أدلة وجود الله
أولا ـ دليل الحدوث : ـ
وهو الدليل الذي يذكره أغلب علماء العقيدة في كتبهم (1).
وهو يعتمد على أن العالم حادث ، وكل حادث لابد له من محدث ، فالعالم لابد له من محدث ، وهو الله تعالى .
والمراد بالعالم : كل شئ سوى الله تعالى ، وهو عبارة عن : أجسام وأعراض (صفات) وتوضيح ذلك : أنه يمكن أن نقسم الموجود إلى قسمين :
1ـ موجود متحيز : أي يشغل قدرا من الفراغ ، وهو إما :
(أ) مركب من جزئيات صغيرة ، لا تقبل الانقسام ، ويسمى : (الجسم).
(ب) أو غير مركب من جزئيات صغيرة ، وإنما هو بسيط لا يقبل القسمة ، ويسمى : ( الجوهر الفرد)
2ـ موجود غير متحيز : أي لا يشغل قدرا من الفراغ ، وهو إما :
(أ) محتاج في وجوده إلى جسم يقوم به ، ويحل فيه ، ويسمى (العرض) مثل : اللون ، والصوت ، والحركة ، والسكون .
(ب) أو غير محتاج في وجوده إلى جسم يقوم به ، ويحل فيه ، وهو : ( الله ) سبحانه وتعالى .
والمراد بكلمة (حادث) في قولنا : (العالم حادث) أنه موجود بعد العدم.
وبيان ذلك : أن الأعراض التي هي صفات الأجسام ، حادثة بالمشاهدة ؛ فإننا نرى حدوث الحركة بعد السكون ، والسكون بعد الحركة ، ونرى تغير لون الأشياء وشكلها ، ومقدارها من حال إلى حال ، وهذا يدل على حدوثها .
وأما الأجسام فهي حادثة أيضا ؛ لأن أي جسم من الأجسام لا يخلو عن الأعراض الحادثة ، كالحركة أو السكون مثلا ، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.
إذن العالم كله حادث ، وبما أنه حادث ، وموجود بعد العدم ، فهو محتاج إلى من يحدثه ويوجده من العدم ؛ لأنه يستحيل عقلا أن يوجد حادث بلا محدث أو فعل بلا فاعل ، وهذا أمر بدهى ، لا يحتاج إلى دليل ، ويعترف به الأطفال فضلا عن الكبار ، وذلك المحدث الذي أحدثه ، وأوجده من العدم هو ( الله ) جل في علاه ، خاصة أنه لم يدع أحد ـ خلال عصور التاريخ المختلفة ـ أنه هو الذي أحدث العالم ، وأوجده بعد أن لم يكن ، ولم يزعم أحد أنه هو الذي أحدث نفسه ، حتى الذين ادعوا الألوهية لم يزعموا ذلك ، إنما الذي ذكر ذلك على ألسنة رسله هو الله تعالى ، والدعوى تسلم لصاحبها طالما لم ينازعه فيها أحد.
سئل أعرابي عن الدليل على وجود الله ؟ فقال : البعرة تدل على البعير ، والروث على الحمير ، وآثار الأقدام على المسير . فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج . أما يدل ذلك على العليم الخبير !!
ويمكننا أن نعرض ( دليل الحدوث) بطريقة أخرى نعتمد فيها على (الدلالة اللفظية ) لكلمتي : المحدث ـ بكسر الدال ـ والمحدث ـ بفتحها ـ وذلك أن هاتين الكلمتين من الأمور الإضافية التي لا يعقل وجود طرف دون وجود الطرف الآخر ، ووجود المحدث ـ بفتح الدال ـ لا شك فيه ، إننا نراه بأعيننا ، وهذا يدل على وجود المحدث ـ بكسر الدال ـ وهو الله سبحانه وتعالى .
وقد أشار القرآن الكريم إلى دليل الحدوث . قال تعالى :
• { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة } [ العنكبوت /20]
• { كما بدأكم تعودون (29) } [ الأنبياء /104]
• { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين (75) فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الأفلين (76) فلما رءا القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين (77) فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون (78) إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (79)} [ الأنعام ]
وقد استدل بأفول الكواكب على حدوثها ، فلا تصلح أن تكون ربا ، بل لها محدث وهو الله الذي أحدث السموات والأرض جميعا.
=================
المراجع والهوامش :
1ـ انظر على سبيل المثال : الإرشاد لإمام الحرمين ص 17 ، التمهيد للباقلاني ص 44 ، أصول الدين للبغدادي ص 68 ، أبكار الأفكار للآمدي ص 149 ، المحصل للرازي ص 147 ، شرح المواقف 8/2 ، شرح المقاصد 2/42.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثانيا : دليل الخلق : ـ
ويسمى دليل الإبداع ، ودليل الاختراع ، ودليل الفطر.
وقد وردت مادة ( الخلق) في القرآن الكريم (336) مرة ، تحدث القرآن عن خلق السموات ، والأرض ، والليل ، والنهار ، والشمس ، والقمر ، والإنسان ، وغير ذلك .
ودليل الخلق يعتمد على مقدمتين :
المقدمة الأولى : أن هذه الموجودات مخلوقة ؛ فإن ذواتنا نحن لم تكن موجودة ، ثم وجدت ، ولكل منا وقت وجد فيه لم يكن قبله موجودا، وكذلك عالم الحيوان ، وعالم النبات ، وعناصر الكون مهما اختلف العلماء في تقدير أعمارها ، فهم متفقون على أنها لم تكن موجودة ، ثم وجدت .
والقانون الثاني للديناميكا الحرارية (قانون الطاقة المتاحة) أو (ضابط التغير) يثبت أن للكون بداية(1) ، فهو إذن مخلوق.
كما أن فناء الأشياء ـ كما نراه ـ يدل على أنها مخلوقة ؛ إذ الأزلي لا يفنى ، ويقاس عليها مثيلاتها من الممكنات الموجودة ، فهي قابلة للفناء أيضا ، فهي مخلوقة .
يقول ( جون كليفلاند كوثران) رئيس قسم العلوم الطبيعية بجامعة دولث : " تدلنا الكيمياء على أن بعض المواد في سبيل الزوال أو الفناء ، ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسرعة كبيرة ، والآخر بسرعة ضيئلة ، وعلى ذلك فإن المادة ليست أبدية ، ومعنى ذلك أيضا أنها ليست أزلية ؛ إذ أن لها بداية ، وتدلنا الشواهد من الكيمياء وغيرها من العلوم على أن بداية المادة لم تكن بطيئة أو تدريجية ، بل وجدت بصورة فجائية ، وتستطيع العلوم أن تحدد لنا الوقت الذي نشأت فيه هذه المواد ، وعلى ذلك فإن هذا العالم المادي لابد أن يكون مخلوقا، وهو منذ أن خلق يخضع لقوانين وسنن كونية محددة ، ليس لعنصر المصادفة بينها مكان " (2).
والمقدمة الثانية : وهي كل مخلوق له خالق ، قضية بدهية ، لا تحتاج إلى دليل ، وهي مركوزة في فطرة الإنسان.
إنه إذا وقعت حادثة لم يدر فاعلها قيل : إن الفاعل مجهول ، ولم يقل أحد قط : إنه ليس لها فاعل ، فكيف يراد من العقلاء أن يقطعوا الصلة بين العالم وربه ؟ .
إننا لم نكن شيئا ، فكنا ، فمن كوننا ؟
{ قل الله . ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } (3).
وهذه القضية : ( كل مخلوق له خالق ) لا تطبق على الله فلا يقال : من خلق الله ؟ لأن الله ليس مخلوقا فالشئ إما أن يكون خالقا أو مخلوقا ، فإن ثبت أنه مخلوق استحال أن يكون خالقا ، وإذا ثبت أنه الخالق ، استحال أن يكون مخلوقا .
ونقف قليلا مع نظرية ( النشوء والارتقاء ) لداروين تلك النظرية التي يدرسها طلبة الجامعات ، والمرحلة الثانوية (قسم العلوم) بوزارة التربية والتعليم ، ومعاهد الأزهر ، يدرسها الطلبة ( إجباريا ) ضمن منهج ( الأحياء ) ويطبع من الكتاب المقرر الذي يحويها آلاف النسخ في كل عام (4).
وهي تتعارض مع الإسلام الذي قال بالخلق المباشر للموجودات ، ووجود خالق ، عالم ، مريد ، قادر ، إذ يرى أصحاب هذه النظرية : أن الأنواع والأجناس قد نشأ بعضها عن بعض بطريق التطور والارتقاء من البسيط إلى المعقد ، وبقانون الانتخاب الطبيعي ، والبقاء للأصلح ، والوراثة ، حتى وصل التطور إلى ( القرد) ومن القرد إلى الإنسان مع وجود حلقة مفقودة بين القرد والإنسان ، ويرون أن ظاهرة الحياة قد نشأت في المادة في البداية بطريق الصدفة !!.
