الأربعاء، 21 مارس 2012

موسوعة العقيدة - الإلهيات - الصفات التنزيهية : مقدمة حول الصفات التنزيهية

مقدمة حول صفات الله التنزيهية

هي الصفات التي يكون معناها : نفي ضدها عن الله تعالى ، فهي تنفي النقص عنه سبحانه . فإذا قلنا : من صفاته السلبية ( البقاء) فمعناه: سلب الفناء عنه . وقد نفى الله تعالى النقائص عن ذاته : ليثبت له كمال ضدها وكذلك في السنة المطهرة.
مثال ذلك من القرآن الكريم :
• { ولا يظلم ربك أحدا (49)} [ الكهف} نفى الظلم يتضمن كمال عدله.
• { وتوكل على الحي الذي لا يموت } [ الفرقان /58] نفى الموت يتضمن كمال حياته .
• { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة /255] نفى ذلك يتضمن كمال حياته وقيوميته.
• { ولا يؤده حفظهما } [ البقرة /255] لكمال قدرته.
• { وما مسنا من لغوب } [ ق ] أيضا لكما قدرته.
• { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام /103] لكمال جلاله ، وعظمته ، وكبريائه.
• { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } [ سبأ/3] لكمال علمه
ومثاله من السنة المطهرة : ـ
• " إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام " (1).
• " إن الله لا مستكره له " (2) .
• " إن الله لا يتعاظم عليه شئ " (3).
• " إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش" (4).
• " إن الله ليس بأعور" (5).
• " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة" (6).
وقد قام علماء التوحيد بدراسة صفات الله التنزيهية ، واختلفت طرقهم في عرضها ، فمنهم من يجمل ، ومنهم من يفصل ، ومنهم من يلتزم بالألفاظ الواردة في القرآن والسنة ، ومنهم من يستعمل المصطلحات العلمية في التعبير عنها ، بعد اتفاقهم على أنه يجب تنزيه الحق عن كل ما لا يليق بذاته جل في علاه .
وإليك نموذجا لمن أجمل صفات التنزيه في أحد كتبه وهو الإمام أبي حامد الغزالي قال عن الله تعالى :
" إنه في ذاته واحد ، لا شريك له ، فرد لا مثيل له ، صمد لا ضد له ، منفرد لا ند له ، وإنه واحد قديم لا أول له ، أزلي لا بداية له ، مستمر الوجود ، لا آخر له ، أبدي لا نهاية له ، قيوم لا انقطاع له ، دائم لا انصرام له ، لم يزل ولا يزال موصوفا بنعوت الجلال ، لا يقضي عليه بالانقضاء والانفصال ، بتصرم الآباد وانقراض الآجال، بل هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، وهو بكل شئ عليم .
وأنه ليس بجسم مصور ، ولا جوهر محدود مقدر ، وأنه لا يماثل الأجسام ، لا في التقدير ، ولا في قبول الانقسام ، وأنه ليس بجوهر، ولا تحله الجواهر ، ولا بعرض ، ولا تحله الأعراض ، بل لا يماثل موجودا ، ولا يماثله موجود ، ليس كمثله شئ ، ولا هو مثل شئ ، وأنه لا يحده المقدار، ولا تحويه الأقطار ، ولا تحيط به الجهات ، ولا تكتنفه الأرضون ولا السموات.
وأنه مستو على العرش على الوجه الذي قاله ، وبالمعنى الذي أراده ، استواء منزها عن المماسة والاستقرار ، والتمكن والحلول والانتقال ، لا يحمله العرش ، بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته ، وهو فوق العرش والسماء ، وفوق كل شئ إلى تخوم الثرى ، فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء ، كما لا تزيده بعدا عن الأرض والثرى ، بل هو رفيع الدرجات عن العرش والسماء ، كما أنه رفيع الدرجات والثرى . وهو مع ذلك قريب من كل موجود ، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد ، وهو على كل شئ شهيد ؛ إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام ، كما لا تماثل ذاته ذات الأجسام.
وأنه لا يحل في شئ ، ولا يحل فيه شئ . تعالى عن أن يحويه مكان ، كما تقدس عن أن يحده زمان ، بل كان قبل أن خلق الزمان والمكان ، وهو الآن على ما عليه كان " (7).
وأغلب علماء التوحيد يذكرون في هذا الباب خمس صفات دل عليها العقل الصريح ، والنقل الصحيح ، وإليها نرجع سائر التنزيهات ، فهي لها كالأمهات . وهي : القدم أو الأولية ، والبقاء أو الآخرية ، والقيام بالنفس، والمخالفة للحوادث ، والوحدانية . وإليك التفصيل :
1ـ صفة الأولية :
ويسميها علماء التوحيد : ( صفة القدم) ومعناه أن الله تعالى لا أول لوجوده ، فهو أزلي لا بداية له ، ولم يسبقه عدم ، فقد كان الله ولا شئ غيره ، ثم خلق الخلق.
وقد سأل أحد الرهبان الإمام أبا حنيفة هذا السؤال : ماذا قبل الله ؟
فأجاب أبو حنيفة : هل تحسن العدد ؟ قال : نعم . قال : ماذا قبل الواحد ؟ قال : لا شئ قبله . قال : إذا كان الواحد الفاني لا شئ قبله ، فالله سبحانه لا شئ قبله .
وإذا وصفنا الله بالقدم ، فمعناه يختلف عن وصف شئ من المخلوقات بالقدم . إذ معنى قدم المخلوق : طول المدة ، وتوالي الزمن على الشئ.
وقد جاء لفظ ( القديم ) في القرآن الكريم في ثلاث آيات :
1ـ { والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم(39)} [يس].
2ـ { قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم (95)} [ يوسف].
3ـ { وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم(11)} [ الأحقاف}.
فالقديم في هذه الآيات معناه الذي توالى عليه الزمن.
أما بالنسبة لله فهو الذي لا بداية له .
وهذا المعنى قد جاءت به اللغة العربية ، ودونه أصحاب المعاجم اللغوية :
جاء في ترتيب القاموس المحيط:"القدم ـ كعنب ـ ضد الحدوث"(8)
وجاء في لسان العرب : " القديم على الإطلاق : الله عز وجل.. والقدم نقيض الحدوث" (9).
وورد في مختار الصحاح : "القدم ضد الحدوث"(10)
وكان الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ يطلق على الله لفظ (القديم) قال : " ثبت أن القديم شئ لا كالأشياء ، وحي لا كالأحياء" (11).
فنطلق على الله لفظ (القديم) على أنه صفة وليس اسما من الأسماء الحسنى : لأنه يتوسع في الصفات ما لا يتوسع في الأسماء.
وقد جاء الشرع بلفظ (الأول) وهو أفضل ؛ لأنه يششعر بأن ما بعده آيل إليه ، وتابع له . قال تعالى : { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم (3)} [ الحديد ] .
