سبحانه: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما}.
ثم تدرج الحكم من ذلك إلى الحبس في البيوت.
يقول الله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أن يجعل الله لهن سبيلا}.
ثم استقر الأمر، وجعل الله السبيل، فجعل عقوبة الزاني البكر مائة جلدة ورجم الثيب حتى يموت.
وكان هذا التدرج ليرتقي بالمجتمع، ويأخذ به في رفق وهوادة إلى العفاف والطهر، وحتى لا يشق على الناس هذا الانتقال، فلا يكون عليهم في الدين حرج، واستدلوا لهذا بحديث عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي.
ونرى أن الظاهر أن آيتي النساء المتقدمتين تتحدثان عن حكم السحاق واللواط، وحكمهما يختلف عن حكم الزنا المقرر في سورة النور.
فالآية الأولى في السحاق: {واللاتي ياتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا}.
والثانية في اللواط: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما}.
1- أي والنساء اللاتي يأتين الفاحشة وهي السحاق: الذي تفعله المرأة مع المرأة فاستشهدوا عليهن أربعة من رجالكم، فإن شهدوا فاحبسوهن في البيوت بأن توضع المرأة وحدها بعيدة عمن كانت تساحقها، حتى تموت أو يجعل الله لهن سبيلا إلى الخروج بالتوبة أو الزواج المغني عن المساحقة.
2- والرجلان اللذان يأتيان الفاحشة - وهي اللواط - فآذوهما بعد ثبوت ذلك بالشهادة أيضا، فإن تابا قبل إيذائهما بإقامة الحد عليهما، فإن ندما وأصلحا كل أعمالهما وطهرا نفسيهما فأعرضوا عنهما بالكف عن إقامة الحد عليهما.

الزنا الموجب للحد:
إن كل اتصال جنسي قائم على أساس غير شرعي، يعتبر زنا تترتب عليه العقوبة المقررة من حيث إنه جريمة من الجرائم التي حددت عقوباتها.
ويتحقق الزنا الموجب للحد بتغييب الحشفة - أو قدرها من مقطوعها - في فرج محرم، مشتهى بالطبع، من غير شبهة نكاح، ولو لم يكن معه إنزال.
فإذا كان الاستمتاع بالمرأة الاجنبية فيما دون الفرج، فإن ذلك لا يوجب الحد المقرر لعقوبة الزنا، وإن اقتضى التعزير.
فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني عالجت امرأة من أقصى المدينة فأصبت منها، دون أن أمسها، فأنا هذا، فأقم علي ما شئت فقال عمر: سترك الله لو سترت على نفسك، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فانطلق الرجل، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا، فدعاه، فتلا عليه: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين}.
فقال له رجل من القوم: يا رسول الله أله خاصة، أم للناس عامة؟..فقال: للناس عامة رواه مسلم وأبو داود والترمذي.

.أقسام الزناة:
الزاني: إما أن يكون بكرا، أو محصنا - ولكن منهما حكم يخصه:

.حد البكر:
اتفق الفقهاء على أن البكر الحر إذا زنا فإنه يجلد مائة جلدة، سواء في ذلك الرجال والنساء، لقول الله سبحانه في سورة النور: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}.

.الجمع بين الجلد والتغريب:
والفقهاء، وإن اتفقوا على وجوب الجلد، فإنهم قد اختلفوا في إضافة التغريب إليه:
1- قال الشافعي وأحمد: يجمع إلى الجلد التغريب مدة عام، لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة وزيد بن خالد: أن رجلا من الاعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنشدك الله ألا قضيت لي بكتاب الله، وقال الخصم الآخر - وهو أفقه منه -: نعم، فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل قال إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة.
فسألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وان على امرأة هذا الرجم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لاقضين بينكما بكتاب الله - الوليدة والغنم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام - واغد يا أنيس رجل من أسلم إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها قال: فعدا عليه فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت».
وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنا ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد عليه.
وأخرج مسلم عن عبادة بن الصامت، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم».
وقد أخذ بالتغريب الخلفاء الراشدون - ولم ينكره أحد - فالصديق رضي الله عنه غرب إلى فدك - والفاروق عمر رضي الله عنه إلى الشام - وعثمان رضي الله عنه إلى مصر - وعلي رضي الله عنه إلى البصرة.
والشافعية يرون أنه لا ترتيب بين الجلد والتغريب فيقدم ما شاء منهما، واشترط في التغريب أن يكون إلى مسافة تقصر فيها الصلاة، لأن المقصود به الايحاش عن أهله ووطنه، وما دون مسافة القصر في حكم الحضر، فإن رأى الحاكم تغريبه إلى أكثر من ذلك، فعل.
وإذا غربت المرأة، فإنها لاتغرب إلا بمحرم أو زوج فلو لم يخرج إلا بأجرة لزمت، وتكون من مالها.
2- وقال مالك والاوزاعي: يجب تغريب البكر الحر الزاني، دون المرأة البكر الحرة الزانية، فإنها لاتغرب، لأن المرأة عورة.
3- وقال أبو حنيفة: لا يضم إلى الجلد التغريب إلا أن يرى الحاكم ذلك مصلحة، فيغربهما على قدر ما يرى.