ونسارع فنقول : إن هذه ليست نظرية ، إنما هي فرض لم تثبت صحته ؛ فلم يستطع صاحب الفرض ، ولا أتباعه التدليل على صحته بأدلة علمية ، وبراهين صحيحة مقنعة.
كما أنها تتعارض مع ما قرره علم التشريح ، وعلم الأجنة (5)، ومع شهادة الصخور ، ونتائج علم الجيولوجيا (6).
" إن قوانين التكاثر ـ كل حسب نوعه ـ تؤيده بقايا الكائنات الحية من كل الأنواع ، والعلم يتفق مع الحقيقة بأن جميع الأجناس قد انحدرت من الزوجين الأصليين .
والحفريات تثبت الظهور المفاجئ ، لمدنيات أرقى ، والعلم يقول بأن الإنسان لا يستعمل إلا جزءا ضئيلا من مخه ، الأمر الذي يعتبر نقدا مباشرا لنظرية الارتقاء ؛ لأن الارتقاء لا ينجم عنه أجزاء عديمة النفع ، ولكن الأديان تقول بأن الإنسان كان في البداية كاملا ، ويستخدم مخه كله : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (4) ثم رددناه أسفل سافلين (5) } [ التين ] .
ويلاحظ هذا فيما كان يتمتع به قدماء المصريين من معرفة مذهلة ، وفي بناء الأهرامات دليل على قدر من المعرفة ، يقف علماء اليوم أمامه مبهورين محاولين في تواضع أن يكتشفوا سره ، ولكن هذا الكمال الأول قد فقده الإنسان بعصيانه لخالقه ، وما استتبع ذلك من تهور في قواه البدنية والذهنية " (7).
وأعلن ( أوستين كلارك) العالم الجيولوجي ... أنه لا توجد علامة واحدة على الاعتقاد بأن أيا من المراتب الحيوانية الكبرى تنحدر من غيره . إن كل مرحلة لها وجودها المتميز ، الناتج عن عملية خلق خاصة ومتميزة . لقد ظهر الإنسان على الأرض فجأة، وفي نفس الشكل الذي نراه عليه الآن .
ثم يأتي الدور على النشوئي الشهير (الكونت دي نوي ) ليعترف بأن : كل مجموعة ، كل فصيلة تبدو وكأنها جاءت إلى الوجود فجأة. إننا لم نعثر على أي شكل انتقالي ، ومن المستحيل أن ننسب أي مجموعة حديثة إلى أخرى أقدم " (8).
هذا ما يقوله المتخصصون في هذا المجال ، ونوجه إلى أصحاب (النشوء والارتقاء ) هذه الأسئلة ، وليس لديهم عنها جواب :
• كيف تفسرون هذا النوع من التطور الارتدادي الذي يتم من المعقد إلى البسيط ، أي عكس ما زعمتم من أن التطور يسير من البسيط إلى المعقد ؟
• كيف تفسرون ما نلاحظه من أن التطور لا يتم بسرعة واحدة في الأنواع والأجناس المختلفة ، بل وفي النوع الواحد أيضا ؟
• كيف تفسرون بقاء (القرد) وانقراض الحيوان الذي كان واسطة بينه وبين الإنسان ؟ أليس القول بالانتخاب الطبيعي ، والبقاء للأصلح ، يقتضي انقراض القرد ، وبقاء الحيوان الواسطة ، والواقع غير ذلك ؟
• كيف تفسرون وجود قدرات متفوقة لدى بعض المخلوقات لا يوجد مثلها لدى الإنسان ؟ كقدرة الطيور على الطيران ، وقدرة الضفادع على العيش في الماء والبر ، وقدرة الجمال والحمير على الرؤية في الظلام ، هل هذه الأنواع أرقى من الإنسان !!
لقد أعلنت أوربا عن زيف هذه النظرية بعد أن أدت دورها الذي أشيعت من أجله . وهو بيان التعارض الصريح بين العلوم الطبيعية ، التي أدت إلى التقدم الحضاري في أوربا ، وبين الدين الذي قدمته الكنيسة للناس خلال قرون ، والذي من أجله اضطهد العلماء ، وحكم عليهم بالقتل والسجن والتعذيب ، وحكم على كتبهم ومؤلفاتهم بالإعدام والحرق.
ثم استخدمت دول الاستعمار هذه النظرية في تحطيم أديان الأمم المستعمرة بعرضها في ثوب علمي ، حتى ينخدع بها طلاب العلم ، ثم تحدث آثارها في التشكيك في الدين .
وقد ألغيت دراسة هذه ( الفرضية ) في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1935م بعد أن ثبت علميا زيفها ، وأصدر ( الكنيست ) في إسرائيل قرارا بتحريم دراستها : ( لأنها تتعارض مع عقيدة الخلق كما وردت في التوراة ) هكذا ذكروا ، ونشر هذا في جريدة الأهرام القاهرية .
ومع ذلك فإن المسئولين ـ في مصر ـ يصرون على تدريسها للشباب في هذا السن الذي يتسم بالقلق ، والحيرة ، والبحث عن حقيقة هذا الوجود بينما يعترضون على تدريس الدين الحق في الجامعات ، ويمارون في اعتباره مادة نجاح أو رسوب في المدارس ، إن هذا لشئ عجيب !!
نماذج من عرض القرآن لدليل الخلق : ـ
1ـ خلق السموات والأرض : ـ
قال تعالى : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين (9) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواته في أربعة أيام سواء للسائلين(10) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (11) فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم (12) } [ فصلت]
ورد الحديث عن خلق السموات والأرض في حوالي (42) موضعا من القرآن الكريم ـ وهذا الموضع أكثر تفصيلا ، حيث بين أنه تعالى خلق الأرض في يومين ، وبارك فيها ، وقدر فيها أقواتها في يومين آخرين ، وفرغ من السموات في يومين ، فكان خلق السموات والأرض في ستة أيام ، كما صرح بذلك القرآن الكريم في أكثر من سورة(9) ، وقد كانت السماوات والأرض شيئا واحدا متصلا ، خلقه الله تعالى من الماء ، فقد قال تعالى :
{ أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي أفلا يؤمنون (30) وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون(31) وجعلنا السماء سقفا محفوظاوهم عنءاياتنا معرضون(32)}[الأنبياء]
قال البيضاوي : " أي كانتا شيئا واحدا ، وحقيقة متحدة ، ففتقناهما بالتنويع والتمييز" (10).
وجاء في الحديث الشريف : " كان الله ولم يكن شئ غيره ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شئ ، وخلق السموات والأرض"(11).
وروى ابن جرير عن ابن عباس : أن الله عز وجل كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء ، فلما أراد أن يخلق الخلق ، أخرج من الماء دخانا ، فارتفع فوق الماء فسما عليه . فسمى سماء ، ثم أيبس الماء ، فجعله أرضا ، فالماء أصل لجميع الكائنات.
وقد حدد القرآن عدد السموات بأنها سبع سموات فقال تعالى :
• { تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن } [ الإسراء /44].
• { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين (17)} [المؤمنون}
• { الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} [ الملك / 3]
• { ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا (15) وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا (16) [ نوح]
أما الأرض فمع تكرر ذكرها في القرآن الكريم (461) مرة إلا أنه لم ترد إلا آية واحدة تشير إلى عددها وهي : { الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شئ علما (12) } [ الطلاق ].
2ـ خلق الإنسان :
ورد الحديث عن خلق الإنسان في القرآن الكريم في (42) موضعا.
منها ما يتعلق بخلق الإنسان الأول سيدنا آدم ـ عليه السلام ـ ومنها ما يتناول خلق زوجه حواء ، ومنها ما يدور حول خلق نسلهما.
أما ما يتصل بخلق الإنسان الأول (آدم ) فإن القرآن فصل ذلك ، وبين مراحل خلقه ؛ ليثبت وجود الخالق ، ويظهر دلائل علمه ، وإرادته ، وقدرته .
بين القرآن ( المادة ) التي خلق منها آدم ، وكيف تحولت من حال إلى حال ، حتى صار بشرا سويا صالحا لأن يكون خليفة في الأرض.
وهذه المادة هي ( التراب ) قال تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59) } [ آل عمران ].
و ( الماء ) قال سبحانه : { وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا (54) } [ الفرقان ] .
