الأربعاء، 21 مارس 2012

موسوعة العقيدة - الإلهيات - الصفات التنزيهية : أحكام الواجب

أحكام الواجب
في أحكام الواجب
هناك نوعين من الوجود، أو نوعين من الموجودات :
أحدهما واجب الوجود لذاته، هو المسئول وحده، والمستحق أن يتوجه إليه غيره بالقصد والطلب، لأنه هو الذي أوجد هذه الموجودات من العدم إلى الوجود.
وثانيهما : موجود ناقص في ذاته يستمد وجوده من غيره، وليس له من ذاته استمرار وجوده.
والموجود الكامل الذي وجوده لذاته يستلزم منطقياً مجموعة من الأحكام بها يتصور العقل نفي كل نقص عن هذا الموجود الكامل، وفي غيبة هذه الأحكام لا يتصور العقل كمال فكرة الواجب، بل إن الفكر السليم يجد نفسه في حالة من التناقض ما لم يسلم ضرورة بمقتضى هذه الأحكام التي تلزم على القول بالواجب، الذي قام البرهان العقلي على وجوده.
وقبل أن نستطرد في ذكر أحكام الواجب نحب أن ننبه إلى أن كل حكم من هذه الأحكام ينفي عن الواجب أمراً لا يليق به.
وحين يريد الإنسان أن ينفي عن موجود شيئاً لا يليق به، فإن أمامه طريقين يسلك أحدهما حين يفاضل بين هذين الطريقين، ويختار لنفسه الطريق المناسب لطريقة بحثه، والمتلائم مع الموضوع الذي يريد البحث فيه.
وأحد هذين الطريقين اللذين افترض العقل إمكانهما أن يقوم الإنسان باستقراء الأشياء التي لا تليق ، وتتبع جزئياتها، ونفي مفهوم كل جزء عن الموضوع الذي يريد أن يصفه بالكمال.
وثاني هذين الطريقين : أن يقصد المرء إلى الأشياء الكلية التي تجمع شتات مسائل جزئية كثيرة فيعمد إلى نفيها بالكلية، عن الموضوع الذي يريد وصفه بالكمال.
إن الباحث لا يجد أمامه سوى هذين المسلكين ، لكي يختار بينهما حين يريد أن ينفي أشياء لا يليق أن يصف بها موضوع بحثه، لأنها تتنافى مع الكمال اللائق بهذا الموضوع.
والمتأمل الحصيف يجد أن مجرد سلوك الطريق الأول مخاطرة فكرية، لا تناسب الهدف الذي يرسمه الباحث لنفسه حين يريد أن يضفي على موضوعه شيئاً من الكمال، لأن مجرد نفي الأشياء الجزئية عما يعتقد في نفيه أنه كامل، ولو كان هذا الكمال نسبياً يعد امتهاناً لهذا الكمال ، ونيلاً من قدره.
ونوضح ذلك بمثال فيقول : إن الإنسان إذا أراد أن يمدح ملكاً أو رئيساً في محفل عام، فأخذ يعدد في كلمته أراذل الناس وأسافلهم، ويقول : إن الملك أو الرئيس ليس كهؤلاء، فإن مجرد هذا التعداد نفسه يعد ذماً لهذا الملك أو هذا الرئيس، مع أن المادح لم يكذب، وإنما لمجرد أنه استحضر صورة العظيم مع صورة من هو أنزل منه تفصيلاً، كان جو الاستحضار نفسه منقصة للعظيم ونزولاً به عن قدره (1).
ويتبين من هذا المثال وذلك التحليل، أن الباحث إن أراد السلامة العقلية لبحثه، إن كان بحثه متعلقاً بإيضاح كمال الكامل، فليس أمامه فيما يتعلق بسلب النقص، ونفي ما لا يليق إلا اتباع الطريقة الإجمالية.
وإذا كان هذا هو الطريق المتاح المعقول في إثبات الكمال النسبي، فإنه يكون الطريق الواجب المحتوم، الذي ينبغى اتباعه إذا كان المراد هو البحث في كمال الواجب.
وعلى ذلك فإننا نرى معظم المفكرين وعظماء الإسلام، لم يسلكوا إلى تحقيق هذه الغاية سوى الطريق الإجمالي في نفي ما لا يليق عن الله عز وجل.