.حد المحصن:
وأما المحصن الثيب فقد اتفق الفقهاء على وجوب رجمه إذا زنا حتى يموت، رجلا كان أو امرأة.
واستدلوا بما يأتي:
1- عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهوفي المسجد، فناداه فقال: يا رسول الله، إني زنيت. فأعرض عنه ردد عليه أربع مرات.
فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «أبك جنون»؟ قال: لا.
قال: «فهل أحصنت»؟ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا فارجموه».
قال ابن شهاب: فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: كنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلى.
فلما أزلقته الحجارة هرب، فأدركناه بالحرة، فرجمناه، متفق عليه، وهو دليل على أن الاحصان يثبت بالاقرار مرة، وأن الجواب ينعم إقرار.
2- وعن ابن عباس قال: خطب عمر فقال: «إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا، وإني خشيت إن طال زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله تعالى، فيضلون بترك فريضة أنزلها الله تعالى فالرجم حق على من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصنا، إذا قامت البينة أو كان حمل أو اعتراف، وأيم الله لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله تعالى لكتبتها» رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي مختصرا ومطولا.
وفي نيل الاوطار: أما الرجم فهو مجمع عليه، وحكي في البحر عن الخوارج أنه غير واجب، وكذلك حكاه عنهم أيضا ابن العربي.
وحكاه أيضا عن بعض المعتزلة كالنظام وأصحابه ولامستند لهم إلا أنه لم يذكر في القرآن، وهذا باطل.
فإنه قد ثبت بالسنة المتواترة المجمع عليها.
وهو أيضا ثابت بنص القرآن.
لحديث عمر عند الجماعة أنه قال: كان مما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمناه بعده.
ونسخ التلاوة لا يستلزم نسخ الحكم، كما أخرج أبو داود من حديث ابن عباس.
وقد أخرج أحمد والطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة بن سهل عن خالته العجماء: أن فيما أنزل الله من القرآن: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة بما قضيا من اللذة».
وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي بن كعب بلفظ: كانت سورة الاحزاب توازي سورة البقرة وكان فيها آية «الشيخ والشيخة» إلخ الحديث.

.شروط الإحصان:
يشترط في المحصن الشروط الآتية:
.1- التكليف:
أي أن يكون الواطئ عاقلا بالغا.
فلو كان مجنونا أو صغيرا فإنه لا يحد. ولكن يعزر.

.2- الحرية:
فلو كان عبدا أو أمة فلارجم عليهما لقول الله سبحانه في حد الإماء: {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} والرجم لا يتجزأ.

.3- الوطء في نكاح صحيح:
أي أن يكون الواطئ قد سبق له أن تزوج زواجا صحيحا ووطء فيه ولو لم ينزل.
ولو كان في حيض أو إحرام يكفي، فإن كان الوطء في نكاح فاسد فإنه لا يحصل به الاحصان ولا يلزم بقاء الزواج لبقاء صفة الاحصان، فلو تزوج مرة زواجا صحيحا، ودخل بزوجته، ثم انتهت العلاقة الزوجية. ثم زنى وهو غير متزوج فإنه يرجم.
وكذلك المرأة إذا تزوجت، ثم طلقت فرنت بعد طلاقها، فإنها تعتبر محصنة وترجم.