ومن التراب والماء كان ( الطين ) قال تعالى : { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) } [ ص ] وهو طين ( لازب ) أي لازق . يلصق باليد . قال سبحانه : { إنا خلقناهم من طين لازب (11)} [الصافات] واختار منه (سلالة) منتقاة . قال تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) } [ المؤمنون ].
وهذه السلالة أسودت وتغيرت ، فصارت ( الحمأ المسنون ) . قال تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون (26)} [الحجر] . أي من طين يابس ، يصلصل أي يصوت ، كأنه من حمأ مسنون، فهو كالفخار . قال تعالى : { خلق الإنسان من صلصال كالفخار(14)} [ الرحمن].
وبعد ذلك ( سواه ) أي خلقه ونفخ فيه من روحه . قال سبحانه : { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (72) } [ ص ] .
وأما ما يتعلق بخلق زوج آدم ( حواء ) فقد أجمل القرآن الحديث عنه فقال : { يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء } [ النساء/1] . وقال : {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها }[ الأعراف/189]
وبين الحديث النبوي أن الله خلق حواء من ضلع آدم عليه السلام .
وأما حديث القرآن عن خلق نسل آدم ، فهو حديث مستفيض ، جاء في أكثر من موضع ، وكل هذه المواضع تدل على وجود الخالق الأعظم ، ويتسم أسلوب العرض بالدقة الدقيقة ، والجمال الأخاذ ، والإعجاز العلمي.
من هذه المواضع قوله تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا ءاخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14) } [المؤمنون].
وإذا فهمنا أن المراد بالإنسان في هذا النص المبارك هو الإنسان الأول ـ سيدنا آدم عليه السلام ـ فإنه خلق من سلالة من الطين على النحو الذي وضحته الآيات الكريمة التي سبق ذكرها .
وإذا كان المراد بالإنسان عموما آدم ونسله ، فإن العلم الحديث أثبت أن جسم الإنسان يتكون من العناصر التي يتكون منها التراب " فهو يتكون من الكربون ، والأكسوجين ، والأيدروجين ، والفوسفور ، والكبريت ، والأزوت ، والكالسيوم ، والبوتاسيوم ، والصوديوم ، والكلور ، والمغنسيوم والحديد، والمنجنيز ، والنحاس ، واليود ، والفلورين ، والكوبالت ، والزنك ، والسليكون ، والألومنيوم ، وهذه نفسها هي العناصر المكونة للتراب ، وإن اختلفت نسبها في إنسان عن آخر ، وفي الإنسان عن التراب إلا أن أصنافها واحدة ) (12).
ومن هذه العناصر يتكون الغذاء ، ومنه تكون النطفة التي هي عبارة عن منى الذكر ، وبويضة الأنثى.
إنها خلية واحدة ، ولكنها الدليل على وجود الخالق جل في علاه ، وهل تجد أدق من وصف رحم الأم بالقرار المكين ؟
وتبدأ هذه الخلية الواحدة تنمو وتتكاثر ، فمنها يتكون اللحم ، والجلد، والأنسجة ، والغضاريف ، والسوائل ، والأجهزة المتنوعة المختلفة للإنسان ، والعجيب أن هذه الخلية الواحدة تحمل الصفات الوراثية سواء كانت جسمية أو عقلية ، أو نفسية !! .
{ فلينظر الإنسان مم خلق (5) خلق من ماء دافق (6) يخرج من بين الصلب والترائب (7) } [ الطارق ] . { ألم نخلقكم من ماء مهين (20) فجعلناه في قرار مكين (21) إلى قدر معلوم (22) فقدرنا فنعم القادرون(23) ويل يومئذ للمكذبين (24) } [ المرسلات ].
"انظر إلى الجنين : كيف يتغذى في بطن أمه ، وكيف يتنفس ، وكيف أن الحبل السري الذي يربطه بأمه ليتغذى به منها ، قد روعى عند تكوينه ما يحقق الغرض الذي تكون من أجله دون إطالة قد تسبب تخمر الغذاء فيه ، أو قصر قد يؤدي إلى اندفاع الغذاء إليه مما قد يؤذيه . إذا ما فكرنا في ذلك ، فلا نملك إلا أن نعترف بقدرة الصانع ، ولطف الخالق" (13).
وتأمل كيف هيأ الله للجنين الجو المناسب ، والوضع الملائم ، فأحاطه بثلاثة أغشية صماء ، لا تتأثر بالحرارة الخارجية ، ولا ينفذ منها الماء أو الضوء ، ولا تؤذيه رائحة ما في جوف أمه : { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6) } [ الزمر ].
ويوضح لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى قوله تعالى : {خلقا من بعد خلق} فيقول فيما رواه الشيخان : ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بكتب أربع كلمات : رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد ) .
فتبدأ الأم تشعر بحركة الجنين بعد مائة وعشرين يوما عند نفخ الروح فيه وهذه الروح هي التي سيترتب عليها التكليف والحساب بعد البلوغ ، وهي تختلف عن الحياة الأولية التي كانت موجودة في الخلية.
وتأمل كيف خلق الله من المضغة البناء العظمي للإنسان الذي يعطيه شكله المميز ، ويحفظ له قوامه وجعل بين كل عظمتين ( مفصلة) تمنحه الحركة الدقيقة المطلوبة سواء كانت دائرية أو في اتجاه واحد ، أو في اتجاهين ، ولولا هذه المفاصل لأصبح جسد الإنسان قطعة واحدة ، ووضع حول المفصل سائلا لزجا ، ييسر الحركة ، أشبه بالشحم الذي يوضع للآلات المعدنية ، وخلق حول العظام (عضلات) لحمية تقوم بتحريكها. مع اختلاف عجيب في حجم وشكل وعمل كل عظم ومفصل وعضلة !
وتمر أيام الحمل حتى تحين لحظة الولادة ، ولكن كيف يخرج هذا الجنين من هذا المكان الضيق بعد أن كبر حجمه ، وزاد وزنه ؟
إن الله سبحانه وتعالى يهيئ أسباب ذلك : فيفرز الرحم السوائل اللازمة لخروج الجنين إلى الخارج . يقول الحق : { قتل الإنسان ما أكفره(17) من أي شئ خلقه (18) من نطفة خلقه فقدره (19) ثم السبيل يسره (20) } [ عبس ] .
يأيها الماء المهين من الذي سواكا ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاكا
ومن الذي غذاك من نعمائه ومن الكروب جميعها نجاكا
ومن الذي شق العيون فأبصرت ومن الذي بالعقل قد حلاكا
ومن الذي تعصي ويغفر دائما ومن الذي تنسى ولا ينساكا
3ـ خلق الطعام :
قال تعالى : { فلينظر الإنسان إلى طعامه (24) أنا صببنا الماء صبا(25) ثم شققنا الأرض شقا (26) فأنبتنا فيها حبا (27) وعنبا وقضبا (28) وزيتونا ونخلا(29) وحدائق غلبا (30) وفاكهة وأبا(31)} [ عبس ].
رأينا فيما سبق أن الإنسان في بطن أمه يحصل على غذائه منها عن طريق الحبل السري. وقبل خروجه من رحم أمه يكون الحق تعالى قد أعد له مصدرا آخر لطعامه ، وهو ثدى أمه الذي يبدأ في وتصنيع اللبن ، وهو الغذاء الأمثل له بما يحويه من مواد نشوية ، ودهنية ، وبروتينية ، وفيتامينات ، وأملاح . والذي يختلف تركيبه وتركيزه يوما بعد يوم ليتناسب مع حجمه ، ومع قدرة معدته على هضمه.
وبعد أن يتم الرضاعة يكون الله قد هيأ له جهازه الهضمي من فم وأسنان الخ . لتناول ما أودعه الله له في الأرض من نبات وحيوان تكفي لمخلوقات الله { وقدر فيها أقواتها في أربع أيام } [ فصلت /10]
فقد هيأ الله تربة الأرض للإنبات بحيث يسهل انتقال ما فيها من مواد غذائية إلى بذور النبات : { والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ موزون (19) وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين (20) } [ الحجر ] .
وكل بذرة تحمل خصائص نوعها وصنفها ، فتشق الأرض إلى أعلى مكونة : الساحة ، والفروع ، والثمار ، وتشق الأرض إلى أسفل مكونة : الجذور ، والعروق التي تمتص من التربة الغذاء.
ولابد من مياه الري ، وإلا بقيت البذور جافة كما هي دون إنبات فاقتضت حكمته تعالى أن تتبخر مياه البحار ، فتصير سحابا ، يسقط غيثا مغيثا ، تتكون منه الأنهار ، والعيون ، والمياه الجوفية محفوظة في صحن صخري ، حتى لا تغور في أعماق الأرض { قل أرءيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين (30) } [ الملك ].
