بين الإسم والمسمى
بين الاسم والمسمى
هذا بحث تحتاج إليه تلك القضية التي نحن بصددها احتياجاً شديداً لكثرة ما وقع من الخلط بين الاسم والمسمى أثناء بحث جوانب هذه القضية من بعض المفكرين فناسب من أجل ذلك أن نحدد المفاهيم ليتحدد الهدف من البحث كله في النهاية .
يتساءل الكثيرون : هل هناك فرق بين الاسم والمسمى والتسمية أو أن هذه التعبيرات الثلاثة لها مدلول واحد ؟
في الإجابة عن هذا التساؤل وقع خلاف بين العلماء والمفكرين .
ونحن نظن أن هذه المسألة برمتها ما كانت تحتاج إلى هذا الخلاف لو أننا تدبرناها في جو بعيد عن الانفعال ومناخ خلو من العصبية.
وتفصيل ذلك أن نقول : إن الشئ الواحد قد يكون له وجود في الذهن.
فوجوده الخارجي هو وجوده المتميز المتشخص وهو بهذا الوجود يشار إليه بالبنان ويقال عنه : هذا طويل أو قصير كما يقال : إنه أبيض أو أسود، ويقال عنه : إنه حار أو بارد كما يقال عنه : إنه في جهة كذا أو كيت ... إلى غير ذلك من الأمور التي تصف بها الأشياء المتشخصة.
وأما وجود الشئ في الذهن فهو صورته التي تنطبع في الذهن البشري محاكية لوجوده الخارجي ، تماماً كالمرآة تنطبع فيها صورة الأشياء المقابلة ويكون للأشياء المقابلة للمرآة وجودان : أحدهما : وجود الأشياء في ذاتها، وثانيهما : صورة هذه الأشياء في المرآة.
وإذا انتقل الحديث مرة أخرى إلى وجود الأشياء في الذهن بعد تدبر هذا المثال للعارض لوجدنا أن وجود الأشياء في الذهن يشبه تماماً وجود صورة الأشياء في المرآة ، وهذا الوجود في الذهن هو ما نطلق عليه اسم ( العلم ) فعلمنا بالأشياء هو صورة تلك الأشياء الحاصلة في الذهن سواء كانت هذه الصورة صورة أشخاص معينين أو كانت صورة أحداث ومشاهد، فالعلم البشري ليس إلا حصول صور الأشياء في ذهن الإنسان.
ولعله قد اتضح الآن أن لكل شئ وجودين : وجود الشئ خارج الذهن ووجوده منطبعاً في ذهن الإنسان، غير أننا معشر البشر لا تنتهي وظيفتنا العلمية عند حد انطباع صورة المعلوم في الذهن، ولكن هناك مهمة أخرى ترتبط بهذه المرحلة ارتباطاً وثيقاً وهي : أن الإنسان حين يعلم شيئاً وترتسم صورته في ذهنه يحتاج في بعض الأحيان إلى نقل صورة هذا المعلوم إلى إنسان آخر من غير أن يكون شخص هذا المعوم موجوداً أمامهما عند إرادة العالم به نقل صورته إلى غيره.
من أجل هذا فإن الإنسان يحتاج إلى وسيلة يستطيع من خلالها أن ينقل صورة ما في ذهنه إلى ذهن غيره في حال عدم وجود الشئ في ذاته حالة إرادة نقل هذه الصورة إلى غيره.
كانت الوسيلة الوحيدة لتحقيق تلك الرغبة وتلبية آمال الإنسان وأشواقه هي اللغة.
واللغة عبارة عن جمل والجمل مكونة من مفردات.
وبعض هذه المفردات يكون تعبيراً عن الأشياء الذاتية الموجودة في الخارج.
وعليه فإن الإنسان يستطيع أن يعبر بلسانه عن صورة موجودة في ذهنه مطابقة لموجود في الخارج بالفعل . ولسائل أن يسأل عن حقيقة العلاقة بين اللفظ اللغوي والمعنى الذي يدل عليه اللفظ ، أو بعبارة أخرى : ما العلاقة الحقيقية بين اللفظ اللغوي وصورة الأشياء في الذهن ؟
سبق أن وضحنا حقيقة العلاقة بين الصورة في الذهن والأشياء في الواقع، وبقى أن نوضح حقيقة الصلة بين اللفظ اللغوي والمعنى الذي يدل عليه اللفظ .