.المسلم والكافر سواء:
وكما يجب الحد على المسلم إذا ثبت منه الزنا فإنه يجب على الذمي والمرتد، لأن الزمي قد التزم الاحكام التي تجري على المسلمين، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا وكانا محصنين.
وأما المرتد فإن جريان أحكام الإسلام تشمله، ولا يخرجه الارتداد عن تنفيذها عليه.
عن ابن عمر: أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة منهم قدزنيا.
فقال: «ما تجدون في كتابكم؟» فقال: تسخم وجوههما ويخزيان.
«قال: كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين».
وجاءوا بقارئ لهم فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له: ارفع يدك، فرفع يده فإذا هي تلوح.
فقال -أو قالوا- يا محمد: «إن فيها الرجم، ولكنا كنانتكاتمه بيننا فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما قال: فلقد رأيته يجنأ عليها يقيها الحجارة بنفسه» رواه البخاري ومسلم وفي رواية أحمد: بقارلهم أعور يقال له ابن صوريا.
وعن جابر بن عبد الله قال: رجم النبي صلى الله عليه رجلا من أسلم ورجلا من اليهود رواه أحمد ومسلم.
وعن البراء بن عازب قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود فدعاهم.
فقال: أهكذا تجدون حد الزنا في كتابكم؟ قالوا: نعم.
فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزنى في كتابكم.
؟ قال: لا. ولولا أنك أنشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرجم.
ولكن كثر في أشرافنا، وكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد.
فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه».
فأمر به فرجم. فأنزل الله عزوجل: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأقواههم ولم تؤمن قلوبهم} إلى قوله: {إن أوتيتم هذا فخذوه}.
يقولون: ائتوا محمدا، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا.
فأنزل الله تبارك وتعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}.
{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}.
{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}.
قال: «هي في الكفار كلها» رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
رأي الفقهاء: حكى صاحب البحر الاجماع على أنه يجلد الحربي.
وأما الرجم فذهب الشافعي وأبو يوسف والقاسمية إلى أنه يرجم المحصن من الكفار إذا كان بالغا، عاقلا، حرا، وكان أصاب نكاحا صحيحا في اعتقاده.
وذهب أبو حنيفة، ومحمد، وزيد بن علي، والناصر، والإمام يحيى: إلى أنه يجلد ولا يرجم، لأن الإسلام شرط في الاحصان عندهم.
ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهوديين إنما كان بحكم التوراة التي يدين بها اليهود.
وقال الإمام يحيى: والذمي كالحربي في الخلاف.
وقال مالك: لاحد عليه.
وأما الحربي المستأمن فذهبت العترة والشافعي وأبو يوسف إلى أنه يحد وذهب مالك وأبو حنيفة ومحمد: إلى أنه لا يحد.
وقد بالغ ابن عبد البر فنقل الاتفاق على أن شرط الاحصان الموجب للرجم هو الإسلام.
وتعقب بأن الشافعي وأحمد لا يشترطان ذلك.
ومن جملة من قال بأن الإسلام شرط: ربيعة - شيخ مالك - وبعض الشافعية.

الجمع بين الجلد والرجم:
ذهب ابن حزم وإسحاق ببن راهواية ومن التابعين الحسن البصري: إلى أن المحصن يجلد مائة جلدة، ثم يرجم حتى يموت فيجمع له بين الجلد والرجم.
واستدلوا بما رواه عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي.
وعن علي كرم الله وجهه: أنه جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة.
فقال: أجلدها بكتاب الله، وأرجمها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا يجتمع الجلد والرجم عليهما وإنما الواجب الرجم خاصة.
وعن أحمد، روايتان: إحداهما يجمع بينهما.
وهو أظهر الروايتين واختارها الخرقي.
والاخرى: لا يجمع بينهما، لمذهب الجمهور - واختارها ابن حامد.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ما عزا والغامدية واليهوديين - ولم يجلد واحدا منهما.
وقال لانيس الاسلمي «فإن اعترفت فارجمها»، ولم يأمر بالجلد، وهذا آخر الأمرين، لأن أبا هريرة قد رواه - وهو متأخر في الإسلام - فيكون ناسخا لما سبق من الحدين - الجلد والرجم - ثم رجم الشيخان أبو بكر وعمر في خلافتهما ولم يجمعا بين الجلد والرجم.
ويرى الشيخ الدهلوي عدم التعارض، وأنه لا ناسخ ولا منسوخ، وإنما الأمر يفوض إلى الحاكم قال: الظاهر عندي أنه يجوز للامام الحاكم أن يجمع بين الجلد والرجم، ويستحب له أن يقتصر على الرجم، لاقتصار النبي صلى الله عليه وسلم.
والحكمة في ذلك، أن الرجم عقوبة تأتي على النفس، فأصل الزجر المطلوب حاصل به، والجلد زيادة عقوبة مرخص في تركها، فهذا هو وجه الاقتصار على الرجم عندي.