وعن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا أخذنا مضجعنا أن نقول : ( اللهم رب السموات ، ورب الأرض ، ورب العرش العظيم . ربنا ورب كل شئ ، فالق الحب والنوى ، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان ، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها . اللهم أنت الأول ، فليس قبلك شئ ، وأنت الآخر ، فليس بعدك شئ ، وأنت الظاهر ، فليس فوقك شئ ، وأنت الباطن ، فليس دونك شئ . اقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر ) (12).
أما لفظ (القديم) فلم أجده في السنة المطهرة إلا في رواية لابن ماجه في كتاب الدعاء. فقد عده ضمن أسماء الله الحسنى في أثناء سرده لها . وهذه الرواية ضعيفة ، كما في الزوائد (13).
وعن عمران بن حصين رضى الله عنهما قال : "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناس من بني تميم فقال : اقبلوا البشرى يا بني تميم . قالوا : قد بشرتنا فأعطنا (مرتين ) ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن . فقال : اقبلوا البشرى يا أهل اليمن ، إن لم يقبلها بنو تميم . قالوا : قد قبلنا يا رسول الله . قالوا : جئناك نسألك عن هذا الأمر.
قال : كان الله ولم يكن شئ غيره ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شئ ، وخلق السموات والأرض.
فنادى مناد : ذهبت ناقتك يا ابن الحصين . فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب. فوالله لوددت أني كنت تركتها " (14).
وفي رواية : " كان الله ولم يكن شئ قبله ، وكان عرشه على الماء ، ثم خلق السموات والأرض " (15).
بلفظ (قبله ) بدل (غيره) وكأن راويها رواها بالمعنى أخذ من حديث: " اللهم أنت الأول فليس قبلك شئ " السابق ذكره .
وبعطف خلق السموات والأرض بلفظ ( ثم ) بدل الواو . ويؤيد ذلك ما رواه الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا : " إن الله قدر مقادير الخلائق بل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، قال : وعرشه على الماء " (16).
والدليل العقلي على صفة القدم : ـ
أنه تعالى لو لم يكن قديما ، لكان حادثا مثل هذه المخلوقات ، فلا يتأتى له أن يحدثها ، ولاحتاج إلى علة تمنحه الوجود . كيف وهو الخالق لكل موجود !
2ـ صفة الآخرية : ـ
ويسميها علماء التوحيد : صفة ( البقاء ) ومعناها : أن الله تعالى لا آخر لوجوده ، فلا يلحقه عدم أو فناء.
أما البقاء بالنسبة للمخلوق فمعناه : استمرار الوجود زمنين أو أكثر.
والدليل النقلي على صفة البقاء :
قوله تعالى : { هو الأول والآخر }.
وقوله سبحانه:{ كل شئ هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون (88) [القصص]
قال مجاهد : معناه إلا هو( 17 ) تعالى .
وقال الشوكاني في تفسيره : أي إلا ذاته (18) تعالى.
وقوله تعالى : { كل من عليها فان(26) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام (27) } [ الرحمن ].
قال ابن عباس : الوجه عبارة عنه (19) تعالى.
وقال الشوكاني : الوجه عبارة عن ذاته سبحانه ووجوده (20) .
فسواء فسرنا ( الوجه ) بالذات ، أو بصفة من صفات الذات . فمعلوم أن الصفة لا تبقى بدون الموصوف . فالله باق بذاته وصفاته.
وعن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا إله إلا الله وحده ، أعز جنده ، ونصر عبده ، وغلب الأحزاب وحده ، فلا شئ بعده " (21).
والدليل العقلي على اتصافه بالبقاء : ـ
أنه لو لم يجب لله البقاء ، لجاز عليه الفناء . كيف ذلك وقد ثبت قدمه ، وكل ما ثبت قدمه استحال عدمه .
3ـ صفة القيومية : ـ
ويسميها علماء التوحيد ( القيام بالنفس ) ومعناها : أنه تعالى مستغن عن غيره استغناء تاما ، فهو لا يحتاج إلى محل ؛ لأن الحال في محل محتاج إليه فهو لا يحتاج إلى مكان ، ولا زمان ؛ لأنه خالق ذلك كله، فلا يحده مكان ، ولا يحصره زمان ؛ لأنه كان قبل المكان وقبل الزمان ، فهو على ما عليه كان .
وهو غير محتاج إلى مخصص خارجي بخصصه ببعص الصفات دون بعض فهو مستغن عن كل ما سواه ، وكل ما سواه محتاج إليه .
ويلزم من قيامه بنفسه أنه واحد أحد غير مركب من أجزاء . وإلا لكان محتاجا إلى كل جزء من أجزائه ، وكل جزء غيره وكل مركب متقوم بغيره ، فلا يكون متقوما بنفسه . ولا مقوما لكل ما عداه.
ويلزم من كونه قيوما أن كل ما سواه حادث ، موجود بإيجاده.
وتكرر وصف الله بالحي القيوم في القرآن ثلاث مرات في البقرة /255 وآل عمران /2 وطه /111 والقيوم : القائم بنفسه . المانح لغيره ما به قوامه . كما قال تعالى : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} [الرعد/33].
وروى البخاري : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال : اللهم لك الحمد ، أنت قيم السموات والأرض ، ومن فيهن " وفي رواية " قيام السموات " . قال قتادة : القيام القائم بنفسه بتدبير خلقه ، المقيم لغيره (22).
ومن أسمائه الحسنى (الغني ) قال : { وربك الغني ذو الرحمة} [الأنعام/133] .
وقال : { يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد(15)} [ فاطر].
وقال : { قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم } [ الأنعام].
وقال:{وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون(88)} [المؤمنون]
وقال في الحديث القدسي : " يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني . يا عبادي . لو أن أولكم وآخركم ، وانسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئا . يا عبادي . لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل واحد ، ما نقص ذلك من ملكي شيئا " (23).
والدليل العقلي على اتصافه تعالى بهذه الصفة : أنه تعالى لو كان محتاجا إلى محل ، أو مخصص ، لكان حادثا ، وهو محال.
4ـ مخالفته للحوادث : ـ
ومعنى هذه الصفة : عدم مماثلته تعالى للمخلوقات في الذات ، والصفات ، والأفعال ، فذاته ليست كذواتنا ، وصفاته ليست كصفاتنا ، وأفعاله ليست كأفعالنا. ومهما تصورت ببالك ، فالله بخلاف ذلك . ولا يعلم حقيقة الله إلا الله .
والدليل النقلي على هذه الصفة قوله تعالى : { ليس كمثله شئ وهو السميع البصير(11)}[الشورى] أي ليس كهو شئ . فالكاف لتأكيد النفي مثل قوله : { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } أي بالذي آمنتم به .
وقوله تعالى : { لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد(4)} [الإخلاص].