وحرارة الشمس عنصر هام للإنبات . ولكن بقدر معين . لأنها لو كانت ساطعة دائما ، لاحترقت النباتات . من هنا كانت حكمة خلق الليل والنهار { فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم (96) } [ الأنعام ] .
والمادة الخضراء الموجودة في النبات هي مصانع الغذاء ، حيث تحول المواد المبثوثة في التربة من ماء وأملاح ومعادن ، وتضيف إليها ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء مع استخدام حرارة الشمس تحول كل ذلك إلى مواد غذائية صالحة لطعام الإنسان والحيوان.
نأمل قوله تعالى : { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذالكم لأيات لقوم يؤمنون(99)} [الأنعام ] .
===================
المراجع والهوامش :
1ـ انظر : وحيد الدين خان : الإسلام يتحدى ص 55 والله يتجلى في عصر العلم ص 27
2ـ الله يتجلى في عصر العلم ص 25
3ـ عقيدة المسلم للشيخ محمد الغزالي ص 21
4ـ انظر : التاريخ الطبيعي للصف الثالث الثانوي ص 160 ـ 183 ط سنة 1976 م وقد لاحظت وجود نقد يسير في الطبعات الأخيرة ، انظر طبعة سنة 1995م ص 202.
5ـ انظر : منيرة على الغاياتي : مذهب النشوء والارتقاء في مواجهة الدين ص 10 ـ 18 مكتبة وهبة .
6ـ المرجع السابق ص 17
7ـ المرجع السابق ص 25
8ـ المرجع السابق ص 13 ـ 14 وانظر : ( دارون ونظرية التطور) تأليف شمس الدين آق بلوت ترجمة عن التركية أورخان محمد علي ط. دار الصحوة .
9ـ في سورة الأعراف / 54 ـ يونس /3 ـ هود/7 ـ الفرقان /59 ـ السجدة /4 ـ ق / 38 ـ الحديد /4
10ـ أنوار التنزيل وأسرار التأويل ص 354
11ـ رواه البخاري في كتاب بدء الخلق ـ الفتح 6ـ286
12ـ الله والعلم الحديث لعبد الرزاق نوفل ص 183
13ـ المرجع السابق ص 48
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثالثا : دليل التسخير :ـ
وهذا الدليل يعتمد على ما نشاهده في هذا الكون من تسخير كل أجزائه لخدمة الإنسان ، وموافقة كل عوالمه لوجوده ، وهذا التسخير وتلك الموافقة يدلان دلالة قاطعة على وجود فاعل ، قادر ، حكيم .
• تأمل تسخير عالم الأفلاك للإنسان . يقول تعالى :
ـ { الله الذي رفع السموا بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى } [ الرعد/2].
ـ { فالق الإصباح وجعل اليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم (96) وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر }[ الأنعام / 96ـ97 ] .
ـ { وءاية لهم اليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون (37) والشمس تجر لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38) والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا اليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (40) } [ يس ].
* وتدبر تسخير عالم الحيوان والطيور . يقول تعالى :
ـ { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون (5) ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون (6) وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم (7) والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون (8) } [ النحل ].
ـ { وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين (66) } [ النحل ]
ـ { وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون (68) ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لأية لقوم يتفكرون (69) } [ النحل ].
ـ { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون (36) } [ الحج ].
ـ { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون (12) لتستوا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين (13) } [ الزخرف ] .
ـ { ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لأيات لقوم يؤمنون (79) } [ النحل ].
ـ { أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شئ بصير (19) } [ الملك ].
* وانظر إلى تسخير عالم النبات للإنسان : يقول تعالى :
ـ { هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون (10) ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لأية لقوم يتفكرون (11) } [ النحل ] .
ـ { وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وءاتوا حقه يوم حصاده } [ الأنعام / 141 ] .
ـ { فلينظر الإنسان إلى طعامه (24) أنا صببنا الماء صبا (25) ثم شققنا الأرض شقا (26) فأنبتنا فيها حبا (27) وعنبا وقضبا (28) وزيتونا ونخلا (29) وحدائق غلبا (30) وفاكهة وأبا (31) متاعا لكم ولأنعامكم (32) [ عبس ] .
* وفكر في تسخير عالم الرياح والبحار والأنهار . يقول الحق :
ـ { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } [الأعراف/57]
ـ { وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين (22) } [ الحجر ] .
ـ { الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله، كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون (48) } [ الروم ] .
ـ { وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون(14)} [ النحل ].
ـ { أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أءله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون(61)} [النمل].
ـ { ومن ءاياته الجوار في البحر كالأعلام (32) إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لأيات لكل صبار شكور(33)} [الشورى].
* وتمعن في تسخير أجهزة جسمك وأعضائه لك :
إن ما يسهل استخدامه ، والتحكم فيه ، قد سخره الله لك حسب إرادتك واختيارك : فلك أن تنظر بعينيك ، وأن تخطو بقدميك ، وأن تحمل بيديك ، وأن تنطق بلسانك وشفتيك ، وهكذا .
أما ما يصعب على الإنسان التحكم فيه من أجهزته وأعضائه ، فقد سخره الله له اضطرارا ، يعمل ليلا ونهارا .
• وتأمل تسخير جهازك ( الهضمي) وما فيه من : معدة ، وأمعاء ، وكبد ، وبنكرياس.
• وجهازك ( الدوري) وما فيه من : قلب ، وشرايين ، وأوردة ، وشعيرات .
• وجهازك ( التنفسي ) وما فيه من : أنف ، وحنجرة ، وقصبة هوائية ، ورئتين .
فمن سخر كل ذلك للإنسان ؟ ليس إلا الله ، جل في علاه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابعا : دليل إجابة المضطر : ـ
ويسمى الدليل النفسي ، وهو يعتمد على ما يشعر به كل إنسان في وقت الشدة والضيق ، أو الحيرة والقلق ، أو المرض أو الغرق، من وجود قادر حنان منان ، يجب دعاءه إذا سأله ، ويفرج كربه إذا تضرع إليه ، ويكشف ما به من سوء ، إذا لجأ إليه ، ومن منا لم يمر بمثل هذه الأوقات !!
وكم أجاب الله دعوة المضطر !! تدبر هذه الآيات :
ـ { قل أرءيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين (40) بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون (41) } [ الأنعام ].
ـ { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين (63) قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون (64) } [ الأنعام ] .
ـ { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون (12) } [ يونس ] .
ـ { هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين (22) فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق } [ يونس /22ـ 23 ].
ـ { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا (67) } [ الإسراء ].
ـ { أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءله مع الله قليلا ما تذكرون (62) } [ النمل ].
ـ { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون (65) } [ العنكبوت ].
ـ { وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسى ما كان يدعوا إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار (8) } [ الزمر ].
مناقشة الماديين : ـ
وبعد أن طوفت بك مع هذه الأدلة المختلفة على وجود الله ـ تعالى ـ أود أن أقف لحظات مع الماديين لنصفي معهم الحساب فيما يتعلق بهذا الموضوع. والماديون هم الذين لا يؤمنون بوجود شئ إلا المادة فقط ، فما يرى بالعين ، أو يسمع بالأذن ، أو يشم بالأنف ، أو يذاق بالفم ، أو يلمس بالحس ، هو الموجود ، وغير ذلك ليس موجودا .
ويرون أن وسيلة المعرفة هي التجربة فقط ولا وسيلة غيرها .
فهم يحصرون الوجود في الأشياء المادية وظواهرها ، وإذا أردت إدراك شئ فليس أمامك إلا الملاحظة والتجربة .
وينكر الماديون بناء على ما تقدم وجود إله خالق لهذا الكون ، وما يترتب على وجود هذا الإله من إمكان النبوة ، والبعث ، والخلود ، وما إلى ذلك .
وكثيرا ما نسمع منهم أن العالم وجد بالطبيعة ، أو وجد بالصدفة ، وأنه قديم لا بداية له ، وسيستمر إلى غير نهاية ، وأن الدين يتعارض مع مقررات العلم الحديث .
ونريد أن نناقشهم فيما يلي : ـ
1ـ هناك أشياء يؤمن بوجودها العلماء الماديون ، ويبنون عليها نظرياتهم ، ولم يرها عالم واحد منهم ، مثال ذلك :
الالكترونات التي يؤمن بوجودها العلماء ويؤسسون على وجودها كثيرا من النظريات والمخترعات .