شروط الحد:
يشترط في إقامة حد الزنا ما يلي:
1- العقل.
2- البلوغ.
3- الاختيار.
3- العلم بالتحريم.
فلا حد على صغير ولا على مجنون، ولا مكره: لما روته عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل» رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين وحسنه الترمذي.
وأما العلم بالتحريم فلان الحد يتبع اقتراف الحرام، وهو غير مقترف له، وراجع النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا، فقال له: هل تدري ما الزنا؟ وروي أن جارية سوداء رفعت إلى عمر رضي الله عنه وقيل: إنها زنت، فخفقها بالدرة خفقات وقال: أي لكاع زنيت؟ فقالت: من غوش بدرهمين.
فقال عمر: ما ترون؟ وعنده علي وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف.
فقال علي رضي الله عنه: أرى أن ترجمها.
وقال عبد الرحمن: أرى مثل ما رأى أخوك.
فقال عثمان: أراها تستسهل بالذي صنعت، لا ترى به بأسا، وإنما حد الله على من علم أمر الله عزوجل.
فقال صدقت.

.بم يثبت الحد:
يثبت الحد بأحد أمرين: الاقرار، أو الشهود.

.ثبوته بالاقرار:
أما الاقرار فهو كما يقولون سيد الادلة، وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم باعتراف ماعز والغامدية، ولم يختلف في ذلك أحد من الائمة، وإن كانوا قد اختلفوا في عدد مرات الاقرار الذي يلزم به الحد.
فقال مالك، والشافعي، وداود، والطبري، وأبو ثور: يكفي في لزوم الحد اعترافه به مرة واحدة.
لما رواه أبو هريرة وزيد بن خالد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها».
فاعترفت، فرجمها، ولم يذكر عددا.
وعند الأحناف: أنه لابد من أقارير أربعة مرة بعد مرة في مجالس متفرقة.
ومذهب أحمد وإسحاق مثل الأحناف، إلا أنهم لا يشترطون المجالس المتفرقة، والمذهب الأول هو الارجح.

.الرجوع عن الاقرار يسقط الحد:
ذهبت الشافعية، والحنفية، وأحمد إلى أن الرجوع عن الاقرار يسقط الحد لما رواه أبو هريرة عند أحمد والترمذي: أن ما عزا لما وجد مس الحجارة يشتد فر حتى مر برجل معه لحي جمل، فضربه به، وضربه الناس حتى مات. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هلا تركتموه!؟». قال الترمذي إنه حديث حسن.
وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة. انتهى.
وأخرج أبو داود والنسائي من حديث جابر نحوه، وزاد «إنه لما وجد مس الحجارة صرخ: يا قومن ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله غير قاتلي فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه قال: فهلا تركتموه وجئتموني به!!؟» من أقر بزنا امرأة فجحدت:
إذا أقر الرجل بزنا امرأة معينة، فجحدت فإنه يقام عليه الحد وحده، ولاتحد هي.
لما رواه أحمد وأبو داود عن سهل بن سعد: «أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد زنا بامرأة سماها، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فدعاها، فسألها فأنكرت، فحده وتركها».
وهذا الحد هو حد الزنا الذي أقر به، لاحد قذف المرأة كما ذهب إليه مالك والشافعي.
وقال الاوزاعي وأبو حنيفة: يحد للقذف فقط، لأن إنكارها شبهة، واعترض على هذا الرأي بأن إنكارها لا يبطل إقراره.
وذهبت الهادوية، ومحمد، ويروى عن الشافعي، أنه يحد للزنا والقذف، لما رواه أبو داود والنسائي عن ابن عباس: «أن رجلا من بكر بن ليث أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر أنه زنا بامرأة أربع مرات، فجلده مائة - وكان بكرا - ثم سأله البينة على المرأة فقالت: كذب يا رسول الله، فجلده حد الفرية ثمانين».

