الاثنين، 12 مارس 2012

موسوعة الفقه - باب الحدود : حد الخمر وحكم المخدرات


حد الخمر وحكم المخدرات


.التدرج في تحريمها:
وقد كان الناس يشربون الخمر حتى هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، فكثر سؤال المسلمين عنها وعن لعب الميسر، لما كانوا يرونه من شرورهما ومفاسدهما، فأنزل الله عز وجل: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} أي أن في تعاطيهما ذنبا كبيرا، لما فيهما من الاضرار والمفاسد المادية والدينية. وأن فيهما كذلك منافع للناس. وهذه المنافع مادية. وهي الربح بالاتجار في الخمر، وكسب المال دون عناء في الميسر.
ومع ذلك فإن الاثم أرجح من المنافع فيهما، وفي هذا ترجيح لجانب التحريم، وليس تحريما قاطعا.
ثم نزل بعد ذلك التحريم أثناء الصلاة تدرجا مع الناس الذين ألفوها وعدوها جزءا من حياتهم: قال الله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} وكان سبب نزول هذه الآية أن رجلا صلى وهو سكران فقرأ: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون} إلى آخر السورة - بدون ذكر النفي - وكان ذلك تمهيدا لتحريمها نهائيا، ثم نزل حكم الله بتحريمها نهائيا.
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون}.
وظاهر من هذا أن الله سبحانه عطف على الخمر، الميسر والانصاب والازلام.
وحكم على هذه الاشياء كلها بأنها:
1- رجس: أي خبيث مستقذر عند أولي الالباب.
2- ومن عمل الشيطان وتزيينه ووسوسته.
3- وإذا كان ذلك كذلك، فإن من الواجب اجتنابها والبعد عنها، ليكون الإنسان معدا ومهيئا للفوز والفلاح.
4- وإن إرادة الشيطان بتزيينه تناول الخمر ولعب الميسر في إيقاع العداوة والبغضاء بسبب هذا التعاطي، وهذه مفسدة دنيوية.
5- وإن إرادته كذلك في الصد عن ذكر الله، والالهاء عن الصلاة، وهذه مفسدة أخرى دينية.
6- وأن ذلك كله يوجب الانتهاء عن تعاطي شيء من ذلك.
وهذه الآية آخر ما نزل في حكم الخمر، وهي قاضية بتحريمها تحريما قاطعا.
وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال: أول ما نزل من تحريم الخمر: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما}.
فقال بعض الناس: نشربها لمنافعها، وقال آخرون: لا خير في شيء فيه إثم.
ثم نزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون}.
فقال بعض الناس نشربها ونجلس في بيوتنا، وقال آخرون: لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة مع المسلمين فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} فنهاهم فانتهوا.
وكان هذا التحريم بعد غزوة الاحزاب.
وعن قتادة أن الله حرم الخمر في سورة المائدة بعد غزوة الاحزاب، وكانت غزوة الاحزاب سنة أربع أو خمس هجرية.
وذكر إبن اسحاق أن التحريم كان في غزوة بني النضير وكانت سنة أربع هجرية على الراجح.
وقال الدمياطي في سيرته: كان تحريمها عام الحديبية سنة ست هجرية.

تشديد الإسلام في تحريم الخمر:
وتحريم الخمر يتفق مع تعاليم الإسلام التي تستهدف إيجاد شخصية قوية في جسمها ونفسها وعقلها، وما من شك في أن الخمر تضعف الشخصية وتذهب بمقوماتها، ولا سيما العقل، يقول أحد الشعراء:
شربت الخمر حتى ضل عقلي ** كذاك الخمر تفعل بالعقول
وإذا ذهب العقل تحول المرء إلى حيوان شرير، وصدر عنه من الشر والفساد ما لا حد له، فالقتل، والعدوان، والفحش، وإفشاء الاسرار، وخيانة الاوطان من آثاره.
وهذا الشر يصل إلى نفس الإنسان، وإلى أصدقائه وجيرانه، وإلى كل من يسوقه حظه التعس إلى الاقتراب منه.
فعن علي كرم الله وجهه: أنه كان مع عمه حمزة وكان له شارفان أي ناقتان مسنتان أراد أن يجمع عليهما الاذخر، وهو نبات طيب الرائحة، مع صائغ يهودي ويبيعه للصواغين، ليستعين بثمنه على وليمة فاطمة رضي الله عنها - عند إرادة البناء بها - وكان عمه حمزة يشرب الخمر مع بعض الأنصار، ومعه قينة تغنيه، فأنشدت شعرا حثته به على نحر الناقتين، وأخذ أطايبهما ليأكل منها، فثار حمزة وجب أسنمتهما وأخذ من أكبادهما.
فلما رأى علي ذلك تألم ولم يملك عينيه، وشكا حمزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدخل النبي على حمزة ومعه علي وزيد بن حارثة فتغيظ عليه وطفق يلومه - وكان حمزة ثملا قد احمرت عيناه فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له ولمن معه: وهل أنتم إلا عبيد لأبي فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ثمل، نكص على عقبيه القهقرى، وخرج هو ومن معه.
هذه هي آثار الخمر حينما تلعب برأس شاربها وتفقده وعيه، ولهذا أطلق عليها الشرع أم الخبائث.
فعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخمر أم الخبائث».
وعن عبد الله بن عمرو قال: الخمر أم الفواحش وأكبر الكبائر، ومن شرب الخمر ترك الصلاة، ووقع على أمه وخالته وعمته رواه الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن عمرو، وكذا من حديث ابن عباس بلفظ من شربها وقع على أمه.
وكما جعلها أم الخبائث أكد حرمتها، ولعن متعاطيها وكل من له بها صلة، واعتبره خارجا عن الايمان.
فعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشترى له» رواه ابن ماجه والترمذي. وقال: حديث غريب.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
وجعل جزاء من يتناولها في الدنيا أن يرحم منها في الاخرة لأنه استعجل شيئا فجوزي بالحرمان منه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب، لم يشربها في الاخرة، وإن دخل الجنة».

.تحريم الخمر في المسيحية:
وكما أن الخمر محرمة في الإسلام فهي محرمة في المسيحية كذلك.
وقد استفتت جماعة منع المسكرات رؤساء الديانة المسيحية بالوجه القبلى بالجمهورية العربية المتحدة فأفتوا بما خلاصته: أن الكتب الالهية جميعها قضت على الإنسان أن يبتعد عن المسكرات كذلك استدل رئيس كنيسة السوريين الاورثوذكس على تحريم المسكرات بنصوص الكتاب المقدس.
ثم قال: وخلاصة القول: إن المسكرات إجمالا محرمة في كل كتاب، سواء كانت من العنب أم من سائر المواد كالشعير، والتمر، والعسل، والتفاح، وغيرها.
ومن شواهد العهد الجديد في ذلك: قول بولس في رسالته إلى أهل إفسس [5: 8]: ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة.
ونهيه عن مخالطة السكير [إكوه: 11] وجزمه بأن السكيرين لا يرقون ملكوت السموات [غلاه: 21- إكو 6: 9: 10].