والأثير الذي يتصورنه شيئا موجودا لطيفا ، لا وزن له ، غير قابل للضغط ، وهو يملأ الوجود كله .
الجاذبية التي يعتبرون وجودها حقيقة علمية ، ويفسرون بها كثيرا من الطواهر .
فماذا يقول الماديون في هذه الأمور ؟ أيستطيع واحد منهم أن يدعي أنه قد رأى شيئا منها ؟
فلماذا ينكرون وجود إله لا نراه الآن ؟ إنما نوقن بوجوده عن طريق آثاره وأفعاله.
يقول علماء الطبيعة : إن الضوء لا يرى وإنما نحسه بآثاره ، وعندما اقترب العلماء من الشمس وهي المصدر الطبيعي للضوء. كان المتوقع أن يكون الضوء أقوى وأشد . لكن كان العكس . لم يجدوا ضوءا قط ، وذلك لعدم وجود شئ يظهر به الضوء كالغبار، والذرات المائية مثلا.
فالضوء خلق من خلق الله ، ولا يرى ، فكيف يستبعد وجود خالق ، لا يرى الآن !!
2ـ وإلى هؤلاء القائلين بأن العالم وجد بالطبيعة ، نوجه إليهم هذا السؤال : ما الطبيعة ؟ ما المقصود بها ؟ وما حقيقتها ؟
هل هي شئ حي أو ميت ؟ قادر أو عاجز ؟ عالم أو جاهل ؟
فإن قالوا : حي قادر عالم ، فهو : الله
أما إن كان غير ذلك فلا يتصور منه إيجاد أو خلق ؛ لأن فاقد الشئ لا يعطيه ، وتأمل ما كتبه الشيخ محمد الغزالي :
" دار بيني وبين أحد الملاحدة جدال طويل ، ملكت فيه نفسي ، وأطلت صبري ، حتى ألقف آخر ما في جعبته من إفك ، وأدفع بالحجة الساطعة ما يوردون من شبهات .
قال : إذا كان الله قد خلق العالم ، فمن خلق الله ؟
قلت له : كأنك بهذا السؤال ، أو بهذا الاعتراض تؤكد أنه لابد لكل شئ من خالق.
قال : لا تلقني في متاهات . أجب عن سؤالي
قلت له : لا لف ولا دوران . إنك ترى أن العالم ليس له خالق : أي أن وجوده من ذاته دون حاجة إلى موجد . فلماذا تقبل القول بأن هذا العالم موجود من ذاته أزلا . وتستغرب من أهل الدين أن يقولوا : إن الله الذي خلق العالم ليس لوجوده أول ؟
إنها قضية واحدة . فلماذا تصدق نفسك حين تقررها ، وتكذب غيرك حين يقررها ؟
وإذا كنت ترى أن إلها ليس له خالق خرافة ، فعالم ليس له خالق خرافة كذلك وفق المنطق الذي تسير عليه .
قال : إننا نعيش في هذا العالم ، ونحس وجوده ، فلا نستطيع أن ننكره ؟
قلت له : ومن طالبك بإنكار وجود العالم ؟
إننا عندما نركب عربة ، أو باخرة ، أو طائرة ، تنطلق بنا في طريق رهيب . فتساؤلنا ليس في وجود العربة ، وإنما هو : هل تسير وحدها ، أو يسيرها قائد بصير ؟
ومن ثم فإنني أعود إلى سؤالك الأول لأقول لك : إنه مردود عليك.
فأنا وأنت معترفان بوجود قائم ، لا مجال لإنكاره ، تزعم أنه لا أول له بالنسبة إلى المادة ، وأرى أنه لا أول له بالنسبة إلى خالقها ، فإذا أردت أن تسخر من موجود لا أول له ، فاسخر من نفسك قبل أن تسخر من المتدينين ".
3ـ أما القائلون بأن العالم وجد بالصدفة فإننا نقول لهم : من أين للعالم هذا النظام العجيب ، وهذا الترتيب الدقيق الذي يحير العقول، ويدهش الألباب ؟
وإن ما يحدث صدفة لا يتكرر ، ولولا هذا التكرار المنظم ما استطعنا أن نقيم علما واحدا من العلوم الطبيعية والرياضية .
" ولقد حسب العلماء احتمال اجتماع الذرات التي يتكون منها جزئ واحد من الأحماض الأمينية ـ وهي المادة الأولية التي تدخل في بناء البروتينات واللحوم ـ فوجدوا أن ذلك يحتاج إلى بلايين عديدة من السنين ، وإلى مادة لا يتسع لها هذا الكون المترامي الأطراف !!
هذا لتركيب جزئ واحد على ضآلته . فما بالك بأجسام الكائنات الحية جميعا من نبات وحيوان ، وما بالك بما لا يحصى من المركبات المعقدة الأخرى ، وما بالك بنشأة الحياة ، وبملكوت السموات والأرض.
إنه يستحيل عقلا أن يكون ذلك قد تم عن طريق المصادفة العمياء ، أو الخبطة العشواء ، لابد لك ذلك من خالق مبدع عليم خبير ، أحاط بكل شئ علما ، وقدر كل شئ ثم هدى " (1).
ولندع الرد على القائلين بأن العالم وجد بالصدفة لكبار علماء الكون المتخصصين في أدق فروع العلم الحديث ، وفي ردهم أيضا أبلغ دليل على قضية تعارض العلم والدين .
يقول عالم الطبيعة البيولوجية الدكتور ( فرانك ألن) : "إن ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صورا عديدة ، ولا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة ، أو العشوائية ، فالأرض كرة معلقة في الفضاء ، تدور حول نفسها ، فيكون في ذلك تتابع الليل والنهار، وهي تسبح حول الشمس مرة في كل عام فيكون في ذلك تتابع الفصول الذي يؤدي بدوره إلى زيادة مساحة الجزء الصالح للسكنى من سطح كوكبنا ، ويزيد من اختلاف الأنواع النباتية أكثرها مما لو كانت الأرض ساكنة" (2).
ويقول الدكتور جون كليفلاند كوثران رئيس قسم العلوم الطبيعية بجامعة دولث : " هل يتصور عاقل أو يفكر أو يعتقد أن المادة المجردة من العقل والحكمة قد أوجدت نفسها بنفسها بمحض المصادفة ؟ أو أنها هي التي أوجدت هذا النظام ، وتلك القوانين ، ثم فرضته على نفسها ؟ لا شك أن الجواب سوف يكون سلبيا . بل إن المادة عندما تتحول إلى طاقة ، أو تتحول الطاقة إلى مادة ، فإن كل ذلك يتم طبقا لقوانين معينة ، والمادة الناتجة تخضع لنفس القوانين التي تخضع لها المادة المعروفة التي وجدت قبلها " (3)
ويقول الدكتور ( وولتر أوسكار لندبرج ) عالم الفسيولوجيا والكيمياء الحيوية ، وعضو ورئيس جمعيات عديدة لدراسة الطعام وتركيبه الغذائي ، ومؤلف سلسلة كتب تركيب الدهون : " إن الطريقة العلمية تقوم على أساس انتظام الظواهر الطبيعية ، والقدرة على التنبؤ بها في ظل هذا الانتظام ، ونستطيع أن نقول بكل دقة : إن هذا الانتظام في ظواهر الكون والقدرة على التنبؤ بها ـ وهما الأساسان اللذان تقوم عليهما الطريقة العلمية ـ هما في الوقت ذاته أساس الإيمان بفكرة وجود الله ، إذ كيف يتسنى أن يكون هنالك كل هذا الانتظام ، وأنى يتسنى لنا أن نتنبأ بهذه الظواهر ما لم يكن هنالك مبدع ، ومدبر ، وحافظ لهذا النظام العجيب" (4).
وهذا عالم آخر حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة مانيسوتا ، ورئيس قسم البحوث الذرية بالبحرية الأمريكية ، وأخصائي في الإشعاع الشمسي والبصريات الهندسية والطبيعية يقول : "لقد أتيح لي بفضل اشتغالي بدراسة الطبيعة أن أدرس التركيب المعقد إلى درجة لا يتصورها العقل لبعض مكونات هذا الكون الذي لا تقل فيه روعة التذبذبات الداخلية لأصغر ذراته ، وما دون ذراته عن النشاط المذهل لأكبر النجوم السابحة في أفلاكها ، والذي يسير فيه كل شعاع من الضوء ، وكل تفاعل كيماوي أو طبيعي ، وكل خاصية من خواص كل كائن حي وفق قوانين ثابتة ، لا تتبدل ولا تتغير ، تلك هي الصورة التي تقدمها لنا العلوم ،والتي كلما تأملها الإنسان ، اكتشف من بالغ دقتها ، ورائع جمالها ما لم يكن قد اكتشفه من قبل " (5).
