أدلة الفلاسفة على وجود الله تعالى
دليل القديس أنسلم
ما ذكرناه من ألوان الاستدلال يمكن أن يتفرع عندما نريد التصنيف إلى فرعين :
أحدهما : يتصل اتصالاً مباشراً بالكون ليستقرئ جزئياته، فيرقى منها إلى إثبات أن الله موجود.
وثانيهما : يقوم على أساس التأمل العقلي الذي لا يتصل بالواقع إلا اتصالاً عرضياً لا يمس جوهر الدليل، فهو بخطواته كلها عقلي مجرد.
أما هذا الدليل الثالث الذي ما زال يحمل حتى الآن اسم صاحبه "القديس أنسلم" الذي ابتكره لأول مرة ، فإنه يقوم على مزيج وخلط بين المنهجين جميعاً.
ففي هذا الدليل يعتمد القديس "أنسلم" على التفكير العقلي المجرد. ثم ينتقل بعد ذلك إلى الواقع المحسوس، لا ليطبق فيه ما توصل إليه بالفكر تطبيقاً عملياً، وإنما ليستكمل باقي جزئيات الدليل.
ومحور الدليل الذي يصطفه القديس "أنسلم" هو فكرة الأكمل باعتبار أنها تفرض نفسها على كل عقل مهما كان مستواه الفكري، أو درجة ثقافته.
وبناء على هذه الركيزة، واستناداً إلى هذه المسِألة الضرورية، يبتدئ القديس "أنسلم" وحملة استدلاله على النحو التالي :
لا شك أن كل إنسان مهما كانت درجته يستشعر في عقله ضرورة أن يكون هناك موجود ليس هناك من هو أكمل منه.
وفكرة الكمال تظل ناقصة ما لم يوجد لها مقابل في الخارج، ولكي تكون هذه الفكرة كاملة لابد وأن يكون هناك موجود في الخارج غاية في الكمال لا يوجد من هو أكمل منه.
وهذا الوجود الأكمل على الإطلاق هو الذي نطلق عليه اسم الله.
وهكذا نرى أن هذا الدليل يمتزج فيه الاعتماد على العقل كقوة مفكرة، وعلى الواقع الخارجي في نفس الوقت.
وهذا الدليل على بساطته قد قابل ألواناً من الاعتراضات، ونوعاً من الاحتجاج الذي يعبر عن عدم الرضى من بعض معاصريه.
وكان من أكثر المعترضين على هذا النوع من الاستدلال في حياة "أنسلم" "جونيلو" في رسالته التي نشرها تحت عنوان (دفاع عن الأحمق) بين فيها أن هذا الاستدلال الذي ذهب إليه القديس "أنسلم" يلزم منه أن كل ما نتصوره عقلاً على أنه كامل أو أكمل يتحقق ضرورة في العالم الخارجي.
فإذا تصور المرء في أحلام اليقظة أن هناك جزيرة في مكان، وخلع عليها من الأوصاف ما يحب ويرضى، لزم على هذا التصور أن تكون هذه الجزيرة بأوصافها موجودة في العالم الخارجي.
ولقد حاول القديس "أنسلم" أن يدافع عن استدلاله، ولكنه لم يزد في معظم الأحيان على تكرار فكرة الدليل الأساسية وكان بإمكانه أن يرد على هذا الدليل اعتماداً على أساس فكري متين.
وهو لن يعدم هذا الأساس الفكري إن أراد أن يشغل نفسه به.
ذلك أن ما ذكره معارضه يختلف عن النقطة الأساسية التي اعتمد عليها الدليل، حيث إن النقطة الأساسية التي يعتمد عليها الدليل هي أنه إذا كان هناك فكرة تفرض نفسها على العقل كفرة وجود الأكمل، فإن هذه الفكرة لا تستوفي كمالها حتى تتحقق في الخارج.
أما ما ذكره معارضه هو ليس من هذا القبيل، إذ إن تصور جزيرة على هيئة كذا وكيت ليس فيه فرض على العقل، ففكرة الجزيرة تلك لا تفرض نفسها على العقل مثلما تفرض فكرة ضرورة وجود الأكمل نفسها عليه.
ومن هنا فإننا لا نجد وجها لهذا الاعتراض الموجه لهذا الدليل.
ويبقى دليل القديس "أنسلم" محتفظاً بطابعه واحترامه، وتقدير بعض العلماء له، ومحاكاة أساسه الذي اعتمد عليه فيما بعد.
وليست ميزة الاعتماد على العقل والواقع معاً هي الميزة الوحيدة التي طبعت تفكير "أنسلم" في هذا المجال ، ولكنه قد وضع قاعدة هامة من خلال هذا الدليل كما صرح هو بها تبطل ما كان موجوداً في عصره من قواعد ومسلمات تضر بالإنسان وتقدح في مسيرته على هذا الكوكب.
فلقد كان متصوراً إلى عصر "أنسلم" أن الإنسان يؤمن لأنه عاجز عن التفكير، أما "أنسلم" فإنه قد صرح بغير ملل بأنه يحتاج كما نحتاج نحن إلى الإيمان لكي يساعدنا على التفكير.
ومن هنا فإن قضية الإيمان عنده سابقة على المعرفة والتفكير.
وهو من ناحية أخرى لا يرى أية تناقض يذكر بين قضية الإيمان، وقضية التفكير.
ولقد بقى هذا الدليل يؤثر تأثيراً مباشراً أو غير مباشر في اللاهوت الكنسي فيما بعد، وإلى فترة متأخرة وفي التفكير الفلسفي الأوربي