.أضرار الخمر:
وقد لخصت مجلة التمدين الإسلامي بقلم الدكتور عبد الوهاب خليل ما في الخمر من أضرار نفسية وبدنية وخلقية وما يترتب عليها من آثار سيئة في الفرد والجماعة فقالت: وإذا سألنا جميع العلماء سواء علماء الدين، أو الطب، أو الاخلاق، أو الاجتماع، أو الاقتصاد، وأخذنا رأيهم في تعاطي المسكرات لكان جواب الكل واحدا: وهو منع تعاطيها منعا باتا، لأنها مضرة ضررا فادحا.
فعلماء الدين يقولون: أنها محرمة، وما حرمت إلا لأنها أم الخبائب.
وعلماء الطب يقولون: إنها من أعظم الاخطار التي تهدد نوع البشر، لا بما تورثه مباشرة من الاضرار السامة فحسب، بل بعواقبها الوخيمة أيضا، إذ أنها تمهد السبيل لخطر لا يقل ضررا عنها، ألا وهو السل..والخمر توهن البدن وتجعله أقل مقاومة وجلدا في كثير من الأمراض مطلقا، وهي تؤثر في جميع أجهزة البدن، وخاصة في الكبد، وهي شديدة الفتك بالمجموعة العصبية.
لذلك لا يستغرب أن تكون من أهم الاسباب الموجبة لكثير من الأمراض العصبية ومن أعظم دواعي الجنون والشقاوة والاجرام، لا لمستعملها وحده، بل وفي أعقابه من بعده.
فهي إذن علة الشقاء والعوز والبؤس، وهي جرثومة الافلاس والمسكنة والذل، وما نزلت بقوم إلا أودت بهم: مادة ومعنى، بدنها وروحا، جسما وعقلا.
وعلماء الاخلاق يقولون: لكي يكون الإنسان محافظا على الرزانة والعفة والشرف والنخوة والمروءة، يلزم عدم تناوله شيئا يضيع به هذه الصفات الحميذة.
وعلماء الاجتماع يقولون: لكي يكون المجتمع الإنساني على غاية من النظام والترتيب يلزم عدم تعكيره بأعمال تخل بهذا النظام، وعندنا تصبح الفوضى سائدة - والفوضى تخلق التفرقة - والتفرقة تفيد الاعداء.
وعلماء الاقتصاد يقولون:
إن كل درهم نصرفه لمنفعتنا فهو قوة لنا وللوطن.
وكل درهم نصرفه لمضرتنا، فهو خسارة علينا وعلى وطننا، فكيف بهذه الملايين من الليرات التي تذهب سدى على شرب المسكرات على اختلاف أنواعها.
وتؤخرنا ماليا وتذهب بمروءتنا ونخوتنا؟!.
فعلى هذه الاساس نرى أن العقل يأمرنا بعدم تعاطي الخمر، وإذا أرادت الحكومة أخذ رأى العلماء الخبيرين في هذا المضمار فقد كفيناها مؤنة التعب في هذه السبيل، وأتيناها بالجواب بدون أن تتكبد مشقة أو تصرف فلسا واحدا، إذ جميع العلماء متفقون على ضررها، والحكومة من الشعب، والشعب يريد من حكومته رفع الضرر والاذى، وهي مسئولة عن رعيتها.
وبمنع المسكرات يغدو أفراد الأمة أقوياء البنية صحيحي الجسم، أقوياء العزيمة ذوي عقل ناضج، وهذه من أهم الوسائل المؤدية إلى رفع المستوى الصحي في البلاد، وكذلك هي الدعامة الأولى لرفع المستوى الاجتماعي والاخلاقي والاقتصادي.
إذ تخفف العناء عن كثير من الوزارات، وخاصة وزارة العدل - فيصبح رواد القصور العدلية والسجون قليلين، وبعدها تصبح السجود خالية تتحول إلى دور يستفاد منها بشتى الاصلاحات الاجتماعية.
هذه هي الحضارة والمدنية، وهذه هي النهضة.
وهذا هو الرقي والوعي.
وهذا هو المعيار والميزان لرقي الأمم.
هذه هي الاشتراكية والتعاونية بعينها وحقيقتها.
أي نشترك ونتعاون على رفع الضرر والاذى.
وباب العمل الجدي المنتج واسع: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}. اه.
هذه الاضرار الانفة ثبتت ثبوتا لا مجال فيه لشك أو ارتياب، مما حمل كثرا من الدول الواعية على محاربة تعاطي الخمر وغيرها من المسكرات.
وكان في مقدمة من حاول منع تعاطيها من الدول: أمريكا. فقد نشر في كتاب تنقيحات للسيد أبو الاعلى المودودي ما يأتي: منعت حكومة أمريكا الخمر، وطاردتها في بلادها، واستعملت جميع وسائل المدنية الحاضرة كالمجلات، والمحاضرات، والصور، والسينما لتهجين شربها، وبيان مضارها ومفاسدها.
ويقدرون ما أنفقت الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزد على 60 مليون دولار، وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على 10 بلايين صفحة، وما تحملته في سبيل قانون التحريم في مدة أربعة عشر عاما لا يقل عن 250 مليون جنيها، وقد أعدم فيها 300 نفس، وسجن 335، 532 نفس، وبلغت الغرامات إلى 16 مليون جنيها، وصادرت من الأملاك ما يبلغ 400 مليون وأربعة ملايين جنيها، ولكن كل ذلك لم يزد الأمة الأمريكية إلا غراما بالخمر وعنادا في تعاطيها، حتى اضطرت الحكومة سنة 1933 إلى سحب هذا القانون وإباحة الخمر في مملكتها إباحة مطلقة. إنتهى.
إن أمريكا قد عجزت عجزا تاما عن تحريم الخمر بالرغم من الجهود الضخمة التي بذلتها، ولكن الإسلام الذي ربى الأمة على أساس من الدين، وغرس في نفوس أفرادها غراس الايمان الحق، وأحيا ضميرها بالتعاليم الصالحة والاسوة الحسنة لم يصنعا شيئا من ذلك، ولم يتكلف مثل هذا الجهد، ولكنها كلمة صدرت من الله استجابت لها النفوس استجابة مطلقة.
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ.
إني لقائم أسقي أبا طلحة وأبا أيوب ورجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، في بيتنا، إذ جاء رجل فقال: هل بلغكم الخبر؟ فقلنا: لا، فقال: إن الخمر قد حرمت فقال: يا أنس، أرق هذه القلال قال: فما سألوا عنها، ولا راجعوها بعد خبر الرجل.
وهكذا يصنع الايمان بأهله.