وكان من بين هؤلاء الذين قصدوا إلى الحديث عن أحكام الواجب التي تنفي عنه ما لا يليق به الطريق الإجمالي، الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده من المحدثين(1)، وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي من القدماء ، وبينهما من سلك هذا الطريق نفسه مثل عضد الملة والدين الإيجي(2).
وسوف نحاول في الصفحات القادمة أن نتعرض لهذه الأحكام التي تنفي عن الواجب ما لا يليق به، قاصدين إلى الإجمال ما أمكنا الإجمال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عقيدة أهل الحق تنزيه الله عن الحيز والجهة


        يقول الله عز و جل في القرءان الكريم: ﴿ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ﴾ و قال عز وجل:﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ و قال سبحانه و تعالى في القرءان الكريم :﴿ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ﴾، ويقول الإمام البيهقي في كتابه الأسماء و الصفات: استدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه، أي عن الله عز و جل، بقول النبي صلى الله عليه و سلم :" أنت الظاهر فليس فوقك شىء و أنت الباطن فليس دونك شىء " و إذا لم يكن فوقه شىء و لا دونه شىء لم يكن في مكان. و قد قال سيدنا علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: كان الله و لا مكان و هو الآن على ما عليه كان، رواه عنه الإمام أبو منصور البغدادي. فكما صح وجود اللهِ تعالى بلا مكان و جهة قبل خلق الأماكن و الجهات كذلك يصِح وجوده بعد خلق الأماكن بلا مكان و جهة، و هذا لا يكون نفياً لوجوده تعالى.
        قال الإمام زين العابدين علي ابن الحسين ابن علي ابن أبي طالب رضي الله عنهم في الصحيفة السجادية المنقولة بإسناد متصل متسلسل إليه بطريق أهل البيت رضي الله عنهم: "لا يحويه مكان"، و قال الغزالي: "إن الله منزه عن المكان و عن جميع الأمكنة"، و قال الإمام علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: "إن الله خلق العرش إظهاراً لقدرته و لم يتخذه مكاناً لذاته"، رواه عنه الإمام أبو منصور البغدادي.
        و نرفع الأيدي في الدعاء إلى السماء لأنها مهبط الرحمات و البركات، و ليس لأن الله موجود بذاته في السماء كما أننا نستقبل الكعبة الشريفة في الصلاة لأن الله أمرنا بذلك، و ليس لأن الله ساكن فيها. فمن يعتقد بأن الله موجود بذاته في الجنة التي هي فوق السماوات السبع أو أنه فوق العرش يلامسه أو فوقه بالمسافة، أو إعتقد أنه بذاته في السماء أو في كل مكان أو في مكان معلوم أو في مكان مجهول فإنه كافر بربّه ليس بمسلم و لا مؤمن و إن زعم أنه مسلم مؤمن، إذ أنه من المعلوم القطعي أن الشخصَ لا يكون مسلماً لمجرد ظنه بنفسه أنه مسلمٌ، بل لا بد أن يخلو قلبه عن كل إعتقاد فيه نسبة النقص إليه سبحانه و تعالى. و لا يعذر في هذا الجاهل لجهله إذ أن نسبة الجهة و المكان لله تعالى تنقيص لله و تشبيه له بخلقه. فالجاهل الذي يزعم أنه يعبد الله و هو يعتقد بأن الله موجود بذاته في جهة من الجهات الست أو في مكان ما فهو بعيد عن الإيمان و هو يعبد مخلوقاً من حيث لا يشعر، إذا لو كان يعبد الله حقاً لنزهه عن الجهة و المكان.
        و قال الإمام التابعي الجليل ذو النون المصري رضي الله عنه: "مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك"، و قال الإمام أبو جعفر الطحاوي في العقيدة المشهورة: "لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات" أي أنه لا تحوي الله تعالى الجهات الست لأن هذا حال المخلوقات. فالحاصل أن من زعم أن الله يسكن في مكان فقد جعل الله جسماً أي شىء له طول و عرض و عمق و قال إمامنا الأكبر أبو الحسن الأشعري في كتابه النوادر: "من إعتقد أن الله جسم فهو غير عارف بربه و إنه كافر به.