والدليل العقلي : أنه لو كان مماثلا للمخلوقات ، لكان حادثا مثلها ، واحتاج إلى محدث ، وقد ثبت له القدم ، فبطل كونه حادثا ، فلا يكون مماثلا للمخلوقات.
النصوص الموهمة للتشبيه : ـ
وردت آيات قرآنية ، وأحاديث نبوية بها بعض ألفاظ ربما فهم منها مشابهة الله تعالى في ذاته ، أو صفاته ، أو أفعاله لمخلوقاته . مثل قوله تعالى :
• { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام (27)} [ الرحمن ].
• { يد الله فوق أيديهم } [ الفتح / 10].
• { وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني (39)} [ طه ].
• { الرحمن على العرش استوى (5) } [ طه].
• { وجاء ربك والملك صفا صفا (22)} [ الفجر].
• { وهو القاهر فوق عباده } [ الأنعام /18].
• { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222)} [ البقرة].
• { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (13) } [ النساء ].
ولقد كثر الجدل في هذه النصوص ، وما يزال مستمرا حتى الآن ، بل قد انتقل الجدل إلى تحديد مذهب السلف نفسه ، وما يزال مستمرا بين أنصار الإمام الأشعري ، وأتباع الإمام ابن تيمية . حتى لتكاد هذه المسألة من بين مسائل العقيدة تحتل مركز الصدارة عند بعض الدعاة المعاصرين : ولا يجد في الإسلام ما يستحق التناول والعرض في أوربا وأمريكا إلى استواء الرحمن على العرش ، ونزول ربنا جل في علاه ، ووضع قدمه في النار.
وخلال قرون مضت كتبت رسائل ، وألفت كتب في هذا الموضوع تمثل كل الاتجاهات . ويمكننا أن نحصر كل ما قيل فيها في مذهبين :
المذهب الأول : مذهب السلف . ويرون وجوب الإيمان بهذه النصوص كما وردت ، وتنزيه الله عن الجسمية ولوازمها ، ونفي المعنى المادي لهذه الألفاظ فالله ليس كمثله شئ.
إلى هنا يتفق العلماء في تحديد مذهب السلف ، ثم يختلف أنصار الأشعري مع أتباع ابن تيمية في تصوير بقية مذهب السلف.
فيرى الفريق الأول : أن السلف كانوا يفوضون معنى هذه الألفاظ إلى الله تعالى ، ولا يحاولون تفسيرها ، بل يمرونها كما جاءت . وأنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله .
بينما يرى الفريق الثاني : أن السلف كانوا يفسرون هذه الألفاظ ، ويعلمون معانيها ، ولا يفوضون معناها إلى الله ، وأن الكيفية فقط هي المجهولة لهم . وأن هذه المسألة ليست من المتشابه ، والآيات الواردة فيها آيات محكمات.
المذهب الثاني : مذهب الخلف الذين جاءوا بعد القرون الثلاثة المفضلة في الحديث النبوي. ويرون وجوب الإيمان بهذه النصوص ، وتنزيه الله عن الجسمية ولوازمها ، ويؤلونها تأويلا يتفق مع تنزيه الله ، ومع قوله : { ليس كمثله شئ } فلغة العرب فيها الحقيقة ، وفيها المجاز المختلف الأنواع ، وقد نزل القرآن بها ، فلابد من فهمه على قواعدها.
ويقولون : إن الراسخين في العلم ممن يعلم تأويله.
وعلى هذا المذهب الغالبية العظمى من مفسري القرآن الكريم، وشراح الحديث النبوي الشريف.وفيما يلي نماذج لتأويلهم هذه النصوص:
من أمثلة التأويل في القرآن الكريم : ـ
• قوله تعالى : { ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور (16) } [ الملك ].
أي من ملكوته في السماء من ملائكة وعرش وكرسي ولوح محفوظ.
• وقوله تعالى : { أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله } [ الزمر /56] أي في طاعته ؛ فالجنب المعروف في المخلوق لا يقع فيه تفريط.
• وقوله تعالى : { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون (42) }[ القلم] الساق: كناية عن شدة الأمر وصعوبته ، فمن وقع في أمر عظيم ، شمر عن ساقه . أي جد واجتهد.
ومن أمثلة التأويل في السنة المطهرة : ـ
• قوله صلى الله عليه وسلم:"خلق الله عز وجل أدم على صورته" (24) أي تام الخلقة . لم يتطور خلقه كبنيه من نطفة إلى علقة .. الخ.
• وقوله صلى الله عليه وسلم : " يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة . قالوا : كيف يا رسول الله ؟ قال : يقاتل هذا في سبيل الله عز وجل فيستشهد ، ثم يتوب الله على القاتل ، فيسلم ، فيقاتل في سبيل الله عز وجل فيستشهد" (25) فمعنى (يضحك) أي أبدى كرمه ، وأبان فضله ، وهذا أصل الضحك في اللغة.
• وقوله صلى الله عليه وسلم : " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له"(26) أوله (مالك بن أنس) وغيره بنزول رحمته وأمره وملائكته ، ويقوي هذا رواية النسائي : " إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ، يم يأمر مناديا يقول : هل من داع ، فأستجيب له" (27) أو المراد بالنزول الإقبال على الداعين بالإجابة.
• وقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل . حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" (28).
المراد من الحجاب : المانع من رؤيته ، والمراد بسبحات وجهه : نوره وجلاله ، والمعنى : أن هناك مانعا من رؤيته تعالى في الدنيا: لو أزاله وتجلى لخلقه ، لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته.
• وسؤاله صلى الله عليه وسلم الجارية : " أين الله ؟ قالت : في السماء. قال : من أنا ؟ قالت:أنت رسول الله . قال: أعتقها ، فإنها مؤمنة"(29).
قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطبها على قدر عقلها ، فهي جارية أمية راعية غنم . وهذا أقصى ما تستطيع أن تعبر به .
• وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تزال جهنم تقول : هل من مزيد حتى يضع فيها رب العزة تبارك وتعالى قدمه ، فتقول : قط قط " (30).
قال الحسن البصري : القدم همم الذين قدمهم الله لها من شرار خلقه.
ويقال لهم : ( الرجل) كما في بعض الروايات . وقيل : وضع القدم على الشئ مثل يضرب للردع والقمع.
وقبل أن أذكر رأي في هذا الموضوع أحب أن أنبه إلى أمور : ـ
أولا ـ هذا النوع من صفات الله تعالى ليس من الصفات العقلية التي يصل إليها العقل بالتفكير في العالم . كصفات العلم ، والإرادة ، والقدرة ، والحياة . إنما هو من الصفات التي تؤخذ من الكتاب والسنة.
ثانيا : ليس كل ما يضاف إلى الله يكون صفة له ، فقد أضاف إليه أمورا ليست من صفاته . كبيت الله ، وعبد الله ، وناقة الله ، وروح الله .
ثالثا : لا يلزم من إسناد بعض الأفعال إليه تعالى في القرآن والسنة أن له صفات من جنسها . مثال ذلك :
• { نسوا الله فنسيهم } [ التوبة /67] فهل من صفاته النسيان !!