.ثبوته بالشهود:
الاتهام بالزنا سيئ الأثر في سقوط الرجل والمرأة، وضياع كرامتهما، وإلحاق العار بهما وبأسرتيهما وذريتهما.
ولهذا شدد الإسلام في إثبات هذه الجريمة حتى يسد السبيل على الذين يتهمون الأبرياء - جزافا أو لأدنى حزازة - بعار الدهر وفضيحة الأبد، فاشترط في الشهادة على الزنا الشروط الآتية:

.أولا: أن يكون الشهود أربعة:
بخلاف الشهادة على سائر الحقوق قال الله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} ولقوله: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} فإن كانوا أقل من أربعة لم تقبل.
وهل يحدون إذا شهدوا؟
قال الأحناف، ومالك، والراجح من مذهب الشافعي، وأحمد: نعم لأن عمر حد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة وهم: أبو بكرة ونافع وشبل ابن معبد.
وقيل: لا يحدون حد القذف، لأن قصدهم أداء الشهادة لا قذف المشهود عليه.
وهو المرجوح عندالشافعية والحنفية ومذهب الظاهرية.

.ثانيا: البلوغ:
لقول الله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء}.
فإن لم يكن بالغا فلا تقبل شهادته، لأنه ليس من الرجال، ولا ممن ترضى شهادته، ولو كانت حاله تمكنه من أداء الشهادة على وجهها، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» لصبي ليس أهلا لأن يتولى حفظ ماله، فلا يتولى الشهادة على غيره، لأن الشهادة من باب الولاية.

.ثالثا: العقل:
فلا تقبل شهادة مجنون ولامعتوه للحديث السابق، وإذا كانت شهادة الصبي لاتقبل لنقصان عقله فأولى ألا تقبل شهادة المجنون والمعتوه.

.رابعا: العدالة:
لقول الله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} وقوله: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}.

.خامسا: الإسلام:
سواء كانت الشهادة على مسلم أو غير مسلم، وهذا متفق عليه بين الائمة.

.سادسا: المعاينة:
أي أن تكون بمعاينة فرجه في فرجها كالميل في المكحلة والرشا في البئر لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لما عز: «لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت»؟ فقال: لا يا رسول الله.
فسأله صلوات الله وسلامه عليه باللفظ الصريح لا يكني.
قال: نعم. قال: «كما يغيب المرود في المكحلة والرشا في البئر»؟ قال: نعم.
وإنما أبيح النظر في هذه الحالة للحاجة إلى الشهادة، كما أبيح للطبيب، والقابلة ونحوهما.

.سابعا: التصريح:
وأن يكون التصريح بالايلاج لا بالكناية كما تقدم في الحديث السابق.

.ثامنا: اتحاد المجلس:
ويرى جمهور الفقهاء أن من شرط هذه الشهادة اتحاد المجلس بأن لا يختلف في الزمان ولا في المكان، فإن جاءوا متفرقين لا تقبل شهادتهم.
ويرى الشافعية، والظاهرية، والزيدية، عدم اشتراط هذا الشرط.
فإن شهدوا مجتمعين أو متفرقين في مجلس واحد أو في مجالس متفرقة، فإن شهادتهم تقبل، لأن الله تعالى ذكر الشهود ولم يذكر المجالس، ولان كل شهادة مقبولة تقبل إن اتفقت، ولو تفرقت في مجالس، كسائر الشهادات.

.تاسعا: الذكورة:
ويشترط في شهود الزنا أن يكونوا جميعا من الرجال ولاتقبل شهادة النساء في هذا الباب.
ويرى ابن حزم أنه يجوز أن يقبل في الزنا شهادة امرأتين مسلمتين عدل مكان كل رجل، فيكون الشهود ثلاثة رجال وامرأتين - أو رجلين وأربع نسوة - أو رجلا واحدا وست نسوة - أو ثمان نسوة لارجال معهم.