.ما هي الخمر:
الخمر هي تلك السوائل المعروفة المعدة بطريق تخمر بعض الحبوب أو الفواكه، وتحول النشا أو السكر الذي تحتويه إلى غول بواسطة بعض كائنات حية لها قدرة على إفراز مواد خاصة يعد وجودها ضروريا في عملية التخمر.
وقد سميت خمرا لأنها تخمر العقل وتستره: أي تغطيه وتفسد إدراكه.
هذا هو تعريف الطب للخمر.
وكل ما من شأنه أن يسكر يعتبر خمرا، ولا عبرة بالمادة التي أخذت منه، فما كان مسكرا من أي نوع من الانواع فهو خمر شرعا، ويأخذ حكمه، ويستوي في ذلك ما كان من العنب أو التمر أو العسل أو الحنطة أو الشعير أو ما كان من غير هذه الاشياء، إذ أن ذلك كله خمر محرم، لضرره الخاص والعام، ولصده عن ذكر الله وعن الصلاة، ولايقاعه العداوة والبغضاء بين الناس.
والشارع لا يفرق بين المتماثلات، فلا يفرق بين شراب مسكر، وشراب آخر مسكر فيبيح القليل من صنف ويحرم القليل من صنف آخر، بل يسوي بينهما، وإذا كان قد حرم القليل من أحدهما فإنه كذلك قد حرم القليل من الآخر، وقد جاءت النصوص صريحة صحيحة، لا تحتمل التأويل ولا التشكيك:
1- روى أحمد وأبو داود عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام».
2- وروى البخاري ومسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أما بعد، أيها الناس: إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل».
هذا الذي قاله أمير المؤمنين وهو القول الفصل، لأنه أعرف باللغة وأعلم بالشرع، ولم ينقل أن أحدا من الصحابة خالفه فيما ذهب إليه.
3- وروى مسلم عن جابر، أن رجلا من اليمن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمسكر هو؟ قال: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: كل مسكر حرام إن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخيال قالوا يا رسول الله: وما طينة الخيال؟ قال: عرق أهل النار أو قال: عصارة أهل النار».
4- وفي السنن عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إن من العنب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من البر خمرا، وإن من الشعير خمرا»
5- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام».
6- وروى أحمد والبخاري ومسلم عن أبي موسى الاشعري قال، قلت يا رسول الله: أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن البتع وهو من العسل حين يشتد والمزر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أوتي جوامع الكلم بخواتيمه، قال: «كل مسكر حرام».
7- وعن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاهم على الجعة وهي نبيذ الشعير أي البيرة رواه أبو داود والنسائي.
هذا هو رأي جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين.
وفقهاء الأمصار، ومذهب أهل الفتول، ومذهب محمد من أصحاب أبي حنيفة، وعليه الفتوي.
ولم يخالف في ذلك أحد سوى فقهاء العراق، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وشريك، وابن شبرمة، وسائر فقهاء الكوفيين، وأكثر علماء البصريين، وأبي حنيفة، فإنهم قالوا: بتحريم القليل والكثير من الخمر التي هي من عصير العنب.
أما ما كان من الانبذة من غير العنب، فإنه يحرم الكثير المسكر منه، أما القليل الذي لا يسكر، فإنه حلال.
وهذا الرأي مخالف تمام المخالفة لما سبق من الادلة.
ومن الأمانة العلمية أن نذكر حجج هؤلاء الفقهاء ملخصين ما قاله ابن رشد في بداية المجتهد.
قال: قال جمهور فقهاء الحجاز وجمهور المحدثين: قليل الانبذة وكثيرها المسكرة حرام.
وقال العراقيون، وإبراهيم النخعي من التابعين، وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وشريك، وابن شبرمة وأبو حنيفة، وسائر فقهاء الكوفيين، وأكثر علماء البصريين: إن المحرم من سائر الانبذة المسكرة هو السكر نفسه، لا العين.
وسبب اختلافهم تعارض الآثار والاقيسة في هذا الباب.
فللحجازيين في تثبيت مذهبهم طريقتان: الطريقة الأولى الآثار الواردة في ذلك.
الطريقة الثانية تسمية الانبذة بأجمعها خمرا.
فمن أشهر الآثار التي تمسك بها أهل الحجاز ما رواه مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة أنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع وعن نبيذ العسل؟ فقال: «كل شراب أسكر فهو حرام».
أخرجه البخاري، وقال يحيى بن معين هذا أصح حديث روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في تحريم المسكر.
ومنها أيضا ما خرجه مسلم عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» فهذان حديثان صحيحان:
أما الأول فاتفق الكل عليه.
وأما الثاني فانفرد بتصحيحه مسلم.
وخرج الترمذي وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام».
وهو نص في موضع الخلاف.
وأما الاستدلال الثاني من أن الانبذة كلها تسمى خمرا فلهم في ذلك طريقتان: إحداهما من جهة إثبات الاسماء بطريق الاشتقاق، والثاني من جهة السماع.
فأما التي من جهة الاشتقاق، فإنهم قالوا: إنه معلوم عند أهل اللغة أن الخمر إنما سميت خمرا لمخامرتها العقل، فوجب لذلك أن ينطلق اسم الخمر لغة على كل ما خامر العقل.
وهذه الطريقة من إثبات الاسماء فيها اختلاف بين الاصوليين وهي غير مرضية عند الخرسانيين.
وأما الطريقة الثانية التي من جهة السماع فإنهم قالوا: إنه وإن لم يسلم لنا بأن الانبذة تسمى في اللغة خمرا فإنها تسمى خمرا شرعا.
واحتجوا في ذلك بحديث ابن عمر المتقدم وبما روي أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة».
وما روي أيضا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من العنب خمرا، وإن من العسل خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن الحنطة خمرا وأنا أنها كم عن كل مسكر».
فهذه هي عمدة الحجازيين في تحريم الأنبذة.
وأما الكوفيون فإنهم تمسكوا لمذهبهم بظاهر قوله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} وباثار رووها في هذا الباب، وبالقياس المعنوي.
أما احتجاجهم بالآية فإنهم قالوا: السكر هو المسكر ولو كان محرم العين، لما سماه الله رزقا حسنا.
وأما الآثار التي اعتمدوها في هذا الباب فمن أشهرها عندهم حديث أبي عون الثقفي، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: «حرمت الخمر لعينها، والسكر من غيرها».
قالوا: وهذا نص لا يحتمل التأويل، وضعفه أهل الحجاز، لأن بعض رواته روى والمسكر من غيرها.
ومنها حديث شريك عن سماك بن حرب بإسناده عن أبي بردة بن نيار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني كنت نهيتكم عن الشراب في الاوعية، فاشربوا فيما بدا لكم ولا تسكروا»، خرجها الطحاوي.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم، ثم شهدت تحليله، فحفظت ونسيتم.
وروي عن أبي موسى أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذا إلى اليمن، فقلنا يا رسول الله: إن بها شرابين يصنعان من البر والشعير: أحدهما يقال له: المزر والآخر يقال له: البتع فما نشرب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «اشربا ولا تسكرا».
خرجه الطحاوي أيضا إلى غير ذلك من الآثار التي ذكروها في هذا الباب.
وأما احتجاجهم من جهة النظر.
فإنهم قالوا: قد نص القرآن على أن علة التحريم في الخمر إنما هي الصد عن ذكر الله ووقوع العداوة والبغضاء كما قال تعالى: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة}.
وهذه العلة تود في القدر المسكر، لافيما دون ذلك، فوجب أن يكون ذلك القدر هو الحرام، إلا ما انعقد عليه الاجماع من تحريم قليل الخمر وكثيرها.
قالوا: وهذا النوع من القياس يلحق بالنص.
وهو القياس الذي ينبه الشرع على العلة فيه.
وقال المتأخرون من أهل النظر: حجة الحجازيين من طريق السمع أقوى وحجة العراقيين من طريق القياس أظهر.
وإذا كان هذا كما قالوا فيرجع الخلاف إلى اختلافهم في تغليب الاثر على القياس، أو تغليب القياس على الاثر إذا تعارضا، وهي مسألة مختلف فيها.
لكن الحق أن الاثر إذا كان نصا ثابتا، فالواجب أن يغلب على القياس.
وأما إذا كان ظاهر اللفظ محتملا للتأويل، فهنا يتردد النظر: هل يجمع بينهما بأن يتأول اللفظ؟ أو يغلب ظاهر اللفظ على مقتضى القياس؟ وذلك مختلف بحسب قوة لفظ من الالفاظ الظاهرة وقوة قياس من القياسات التي تقابلها.
ولا يدرك الفرق بينهما إلا بالذوق العقلي، كما يدرك الموزون من الكلام من غير الموزون.
وربما كان الذوقان على التساوي ولذلك كثر الاختلاف في هذا النوع، حتى قال كثير من الناس: كل مجتهد مصيب.
قال القاضي: والذي يظهر لي - والله أعلم - أن قوله عليه الصلاة والسلام «كل مسكر حرام» وإن كان يحتمل أن يراد به القدر المسكر لا الجنس المسكر، فإن ظهوره في تعليق التحريم بالجنس أغلب على الظن من تعليقه بالقدر، لمكان معارضة ذلك القياس له على ما تأوله الكوفيون، فإنه لا يبعد أن يحرم الشارع قليل المسكر وكثيره سدا للذريعة وتغليظا، مع أن الضرر إنما يوجد في الكثير.
وقد ثبت من حال الشرع بالاجماع أنه اعتبر في الخمر الجنس دون القدر، فوجب كل ما وجدت فيه علة الخمر أن يلحق بالخمر، وأن يكون على من زعم وجود الفرق إقامة الدليل على ذلك.
هذا، وإن لم يسلموا لنا بصحة قوله عليه الصلاة والسلام: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» فإنهم إن سلموا لم يجدوا عنه انفكاكا فإنه نص في موضع الخلاف.
ولا يصح أن تعارض النصوص بالمقاييس.
وأيضا فإن الشرع قد أخبر أن في الخمر مضرة ومنفعة فقال تعالى:
{قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس}.
وكان القياس إذا قصد الجمع بين انتفاء المضرة ووجود المنفعة أن يحرم كثيرها ويحلل قليلها.
فلما غلب الشرع حكم المضرة على المنفعة في الخمر، ومنع القليل منها والكثير.
وجب أن يكون الأمر كذلك في كل ما يوجد فيه علة تحريم الخمر إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي.
واتفقوا على أن الانتباذ حلال، ما لم تحدث فيه الشدة المطربة الخمرية، لقوله عليه الصلاة والسلام: «فانتبذوا، وكل مسكر حرام».
ولما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان ينتبذ وأنه كان يريقه في اليوم الثاني أو الثالث.
واختلفوا من ذلك في مسألتين: إحداهما في الاواني التي ينتبذ فيها.
والثانية في انتباذ شيئين مثل: البسر والرطب، والتمر والزبيب. انتهى.