        و لقد قرأ بعض الناس قول الله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى العرش استوى ﴾ فتوهموا بأن المعنى أن الله جالس على العرش فكفروا و هم لا يدرون لأنهم جعلوا الله مخلوقاً و جعلوا له مكاناً يحتاج إليه و أثبتوا لله المشابهة لخلقه و التفسير الموافق للشرع و العقل و اللغة لقوله تعالى :﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾، أن يقال: الرحمن قهر العرش لأن القهر صفة كمال لله تعالى هو وصف نفسه بها قال جل شأنه:﴿ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّار﴾، و ليس من مانع لغوي أو شرعي يمنع تأويل الإستواء بالقهر قال القشيري في التذكرة الشرقية: قوله على العرش استوى، قهر و حفظ و أبقى.
        و أما ما في صحيح مسلم من أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأله عن جارية له قال قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: إيتني بها، فأتاه بها فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟، قالت: أنت رسول الله، قال: اعتقها فإنها مؤمنة، فمعناه أن الرسول يسألها عن مكانة الله لا عن المكان لأنه يعلم أن الله موجود بلا مكان، فأجابته بما يعني أن الله عال القدر جداً. و لقد إفترى بعض الجهلة على الإمام أبي حنيفة فنسبوا إليه القول بإثبات المكان لله و هو مردود على من إفترى و إدعى، و كيف يصدق هذا و هو الإمام الجليل الذي قال في الفقه الأكبر " و ليس قرب الله تعالى من قبيل المسافة و لكن على معنى الكرامة و المطيع قريب منه تعالى بلا كيف و العاصي بعيد عنه بلا كيف".
        فبعد هذا البيان وضح أن دعوة إثبات المكان لله تعالى أخذاً من كلام أبي حنيفة إفتراء عليه و تقول عليه ما لم يقله. و كذلك ما نقله البيجوري عن الإمام الغزالي أنه قال عن الله تعالى " فهو فوق الفوق ليس له فوق و هو في كل النواحي لا يزول" فإن هذا القول غير ثابت عن الغزالي و ليس بموجود في كتابه بل الموجود في كتبه تنزيه الله عن المكان و عن الجهات الست و هي فوق و تحت و أمام و خلف و يمين و يسار و قد قال الإمام أبو جعفر الطحاوي " و من وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر" أي من وصف الله بصفة من صفات البشر فقد كفر و الإستقرار و الجلوس على العرش أو الكرسي و التحيز و السكنى في مكان من صفات البشر تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا يجوز أن يكون واجب الوجود عرضاً
إن هذا الحكم يعتبر من أيسر الأحكام التي يمكن الحديث عنها بالنسبة لله سبحانه وتعالى.
ذلك أن العرض في عرف الفلاسفة والمتكلمين شئ لا يتقوم بذاته وإنما يحتاج إلى غيره لكي يقوم به .
والغير الذي يحتاج إليه العرض لكي يكون محلاً له يتقوم به جسم، والجسم حادث، وما يقوم به الجسم حادث مثله.
هذا فضلاً عن أن الأعراض متغيرة متبدلة بالمشاهدة، والتغير والتبدل أيضاً علامات الحدوث.
ولهذه الأسباب وغيرها لا يجوز أن يكون الواجب عرضاً، فالعرض حادث لتغيره ولقيامه بالحادث، والواجب قديم أزلي لا أول لوجوده.
والغرض يحتاج إلى غيره لأنه يحتاج إلى محل يتقوم به، والواجب قائم بذاته لا يحتاج إلى غيره.
ومع كل هذا فإن العقل قد يفترض جواز إطلاق لفظ العرض على الأول بعد إخراجه عن المعنى المتبادر إلى الذهن منه.
ونقول : إن هذا افتراض عقلي، حيث إن ما تحت أيدينا من المراجع ليس فيها نسبة هذا الافتراض إلى قائل بعينه، وإنما قصارى ما وجدناه هذا اللون من الافتراض العقلي فيما ذكره الإمام الغزالي من افتراضات وأجاب عنه بأن من قال بذلك يكون قد خالف اللغة والشرع على نحو ما قلنا به سلفاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الواجب لابد وأن يكون باقياً لا يطرأ عليه الفناء
إن هذا هو الحكم الثاني من الأحكام التي يستوجبها العقل ويؤكدها الشرع، باعتبار أنها لازمة لإثبات وجود الواجب، لا تنفك عن هذه القضية ولا تنفصل عنها.
والدليل على ذلك أن الموجود الأول ما دام قد ثبت وجوده، فقد ثبت له القدم على نحو ما سبق.