• { وسقاهم ربهم شرابا طهورا (21)} [ الإنسان] فهل من صفاته السقى !!
• { سأرهقه صعودا (17)} [ المدثر] فهل من صفاته الإرهاق !!
رابعا : لا يجوز أن نجمع هذه الألفاظ في موضع واحد ، حتى لا ندع للخيال فرصة ، ولا للوهم سبيلا لرسم صورة معينة في الذهن لذات الحق تعالى . فإذا ما تأملنا كل كلمة منها في سياقها ، وجدناها أبعد ما تكون عن مماثلة المخلوقين .
خامسا : لابد لمن يتعرض لبيان معاني هذه الألفاظ من العلم بأساليب اللغة العربية ، وطرقها في التعبير عن المعاني . فقد قال الإمام مالك : " لا أوتي برجل يفسر كتاب الله غير عالم بلغات العرب إلا جعلته نكالا"(31).
وعقد الإمام الشافعي في رسالته الشهيرة بابا بعنوان : ( الصنف الذي يبين سياقه معناه ) (32) تناول فيه : كيف يحدد السياق ، أو ما يسميه علماء البلاغة ( القرينة ) المراد من اللفظ ، وهو ما اصطلح عليه علماء البلاغة بالمعنىالمجازي ، إذ المعنى الحقيقي لا يحتاج إلى قرينة . وكلامه في غاية النفاسة .
ويرى الإمام ابن قدامة الحنبلي في كتابه : ( المغني ) أن إنكار المجاز مكابرة .
ومع ذلك لا أريد أن أدخل في جدال حول تحديد ( الظاهر المتبادر) لكل لفظة وردت ، أو ما إذا كان هذا المعنى لهذه الكلمة (مجازيا ) أو هو من استعمالات اللغة للكلمة .
وقد لاحظت أن بعض ما ذكره (الخلف) من تأويل ومجازات روى عن بعض(السلف) كما ذكرت في معنى(الوجه) في الصفة السابقة(البقاء)
وكما ورد منذ قليل عن الإمام مالك وهو من كبار أئمة السلف في حديث النزول.
وكما ورد عن الحسن البصري في معنى القدم.
وكما ذكر القرطبي في تفسير قوله تعالى : { وجاء ربك والملك صفا صفا (22) } [ الفجر] " أي أمره وقضاؤه . قاله الحسن " (33).
وكما ذكر الطبري في تفسير { يد الله فوق أيديهم } بأنها : "قوة الله فوق قوتهم في نصرة رسوله صلى الله عليه وسلم " (34).
وقال ابن كثير في تفسيرها:"أي هو حاضر معهم ، يسمع أقوالهم ، ويرى مكانهم ، ويعلم ضمائرهم " (35).
وكما ذكر السيوطي في تفسير قوله تعالى : { يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله } عن مجاهد : في ذكر الله (36) . وعن السدي : تركت من أمر الله (37).
لكني أريد أن أعرض نماذج وأمثلة لما يتحتم أن يفهم في ضوء العلم بلغات العرب على حد تعبير الإمام مالك ، أو بنوع من أنواع المجاز المعروفة في لغة العرب.
من أمثلة ذلك في القرآن الكريم : ـ
* قوله تعالى : { ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شئ عليم (7) } [ المجادلة].
فهل يعني ذلك أنه حال في المكان معهم ، مختلط بهم ؟ تعالى الله عن ذلك .
نفهم أنه معهم أي بعلمه وتدبيره ، لا يخفى عليه شئ من أحوالهم . يدل على ذلك بداية الآية ونهايتها.
* قوله تعالى:{ وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني (39)}[طه].
فهل يعني ذلك أن موسى ستكون تربيته فوق عين الله ؟ تعالى الله عن ذلك .
نفهم أن الأسلوب يعني أن تربيته ستكون بحفظ الله ورعايته.
• وقوله تعالى : { وحملناه على ذات ألواح ودسر (13) تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر } [ القمر].
نفهم من الآية أن سفينة نوح ستكون في رعاية الله وتوفيقه .
• قوله تعالى : { فلولا إذا بلغت الحلقوم (83) وأنتم حينئذ تنظرون(84) ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون(85)} [الواقعة].
فهل يعني ذلك قرب ذات الحق من ذات من حضره الموت ؟ تعالى الله عن ذلك .
نفهم أن المراد من القرب هنا هو قرب ملائكة الموت الذين سيتولون إخراج الروح.
ومن أمثلة ذلك في السنة المطهرة : ـ
• حديث : " يسب الدهر ، وأنا الدهر " الذي مر في الأسماء الحسنى.
فمعنى ( أنا الدهر) أي خالق الدهر، ومقلب الليل والنهار.
• حديث : " أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ، ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ، ذكرته في ملأ خير منه ، وإن تقرب إلى شبرا ، تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلى ذراعا ، تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي ، أتيته هرولة" (38).

فهل يعني قوله : ( تقربت إليه ) قرب ذات الحق من ذات العبد ؟ وقوله : ( أتيته هرولة ) إثبات صفة الهرولة لله تعالى ؟
نفهم من الحديث تصوير سرعة تفضل الله على عبده المقبل عليه ، وعظم جزائه لمن توجه إليه .
• حديث : " من عادى لي وليا ، فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلى عبدي بشئ أحب إلى مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته ، كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، يده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذ بي ، لأعيذنه " (39).
فهل يعني هذا أن الله يكون سمع الولي ، وبصره ، ويده ، ورجله . فيكون جزءا من العبد ؟
نفهم من الحديث : أنه تصوير لنصرة وتأييد الله لوليه . فقوله : (كنت سمعه) أي حافظ سمعه : ومسدد بصره . وهكذا.
فمن فهم هذه الآيات والأحاديث على هذا النحو لا يمكن أن نتهمه في دينه أو في عقيدته ؛ لأنه أولها ، أو فسرها بالمجاز ؛ لأن هذا صنيع كل المفسرين للقرآن ، والشارحين للسنة المطهرة . وأيضا صنيع بعض أئمة السلف.
رأيي في هذا الموضوع : ـ
وألخص رأيي في هذه الصفات في كلمتين : إقرارها ، وإمرارها.
وأستشهد عليه بكلام السلف أنفسهم : ـ
1ـ قال الأوزاعي : سئل (مكحول) و(الزهري) عن تفسير الأحاديث فقال: "أمروها كما جاءت" وروى أيضا عن الوليد بن مسلم قال : سألت (مالك ابن أنس) و(سفيان الثوري) و(الليث بن سعد) و(الأوزاعي) عن الأخبار التي جاءت في الصفات . فقالوا : أمروها كما جاءت بلا كيف .. والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم ، والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين"(40).