ويقول : " إن كل ذرة من ذرات هذا الكون تشهد بوجود الله ، وإنها تدل على وجوده حتى دون حاجة إلى الاستدلال بأن الأشياء المادية تعجز عن خلق نفسها " (6).
وهذا أستاذ آخر تخصص في وراثة النباتات ، ودراسة شكلها الظاهري ، وفي الحياة البرية يقول : " إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها ، والتي لا يحصيها عد ، وهي التي تتكون منها جميع المواد ، كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها : كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكون الحياة " (7).
وتأمل ما يقوله مصمم العقل الالكتروني (كلودم . هاثاواي ) في هذا الصدد : " وليس العالم من حولنا إلا مجموعة هائلة من التصميم ، والابداع ، والتنظيم ، وبرغم استقلال بعضها عن بعض ، فإنها متشابكة متداخلة ، وكل منها أكثر تعقيدا في كل ذرة من ذرات تركيبها من ذلك المخ الالكتروني الذي صنعته ، فإذا كان هذا الجهاز يحتاج إلى تصميم أفلا يحتاج ذلك الجهاز الفسيولوجي الكيمي البيولوجي الذي هو جسمي ، والذي ليس بدوره إلا ذرة بسيطة من ذرات هذا الكون اللا نهائي في اتساعه وإبداعه إلى مبدع يبدعه ؟
إن التصميم ، أو النظام ، أو الترتيب ، أو سمها ما شئت ، لا يمكن أن تنشأ وتأمل ما يقوله مصمم العقل الالكتروني (كلودم . هاثاواي ) في هذا الصدد : " وليس العالم من حولنا إلا مجموعة هائلة من التصميم ، والابداع ، والتنظيم ، وبرغم استقلال بعضها عن بعض ، فإنها متشابكة متداخلة ، وكل منها أكثر تعقيدا في كل ذرة من ذرات تركيبها من ذلك المخ الالكتروني الذي صنعته ، فإذا كان هذا الجهاز يحتاج إلى تصميم أفلا يحتاج ذلك الجهاز الفسيولوجي الكيمي البيولوجي الذي هو جسمي ، والذي ليس بدوره إلا ذرة بسيطة من ذرات هذا الكون اللا نهائي في اتساعه وإبداعه إلى مبدع يبدعه ؟
إن التصميم ، أو النظام ، أو الترتيب ، أو سمها ما شئت ، لا يمكن أن تنشأ إلا بطريقتين : طريق المصادفة ، أو طريق الإبداع والتصميم ، وكلما كان النظام أكثر تعقيدا ، بعد احتمال نشأته عن طريق المصادفة ، ونحن في خضم هذا اللا نهائي لا نستطيع إلا أن نسلم بوجود الله " (8) .
هذه شهادات طائفة ممن تخصصوا تخصصا دقيقا على مستوى عال في فروع العلم الحديث المتنوعة . فماذا بعد هذا ؟
وتأمل في هذه المعاني : ـ
قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض : من أرداكا ؟
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب : من عافاكا ؟
قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا ؟
قل للبصير وكان يحذر حفرة فهوى بها من ذا الذي أهواكا ؟
بل سائل الأعمى خطا بين الزحا م . بلا اصطدام : من يقود خطاكا؟
قل للجنين يعيش معزولا بلا راع ومرعى : ما الذي يرعاكا ؟
قل للوليد بكى وأجهش بالبكا ء لدى الولادة : ما الذي أبكاكا ؟
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله : من ذا بالسموم حشاكا ؟
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا ؟
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهدا وقل للشهد من حلاكا ؟
بل سائل اللبن المصفى كان بـ ين دم وفرث ما الذي صفاكا ؟
وإذا رأيت الحي يخرج من حنا يا ميت فاسأله : من أحياكا ؟
قل للهواء تحسه الأيدي ويخ فى عن عيون الناس من أخفاكا؟
قل للنبات يجف بعد تعهد ورعاية : من بالجفاف رماكا ؟
وإذا رأيت النبت في الصحراء ير بو وحده فاسأله : من أرباكا ؟
وإذا رأيت البدر يسري ناشرا أنواره فاسأله : من أسراكا ؟
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي أبـ عد كل شئ من الذي أدناكا ؟
قل للمرير من الثمار من الذي بالمر من دون الثمار غذاكا ؟
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله : من يا نخل شق نواكا؟
وإذا رأيت النار شب لهيبها فاسأل لهيب النار : من أوراكا ؟
وإذا ترى الجبل الأشم مناطحا قمم السحاب فسله من أرساكا ؟
وإذا ترى صخرا تفجر بالمياه ه فسله : من بالماء شقق صفاكا؟
وإذا رأيت النهر بالعذب الزلا ل جرى فسله : من الذي أجراكا ؟
وإذا رأيت البحر بالملح الأجا ج طغى ، فسله : من الذي أطغاكا ؟
وإذا رأيت الليل يغشى داجيا فاسأله : من يا ليل حاكا دجاكا ؟
وإذا رأيت الصبح يسفر ضاحيا فاسأله : من يا صبح صاغ ضحاكا؟
هذي عجائب طالما أخذت بها عيناك وانفتحت بها أذناكا !!
والله في كل العجائب ماثل إن لم تكن لتراه فهو يراكا ؟ (9).
===============
المراجع والهوامش :
1ـ انظر : الله يتجلى في عصر العلم ص 4
2ـ المرجع السابق ص 6
3ـ المرجع السابق ص 24
4ـ المرجع السابق ص 33
5ـ المرجع السابق ص 40
6ـ المرجع السابق ص 41
7ـ المرجع السابق ص 52
8ـ المرجع السابق ص 79
9ـ هذه الأبيات من قصيدة بعنوان : ( مع الله ) للشيخ / إبراهيم بديوي من علماء الأزهر ، نشرتها مجلة ( الوعي الإسلامي) في عدد جمادي الثانية سنة 1389 هـ ص 36 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دليل العناية طريقة شرعية لإثبات وجود الله
إن الطريق التي نبه الكتاب العزيز عليها في كثير من آياته، ودعا الكل من بابها، وُجدت تنحصر في الوقوف على العناية بالإنسان، وخلق جميع الموجودات من أجله، وهو ما سماه العلماء بدليل العناية.
وقد استدل كثير من علماء الإسلام بهذا الدليل من بينهم ابن رشد الذي اعتبره أقوى الأدلة على وجود الله، بل جعله الطريق الوحيد للوصول إلى الإقرار بوجوده سبحانه لأنه دليل عقلي وشرعي.
ودليل العناية مبني على أصلين:
أحدهما: أن جميع المخلوقات موافقة لوجود الإنسان
والثاني: أن هذه الموافقة دليل على وجود فاعل قاصد لذلك مريد له إذ ليس يُمكن أن تكون الموافق مصادفة.
يقول ابن تيمية : "فالإستدلال على الخالق بخلق الإنسان في غاية الحسن والاستقامة، طريقة عقلية صحيحة، وهي شرعية دل القرآن عليها، وهدى الناس إليها وبينها وأرشد إليها" (1)
وكذلك من تتبع معنى الحكمة لمعرفة السبب الذي من أجله خلق والغاية المقصودة به كان وقوفه على دليل العناية أتم.
وأما الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الخالق والآيات المتضمنة لدليل العناية كثيرة، أذكر منها قوله سبحانه:("هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ")سورة البقرة 29
وقوله تعالى "أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)"النبأ
قوله تعالى " تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)"الفرقان
وقوله تعالى "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ"البقرة 164
وقوله تعالى "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) "آلعمران
وقوله تعالى "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)"القصص
ووله تعالى "إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) "فاطر
لا شيء أحلى ولا أوضح من وجود الله تعالى الذي وهبنا ذلك العقل الساعي لمعرفته -لا أعرف دينا اشترط العقل في التكليف إلا الإسلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دليل الحركة
(ج) هل فكرت في هذه السيارات المنطلقة - اعني هذه الكواكب التي تخترق اعماء الجو- والتي تلزم مدارا واحدا لا تنحرف عنه يمينا ولا يسارا، وتلتزم سرعة واحدة لا تبطئ فيها ولا تعجل، ثم نرتقبها في موعدها المحسوب فلا تخالف عنه أبدا؟ إن الكرة تنطلق من أقدام اللاعبين ثم لا تلبث أن تهوي بعد تحليق. أما هذه الكرات الغليظة الحجم، الحي منها والميت، المضيء منها والمعتم، فهي معلقة لا تسقط، سائرة لا تقف .. كل في دائرته لا يعدوها. وقد يصطدم المشاة والركبان على أرضنا وهم أصحاب بصر وعقل. أما هذه الكواكب التي تزحم الفضاء فإنها لا تزيغ ولا تصطدم: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون) (يس:38 – 40 )
من الذي هيمن على نظامها واشرف على مدارها؟ بل من الذي امسك بأجرامها الهائلة، ودفعها بهذه القوة الفائقة؟ إنها لا ترتكز في علوها إلا على دعائم القدرة، ولا تطير إلا بأجنحة أعارها لها القدر الأعلى: (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن امسكهما من احد من بعده، انه كان حليما غفورا) (فاطر:41) أما كلمة الجاذبية فدلالتها العلمية كدلالة حرف "س" على المجهول. أنها رمز لقوانين تصرخ باسم الله، ولكن الصم لا يسمعون.