.عاشرا: عدم التقادم:
لقول عمر رضي الله عنه: أيما قوم شهدوا على حد، لم يشهدوا عند حضرته فإنما شهدوا عن ضغن، ولا شهادة لهم.
فإذا شهد الشهود على حادث الزنا بعد أن تقادم فإن شهادتهم لا تقبل عند الأحناف، ويحتجون لهذا بأن الشاهد إذا شهد الحادث مخير بين أداء الشهادة حسبة، وبين التستر على الجاني، فإذا سكت عن الحادث حتى قدم عليه العهد دل بذلك على اختيار جهة الستر، فإذا شهد بعد ذلك فهو دليل على أن الضغينة هي التي حملته على الشهادة.
ومثل هذا لاتقبل شهادته، للتهمة والضغينة، كما قال عمر، ولم ينقل أن أحدا أنكر عليه هذا القول، فيكون إجماعا.
وهذا ما لم يكن هناك عذر يمنع الشاهد من تأخير الشهادة، فإن كان هناك عذر ظاهر في تأخير الشهادة، كبعد المسافة عن محل التقاضي، وكمرض الشاهد أو نحو ذلك من الموانع، فإن الشهادة تقبل حينئذ ولا تبطل بالتقادم.
والأحناف الذين قالوا بهذا الشرط لم يقدروا له أمدا، بل فوضوا الأمر للقاضي يقدره تبعا لظروف كل حالة لتعذر التوقيت، نظرا لاختلاف الاعذار.
وبعض الأحناف قدر التقادم بشهر، وبعضهم قدره بستة أشهر.
أما جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والظاهرية، والشيعة الزيدية فإن التقادم عندهم لايمنع من قبول الشهادة مهما كانت متأخرة.
وللحنابلة رأيان: رأي مثل أبي حنيفة، ورأي مثل الجمهور.
هل للقاضي أن يحكم بعلمه؟: يرى الظاهرية أنه فرض على القاضي أن يقضي بعلمه في الدماء، والقصاص والأموال، والفروج، والحدود، سواء علم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته، وأقوى ما حكم بعلمه، لأنه يقين الحق، ثم بالاقرار، ثم بالبينة، لأن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله}.
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه».
فصح أن القاضي عليه أن يقوم بالقسط، وليس من القسط أن يترك الظالم على ظلمه لا يغيره، وصح أن فرضا على القاضي أن يغير كل منكر علمه بيده وأن يعطي كل ذي حق حقه، وإلا فهو ظالم.
وأما جمهور الفقهاء فإنهم يرون أنه ليس للقاضي أن يقضي بعلمه.
قال أبو بكر رضي الله عنه: لو رأيت رجلا على حد لم أحده حتى تقوم البينة عندي، ولان القاضي كغيره من الافراد لا يجوز له أن يتكلم بما شهده ما لم تكن لديه البينة الكاملة.
ولو رمى القاضي زانيا بما شهده منه، وهو لا يملك على ما يقول البينه الكاملة لكان قاذفا يلزمه حد القذف، وإذا كان قد حرم على القاضي النطق بما يعلم، فأولى أن يحرم عليه العمل به، وأصل هذا الرأي قول الله سبحانه: {فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} هل يثبت الحد بالحبل؟: ذهب الجمهور إلى أن مجرد الحبل لا يثبت به الحد، بل لابد من الاعتراف أو البينة.
واستدلوا على هذا بالأحاديث الواردة في درء الحدود بالشبهات.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال لامرأة حبلى: استكرهت؟ قالت: لا قال: فلعل رجلا أتاك في نومك.
قالوا: وروى الاثبات عن عمر أنه قبل قول امرأة ادعت أنها ثقيلة النوم وأن رجلا طرقها ولم تدر من هو بعد.
وأما مالك وأصحابه فقالوا: إذا حملت المرأة ولم يعلم لها زوج ولم يعلم أنها أكرهت فإنها تحد: قالوا: فإن ادعت الاكراه فلابد من الاتيان بأمارة تدل على استكراهها، مثل أن تكون بكرا فتأتي وهي تدمي، أو تفضح نفسها بأثر الاستكراه.
وكذلك إذا ادعت الزوجية، فإن دعواها لا تقبل إلا أن تقيم على ذلك البينة واستدلوا لمذهبهم بقول عمر: الرجم واجب على كل من زنا من الرجال والنساء إذا كان محصنا: إذا كانت بينة، أو الحمل، أو الاعتراف. وقال علي. يا أيها الناس إن الزنا زنيان: زنا سروزنا علانية. فزنا السر أن يشهد الشهود، فيكون الشهود أول من يرمي. وزنا العلانية أن يظهر الحبل، والاعتراف. قالوا: هذا قول الصحابة، ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم، فيكون إجماعا.