2ـ قال (محمد بن الحسن ) 131ـ189 هـ صاحب أبي حنيفة : "اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن ، والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل ، من غير تفسير، ولا وصف ، ولا تشبيه ، فمن فسر اليوم شيئا من ذلك ، فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وفارق الجماعة ، فإنهم لم يصفوا،ولم يفسروا،ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة. ثم سكتوا" (41).
3ـ وعن سفيان بن عيينة قال : سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله: { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى ؟
قال الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول،ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ المبين ، وعلينا التصديق.
وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة بن أبي عبد الرحمن.
قال : الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة " (42).
4ـ وقال الإمام الشافعي رضى الله عنه : " آمنت بالله ، وبما جاء عن الله ، على مراد الله ، وآمنت برسول الله ، وبما جاء عن رسول الله ، على مراد رسول الله " (43).
قال ابن كثير : " وقد روى عن الربيع وغير واحد من رءوس أصحابه ـ أي الشافعي ـ ما يدل على أنه كان يمر بآيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تكييف ، ولا تشبيه ، ولا تعطيل ، ولا تحريف على طريقة السلف" (44).
5ـ وقال الإمام أحمد بن حنبل وقد سئل عن هذه الصفات : " نؤمن بها ، ونصدق بها ، لا كيف ، ولا معنى ، ولا نرد شيئا منها ، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق ، ولا نرد على رسول الله صلى لله عليه وسلم ، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه ، بلا حد ولا غاية " (45).
هذه أقوال كبار علماء السلف في القرون الثلاثة الأولى حول ما ينبغي على المسلم تجاه هذه النصوص ، ويتلخص ـ كما سبق ـ في أمرين : إقرارها ، وإمرارها .
ألا يكفينا ما كفاهم !! ألا نقنع بما قنع به هؤلاء الأكابر !!
أذلك خير : أم هذا الجدل الذي يضيع الوقت ، ويبدد الجهد، ويورث الضغينة في قلوب المؤمنين من شبابنا المعاصر؟
مع الأخذ في الاعتبار أن التأويل قد ورد عن السلف لبعض الآيات كما سبق أن أشرنا . ولعلنا نفرد له بحثا مستقلا إن شاء الله .
5ـ صفة الوحدانية : ـ
ومعنى وحدانية الله تعالى : عدم التعدد في ذاته ، وفي صفاته ، وفي أفعاله .
فذاته تعالى ليست مركبة من أجزاء ، ولذك قال تعالى : { قل هو الله أحد } فالشئ قد يكون واحدا ومع ذلك يكون مركبا من أجزاء ، أما الله تعالى ، فهو أحد ليس مركبا من أجزاء ، ولا توجد ذات تشبه ذاته تعالى.
ومعنى عدم التعدد في الصفات عدم وجود صفتين لله من نوع واحد كعلمين وقدرتين ، وعدم وجود صفة لغيره تشبه صفته تعالى .
وأما عدم التعدد في الأفعال فمعناه عدم وجود فعل لأحد غيره يشبه فعله تعالى :
الأدلة النقلية : ـ
قال تعالى : * { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [ البقرة /255].
• { لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء /22].
• { قل لو كان معه ءالهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا (42) } [ الإسراء ].
• { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } [ المؤمنون /91].
• { ليس كمثله شئ وهو السميع البصير (11)} [ الشورى].
• قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد(3) ولم يكن له كفوا أحد (4) } [ الإخلاص].
الأدلة العقلية : ـ
إذا أبطلنا التعدد في الذات بمعنى وجود ألهين ، فقد أبطلنا التعدد في الصفات بمعنى وجود صفة لغيره تشبه صفته تعالى ، وأبطلنا التعدد في الأفعال بمعنى وجود فعل لغيره يشبه فعله ، لأن كلا منهما راجع إلى تعدد الذات .
وبناء على ذلك فنحن في حاجة إلى ثلاثة أدلة : ـ
1ـ لنفي التعدد في الذات بمعنى عدم تركبها من أجزاء.
2ـ ولنفي التعدد في الذات بمعنى عدم وجود إلهين.
3ـ ولنفي تعدد الصفات بمعنى عدم وجود صفتين له من نوع واحد.
وإليك الأدلة : ـ
أولا : أما الدليل على نفي التعدد في الذات بمعنى عدم تركبها من أجزاء .
فهو أنه لو تركبت ذاته تعالى من أجزاء ، لكان محتاجا إلى أجزائه ، والاحتياج دليل الحدوث ، والحدوث عليه محال.
ولكان محتاجا إلى من ركبه فلا يكون واجب الوجود.
ثانيا : وأما دليل نفي التعدد في الذات بمعنى عدم وجود إلهين . فهو : لو فرض وجود إلهين ، كل منهما متصف بصفات الألوهية من العلم والإرادة والقدرة الخ فإما أن تتفق إرادتهما ، أو تختلفا ، وكل من الفرضين محال. فوجود إلهين محال.
وذلك أنه لو تعلقت إرادة أحدهما بخلق شئ مثلا ، وتعلقت إرادة الآخر بعدم خلقه ـ وهذه حالة الاختلاف ـ فالاحتمالات العقلية ثلاثة :
( أ ) إما أن ينفذ مرادهما معا . وهو محال ؛ لأنها اجتماع للنقيضين ، (الخلق وعدم الخلق) .
( ب) وإما ألا ينفذ مرادهما معا ، وهو محال ؛ لأنه رفع للنقيضين ، ويلزم عجزهما ، والعجز على الإله محال.
( ج ) وإما أن ينفذ مراد أحدهما دون الآخر . وهذا يستلزم عجز من لم تنفذ إرادته . وبما أن الثاني مثله فهو عاجز أيضا ؛ لأن ما ثبت لأحد المثلين يثبت للآخر.
وأما بطلان احتمال اتفاق إرادة الإلهين على شئ واحد مثل : إيجاد محمد مثلا ، فالاحتمالات العقلية أربعة .
( أ ) أن يوجداه معا على سبيل الاستقلال في وقت واحد ، وهو محال ؛ لأنه يؤدي إلى اجتماع مؤثرين على أثر واحد.
( ب ) أن يوجداه معا على سبيل الترتيب ، بأن يوجده أحدهما ، ثم يوجده الآخر ، وهو محال ؛ لأنه تحصيل الحاصل.
( ج ) أن يوجداه على سبيل المعاونة ، فكل منهما يعاون زميله في إيجاده . وهو محال ؛ لأنه يلزمه أيضا عجز كل منهما ، واحتياجه إلى الآخر .
( د ) أن يوجداه على سبيل التقسيم ، بأن يوجد أحدهما بعضه ، والآخر بعضه . وهو محال ؛ لأنه يلزمه أيضا عجز كل منهما ، فكل منهما لا يقدر على التصرف فيما تصرف فيه زميله .
وإذا بطلت هذه الاحتمالات سواء في حالة الاختلاف ، أو في حالة الاتفاق انتفى القول بتعدد الذوات ، وثبتت الوحدة لله تعالى .