ويسمى هذا الدليل: دليل الحركة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دليل الإبداع
(أ)إن الإنسان لم يخلق نفسه، ولم يخلق أولاده، ولم يخلق الأرض التي يدرج فوقها، ولا السماء التي يعيش تحتها.
والبشر الذين ادعوا الألوهية لم يكلفوا أنفسهم مشقة إدعاء ذلك. فمن المقطوع به أن وظيفة الخلق والإبراز من العدم، لم ينتحلها لنفسه إنسان ولا حيوان ولا جماد. ومن المقطوع به كذلك، أن شيئا لا يحدث من تلقاء نفسه، فلم يبق إلا الله وقد قرر القرآن الكريم هذا الدليل:
(أم خلقوا من غير شيء؟ أم هم الخالقون. أم خلقوا السموات والأرض، بل لا يوقنون) (الطور: 35-36) ويلفت أنظار العرب إلى مظاهر الإبداع في المجتمع الساذج الذي يحيون فيه. (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟ والى السماء كيف رفعت؟ والى الجبال كيف نصبت؟ والى الأرض كيف سطحت) (الغاشية:17-20)
ويسمى هذا الدليل: دليل الإبداع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدليل الكوني
إن من أكثر الأدلة اشتهاراً على ألسنة العلماء وأكثرها التصاقاً بالجماهير فضلاً عن الخاصة الأدلة التي تتصل بالعالم، ونعني بتحليله وتفحصه والنظر إليه بقصد الصعود من ذلك كله إلى إثبات أن لهذا العالم خالقاً مدبراً.
وزاوية الرؤية إلى هذا العالم تختلف باختلاف إرادة الناظر إليه.
وعلى أساس من اختلاف زاوية الرؤية يختلف سير الدليل كله في جملته وتفاصيله، وفي الاسم الذي يطلق على هذا الدليل أو ذاك من الأدلة التي يصطنعها العلماء معتمدين في نقطة اللباب على تأمل الكون وفحصه.
ومن هذه الأدلة التي تتصل بالكون الدليل الذي نطلق عليه اسم : " الدليل الكوني" أو "دليل الحدوث".
وهذا الدليل في جملته يقوم على مقدمات تؤدي إلى نتيجة، وهذه المقدمات هي: ـ أن العالم حادث ـ تلك مقدمة أولى ، وكل حادت لابد له من محدث، مقدمة ثانية ينتج منها جميعاً : أن العالم لابد له من محدث ـ هذا المحدث هو الله سبحانه وتعالى.
والمتأمل في القضية الأولى : ـ العالم حادث ـ لا يحتاج من وجهة نظر الذين استعملوا هذا الاستدلال إلا مجرد استقراء جزئيات هذا العالم ليتمكن من إثبات هذا الحدوث".
وجزئيات هذا العالم : إنسان ، وحيوان، ونبات ، وجماد.
وكل هذه الأجناس مع لواحقها ينقسم ضرورة إلى أصول وعوارض.
والعوارض مثل الصفات كالطول والقصر، والسواد والبياض، والحركة والسكون ... إلخ.
وهذه الصفات يتغير بعضها على الشئ الواحد، فهو يكون ساكناً في وقت، متحركاً في وقت، مفترقاً في وقت مجتمعاً في وقت آخر إلى غير ذلك من تعاور الصفات وتبدلها على الشئ الواحد، وهذا التعاور وذلك التبدل آية حدوث هذه الأعراض وتلك الصفات، إذ أن الحركة والسكون حين يحل أحدهما على الآخر يدل هذا الحلول على فناء الأول منهما وحدوث الثاني، فإذا حلت الحركة محل السكون مثلاً ، انقطع السكون، واستحدثت الحركة مكانه، فإذا حل السكون مرة أخرى محل الحركة استحدث السكون، وفنيت الحركة السابقة عليه، وهكذا فإن الأعراض لها بدايتها ونهايتها التي لا تخفى على الملاحظة.
ولما كانت هذه الأعراض لا تقوم بذاتها، لأنها لا تتحيز بنفسها، وإنما لابد لها من محل تقوم به، ولما كان المحل الذي تقوم به الأعراض هو الأجسام، أو الجواهر المتحيزة بنفسها، كان قيام الحوادث من الأعراض، بالمتحيزات بنفسها ( الأجسام أو الجواهر) آية حدوث هذه الأجسام طبقاً للقاعدة العقلية القائلة ـ إن ما قام به الحوادث فهو حادث .
ويتعلق بهذه القضية ، قضية حدوث العالم بعوارضه وأصوله ، كثرة كاثرة من اللجاجة والمراء التي تفترض افتراضات عقلية لا يقصد من ورائها التحقيق العلمي، بمقدار ما يقصد من ورائها محاولة إثبات البراعة العقلية، أو الرغبة في السياحة الذهنية والترافة في التأمل والنظر.
والاستقراء هو خير شاهد على حدوث العالم بأصوله وأعراضه، أو بمادته وصفاته بما يشبه أن يكون ضرورياً .
فالإنسان يستطيع أن يتأمل ذاته لينظر التغير من نفسه من عدم إلى وجود، ومن طفولة إلى شباب إلى شيخوخة، ومن حركة إلى سكون .. الخ.
ويستطيع أن يتأمل الأشياء حوله، يجدها كلها عرضة لتعاور الأعراض وتبادل الصفات.
والقرآن الكريم يلفت النظر إلى هذا التغير في العالم حين يوجهنا إلى النظر فيه، بالأمر المباشر أو الاعتبار بالقصة في القرآن، التي ما جاءت إلا للعبرة، وتأمل النتائج والأحداث فيها.
فإبراهيم الخليل عليه السلام، اعتمد في إلزام قومه الحجة على فكرة التغير في الكون، لإثبات احتياجه وعوزه إلى إله دائم لا يطرأ عليه التغير، ولا تتعاوره الأعراض.
قال تعالى : "وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين، فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون ، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ، وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شئ علما أفلا تتذكرون" سورة الأنعام : الآيات 75 ـ 80.
وفي القرآن الكريم تحفيز العقل إلى النظر في آفاق الكون، أرضه وسمائه، وما بين الأرض والسماء، واستقراء جزئيات هذا الكون، ليظهر لأصحاب العقول، والبصائر أن هذا الكون متغير متقلب، متحول من حال إلى حال.
" إن في خلق السموات والأرض ، واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، وبث فيها من كل دابة ، وتصريف الرياح ، والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون" سورة البقرة : آية 164.
وأمر الله العالمين أمراً جازماً أن يتوجهوا بعقولهم إلى هذا الكون فيتأملوه: "قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون" سورة يونس : آية 101.
أما أولئك النفر الذين ينكرون بغير سلطان من الحجة والإقناع، فهم محل إنكار الشرع عليهم، لأنهم قصروا في تأمل أقرب الأشياء إليهم وهي ذواتهم .
قال تعالى : "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" سورة الذاريات : آية 21.
ويتبين من هذا كله أن قضية حدوث العالم قضية تشبه أن تكون بديهية لوضوحها لمن يريد أن يتأملها، ويتبين من هذا كله أيضاً عناية الشرع بلفت الأنظار إليها، والتأكيد على أهميتها في استجلاء الأمر أمام العقول.
والمقدمة الثانية من هذا الاستدلال هي : أن كل حادث لابد له من سبب ينقله من العدم إلى الوجود .
وقد ذهب جمهرة من العلماء إلى أن هذه المقدمة ضرورية لا تحتاج إلى إعمال الفكر في إثباتها أو الاستدلال عليها.
يقول الإمام الحجة أبو حامد الغزالي تعليقاً على هذه المقدمة : ( إن هذا الأصل يجب الإقرار به فإنه أولى ضروري في العقل ) الاقتصاد في الاعتقاد ، الإمام الغزالي ، ص 40.