والذي يثبت قدمه يستحيل عليه الفناء.
لأن الفناء يحتاج إلى سبب يخرج الموجود من الوجود إلى العدم، كما أن المعدوم يحتاج إلى سبب يخرجه من العدم إلى الوجود.
وما دام الأول لم يحتج إلى سبب فوق ذاته يهبه الوجود، فإنه لا يجوز القول بأنه يطرأ عليه من الأسباب أو يتسلط عليه من الفاعلين ما ينقله من الوجود إلى العدم.
تلك قضية عقلية لا يقبل العقل المشاحة فيها.
ومن ناحية أخرى فإن من ثبت قدمه، ثبت له بحكم هذا القدم أنه لا أول لوجوده.
وما دام قد ثبت له أنه لا أول لوجوده ، فإنه يثبت له بالضرورة أنه لا انتهاء لوجوده، طبقاً للقاعدة العقلية القائلة، بأن كل ما ليس له أول ليس له آخر بالضرورة.
والخلاف قائم بين العلماء حول الاسم الذي ينبغي أن نطلقه للتعبير عن هذا الحكم (إن الواجب لا آخر لوجود) على نحو ما كان في الحكم السابق.
فمنهم من يرى أن هذا الحكم يعبر عنه باسم (وجود البقاء لله سبحانه وتعالى) .
في حين أن البعض الآخر يرى : أن مثل هذا الاسم لا يجوز استعماله لأنه غير مأذون به في الشرع، والمأذون به شرعاً هو (الآخر)، ولم يرد استعمال كلمة (الباقي) للتعبير عن مفهوم هذا الحكم.
وأيا ما كان الأمر فإن رأينا على نحو ما وضحناه سلفاً أن هذا خلاف لفظي بحت ، الأحوط فيه استعمال ما صرح الشرع باستعماله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا يجوز أن يكون الواجب جوهًرا متحيزا ً أو جسماً مركباً
هذا هو الحكم الثالث من أحكام الواجب، وهو ينفي عن الله سبحانه وتعالى :
( أ ) أن يكون جوهراً متحيزاً .
( ب ) كما ينفي عنه أنه جسم مركب .
وهذه أمور معقولة بل واجبة في العقل.
أما أنه لا يجوز أن يكون الواجب جوهراً متحيزاً، فإن التحيز يحتاج إلى مكان ، والواجب لا يحتاج إلى غيره، والتحيز كذلك يستلزم أن يكون المتحيز محدوداً بحدود حيزه، والواجب سبحانه وتعالى لا يتناهى ..... إلى غير ذلك من الأمور الفاسدات التي يستلزمها القول بأن الأول جوهر متحيز.
غير أن الفلاسفة المسلمين وغير المسلمين قد استجازوا لأنفسهم القول بالجوهر بالنسبة لله عز وجل، بعد أن اصطلحوا على تغيير معنى الجوهر، وحمله على معنى آخر يليق بالواجب، ولا يقتضي معنى التحيز (1).
وهذا أمر لا يحكم العقل فيه، كما يرى الإمام الغزالي، وإنما الاحتكام فيه أولاً إلى اللغة، وثانياً إلى الفقهاء .
فنحن نحتكم إلى اللغة في مثل هذا الموضوع، لنعرف ما إذا كان من الجائز أن يحتمل اللفظ اللغوي هذا المعنى الذي ذكره الفلاسفة ، وما إذا كان هذا المعنى هو أحد المعاني التي قصدها واضع اللغة حين وضع هذا اللفظ .
وأما الاحتكام إلى الفقهاء فإنه ضروري ، لأنهم هم الذين يملكون الفصل في قضية جواز إطلاق اسم أو صفة لا تشعر بنقص على الله عز وجل من غير أن يأذن الشرع في ذلك الإطلاق.
والفقهاء هم الذين يملكون فصل المقال في هذا الموضوع الجلل، ذلك أن إطلاق اسم أو صفة على الله من هذا القبيل، لا يتعلق به حكم عقائدي من كفر أو إيمان ، وإنما يتعلق به حكم فقهي من الحرمة أو الجواز، أو ما يشبه ذلك من الأحكام الفقهية.
ومن المعروف عند جمهور الفقهاء، وعلماء الأمة، وأصحاب الرأي فيها أن أسماء الله وصفاته توقيفية، بمعنى أنه لا يجوز شرعاً أن يطلق على الله اسم لم يأذن به الله ولا رسوله، فليست أسماء الله من قبيل الاجتهادات، وليست بمحل القول بالرأي فيها.