ثالثا : وأما الدليل على نفي التعدد في الصفات ، بمعنى عدم وجود صفتين لله تعالى من نوع واحد كقدرتين مثلا فلأنه يلزم عليه أحد محالين :
( أ ) إن كان الإيجاد بهما معا ، يلزم اجتماع مؤثرين على أثر واحد.
( ب ) وإن كان الإيجاد بإحداهما دون الآخر ، يلزم عليه التعطيل للأخرى ، وكونها لا فائدة منها.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك" ما يشير إلى أنه ( علم) واحد، و(قدرة) واحدة.
رأى النصارى في المسيح : ـ
حرف النصارى معنى وحدانية الله تعالى ـ بعد سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ ولأهمية هذا الموضوع وخطورته عرض القرآن الكريم آراءهم. ورد عليها بالأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة . وبأسلوب بليغ أخاذ قريب من الفطرة السليمة . والعقل المستنير. وفيما يلي نورد بعض هذه المواضع :
الموضع الأول : قال تعالى : { يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فءامنوا بالله ورسوله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (171) لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا (172) فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (173) } [النساء].
والمعنى : ينهى الله تعالى ـ اليهود والنصارى عن الغلو في الدين ، والغلو هو مجاوزة الحد بالإفراط أو التفريط . وقد تجاوز اليهود الحد في سيدنا عيسى حتى رموا أمه بالزنا ، وتجاوز النصارى الحد فيه حتى رفعوه إلى مرتبة الإله ، أو ابن الإله (46).
يقول الله لهم : لا تقولوا على الله إلا القول الحق الثابت بالأدلة العقلية القاطعة ، أو المؤيد . بالأدلة النقلية المتواترة . فعيسى رسول كباقي الرسل ، أيده الله بالمعجزات . قال تعالى : { ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل (48) ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بءاية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لأية لكم إن كنتم مؤمنين (49) } [ آل عمران].
والمعجزة الخامسة له نزول المائدة بطلبه . كما جاء في سورة [المائدة /114/115].
وهو كلمة الله مكون بكلمة (كن ) التكوينية . فإن الله تعالى : {إذا قضى أمرا . فإنما يقول له كن فيكون } فكل مولود له سببان : أحدهما السبب الظاهر . وهو اتصال والديه . وثانيهما السبب الخفي . وهو إرادة الله تعالى المعبر عنها بكلمة (كن) فعيسى وجد في خلقه السبب الثاني فقط .
وقيل : معنى الكلمة : الآية . كما في قوله تعالى : { وصدقت بكلمات ربها } [ التحريم /12] وقوله : { ما نفدت كلمات الله} [لقمان/27] أي آياته.
وقيل : معنى الكلمة . البشارة . كما في قوله تعالى : { إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم } [ آل عمران /45] وهو روح من الله " قال أبي ابن كعب. خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق ، ثم ردها إلى صلب آدم ، وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام ـ فلما أراد خلقه أرسل ذلك الروح إلى مريم ، فكان منه عيسى عليه السلام . لهذا قال وروح منه " (47).
وليست ( من ) في الآية للتبعيض ، وإنما لابتداء الغاية ، كما في قوله تعالى : { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه } [ الجاثية /13] وإلا لكان كل شئ بعضا من الله تعالى .
وقيل : وروح منه أي ورحمة منه فقد كان رحمة لمن آمن به . قال تعالى : { ولنجعله ءاية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا(21)} [مريم].
وقيل : معنى الروح : جبريل عليه السلام . قال تعالى : { فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17) } [ مريم ] وقد قال تعالى عن سيدنا آدم { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (29) } [ الحجر] وهذه الآية تدعو إلى المساواة بين آدم والمسيح في أنهما من روح الله . وتشير إلى فضل آدم على المسيح بسجود الملائكة له .
هذه حقيقة عيسى ، فآمنوا بالله الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، وآمنوا برسله جميعا . ولا تفرقوا بين نبي ونبي ، فتجعلوا عيسى إلها.
ولا تقولوا : آلهتنا ثلاثة الله والمسيح ومريم ، ويؤيده قوله : {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك } [ المائدة /116].
أو لا تقولوا هم ثلاثة : الأب ، والابن ، وروح القدس ، ويريدون بالأب الذات ، وبالابن العلم أو عيسى ، وبروح القدس الحيات ، وكل من الثلاثة عين الآخر ، وكل منها إله كامل ، ومجموعها إله واحد.
إن هذا القول يتنافى مع العقل السليم ، والفطرة المستقيمة ، إذ كيف يكون الإله واحدا وثلاثة ؟ وكيف يحل الإله في إنسان ؟ وكيف يتحد به ؟
ثم ينهاهم الحق عن الشرك ، ويطلب منهم ما هو خير لهم ، وهو الإيمان بإله واحد منزه عن أن يكون له ولد ، فليس الإله في حاجة إلى الولد الذي يعاونه عندما يكبر ، ويحمل اسمه وذكره ، ويرثه بعد موته ، فالله هو الحي الذي لا يموت.
لن يأنف . ولن يتكبر المسيح أن يكون عبدا لله ، ولا الملائكة المقربون الذين هم أعظم قوة من المسيح أن يكونوا عبيدا طائعين لله ، ومن يستنكف ويستكبر عن عبادة الله ، فسيحشرهم إليه جميعا ليجازيهم . فأما الذين آمنوا به ، وعملوا الصالحات من الأعمال ، فيوفيهم أجورهم كاملة ، بل إنه يزيدهم من فضله ، فهو واسع الفضل ، وأما الذين استنكفوا واستكبروا عن عبادته ، فإنه يعذبهم عذابا أليما ، ولا يجدون وليا لهم ، ولا نصيرا ينصرهم من الله تعالى.
الموضع الثاني : قال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شئ قدير(17)} [المائدة ].
والمعنى : حكم الله بالكفر على أولئك الذين ادعوا أن الله هو المسيح ابن مريم . والنصارى اليوم طوائف أشهرها : الكاثوليك ، والأرثوذكس ، والبروتستانت ، وهم يصرحون بألوهية المسيح في أقوالهم وكتاباتهم.
وقد ورد في إنجيل يوحنا هذا النص : " في البدء كانت الكلمة ، والكلمة كان عند الله ، والله هو الكلمة ، ويعنون بالكلمة "المسيح" فيكون معنى النص : الله هو المسيح.
ولقد استدلوا على أن الله هو المسيح بن مريم بما ظهر على يديه من الآيات والأفعال التي يعجز عنها البشر ، ولا يقوم بها إلا الإله. كإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وكلامه في المهد.
وجوابنا على هذا الاستدلال : أنه معارض بموسى عليه السلام، وما ظهر على يديه من الآيات ، فإنه قلب العصا ثعبانا ، وفلق البحر ، وغير ذلك . وقلب الجماد حيا أصعب في العقل من إعادة الميت حيا ، فإذا لم يوجب قلب العصا حية كون موسى إلها ، فلا يوجب إحياء الموتى ألوهية عيسى من باب أولى.