.أهم أنواع الخمور:
توجد الخمور في الاسواق بأسماء مختلفة، وقد تقسم إلى أقسام خاصة باعتبار ما تحويه من النسب المئوية من الكحول.
فهناك مثلا: البراندي، والوسكي، والروم، والليكير، وغيرها، وتبلغ نسبة الكحول فيها من 40 % إلى 60 %.
وتبلغ النسبة في الجن، والهولاندي، والجنيفا، من 33 % إلى 40 % وتحتوي بعض الاصناف الاخرى، مثل: البورت، والشري، والماديرا، على 15 % - 25 %.
وتحتوي الخمور الخفيفة مثل: الكلارت، والهوك، والشمبانيا، والبرجاندي على 10 % - 15 %.
وأنواع البيرة الخفيفة تحتوي على 2 % - 9 % مثل: الايل، والبورتر، والاستوت، والميونخ وغيرها.
وهنالك أصناف أخرى تحتوي على نفس النسب الاخيرة.
مثل البوظة، والقصب المتخمر وغيرهما.

.شرب العصير والنبيذ قبل التخمير:
يجوز شرب العصير والنبيذ قبل غليانه لحديث أبي هريرة عند أبي داود والنسائي وابن ماجه.
قال: علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء، ثم أتيته به، فإذا هو ينش فقال: «إضرب بهذا الحائط، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر».
وأخرج أحمد عن ابن عمر في العصير قال: اشربه ما لم يأخذه شيطانه قيل: وفي كم يأخذه شيطانه؟ قال: في ثلاث.
وأخرج مسلم وغيره من حديثا بن عباس أنه كان ينقع للنبي صلى الله عليه وسلم الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد، إلى مساء الثالثة.
ثم يأمر به فيسقى الخادم أو يهراق.
قال أبو داود: ومعنى يسقى الخادم يبادر به الفساد ومظنة ذلك ما زاد على ثلاثة أيام.
وقد أخرج مسلم وغيره من حديث عائشة أنها كانت تنتبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم غدوة، فإذا كان العشي فتعشى، شرب على عشائه، وإن فضل شيء صبته أو أفرغته ثم تنتبذ له بالليل، فإذا أصبح تغدى فشرب على غدائه قالت تغسل السقاء غدوة وعشية.
وهو لا ينافي حديث ابن عباس المتقدم أنه كان يشرب اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة، لأن الثلاث مشتملة على زيادة غير منافية، والكل في الصحيح.
هذا ومن المعروف من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يشرب الخمر قط، لاقبل البعثة ولابعدها.
وإنما كان شرابه من هذا النبيذ الذي لم يتخمر بعد، كما هو مصرح به في هذه الأحاديث.
الخمر إذا تخللت:
قال في بداية المجتهد: وأجمعوا أي العلماء على أن الخمر إذا تخللت من ذاتها أجاز أكلها تناولها.
واختلفوا إذا قصد تخليلها على ثلاثة أقوال:
1- التحريم.
2- ومكراهية.
3- والاباحة.
وسبب اختلافهم معارضة القياس للاثر، واختلافهم في مفهوم الاثر.
وذلك أن أبا داود أخرج من حديث أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا؟ فقال: «أهرقها» قال: أفلا أجعلها خلا قال: «لا».
4- فمن فهم من المنع سد الذريعة حمل ذلك على الكراهية.
ومن فهم النهي لغير علة قال بالتحريم.
ويخرج على هذا ألا تحريم أيضا على مذهب من يرى أن النهي لا يعود بفساد المنهي عنه.
والقياس المعارض لحمل الخل على التحريم، أنه قد علم من ضرورة الشرع أن الاحكام المختلفة، إنما هي للذوات المختلفة، وأن ذات الخمر غير ذات الخل، والخل بالاجماع حلال.
فإذا انتقلت ذات الخمر إلى ذات الخل، وجب أن يكون حلالا كيفما انتقل.