وخلاصة القول في مسألة الجوهر هذه أنه لا يجوز إطلاقها على الله بالمعنى الشائع المعروف، لأنها تثبت لله شيئاً لا يليق به، ومن قصد إلى ذلك كان كافراً.
ولا يجوز إطلاق الجوهر على الله بالمعنى الذي يقصده الفلاسفة والحكماء، لأن أسماء الله عز وجل توقيفية، ومن اجترأ على إطلاق الجوهر على الله بهذا المعنى كان آثماً .
نفي الجسمية
وبعد الحديث عن نفي الجوهر نتحدث عن نفي الجسمية فنقول: بأن الأول لا يجوز أن يكون جسماً، لأن الجسم مركب من أجزاء، وما كان مركباً من أجزاء، فإن الأجزاء فيه توجد قبل الكل التركيبي؛ ولا يجوز والحالة هذه أن نقول: بأن أي جسم من الأجسام قديم، إذ إن كل جسم مركب من أجزاء، والأجزاء سابقة في الوجود على الكل، فمفهوم القول بالجسم، ينافي مفهوم القول بالقدم، وما دام قد ثبت أن الله قديم، فإنه يستحيل بهذا المعنى أن يقال بأنه جسم.
ومن ناحية أخرى فإن القول بالجسم يستلزم أن الجسم المركب من أجزاء يحتاج أولاً إلى كل جزء من أجزائه، ويحتاج ثانياً : إلى مركب يركب هذه الأجزاء.
ومن المعروف أن هذه الأمور كلها تتنافى مع مفهوم القول بالواجب، فإن القول بالواجب يعني أنه لا يحتاج إلى غيره على أي معنى كان من معاني الاحتياج.
والشئ الغريب أننا قد وجدنا في الأوساط العلمية، ومن بين بعض المفكرين من يقول : بجواز إطلاق اسم الجسم على الله عز وجل بعد إخراجه عن المعنى المفهوم للناس.
ولقد أشار إلى هذه الفرقة الإمام الغزالي من غير أن يسميها (1).
إلا أن صاحب المواقف قد أشار إلى بعض هؤلاء الذاهبين إلى هذا الرأي قال : [ المقصد الثاني : في أنه تعالى ليس بجسم،وذهب بعض الجهال إلى أنه جسم، فالكرامية : قالوا هو جسم أي موجود.
وقوم قالوا : هو جسم أي قائم بنفسه ] (2).
وأياما كانت هذه التفسيرات ، وتلك التخريجات فإن إطلاق هذا اللفظ بهذا المعنى الجديد، أو ذاك على الله عز وجل، أمر لا تقبله اللغة كما لا يقبله الموقف الشرعي على نحو ما فصلناه في الفقرة السابقة.
والأغرب من هذا الاتجاه ما وجدناه أيضاً لدى لفيف ممن يدعون العلم من جواز إطلاق لفظ الجسم على الله بمعناه المتعارف، الذي يستلزم التحيز والتركيب وغير ذلك من اللوازم التي تلزم الجسم وتصاحبه.
وذهب صاحب المواقف بحق إلى أن هذه الفكرة دخيلة على الإسلام وأهله، ولا تحسب على الإسلام، ولا تنتقص من فكر أهله، وإنما هي قد نزعها عرف إلى الفكر اليهودي، الذي يتسم بالمادية في كلياته وتفاصيله، ثم شاع الفكر اليهودي في المجتمع الإسلامي بعد الفتوحات بشكل خاص، فمال إليه أهل الرأي والهوى ممن ينتسبون إلى الإسلام، وشجعهم على الأخذ بهذا الاتجاه مفكرو اليهود في المجتمع الإسلامي الذين لم يألوا جهداً في الكيد للإسلام وأهله(3).
والشئ الغريب بعد هذا البيان الذي بيناه أن نجد كثيراً من الدراسات الغربية المستحدثة التي تحسب على الإسلام أنه يتصور الذات الإلهية على أنها جسم، وأن ذلك يعتبر من صلب العقيدة الإسلامية(1).
ولسننا ننكر أن هناك نصوصا توهم بظاهرها جواز أن يكون الله جسماً، غير أن هذه النصوص يعارض ظاهرها كثرة أخرى من النصوص التي لا تجيز أن يكون الله سبحانه وتعالى كذلك.