وقد ثبت أن كلا من إلياس وإليسع أحيي الموتى ، وكذلك حزقيال. فإذا كان عيسى قد أحيي ثلاثة مثلا في كل حياته . فإن حزقيال أحيى ألوفا.
وأما كلامه في المهد ، فإننا نطالبهم بنص كلامه الذي يخفونه ؛ لأن فيه الرد الدامغ عليهم.
وإذا كان عيسى إلها ، فلماذا لم يدفع الموت عن أمه ؟ ولماذا لم يدفع الصلب عن نفسه الذي هو شر أنواع الهلاك ؟ " فقد قيل في الإنجيل : (ملعون كل من علق على خشبة ) من إحدى رسائل بولس الرسول ، وثبت أن المسيح استغاث بربه ضارعا خائفا ، ليصرف عنه ذلك الكأس.
فلم يجب إلى طلبه . في إنجيل متى : إلهي إلهي . لماذا تركتني ؟ " . ( يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس .. إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك ) (48).
فإذا كان إلها ؟ فبمن كان يستنجد وهو معلق على خشبة الصلب ـ في زعمهم ؟ يرحم الله القائل :
عجبا للمسيح بين النصارى حيث قالوا : إن الإله أبوه
ثم لاوا : ابن الإله إله ثم قاموا بجهلهم عبدوه
ليت شعري ، وليتني كنت أدري ساعة الصلب أين كان أبوه
هل كان يستنجد بنفسه . أو هناك إله آخر كان يستنجد به ؟
وإذا كان إلها ؟ فلماذا استسلم للرومان وصلب ـ في زعمهم ـ ولماذا لم يجاهد لتخليصهم من الظلم والاضطهاد ؟ وإن كان قد جاء ليخلص العالم كله . فهل أثمرت دعوته ؟ فأين الذين خلصهم ؟ إن التاريخ يروي لنا أن النصارى بعد رفع عيسى لقوا من الاضطهاد والظلم ما لم يلق بشر(49).
وإذا لم تثمر دعوته . فهل عجز عن ذلك ؟ وهل يعتبر العاجز إلها ؟
قل يا محمد صلى الله عليه وسلم ـ ردا عليهم ودفعا لقولهم : من يمنع من إرادة الله تعالى ـ وقدرته شيئا إن أراد أن يهلك ويميت المسيح ابن مريم ، وأمه ، وكل من في الأرض ؟ اللهم لا أحد . فإذن ليس المسيح إلها .
وإذا كانت ولادة عيسى . وما ظهر على يديه من الآيات هو سبب شبهة النصارى . فإن الله هو مالك السموات والأرض . خلقهما من عدم . وخلق ما بينهما بأسباب خلقها . فخلق البشر من ذكر وأنثى ، وخلق حواء من ذكر فقط ن وخلق عيسى من أنثى فقط ، وخلق آدم من غير ذكر وأنثى . يخلق ما يشاء خلقه ، فهو على كل شئ قدير.
الموضع الثالث : قال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار(72) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73) أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم(74) ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الأيات ثم انظر أنى يؤفكون (75) قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم (76) } [ المائدة].
المعنى : لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم ، وهم النصارى القائلون باتحاد اللاهوت أي الإله بالناسوت أي بالجسم الإنساني لعيسى ، فرد عليهم بما ذكره عيسى نفسه . إذ طلب من بني إسرائيل أن يعبدوا الله ربه هو ، ورب بني إسرائيل ، ورب السموات والأرض وما بينهما ، وحذرهم من الشرك بالله ، وبين لهم عاقبته ، فإن من يشرك بالله . فقد حرم عليه الجنة ، وسيدخله نارا خالدا فيها . فليس للظالمين أنفسهم بالشرك أنصار ينصرونهم من عذاب الله يوم القيامة .
وإذا سألناهم عن معنى اتحاد اللاهوت في الناسوت قالوا : هو ظهور الكلمة على جسم عيسى ن كظهور الصورة في المرآة ، أو كامتزاج اللبن بالماء ، أو كالحديدة إذا حميت في النار.
ونقول لهم : إن ذلك كله باطل :
ففي المثال الأول ـ الصورة لم تنتقل إلى المرآة لا اختلاطا ، ولا امتزاجا ، ولا مجاورة ، وإنما هي عرض زائل بسبب انعكاس الضوء على الجسم المرئي.
وفي المثال الثاني ـ الامتزاج حدث بين جسمين : الماء واللبن ، والله ليس جسما .
وفي المثال الثالث ـ الحرارة الداخلة على الحديدة عرض زائل ، كان بواسطة مجاورة النار للحديدة.
ونقول لهم أيضا ردا على دعواهم حلول اللاهوت في الناسوت.
إما أن يحل اللاهوت كله في الناسوت ، أو يحل جزء منه فقط فيه ، والاثنان باطلان :
أما الأول ـ فلأن اللاهوت كان جسما ، فحينئذ يكون حلوله في الناسوت عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء الناسوت ، وذلك يجب التفرق في أجزائه وتركبه ، وهذا ينافي الألوهية.
وإن كان عرضا ، كان محتاجا إلى محل يقوم به ، والاحتياج إلى الغير ينافي الألوهية.
وأما الثاني ـ وهو حلول جزء ، فإنه يلزمه تركب الإله ، وعند انفصال هذا الجزء يكون ناقصا .
ونقول لهم : يلزم على دعوى الاتحاد : إما أن ينقلب الحادث قديما ، أو القديم حادثا ، أو يبقى كل منهما على حاله ، ومن المحال أن ينقلب الحادث قديما ، أو القديم حادثا ، فإن هذا قلب للحقائق ، وإن بقى كل منهما على حاله ، فأين الاتحاد ؟
ونقول لهم : إن اتحاد اللاهوت بالناسوت . إما أن يكون كمالا ، أو نقصا : فإن قالوا : إنه نقص . فقد وصفوه تعالى بالنقص ، وهو منزه عنه.
وإن قالوا : إنه كمال ، يلزم أن يكون الاتحاد موجودا في الأزل مع أن الناسوت حادث . وهم معترفون بذلك . فهم يقولون إنه ابن مريم حملته وولدته . أو يلزم خلو الله تعالى عن هذا الكمال حتى ميلاد الناسوت الذي كمل به . تعالى الله عما يقولون .
لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة . وهو قول النصارى القائلين بالأقانيم الثلاثة فقد ( جاء في الرسالة الأولى ليوحنا الرسول بالإصحاح الخامس والعدد 7 و 8 " فإن الذين يشهدون في السماء هم : الأب ، والكلمة ، والروح القدس ، وهؤلاء الثلاثة هم واحد ، والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة:الروح، والماء، والدم ،الثلاثة هم واحد").