.المخدرات:
هذا هو حكم الله في الخمر، أما ما يزيل العقل من غير الاشربة، مثل: البنج، والحشيش وغيرهما من المخدرات، فإنه حرام، لأنه مسكر.
ففي حديث مسلم الذي تقدم ذكره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام».
وقد سئل مفتي الديار المصرية الشيخ عبد المجيد سليم، رحمه الله، عن حكم الشرع في المواد المخدرة، واشتمل السؤال على المسائل الآتية:
1- تعاطي المواد المخدرة.
2- الاتجار بالمواد المخدرة، واتخاذها وسيلة للربح التجاري.
3- زراعة الخشخاش والحشيش بقصد البيع أو استخراج المادة المخدرة منهما، للتعاطي أو للتجارة.
4- الربح الناجم من هذا السبيل، أهو ربح حلال أم حرام؟ وقد أجاب فضيلته بما يأتي:

.1- تعاطي المواد المخدرة:
إنه لا يشك شاك، ولا يرتاب مرتاب في أن تعاطي هذه المواد حرام، لأنها تؤدي إلى مضار جسيمة، ومفاسد كثيرة، فهي تفسد العقل، وتفتك بالبدن إلى غير ذلك من المضار والمفاسد.
فلا يمكن أن تأذن الشريعة بتعاطيها مع تحريمها لما هو أقل منها مفسدة وأخف ضررا.
ولذلك قال بعض علماء الحنفية: إن من قال بحل الحشيش زنديق مبتدع.
وهذا منه دلالة على ظهور حرمتها ووضوحها، ولأنه لما كان الكثير من هذه المواد يخامر العقل ويغطيه، ويحدث من الطرب واللذة عند متناوليها ما يدعوهم إلى تعاطيها والمداومة عليها، كانت داخلة فيما حرمه الله تعالى في كتابه العزيز، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الخمر والمسكر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية ما خلاصته: إن الحشيشة حرام، يحد متناولها كما يحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج، حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة، وغير ذلك من الفساد، وأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهي داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر والمسكر لفظا أو معنى قال أبو موسى الاشعري رضي الله عنه: يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: البتع وهو العسل ينبذ حتى يشتدو المزر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد.
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطى جوامع الكلم بخواتمه فقال: «كل مسكر حرام» رواه البخاري ومسلم.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الحنطة خمرا، ومن الشعير خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن التمر خمرا، ومن العسل خمرا وأنا أنهى عن كل مسكر» رواه أبو داوود وغيره.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكر خمر وكل مسكر حرام».
وفي رواية: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» رواهما مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام» قال الترمذي حديث حسن.
وروى ابن السني عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وصححه الحفاظ.
وعن جابر رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر قال: «أمسكر هو؟» قال: نعم فقال: «كل مسكر حرام، إن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال» قالوا يا رسول الله: وما طينة الخبال؟ قال: «عرق أهل النار» أو قال: «عصارة أهل النار» رواه مسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مخمر وكل مسكر حرام» رواه أبو داود.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة مستفيضة.
جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أوتيه من جوامع الكلم كل ما غطى العقل وأسكر ولم يفرق بين نوع ونوع، ولا تأثير لكونه مأكولا أو مشروبا على أن الخمر قد يصطبغ بها: أي تجعل إداما، وهذه الحشيشة قد تذاب بالماء وتشرب، فالخمر يشرب ويؤكل، والحشيشة تؤكل وتشرب، وكل ذلك حرام، وحدوثها بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم والائمة لا يمنع من دخولها في عموم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسكر فقد حدثت شربة مسكرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها داخلة في الكلم الجوامع أمن الكتاب والسنة.
انتهت خلاصة كلام ابن تيمية.
وقد تكلم رحمه الله عنها أيضا غير مرة في فتاواه.
فقال ما خلاصته: هذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها، ومستحلوها، الموجبة لسخط الله تعالى، وسخط رسوله، وسخط عباده المؤمنين.
المعرضة صاحبها لعقوبة الله، تشتمل على ضرر في دين المرء وعقله وخلقه وطبعه.
وتفسد الأمزجة حتى جعلت خلقا كثيرا مجانين، وتورث من مهانة آكلها ودناءة نفسه وغير ذلك ما لا تورث الخمر.
ففيها من المفاسد ما ليس في الخمر فهي بالتحريم أولى.
وقد أجمع المسلمون على أن السكر منها حرام.
ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتدا، لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين.
وإن القليل منها حرام أيضا بالنصوص الدالة على تحريم الخمر وتحريم كل مسكر. اهـ.
وقد تبعه تلميذ الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله، فقال في زاد المعاد ما خلاصته: إن الخمر يدخل فيها كل مسكر: مائعا كان أو جامدا، عصيرا أو مطبوخا.
فيدخل فيها لقمة الفسق والفجور - ويعني بها الحشيشة - لأن هذا كله خمر بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح الذي لا مطعن في سنده ولا إجمال في متنه، إذ صح عنه قوله: «كل مسكر خمر».
وصح عن أصحابه رضي الله عنهم الذين هم أعلم الأمة بخطابه ومراده، بأن الخمر ما خامر العقل.
على أنه لو لم يتناول لفظه صلى الله عليه وسلم كل مسكر، لكان القياس الصحيح الصريح الذي استوى فيه الاصل والفرع من كل وجهة، حاكما بالتسوية بين أنواع المسكر، فالتفريق بين نوع ونوع، تفريق بين متماثلين من جميع الوجوه. اهـ.
وقال صاحب سبل السلام شرح بلوغ المرام: إنه يحرم ما أسكر من أي شئ، وإن لم يكن مشروبا، كالحشبشة.
ونقل عن الحافظ ابن حجر: أن من قال: إن الحشيشة لا تسكر وإنما هي مخدر، مكابر، فإنها تحدث ما تحدثه الخمر من الطرب والنشوة.
ونقل عن ابن البيطار - من الاطباء - أن الحشيشة التي توجد في مصر مسكرة جدا، إذا تناول الإنسان منها قدر درهم أو درهمين.
وقبائح خصالها كثيرة.
وعد منها بعض العلماء مائة وعشرين مضرة دينية ودنيوية.
وقبائح خصالها موجودة في الافيون.
وفيه زيادة مضار اه.
وما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من العلماء هو الحق الذي يسوق إليه الدليل وتطمئن به النفس.
وإذ قد تبين أن النصوص من الكتاب والسنة تتناول الحشيش، فهي تتناول أيضا الافيون، الذي بين العلماء أنه أكثر ضررا.
ويترتب عليه من المفاسد ما يزيد على مفاسد الحشيش كما سبق عن ابن البيطار.
وتتناول أيضا سائر المخدرات التي حدثت ولم تكن معروفة من قبل، إذ هي كالخمر من العنب مثلا في أنها تخامر العقل وتغطيه.
وفيها ما في الخمر من مفاسد ومضار وتزيد عليها بمفاسد أخرى كما في الحشيش، بل أفظع وأعظم، كما هو مشاهد ومعلوم ضرورة.
ولا يمكن أن تبيح الشريعة الإسلامية شيئا من هذه المخدرات، ومن قال بحل شيء منها فهو من الذين يفترون على الله الكذب، أو يقولون على الله ما لا يعلمون.
وقد سبق أن قلنا: إن بعض علماء الحنفية قال: إن من قال بحل الحشيشة زنديق مبتدع.
وإذا كان من يقول بحل الحشيشة زنديقا مبتدعا فالقائل بحل شيء من هذه المخدرات الحادثة التي هي أكثر ضررا وأكبر فسادا زنديق مبتدع أيضا، بل أولى بأن يكون كذلك.
وكيف تبيح الشريعة الإسلامية شيئا من هذه المخدرات التي يلمس ضررها البليغ بالأمة أفرادا وجماعات، ماديا، وصحيا، وأدبيا، كما جاء في السؤال.
مع أن مبنى الشريعة الإسلامية على جلب المصالح الخالصة أو الراجحة، وعلى درء المفاسد والمضار كذلك.
وكيف يحرم الله سبحانه وتعالى العليم الحكيم الخمر من العنب مثلا: كثيرها وقليلها، لما فيها من المفسدة، ولان قليلها داع إلى كثيرها وذريعة إليه.
ويبيح من المخدرات ما فيه هذه المفسدة، ويزيد عليها بما هو أعظم منها وأكثر ضررا للبدن والعقل والدين والخلق والمزاج؟ هذا لا يقوله إلا رجل جاهل بالدين الإسلامي، أو زنديق مبتدع كما سبق القول.
فتعاطي هذه المخدرات على أي وجه من وجوه التعاطي من أكل أو شرب أو شم أو احتقان حرام، والأمر في ذلك ظاهر جلي.
2- الاتجار بالمواد المخدرة واتخاذها وسيلة للربح التجاري:
إنه قد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في تحريم الخمر، منها ما روى البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والاصنام».
وورد عنه أيضا أحاديث كثيرة مؤداها أن ما حرم الله الانتفاع به يحرم بيعه وأكل ثمنه.
وقد علم من الجواب عن السؤال الأول أن اسم الخمر يتناول هذه المخدرات شرعا، فيكون النهي عن بيع الخمر متناولا لتحريم بيع هذه المخدرات.
كما أن ما ورد من تحريم بيع كل ما حرمه الله، يدل أيضا على تحريم بيع هذه المخدرات.
وحينئذ يتبين جليا حرمة الاتجار في هذه المخدرات واتخاذها حرفة تدر الربح، فضلا عما في ذلك من الاعانة على المعصية التي لاشبهة في حرمتها، لدلالة القرآن على تحريمها بقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان}.
ولاجل ذلك كان الحق ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من تحريم بيع عصير العنب لمن يتخذه خمرا، وبطلان هذا البيع لأنه إعانة على المعصية.