سقوط الحد بظهور ما يقطع بالبراءة:
إذا ظهر بالمرأة أو بالرجل ما يقطع بأنه لم يقع من أحد منهما زنا، كأن تكون المرأة عذراء لم تفض بكارتها أو رتقاء مسدودة الفرج، أو يكون الرجل مجبوبا أو عنينا سقط الحد.
وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا لقتل رجل كان يدخل على إحدى النساء، فذهب فوجده يغتسل في ماء، فأخذ بيده فأخرجه من الماء ليقتله، فرآه مجبوبا، فتركه ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك.

.الولد يأتي لستة أشهر:
إذا تزوجت المرأة وجاءت بولد لستة أشهر منذ تزوجت فلا حد عليها.
قال مالك: بلغني أن عثمان بن عفان أتي بامرأة قد ولدت في ستة أشهر، فأمر بها أن ترجم، فقال له علي بن أبي طالب: ليس ذلك عليها إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} وقال: {الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} فالحمل يكون ستة أشهر، فلارجم عليها، فبعث عثمان في أثرها، فوجدها قد رجمت.

.وقت إقامة الحد:
قال في بداية المجتهد: وأما الوقت فإن الجمهور على أنه لايقام في الحر الشديد ولا في البرد، ولا يقام على المريض.
وقال قوم: يقام - وبه قال أحمد وإسحاق - واحتجا بحديثي عمر أنه أقام الحد على قدامة وهو مريض.
قال: وسبب الخلاف معارضة الظواهر للمفهوم من الحد، وهو أنه حيث لا يغلب على ظن المقيم له فوات نفس المحدود.
فمن نظر إلى الأمر بإقامة الحدود مطلقا من غير استثناء قال يحد المريض.
ومن نظر إلى المفهوم من الحد قال لا يحد المريض حتى يبرأ، وكذلك الأمر في شدة الحر والبرد.
قال الشوكاني: وقد حكي في البحر الاجماع على أنه يمهل البكر حتى تزول شدة الحر والبرد، والمرض المرجو برؤه، فإن كان ميؤوسا، فقاال الهادي وأصحاب الشافعي: إنه يضرب بعثكول إن احتمله.
وقال الناصر والمؤيد بالله: لا يحد في مرضه وإن كان ميئوسا - والظاهر الأول، لحديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف الآتي: وأما المرجوم إذا كان مريضا أو نحوه فذهبت العترة، والشافعية والحنفية ومالك: إلى أنه لا يمهل لمرض ولا لغيره إذ القصد إتلافه.
وقال المروزي: يؤخر لشدة الحر أو البرد أو المرض، سواء ثبت بإقراره أو بالبينة.
وقال الاسفراييني: يؤخر للمرض فقط، وفي الحر والبرد: يرجم في الحال أو حيث يثبت بالبينة لا الإقرار أو العكس.
والحبلى لا ترجم حتى تضع وترضع ولدها إن لم يوجد من يرضعه.
وعن علي قال: «إن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها، فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت أن أجلدها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنت اتركها حتى تماثل» رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وصححه.

.الحفر للمرجوم:
اختلفت الأحاديث الواردة في الحفر للمرجوم فبعضها مصرح فيه بالحفر له، وبعضها لم يصرح به.
قال الإمام أحمد: أكثر الأحاديث على أنه لا حفر.
ولاختلاف ما ورد من أحاديث، اختلف الفقهاء.
فقال مالك وأبوحنيفة: لا يحفر للمرجوم.
وقال أبو ثور: يحفر له.
وروي عن علي رضي الله عنه: أنه حين أمر برجم شراحة الهمدانية أخرجها، فحفر لها، فأدخلت فيها، وأحدق الناس بها يرمونها.
وأما الشافعي فخير في ذلك وروي عنه أنه يحفر للمرأة خاصة.
وقد ذهبت العترة إلى أنه يستحب الحفر إلى سرة الرجل وثدي المرأة، ويستحب جمع ثيابها عليه وشدها بحيث لا تنكشف عورتها في تقلبها وتكرار اضطرابها إذا لم يحفر لها.
واتفق العلماء على أنه لاترجم إلا قاعدة، وأما الرجل فجمهورهم على أنه يرجم قائما.
وقال مالك: قاعدا، وقال غيره: يخير الإمام بينهما.