وليس في هذا شئ من التناقض كما فهم البعض، وإنما هي وجوه مختلفة لاستعمالات اللغة.
ولذا فإن العلماء أمام النصوص الموهمة على فريقين .
فريق يرى : أنه من الممكن تتبع هذه النصوص نصاً نصاً، وبيان المراد منها على وجه الصحيح.
وفريق آخر يقول : بأنه ينبغي التوقف في تأويل هذه النصوص مع القول الجازم بأن ظاهر المعنى منها ليس مراداً.
وحجة هؤلاء أن هذه النصوص تتحدث عن ذات الله وهي فوق الأفهام والعقول.
ونحن نرى أن هذا الموقف الأخير في غاية السلامة، ومذهب رجاله على هذا النحو مذهب أولئك النفر الذين يحترمون مواقفهم العقلية، فينفون ما يحتمل العقل أن ينفيه، ويتوقفون في كل ما لا يستطيع العقل أن يقول فيه برأي.
ولقد نسب صاحب المواقف للإمام أحمد قوله تعليقاً على قوله تعالى:
" الرحمن على العرش استوى " ( الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والبحث عنها بدعة )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يجوز أن يكون واجب الوجود في مكان أو في جهة
وهذا الحكم من أحكام الواجب مفهوم معقول لأولئك النفر الذين يدركون أن هناك فرقا في الوجود، بين وجود يكون المتصف به واجب الوجود لذاته ووجود آخر يكون المتصف به واجب الوجوه لغيره.
وهذا القول بثنائية الوجود يجعل من المحتوم أن يكون لكل نوع من نوعي الوجود أحكام تخصه وصفات يتصف بها لا يجوز أن يتصف بها النوع الآخر، وإلا لما كان للثنائية معنى يفهمه العقل، إذ أنه ليس من المعقول أن يميز العقل بين نوعين في الوجود، ثم يحكم بصفات واحدة يشترك فيها النوعان بغير تمييز.
وحين يحكم عقل من العقول بأن هناك ثنائية في الوجود، ثم يخلع على كل من نوعي الوجود صفاتاً واحدة، ويحكم عليهما بأحكام مشتركة يكون هذا العقل قد وقع في التناقض الفكري بمسلكه هذا الذي لا يقره عليه عاقل.
تلك قاعدة عامة يفهمها العاقل في هذا الموقف الذي نحن بصدده، وفي غيره من المواقف المشابهة.
وقد قررنا هذه القاعدة هنا، وذكرناها في هذا الموقف بالذات لأنه هو الموقف الذي وقع فيه الكثير من الخلط في الأحكام، وتورط الكثيرون من المفكرين في الديانات المختلفة كاليهودية وغيرها.
والعاقل لا يجيز بعقله، ولا يتحمل بمشاعره أن يتصف الأول بأنه في جهة أو مكان.
ذلك أن هذا الاتصاف في حد ذاته يمس المشاعر، ويؤذي الفؤاد، ويجرح الحس الديني، والعواطف الوجدانية الرقيقة.
ومن ناحية أخرى فإن القول بأن الواجب في جهة أو في مكان ، يضع العقل السليم أمام لون من الإعضال الفكري، بل ألوان من المصاعب لا يمكنه الفكاك منها، ما دام يقول بأن الواجب في جهة أو في مكان.
ومن هذه المعضلات الفكرية أن مسألة الجهات والأماكن من قبيل المسائل النسبية.
فجهة فوق تكون بالنسبة لما يلي رأس الإنسان ، وجهة تحت أو أسفل تكون بالنسبة لما يلي قدمي الإنسان مثلاً. ونقول مثل ذلك بالنسبة للجهات الأربع الباقية ( يمين ، ويسار، وأمام ، وخلف ).
وإذا كانت الجهات نسبية فهي لا تتحدد إلا بالنسبة إلى شئ ما، والأشياء كلها حادثة، والأول قديم.
فمن يجيز لنفسه أن يصف الأول بأنه في جهة، هل يقول بأن اختصاص الواجب بجهة أمر حادث بحدوث الأشياء فيلزم عليه القول بالتغير في ذات الله؟! أم أنه يقول بأن وجود الأول في جهة، واختصاصه بهذه الجهة قديم من قبل أن توجد الجهات ؟!