.3- زراعة الخشخاش والحشيش:
بقصد البيع واستخراج المادة المخدرة منهما للتعاطي أو للتجارة:
إن زراعة الحشيش والافيون لاستخراج المادة المخدرة منهما لتعاطيها أو الاتجار فيها حرام بلا شك، لوجوه:
أولا: ما ورد في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمرا فقد تقحم النار».
فإن هذا يدل على حرمة زراعة الحشيش والافيون للغرض المذكور، بدلالة النص.
ثانيا: إن ذلك إعانة على المعصية.
وهي تعاطي هذه المخدرات أو الاتجار فيها.
وقد بينا فيما سبق أن الاعانة على المعصية معصية.
ثالثا: إن زراعتها لهذا الغرض رضا من الزارع بتعاطي الناس لها، واتجارهم فيها، والرضا بالمعصية معصية.
وذلك لأن إنكار المنكر بالقلب الذي هو عبارة عن كراهة القلب وبغضه للمنكر، فرض على كل مسلم في كل حال، بل ورد في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من لم ينكر المنكر بقلبه - بالمعنى الذي أسلفنا - ليس عنده من الايمان حبة خردل».
على أن زراعة الحشيش والافيون معصية من جهة أخرى، بعد نهي ولي الأمر عنها بالقوانين التي وضعت لذلك، لوجوب طاعة ولي الأمر فيما ليس بمعصية لله ولرسوله بإجماع المسلمين، كما ذكر ذلك الإمام النووي في شرح مسلم في باب طاعة الأمراء.
وكذا يقال هذا الوجه الأخير في حرمة تعاطي المخدرات والاتجار فيها.