هذا صريح في عقيدة التثليث . فبم يشهد الثالوث الأول ، والثالوث الثاني ؟ وما هذا الثالوث الثاني ؟ وما الفرق بين الاثنين ؟ بأيهما نؤمن ؟ وكيف نستسيغ أن الأب ، والابن ، والروح القدس ، والماء ، والدم يشهدون ؟ وما معنى أن الثلاثة هم واحد ، أو في الواحد ، أو بالعكس ؟ إن هذا لشئ عجاب (50).
ونقول لهم: لو وجدت في ذات الله تعالى ثلاثة أقانيم ـ أصول ـ تمتاز بامتياز حقيقي ـ كما تزعمون ـ للزم أن يكون كل منها إلها بذاته ، مع كون كل منها مفتقرا إلى غيره ، وإلا لما تألفت منها ذات واحدة ، فإذا ثبت التركيب ، ثبت الافتقار ، والافتقار نقص ، ينافي الألوهية ، كما أن الامتياز يناقض الافتقار.
ونقول لهم : هل هذه الأقانيم التي تدعون تركب الإله منها ذوات أو صفات ؟ فإن قالوا : ذوات ، لزم وجود ثلاثة آلهة لا واحد . وقولهم : لا يلزم ، فإنها كالشمس ذات أجزاء ثلاثة ، الحرارة ، والضياء ، والجرم الذي هو الأصل ، ومع ذلك فهي واحدة . قولهم هذا باطل ؛ لأن ثلاثة الشمس ليست كلها ذوات ؛ لأن الحرارة والضياء عرضان بخلاف الثلاثة التي معنا . والتي فرضنا أنها ذوات .
وإن قالوا : إنها صفات . فلم خصت هذه الصفات الثلاثة بالذات بجعلها إلها دون باقي الصفات ؟ وكيف يعقل أن تكون الصفات إلها وحدها . أو مع الذوات ؟
هذا قليل من كثير يمكن أن يوجه إليهم ردا على عقائدهم الباطلة . ولذلك هددهم الله تعالى بأنهم إن لم ينتهوا عن هذا الضلال ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم . وتعجب من إصرارهم على القول بالاتحاد والحلول. وكان الواجب أن يتوبوا إلى الله،ويستغفرونه، فالله غفور رحيم.
فحقيقة عيسى أنه رسول كسائر الرسل ، وأمه صديقة . كسائر النساء . صدقت عيسى فيما جاء به ، وعيسى وأمه كان يأكلان الطعام . ويحتاجون إليه كسائر البشر ، ويذهبان إلى الخلاء ، ليقضيا حاجتهما ، كسائر الناس ، ومن يحتاج إلى ( دورات المياه ) لا يصلح للألوهية.
ويرحم الله القائل :
قوم عيسى قد تغالوا فيه زورا وضلالا
مذم أتوه حيث قالوا : أنت رب ؟ قال : لا لا
ما أنا إلا عبيد أعبد الله تعالى
فعصوه ثم قالوا : أنت رب لا محاله
انظر يا من يتأتى منك النظر كيف نبين لهم الآيات ، ونوضح لهم الدلالات على الحق ، ثم انظر كيف يصرفون عنه بعد هذا البيان .
وقل لهم : أتعبدون عيسى وهو لا يملك لكم ضرا ، ولا نفعا ، والله هو السميع العليم الذي يملك الضر والنفع ، ومن كان هذا شأنه فهو الإله الحق سبحانه وتعالى .
المراجع والهوامش
ـ
1ـ رواه مسلم في الإيمان 1/162
2ـ رواه مسلم في الذكر والدعاء 4/263
3ـ رواه أحمد في المسند 2/458
4ـ رواه مسلم في السلام 4/1707
5ـ رواه البخاري في التوحيد ـ المتن 9/148 والفتح 13/401
6ـ رواه مسلم في صفات المنافقين 4/2162
7ـ إحياء علوم الدين 1/154.
8ـ 3/506
9ـ 5/3552
10ـ ص 525
11ـ عقيدة الإمام أحمد لابن تميم الحنبلي بذيل طبقات الحنابلة 2/265
12ـ رواه مسلم في الذكر والدعاء 4/2084
13ـ سنن ابن ماجه 2/1270
14ـ رواه البخاري في بدء الخلق ـ الفتح 6/330 والبشرى : أن من أسلم نجا من الخلود في النار ، وقولهم : ( بشرتنا فأعطنا ) أي : أعطنا من أمور الدنيا . والذكر : اللوح المحفوظ ، أو سجل الكائنات التي قدرها الحق.
15ـ رواها البخاري في التوحيد ـ الفتح 13/414
16ـ رواه مسلم في القدر 4/2044.
17ـ تفسير القرطبي ص 5038 ط . الشعب.
18ـ فتح القدير 4/189.
19ـ تفسير القرطبي ص 6335.
20ـ فتح القدير 5/136.
21ـ رواه البخاري في المغازي ـ الفتح 7/469 رقم 4114.
22ـ رواه البخاري في التهجد ـ الفتح 3/6.
23ـ رواه مسلم في البر والصلة 4/1994.
24ـ رواه مسلم في كتاب الجنة 4/2183.
25ـ رواه مسلم في الإمارة 3/1504
26ـ رواه مسلم في صلاة المسافرين 1/526.
27ـ تنوير الحوالك للسيوطي 1/315.
28ـ رواه مسلم في الإيمان 1/163.
29ـ مسلم في المساجد 1/382.
30ـ رواه مسلم في الجنة 4/2187 و (قط) بسكون الطاء أو كسرها منونة أو غير منونة معناها : حسبي.
31ـ صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام للسيوطي 1/96
32ـ رسالة الشافعي ص 62 تحقيق أحمد شاكر طبعة دار التراث.
33ـ الجامع لأحكام القرآن ص 7145 ط . الشعب
34ـ جامع البيان 26/48
35ـ تفسير القرآن العظيم 4/185
36ـ الدر المنثور 7/241 والنص مهم فليراجع
37ـ تفسير الطبري 24/18
38ـ رواه البخاري في التوحيد ـ الفتح 13/395 رقم 7405
39ـ رواه البخاري في الرقاق ـ الفتح 11/348 رقم 6502.
40ـ الفتوى الحموية لابن تيمية ص 27
41ـ المرجع السابق ص 33
42ـ المرجع السابق ص 27
43ـ لمعة الاعتقاد لابن قدامة المقدسي ص 6
44ـ البداية والنهاية 10/265
45ـ لمعة الاعتقاد ص 6
46ـ انظر : محمد أبو زهرة ـ محاضرات في النصرانية ص 17.
47ـ انظر : تفسير القرطبي ص 2018 ط . الشعب.
48ـ انظر : محمد محمود حجازي ـ التفسير الواضح 6/40
49ـ انظر : محاضرات في النصرانية ص 28 ـ 32
50ـ التفسير الواضح 6/75 وانظر : شرح المقاصد 2/51 والتمهيد للباقلاني ص 79 وشرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 261.