ومن المعضلات الفكرية التي تلزم على القول بأن الواجب في جهة أو في مكان أن الجهات والأماكن بالنسبة لمن يختص بها متساوية، فاختصاص الموجود بمكان أو جهة يحتاج إلى مخصص يخصص الموجود بجهة أو مكان على سائر الجهات والأماكن، والاحتياج أمارة الحدوث، وآية النقص في الموجود، وقد تقرر سلفاً أن واجب الوجود هو الموجود الأكمل الذي لا يوجد من هو أكمل منه.
على أن المتأمل في معنى الجهة، ومعنى أن يكون الموجود في جهة، يجد أن جميع المعاني المحتملة تتنافى مع حقيقة الواجب.
ذلك أن معنى وجود الشئ في جهة أنه قد اختص بها والاختصاص لا يخرج عن أحد احتمالين :
[ أحدهما : أنه يختص به بحيث يمنع مثله من أن يوجد حيث هو، وهذا هو الجوهر.
والآخر: أن يكون حالاً في الجوهر فإنه قد يقال إنه في جهة ولكن بطريق التبعية للجوهر فليس كون العرض في جهة ككون الجوهر بل الجهة للجوهر أولى، والعرض بطريق التبعية فهذان وجهان معقولان في الاختصاص بالجهة(1).
ونحن لا نفهم للاختصاص بالجهات معنى آخر فوق هذين المعنيين.
وقد ظهر لنا بأن المتحيز بالمعنى الأول جوهر، والمتحيز بالمعنى الثاني عرض.
والأعراض والجواهر حادثة كما تبين، والواجب بخلاف ذلك.
وعليه فإن معنى التحيز والاختصاص بالجهة يمنع بذاته أن يكون الأول متحيزاً في جهة.
وقد يحتمل العقل أن يكابر مكابر فيقول : إن لديه معنى آخر للتحيز والاختصاص بالجهة فوق هذين المعنيين بحيث يليق بذاته تعالى.
قد يحتمل العقل ذلك على أنه افتراض نظري لا صلة له بالواقع العملي، وعملية الافتراض تحتمل أشياء كثيرة غير أن الواقع لا يحتمل إلا ما يمكن تحقيقه فيه.
ولو أننا فتحنا هذا الباب، وتركنا لكل عقل أن يحتمل من الافتراضات ما لا يعرب عنه لأوقعتنا كثرة الاحتمالات المستورة، التي لا يعرب عنها أصحابها في بلبلة فكرية، وحيرة منطقية.
نحن إذا محكومون بحدود الدلالات المختلفة للألفاظ، والتي يعرفها العلماء ويدركونها، ولسنا مطالبين بالجري وراء الاحتمالات التي توقعنا في الأوهام.
وننتهي إلى القول بأن الواجب لا يجوز أن يكون في مكان أو جهة، لأننا إذا أجزنا على الواجب أن يختص بجهة أو مكان، لأوقعنا ذلك في بيداء التناقض الفكري الرهيب، وعرضنا إلى جرح المشاعر، وإيلام الوجدان الذين لا يحتملهما عاقل.
وكنا نظن أن هذه المسألة من قبيل البديهيات أو تقرب منها، بحيث لا يختلف على هذا الحكم من أحكام الواجب قاص أو داني، ولا يضار بها عالم ولا غيره.
غير أننا رأينا فرقاً تنتسب إلى أهل العلم يصفون الله بأنه في جهة، ويجوزون ما يترتب على هذا الوصف من أوصاف أخرى تجعل الحق شبيهاً بخلقه، وتقربه من الموجودات الحادثة.
وسمى هؤلاء الطوائف باسم المشبهة لظهور التشبيه فيما صرحوا به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الله تعالى منزه عن الزمان والمكان
الجهة والمكان والزمان
        قلنا فيما سبق أنه انتشرت في عصرنا مفاهيم خاطئة حول تفسير وفهم النصوص التي تتحدث عن الذات الإلهية المقدسة وكان السبب الرئيسي في ذلك اعتماد الخيال والوهم مصدراً للعقيدة والديانة، فتم قياس الغائب على الشاهد فأثبتوا لله حيزاً يشغله ومكانا يحويه مع إقرارهم بأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء فوقعوا في التناقض والاضطراب.