.4- الربح الناجم من هذا السبيل:
قد علم مما سبق أن بيع هذه المخدرات حرام فيكون الثمن حراما:
أولا: لقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}.
أي لا يأخذ ولا يتناول بعضكم مال بعض بالباطل.
وأخذ المال بالباطل على وجهين:
1- أخذه على وجه الظلم، والسرقة، والخيانة، والغصب، وما جرى مجرى ذلك.
2- أخذه من جهة محظورة كأخذه بالقمار، أو بطريق العقود المحرمة، كما في الربا، وبيع ما حرم الله الانتفاع به، كالخمر المتناولة للمخدرات المذكورة كما بينا آنفا.
فإن هذا كله حرام وإن كان بطيبة نفس من مالكه.
ثانيا: للاحاديث الواردة في تحريم ثمن ما حرم الله الانتفاع به.
كقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه» رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس.
وقد جاء في زاد المعاد ما نصه: قال جمهور الفقهاء: إنه إذا بيع العنب لمن يعصره خمرا حرم أكل ثمنه، بخلاف ما إذا بيع لمن يأكله.
وكذلك السلاح إذا بيع لمن يقاتل به مسلما حرم أكل ثمنه.
وإذا بيع لمن يغزو به في سبيل الله فثمنه من الطيبات.
وكذلك ثياب الحرير: إذا بيعت لمن يلبسها ممن يحرم عليه لبسها، حرم أكل ثمنها، بخلاف بيعها ممن يجل له لبسها اه وإذا كانت الاعيان التي يحل الانتفاع بها إذا بيعت لمن يستعملها في معصية الله - على رأي جمهور الفقهاء، وهو الحق - يحرم ثمنها لدلالة ما ذكرنا من الادلة وغيرها عليه، كان ثمن العين التي لا يحل الانتفاع بها - كالمخدرات - حراما من باب أولى.
وإذا كان ثمن هذه المخدرات حراما، كان خبيثا، وكان إنفاقه في القربات - كالصدقات والحج - غير مقبول: أي لا يثاب المنفق عليه.
فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله تعالى أمر بما أمر به المرسلين فقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} الآية وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء..يا رب..يا رب..ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟».
وقد جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا يكسب عبد مالا من حرام، فينفق منه، فيبارك له فيه: ولا يتصدق فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده في النار، إن الله لا يمحو السئ بالسئ، ولكن يمحو السئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث».
وجاء في كتاب جامع العلوم والحكم، لابن رجب، أحاديث كثيرة وآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في هذا الموضوع.
منها ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كسب ما لا حراما فتصدق به لم يكن له أجر، وكان إصره - يعني إثمه وعقوبته - عليه».
ومنها ما في مراسيل القاسم بن مخيمرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصاب مالا من مأثم فوصل به رحمه، أو تصدقه به، أو أنفقه في سبيل الله، جمع ذلك جميعا ثم قذف به في نار جهنم».
وجاء في شرح ملا علي القاري للأربعين النووية عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه إذا خرج الحاج بالنفقه الخبيثة، فوضع رجله في الغرز - أي الركاب - وقال لبيك، ناداه ملك من السماء: لالبيك ولاسعديك، وحجك مردود عليك».
فهذه الأحاديث التي يشد بعضها بعضا، تدل على أنه لا يقبل الله صدقة، ولا حجة، ولا قربة أخرى من القرب من مال خبيث حرام.
ومن أجل ذلك نص علماء الحنفية على أن الانفاق على الحج من المال الحرام حرام.
وخلاصة ما قلناه: أولا: تحريم تعاطي الحشيش والافيون والكوكايين ونحوهما من المخدر.
ثانيا: تحريم الاتجار فيها، واتخاذها حرفة تدر الربح.
ثالثا: حرمة زراعة الافيون والحشيش، لاستخلاص المادة المخدرة لتعاطيها أو الاتجار فيها.
رابعا: أن الربح الناتج من الاتجار في هذه المواد حرام خبيث، وأن إنفاقه في القربات غير مقبول، وحرام.
قد أطلت القول إطالة قد تؤدي إلى شيء من الملل.
ولكني آثرتها تبيانا للحق، وكشفا للصواب، ليزول ما قد عرض من شبهة عند الجاهلين، وليعلم أن القول بحل هذه المخدرات من أباطيل المبطلين وأضاليل الضالين المضلين.
وقد اعتمدت فيما قلت أو اخترت على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى أقوال الفقهاء التي تنفق مع أصول الشريعة الغراء ومبادئها القويمة.
انتهت والحمد لله رب العالمين وهو الهادي إلى سواء السبيل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

.حد شارب الخمر:
الفقهاء متفقون على وجوب حد شارب الخمر، وعلى أن حده الجلد.
ولكنهم مختلفون في مقداره: فذهب الأحناف ومالك: إلى أنه ثمانون جلدة.
وذهب الشافعي: إلى أنه أربعون.
وعن الإمام أحمد روايتان:
قال في المغني: وفيه روايتان.
إحداهما: أنه ثمانون.
وبهذا قال مالك، والثوري، وأبو حنيفة، ومن تبعهم، لاجماع الصحابة، فإنه روي أن عمر استشار الناس في حد الخمر؟ فقال عبد الرحمن ابن عوف: اجعله - كأخف الحدود - ثمانين.
فضرب عمر ثمانين، وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة بالشام.
وروي أن عليا رضي الله عنه قال في المشورة: إذا سكر: هذى، وإذا هذى: افترى، فحدوده حد المفترى.
روى ذلك الجوزجاني، والدارقطني وغيرهم.
والرواية الثانية أن الحد أربعون، وهو اختيار أبي بكر، ومذهب الشافعي، لأن عليا جلد الوليد بن عقبة أربعين.
ثم قال: جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين. وكل سنة وهذا أحب إلي. رواه مسلم.
وعن أنس قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر، فضربه بالنعال نحوا من أربعين.
ثم أتي به أبو بكر، فصنع مثل ذلك.
ثم أتي به عمر فاستشار الناس في الحدود.
فقال ابن عوف: أقل بالحدود ثمانون فضربه عمر.
وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم حجة لا يجوز تركه بفعل غيره، ولا ينعقد الاجماع على ما خالف فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعلي، فتحمل الزيادة من عمر على أنها تعزير يجوز فعله إذا رآه الإمام.
ويرجح هذا أن عمر كان يجلد الرجل القوي المنهمك في الشراب ثمانين، ويجلد الرجل الضعيف الذي وقعت منه الزلة أربعين.
وأما الأمر بقتل الشارب إذا تكرر ذلك منه فهو منسوخ: فعن قبيص بن ذؤيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه - في الثالثة أو الرابعة -» فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به، فجلده، ثم أتي به، فجلده، ورفع القتل، وكانت رخصة.
بم يثبت الحد؟
ويثبت هذا الحد بأحد أمرين:
1- الاقرار: أي اعتراف الشارب بأنه شرب الخمر.
2- شهادة شاهدين عدلين.
واختلف الفقهاء في ثبوته بالرائحة: فذهبت المالكية إلى أنه يجب الحد إذا شهد بالرائحة عند الحاكم شاهدان عدلان، لأنها تدل على الشرب، كدلالة الصوت والخط.
وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا يثبت الحد بالرائحة، لوجود الشبهة والروائح تتشابه، والحدود تدرا بالشبهات.
ولاحتمال كونه مخلوطا أو مكرها على شربه، ولان غير الخمر يشاركها في رائحتها.
والاصل براءة الشخص من العقوبة، والشارع متشوف إلى درء الحدود.
شروط إقامة الحد:
يشترط في إقامة حد الخمر الشروط الآتية:
.1- العقل:
لأنه مناط التكليف، فلا يحد المجنون بشرب الخمر، ويلحق به المعتوه.
.2- البلوغ:
فإذا شرب الصبي، فإنه لايقام عليه الحد، لأنه غير مكلف.
.3- الاختيار:
فإن شربها مكرها فلاحد عليه، سواء أكان هذا الاكراه بالتهديد بالقتل، أو بالضرب المبرح، أو بإتلاف المال كله، لأن الاكراه رفع عنه الإثم.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه».
وإذا كان الاثم مرفوعا فلاحد عليه، لأن الحد من أجل الاثم والمعصية.
ويدخل في دائرة الاكراه الاضطرار فمن لم يجد ماء وعطش عطشا شديدا يخشى عليه منه التلف، ووجد خمرا، فله أن يشربها.
وكذلك من أصابه الجوع الشديد الذي يخشى عليه منه الهلاك، لأن الخمر حينئذ ضرورة يتوقف عليها الحياة، والضرورات تبيح المحظورات.
يقول الله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد إثم عليه إن الله غفور رحيم}.
وفي المغني: أن عبد الله بن حذافة أسره الروم، فحبسه طاغيتهم في بيت فيه ماء ممزوج بخمر، ولحم خنزير مشوي، ليأكل الخنزير، ويشرب الخمر، وتركه ثلاثة أيام، فلم يفعل، ثم أخرجوه خشية موته، فقال: والله لقد كان الله أحله لي، فإني مضطر.
ولكن لم أكن لاشمتكم بدين الإسلام.