وبداهة هذه المقدمة أو ادعاء الضرورة فيها إنما يتصل بالتصديق بالنسبة الجامعة بين الطرفين، والثمرة المستفادة منهما.
غير أن الإمام الغزالي يستدرك هنا لإيضاح مسألة في غاية الأهمية.
ذلك أن الإمام الغزالي يرى أن هذا الأصل أو هذه المقدمة برغم أن التصديق بها أمر ضروري، إلا أن طرفي القضية : (الموضوع، والمحمول فيها) قد يدق واحد منهما أو كليهما على بعض الأفهام، فيحتاج من وقع الخفاء فيه إلى إيضاح.
وهذا الخفاء الذي يحتاج إلى إيضاح حتى يتمكن البعض من تصوره قد يوقع في خلط أو لبس فيظن القارئ أو الباحث أن إيضاح طرفي القضية، أو أحد طرفيها يعد لوناً من الاستدلال عليها.
والأمر أيسر من أن يوقع في اللبس.
فالاستدلال على القضية أمر، وإيضاح طرفيها أمر آخر.
فالاستدلال على القضية إنما يوجه أساساً إلى النسبة بين طرفيها رضى ينتهي المستدل بالقضية إلى حالة يجبر معها السامع بالحجة إلى التصديق بها.
أما إيضاح طرفي القضية أو أحدهما فإنما هو أمر يقصد منه تجلية ما تريد المستدل إيضاحه حتى يتمكن السامع عن تصوره تصوراً يرفع عنه كل خفاء.
يقول الإمام الحجة : ( ومن يتوقف فيه فإنما يتوقف لأنه ربما لا ينكشف له ما نريده بلفظ الحادث ولفظ السبب، وإذا فهمهما صدق عقله بالضرورة بأن لكل حادث سبباً ).
ولعله من المفيد هنا أن نوضح طرفي هذه القضية حتى لا يلتبس على القارئ تصورهما تصوراً صحيحة.
فالحادث هو كل شئ وجد من العدم.
وهو في حالة عدمه السابقة على وجوده كان ممكناً، إذ أنه لا يعقل أن يكون من قبيل الواجب الوجود لذاته، كما لا يعقل بداهة أن يكون من قبيل المستحيل.
ومن المعروف أن الممكن هو ما كان العدم والوجود بالنسبة إليه سواء، فإذا ترجح وجوده على عدمه. لابد لهذا الترجيح من سبب، إذ أن الترجيح بغير مرجح أمر يأباه العقل، ويحيله النظر.
وهكذا يكون قد اتضح أمامنا أن الحادث هو الموجود من العدم، وأنه لابد له من سبب.
وإذا ما اتضح معنى الحادث والسبب جميعاً تبين لنا بوضوح أن القضية المؤتلفة من هذين الطرفين، قضية ضرورية في العقل أولية في التفكير.
ولما كانت هذه القضية ضرورية في العقل أولية في التفكير جاءت النصوص الشرعية تلفت النظر إلى حدوث العالم على نحو ما ذكرناه، وإلى التغير فيه على نحو ما لفتنا النظر إليه، وتركت للعقل والبصيرة الانتقال من تأمل التغير والحدوث إلى الانتقال مباشرة عبر القضية الضرورية إلى إثبات الصانع وهو الله عز وجل.
غير أن علماء الكلام لم يتوقف الكثير منهم عند هذا الدليل بأسبابه ونتيجته، وإنما زادوا في الأمر وضوحاً واستدلالا على النتيجة التي استنتجوها من هذا الدليل.
فالدليل الذي انتهينا من مناقشة مقدماته قد أنتج لنا نتيجة محددة على هذا النحو (العالم حادث وكل حادث لابد له من محدث، فالعالم لابد له من محدث).
غير أن هذه النتيجة العالم لابد له من محدث، هل من الممكن أن تكون كافية لكي نقول اعتماداً عليها إن هذا المحدث هو الله عز وجل، أم أنه لابد من أن نحتاج إلى لون من الاستدلال يطور هذه النتيجة نفسها ؟.
كان من الممكن أن نكتفي بهذه النتيجة لولا ما وجد من محاولات بعض الفلاسفة التي ترمي إلى القول بأن هذا الاستدلال الذي ذكره المتكلمون إن كان يفيد أن الحادث لابد له من محدث فما هو وجه الضرورة التي يلجئنا إلى القول بأن هذا المحدث هو الله ؟ ! .
وهذا اللون من الشغب الفلسفي قد ألجأ المتكلمين إلى استكمال دليلهم على هذا النحو ( إن المحدث لهذا العالم إما أن يكون قديماً لا يحتاج إلى محدث، أو حادثاً يحتاج إلى غيره، فإن كان حادثاً دخل في جملة العالم، وعليه فإنه يحتاج إلى محدث يحدثه، ونقل الكلام إليه، وهكذا فإما أن يدور الأمر أو يتسلل أو ننتهي إلى قديم لا يحتاج إلى غيره يكون هو الذي أوجد العالم، وأخرجه من العدم.
والتسلسل والدور أمران باطلان في العقل، فلم يبق إلا الاحتمال الثالث وهو المطلوب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأدلة العقلية لوجوده سبحانه وتعالى
إن وجود الله تعالى أغنى من أن يحتاج إلى بيان أو يتوقف على برهان , حيث أدركه كل ذي عقل , وأحسّ به كل ذي شعور , وفهمته كل فطرة .
حتى الذي ينكره بلسانه لا محالة يتوجه إليه عند الاضطرار بقلبه وجَنانه , بل يمكن القول بأن وجوده تعالى فطري لا يحتاج في الحقيقة إلى دليل , ولكن نذكر لكم بعض الأدلة العقلية على وجوده تعالى حسبما طلبتموه :
الأول : برهان النظم
أوضح الأدلة على إثبات الله تعالى الذي يحكم به العقل , هو دليل النظم والتدبير .
فالكل يرى العالم بسماواته وأراضيه , وما بينهما من مخلوقاته ورواسيه من المجرة إلى النملة . فنرى أجزاءها وجزئياتها مخلوقة بأحسن النظم , وأتقن تدبير وأحسن صنع , وأبدع تصوير , فيحكم العقل بالصراحة أنه لابد لهذا التدبير من مدبر , ولهذا التنظيم من منظم , ولهذا السير الحكيم من محكم , وذلك هو الله تعالى .
الثاني : امتناع الصدفة
فإنا إذا لم نؤمن بوجود الخالق لهذا الكون العظيم , فلابد وأن نقول : بأن الصدفة هي التي أوجدته أو أن الطبيعة هي التي أوجدته . لكن من الواضح أنه لا يقبل حتى عقل الصبيان أن تكون هذه المخلوقات اللامتناهية وجدت بنفسها بالصدفة العمياء أو بالطبيعة الصماء .
الثالث : برهان الاستقصاء
فان كلاً منا إذا راجع نفسه يدرك ببداهة أنه لم يكن موجوداً أزلياً , بل كان وجوده مسبوقاً بالعدم , وقد وجد في زمان خاص , إذن فلنفحص ونبحث : هل أننا خلقنا أنفسنا ؟ أم خلقنا أحد مثلنا ؟ أم خلقنا القادر الله تعالى ؟
ولاشك أننا لم نخلق أنفسنا , لعدم قدرتنا على ذلك , ولاشك أيضاً أن أمثالنا لم يخلقونا لنفس السبب , إذن لا يبقى بعد التفحص والاستقصاء إلا أن الذي خلقنا هو الله تعالى , لأنه القادر على خلق كل شيء .
الرابع : برهان الحركة
إنا نرى العالم بجميع ما فيه متحركاً , ومعلوم أن الحركة تحتاج إلى محرك , لأن الحركة قوة والقوة لا توجد بغير علة . إذن لابد لهذه الحركات والتحولات والتغيرات من محرك حكيم قدير , وهو الله تعالى .
الخامس : برهان القاهرية
إن الطبيعة تنمو عادة نحو البقاء لو لا إرادة من يفرض عليها الفناء . فالانسان الذي يعيش والاشجار التي تنمو لا داعي إلى أن يعرض عليها الموت أو الزوال إلا بعلة فاعلة قاهرة . فمن هو المميت ومن هو المزيل ؟ ذلك الذي له القدرة على فناء مخلوقاته وهو الله تعالى .
هذه أدلة خمسة من بين الأدلة العقلية الكثيرة التي تبرز الايمان الفطري بوجود الله تعالى .
وأما كيف وجد واين وجد فذلك ممنوع شرعاً عن التحدث عنه , بل ولا يمكن للعقل أن يدركه