.حضور الإمام والشهود والرجم:
قال في نيل الاوطار: حكى صاحب البحر عن العترة، والشافعي، أنه لا يلزم الإمام حضور الرجم، وهو الحق، لعدم دليل يدل على الوجوب، ولما تقدم في حديث ماعزأنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز ولم يخرج معهم.
والزنا منه ثبت بإقراره كما سلف، وكذلك لم يحضر في رجم الغامدية كما زعم البعض.
قال في التلخيص: لم يقع في طرق الحديثين أنه حضر، بل في بعض الطرق ما يدل على أنه لم يحضر.
وقد جزم بذلك الشافعي، فقال: وأما الغامدية ففي سنن داود وغيره ما يدل على ذلك.
وإذا تقرر هذا تبين عدم الوجوب على الشهود ولا على الإمام.
وأم الاستحباب، فقد حكى ابن دقيق العيد أن الفقهاء استحبوا أن يبدأ الإمام بالرجم إذا ثبت الزنا بالاقرار، وتبدأ الشهود به إذا ثبت بالبينة.

.شهود طائفة من المؤمنين الحد:
قال الله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}.
استدل العلماء بهذه الآية على أنه يستحب أن يشهد إقامة الحد طائفة من المؤمنين، واختلفوا في عدد هذه الطائفة، فقيل: أربعة، وقيل: ثلاثة، وقيل اثنان.
وقيل: سبعة فأكثر.

الضرب في حد الجلد:
ذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه يضرب سائر الأعضاء ما عدا الفرج والوجه وما عدا الرأس كذلك عند أبي حنيفة.
وقال مالك: يجرد الرجل في ضرب الحدود كلها، وكذلك عند الشافعي وأبي حنيفة، ما عدا القذف.
ويضرب قاعدا لا قائما.
قال النووي: قال أصحابنا: وإذا ضربه بالسوط يكون سوطا معتدلا في الحجم، بين القضيب والعصا.
فإن ضربه بجريدة، فلتكن خفيفة بين اليابسة والرطبة، ويضربه، ضربا بين ضربين، فلا يرفع يده فوق رأسه، ولا يكتفي بالوضع، بل يرفع ذراعه رفعا معتدلا.
إمهال البكر:
تمهل البكر حتى تزول شدة الحر والبرد، وكذلك المرجو الشفاء.
فإن كان ميئوسا من شفائه.
فقال أصحاب الشافعي: إنه يضرب بعثكول إن احتمله.
روى أبو داود وغيره عن رجل من الانصار: أنه اشتكى رجل منهم حتى أضى فعاد جلده على عظم.
فدخلت عليه جارية لبعضهم، فهش لها فوقع عليها.
فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني قد وقعت على جارية دخلت علي فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما رأينا بأحدمن الناس من الضر مثل الذي هو به، لو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه به ضربة واحد.

.هل للمجلود دية إذا مات؟
إذا مات المجلود فلا دية له.
قال النووي في شرح مسلم: أجمع العلماء على أن من وجب عليه الحد فجلده الإمام أو جلاده الحد الشرعي فمات فلا دية فيه ولا كفارة، لاعلى الإمام الحاكم ولا على جلاده، ولا في بيت المال.


حكم حد الزنا فى هذه المسائل
بقاء البكارة:
وعدم زوال البكارة يعتبر شبهة في حق المشهود عليها بالزنا، عند أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، والشيعة الزيدية.
فإذا شهد أربعة على امرأة بالزنا وشهد ثقات من النساء بأنها عذراء فلاحد عليها للشبهة ولا حد على الشهود.

 الوطء في نكاح مختلف فيه:
ولا يجب الحد في نكاح مختلف في صحته، مثل زواج المتعة، والشغار، وزواج التحليل، والزواج بلا ولي أو شهود، وزواج الأخت في عدة أختها البائن، وزواج الخامسة، في عدة الرابعة البائن، لأن الاختلاف بين الفقهاء على صحة هذا الزواج يعتبر شبهة في الوطء، والحدود تدرأ بالشبهات خلافا للظاهرية، إذ أنهم يرون الحد في كل وطء قام على نكاح باطل أو فاسد.

 الوطء في نكاح باطل:
وكل زواج مجمع على بطلانه، كنكاح خامسة زيادة على الأربع، أو متزوجة، أو معتدة الغير، أو نكاح المطلقة ثلاثا قبل أن تتزوج زوجا آخر، إذا وطئ فيه فهو زنا موجب للحد، ولا عبرة بوجود العقد ولا أثر له.