.4- العلم بأن ما يتناوله مسكر.
فلو تناول خمرا مع جهله بأنها خمر، فإنه يعذر بجهله، ولا يقام عليه الحد.
فلو لفت نظره أحد من الناس، فتمادى في شربه، فإنه لا يكون معذورا حينئذ، لارتفاع الجهالة عنه، وإصراره على ارتكاب المعصية بعد معرفته، فيستوجب العقاب ويقام عليه الحد.
وإذا تناول من الشراب ما هو مختلف في كونه خمرا بين الفقهاء، فإنه لايقام عليه الحد: لأن الاختلاف شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
وكذلك لايقام الحد على من تناول النئ من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالربد، الذي أجمع الفقهاء على تحريمه إذا كان جاهلا بالتحريم، لكونه بدار الحرب أو قريب عهد بالإسلام، لأن جهله يعتبر عذرا من الاعذار المسقطة للحد، بخلاف من كان مقيما بدار الإسلام، وليس قريب عهد بالدخول في الإسلام، فإنه يقام عليه الحد، ولا يعذر بجهله، لأن هذا مما علم من الدين بالضرورة.

.عدم اشتراط الحرية والإسلام في إقامة الحد:
والحرية والإسلام ليسا شرطا في إقامة الحد، فالعبد إذا شرب الخمر فإنه يعاقب، لأنه مخاطب بالتكاليف التي أمر الله بها ونهى عنها.
إلا في بعض التكاليف التي يشق عليه القيام بها لانشغاله بأمره سيده، مثل صلاة الجمعة والجماعة.
والله سبحانه أمر باجتناب الخمر، وهذا الأمر موجه إلى الحر والعبد، ولا يشق عليه اجتنابها، ويلحقه من ضررها ما يلحق الحر.
وليس ثمة من فرق بينهما إلا في العقوبة، فإن عقوبة العبد على النصف من عقوبة الحر، فيكون حده عشرين جلدة أو أربعين: حسب الخلاف في تقدير العقوبة.
وكما لا تشترط الحرية في إقامة الحد، فإنه لا يشترط الإسلام كذلك، فالكتابيون من اليهود والنصارى الذين يتجنسون بجنسية الدولة المسلمة ويعيشون معهم مواطنون، مثل الاقباط في مصر، وكذلك الكتابيون الذين يقيمون مع المسلمين بعقد أمان إقامة موقوتة مثل الاجانب، هؤلاء يقام عليهم الحد إذا شربوا الخمر في دار الإسلام، لأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
ولان الخمر محرمة في دينهم، كما سبقت الاشارة إلى ذلك، ولآثارها السيئة وضررها البالغ في الحياة العامة والخاصة.
والإسلام يريد صيانة المجتمع الذي تظله راية الإسلام، ويحتفظ به نظيفا قويا متماسكا، لا يتطرق إليه الضعف من أي جانب، لامن ناحية المسلمين، ولا من ناحية غير المسلمين.
وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وهو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه.
ولكن الأحناف - رضي الله عنهم - رأوا أن الخمر، وإن كانت غير مال عند المسلمين لتحريم الإسلام لها، إلا أنها مال له قيمة عند أهل الكتاب، وأن من أهرقها من المسلمين يضمن قيمتها لصاحبها، وإن شربها مباح عندهم.
وإننا أمرنا بتركهم وما يدينون.
وعلى هذا فلا عقوبة على من يشربها من الكتابيين.
وعلى فرض تحريمها في كتبهم، فإننا نتركهم، لأنهم لا يدينون بهذا التحريم، ومعاملتنا لهم تكون بمقتضى ما يعتقدون، لا بمقتضي الحق من حيث هو.

.التداوي بالخمر:
كان الناس في الجاهلية قبل الإسلام يتناولون الخمر للعلاج، فلما جاء الإسلام نهاهم عن التداوي بها وحرمه.
فقد روى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، عن طارق ابن سويد الجعفي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: «إنه ليس بدواء، ولكنه داء».
وروى أبو داود، عن أبي الدرداء، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أنزل الداء والدواء، فجعل لكم داء دواء، فتداووا، ولا تتداووا بحرام».
وكانوا يتعاطون الخمر في بعض الاحيان قبل الإسلام إتقاء لبرودة الجو، فنهاهم الإسلام عن ذلك أيضا.
فقد روى أبو داود أن ديلم الحميري سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا رسول الله، إنا بأرض باردة، نعالج فيها عملا شديدا، وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا؟ قال رسول الله: هل يسكر؟ قال: نعم قال: فاجتنبوه قال: إن الناس غير تاركيه قال: فإن لم يتركوه فقاتلوهم».
وبعض أهل العلم أجاز التداوي بالخمر بشرط عدم وجود دواء من الحلال يقوم مقام الحرام، وأن لا يقصد المتداوي به اللذة، والنشوة، ولا يتجاوز مقدار ما يحدده الطبيب، كما أجازوا تناول الخمر في حال الاضطرار.
ومثل الفقهاء لذلك بمن غص بلقمة فكاد يختنق ولم يجد ما يسيغها به سوى الخمر.
أو من أشرف على الهلاك من البرد، ولم يجد ما يدفع به هذا الهلاك غير كوب أو جرعة من خمر.
أو من أصابته أزمة قلبية وكاد يموت، فعلم أو أخبره الطبيب بأنه لا يجد ما يدفع به الخطر سوى شرب مقدار معين بن الخمر.
فهذا من باب الضرورات التي تبيح المحظورات.