وكان من عمدتهم في إثبات المكان لله سبحانه: تفسيرهم الخاطئ للآية الكريمة الرحمن على العرش استوى ( ) ، وأخواتها من الآيات  ...ثم استوى العرش... ( ) ، وهن سبع آيات في القرآن الكريم، كان ذلك مع وجود التفسيرات العديدة اللائقة بذات الله سبحانه والمتفقة مع تنزيهه، والمؤيدة بالقرائن والدلائل في نفس سياق الآيات، إضافة إلى آيات التنزيه العامة القاطعة  ليس كمثله شيء( )  ...ولم يكن له كفواً أحد  الإخلاص آية (4).
لذا قدمنا هذه الكلمات في إيضاح هذا المفهوم، فنقول مستعينين بالله سبحانه.
المكان
يطلق المكان على: الحيز الذي فيه الجسم والمحدود بأطراف الجسم أما في الاصطلاح فيقول البيجوري: « والمكان عند أهل السنة هو: الفراغ الموهوم » أ هـ.
        أي الفراغ الذي يشغله الجسم وتنفذ فيه أبعاده، وسماه موهوما لأنه لا يوجد إلا في الوهم بعد أن يتخيله العقل بدون وجود الجسم فيه.
وفيه أقوال: متقاربة
أحدها: أنه السطح الباطن للجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوِىّ عليه، كالسطح الباطن من الكوز المماس للسطح الظاهر من الماء الذي فيه.
قال الراغب: المكان عند أهل اللغة: (الموضوع الحاوي للشيء).
الثاني: أنه الأبعاد التي بين غايات الجسم.
الثالث: أنه بعد مفروض مقدر.
الرابع: أن المكان هو الخلاء، وهو رأي علماء الكلام.
ذكر هذه الأقوال الأربعة الزركشي في شرحه على جمع الجوامع ونقلناها عنه باختصار.
فالمكان بهذا مستحيل في حق الله سبحانه، لأنه لو كان له مكان لكان جسما، ولكان مماثلا لمخلوقاته وهذا محال  ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ،  ولم يكن له كفواً أحد .
ويلاحظ أن نفي المكان يستلزم نفي الحدود عن ذات الله تعالى وكذا نفي الجهة.
ومن المعلوم أنه عز وجل واجب الوجود كان ولا زمان ولا مكان وهما –أعني الزمان والمكان- مخلوقان، وبالضرورة أن من هو في مكان فهو محيط به ويكون مقدراً ومحدوداً، وهو سبحانه وتعالى منزه عن التقدير والتحديد، وعن أن يحويه شيء وأن يحدث له صفه، تعالى الله عما يصفون وعما يقولون علواً كبيراً.
قال القاضي أبو يعلى الحنبلي في كتابه (المعتمد): أن الله سبحانه وتعالى وتقدس لا يوصف بمكان.
فإن قيل يلزم من نفي المكان نفي الجهات ونفيها يُحيل وجوده؟
فالجواب:- وأيضاً إن كان الموجود يقبل الاتصال والانفصال فمسلَّم، فأما إذا لم يقبلهما فليس خُلُوّه من طريقي النقيض بمحال، ويوضح هذا أنك لو قلت: كل موجود لا يخلو أن يكون عالماً أو جاهلاً قلنا: إن كان ذلك الموجود يقبل الضدين فنعم، فأما إذا لم يقبلهما كالحائط مثلاً فإنه لا يقبل العلم ولا الجهل، ونحن نُنَزِّه الذي ليس كمثله شيء سبحانه وتعالى كما نزه نفسه عن كل ما يدل على الحدوث، وما ليس كمثله شيء لا يتصوره وَهْم ولا يتخيَّله خيال، والتصور والخيال إنما هما من نتائج المحسوسات والمخلوقات، وتعالى عن ذلك.
الزمان
        يقول الإمام فخر الدين الرازي:
"قوله تعالى  قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله ( ) وهذا مشهر بأن المكان وكل ما فيه ملك لله تعالى.
وقوله  وله ما سكن في الليل والنهار ( ) من سورة الأنعام وذلك يدل على أن الزمان وكل ما فيه ملك الله تعالى.
ومجموع الآيتين يدلان على أن المكان والمكانيان والزمان والرمانيات كلها ملك لله تعالى، وذلك يدل على تنزيهه عن المكان والزمان وهذا الوجه ذكره أبو مسلم الأصفهاني رحمه الله في تفسيره"
أ.هـ. من أساس التقديس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