وجود الله ( مقدمة )
هل يحتاج وجوده تعالى إلى دليل ؟
انقسم العلماء في هذا الموضوع إلى فريقين :ـ
فريق يرى أن وجود الله تعالى أمر ضروري فطري ، لا يحتاج إلى دليل ، لأنه مركوز في فطرة الإنسان
وفريق يرى أن وجوده أمر نظري مكتسب ، يحتاج في إثباته إلى الأدلة ، ولو كان ضروريا ما اختلف فيه أحد ، وما كفر بعض الخلق.
ويرى الفريق الأول أن مهمة الرسل كانت لتوحيد الله ، لا لإثبات وجوده .
يقول الإمام الشعراني : " لم يأت الأنبياء والرسل ليعلمونا بوجود الصانع ، وإنما أتونا ليدعونا إلى التوحيد ، قال تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله } . والخلق إنما أشركوا بعد الاعتراف بالموجود لما اعتقدوه من شركاء لله تعالى ، أو لنفي واجب من صفاته ، أو لإثبات مستحيل منها ، أو لإنكارهم النبوات " (1).
والاعتراف الذي يشير إليه الشعراني هو المذكور في قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني ءادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين(172) أو تقولوا إنما أشرك ءاباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون (173) وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون(174)} [ الأعراف ] .
ويوضح هذه الفكرة الدكتور عبد الحليم محمود ـ رحمه الله ـ فيقول : "الواقع حين بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم الجهر بدعوته بعد نحو ثلاث سنوات من الإسرار بها ، فإنه صلوات الله وسلامه عليه لم يبدأ بإثبات وجود الله ، وإنما بدأ بالبرهنة على صدقه هو ، وتحدى العرب بصدقه ، ومن قبل ذلك حين فاجأه الملك في الغار ، ونزل الوحي ، لم يبدأ الملك ، أو لم يبدأ الوحي بإثبات وجود الله ، وإنما بدأ بالأمر بأن يقرأ الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ باسم ربه .
أما الآيات الكثيرة التي يظن بعض الناس أنها نزلت لإثبات الوجود ، فليست من ذلك في قليل ولا في كثير ، إنها تبين عظمة الله ، وجلاله ، وكبرياءه ، وهيمنته الكاملة على العالم ، ما عظم من أمره ودق منه ، لا تفوت هيمنته صغيرة ولا كبيرة ، ولا يخرج عن سلطانه ما دق وما جل"(2).
ويدعم هذا الفريق رأيه في أن وجود الله فطري لا يحتاج إلى دليل بالآيات القرآنية الآتية :
• { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله } [ العنكبوت /61].
• { ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله } [ العنكبوت /63].
• { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم (9)} [ الزخرف].
• { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولهن الله فأنى يؤفكون (87)} [الزخرف /87]
ويعترض هذا الفريق على من يحاول الاستدلال على وجود الله قائلين:
" كيف تكون الكائنات مظهرة له ، وهو الذي أظهرها ، أو معرفة له ، وهو الذي عرفها ، وكيف يحتاج إلى الدليل من نصب الدليل؟ " (3).
ويناجي أحدهم ربه قائلا : " إلهي ، كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك !! أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك !! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك !! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك !!
كيف يتصور أن يحجبه شئ ، وهو الذي أظهر كل شئ !
كيف يتصور أن يحجبه شئ ، وهو الذي ظهر بكل شئ.
كيف يتصور أن يحجبه شئ ، وهو الذي ظهر في كل شئ.
كيف يتصور أن يحجبه شئ ، وهو الظاهر قبل وجود كل شئ.
كيف يتصور أن يحجبه شئ ، وهو أظهر من كل شئ.
كيف يتصور أن يحجبه شئ ، وهو الواحد الذي ليس معه شئ.
كيف يتصور أن يحجبه شئ ، وهو أقرب إليك من كل شئ.
كيف يتصور أن يحجبه شئ ، ولولاه ما كان وجود شئ.
شتان بين من يستدل به ، أو يستدل عليه ، المستدل به عرف الحق لأهله ، فأثبت الأمر من وجود أصله ، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه ، وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه ، ومتى بعد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه " (4).
هذه وجهة نظر أولئك الذين رأوا أن وجود الله لا يحتاج إلى دليل ، أما تعقيبنا عليها ، فإننا نرى أن عاطفة التدين موجودة في جميع بني البشر ، وأن معرفة الله معلومة لكل مخلوقاته { تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا (44)} [ الإسراء ] . وقد أيدت الأبحاث العلمية الحديثة هذه القضية ، حيث أثبتت وجود نوع من التدين لدى جميع المجتمعات ، وأن من ينكر وجود الإله ، إنما يستبدل وجود إله بإله.
لكن الإنسان بعد ميلاده يتأثر بعوامل كثيرة ، شرحنا بعضها عند حديثنا عن ( ضرورة الدين للإنسان ) مثل : البيئة الفاسدة ، والتنشئة الخاطئة : والمصالح المادية ، والميول والأهواء ، ودور إبليس وأعوانه في هذا الوجود . . هذه المؤثرات تلعب دورا خطيرا في انحراف الفطرة الإنسانية .
من هنا احتاج الناس إلى : التنبيه ، وإلى : التذكير.
ومن هنا كانت آيات القرآن الكريم لتنبه ، ولتذكر ، وخاصة أن وسائل المعرفة لدى الإنسان من حواس ، وعقل معرضة للخطأ ، وأن موضوع معرفة ـ وجود الله ـ أجل من أن يحده شئ ، أو يحصره تصور ، بل إن الوضوح الظاهر ، أو الظهور الواضح ، أو القرب القريب ، قد يكون سببا في الخفاء والالتباس.
وإن في انقسام العلماء في هذه المسألة إلى فريقين ما يدل على أنها ليست بدهية ، إذ الضروري يتفق عليه جميع العقلاء ، ولا يختلف فيه اثنان منهم ، لذلك فإننا سنعرض هنا مجموعة من الأدلة على وجود الله تعالى : سواء اعتبرها القارئ أدلة ، أو اعتبرها من باب التذكير والتنبيه على ما أودع في الفطرة .
==============
المراجع والهوامش :
1ـ اليواقيت والجواهر ص 53
2ـ الإسلام والعقل ص 96 ـ 97
3ـ المدرسة الشاذلية للدكتور عبد الحليم محمود ص 25
4ـ الإسلام والعقل ص 103 .