وتصوير المسألة أن نقول : إن الإنسان منا يسمع لفظاً معيناً بلغة قومه، التي يفهمها فيثير اللفظ عند السامع شيئاً ما في داخله يجعله يتصور تلقائياً معنى معيناً يرتبط بهذا اللفظ.
وهذه العملية ـ عملية الارتباط بين اللفظ ومعناه ـ قد استوقفت الكثيرين من العلماء لبحثها والوقوف على حقيقة هذه العلاقة وتفسيرها.
وفي محاولة إيضاح هذه العلاقة وتفسيرها رأينا بعضهم يذهب إلى القول : بأن هذه العلاقة كائنة منذ الوضع اللغوي للكلمة. فالواضع اللغوي للألفاظ اللغة يضع لكل لفظ معناه بإزائه ولا شئ غير ذلك
وهناك بعض الأبحاث المتقدمة نسبياً تنتهي إلى أن ارتباط اللفظ بمعناه ارتباط شرطي على أساس أن اللفظ يعرض على الذهن البشري مقترناً بمعنى ثم يتكرر هذا العرض مراراً حتى إذا ما تعود الذهن هذا الاقتران كان من الطبيعي أن أحد الطرفين ـ اللفظ ومعناه ـ إذا عرض على الذهن وحده كان كافياً بواسطة الارتباط الشرطي أن يجعل الذهن يستحضر صورة الطرف الآخر.
وهناك اتجاهات كثيرة لمحاولة تفسير تلك العلاقة بين اللفظ ومعناه غير ما ذكرنا.
غير أن الرأي المختار عندنا هو الجمع بين هذين الاتجاهين السابقين الذين تحمس لكل واحد منهما فريق من العلماء على استقلاله، والجمع بينهما يعطي المشكلة نوعاً من التفسير لا يعطيه الواحد منهما على انفراده.
فنحن نقول في الجمع بينهما : إن الواضع اللغوي قد ربط بين اللفظ ومعناه الذي اختاره للدلالة عليه، ثم عرض على الذهن مراراً اللفظ مرتبطاً بمعناه فتعوده الذهن بعد طول مران.
وإذا كنا قد اخترنا الجمع بين هذين الرأيين فإن هذا الاختيار نفسه يعني أن لكل واحد منهما نوع مساهمة في حل المشكلة الأم على انفراده غير أن واحداً منهما بالاستقلال لا يقوى وحده أن يضع الحل الحاسم والشامل للمشكلة ككل.
ويبعد عن الواقع بمقدار قربه من الخيال الرأي القائل : بأن طبيعة العلاقة بين اللفظ والمعنى يمكن أن تفسر على أساس اللفظ في ذاته بمعنى أن اللفظ بذاته يستطيع أن يثير في الذهن تصوراً كاملاً لمعناه من غير احتياج إلى مؤثر خارجي.
ولعله قد تبين من العرض السابق على إيجازه حقيقة هامة وهي أن :
هناك فرقاً واضحاً ومتميزاً بين الاسم والمسمى .
فالاسم هو اللفظ اللغوي ووظيفته الدلالة على ما في الذهن من الأشياء وما في الذهن مطابق لما في الواقع باعتباره صورة له .
وهذا أمر يعد بدهياً الآن بعد هذا التصور الذي أدى إليه الإيضاح السابق.
ونعود إلى القول : بأننا كنا نظن أن هذه المسألة من البداهة بحيث لا تحتاج إلى بذل المجهود في التفريق أو التمييز بين الاسم والمسمى.
غير أنه قد يؤدي عدم تصور الأشياء في الذهن والوقوف على حقيقتها إلى خطأ في التصديق، فرأينا أن نميز بين الاسم والمسمى من حيث حقيقة كل منهما حتى يتمكن القارئ من تصورهما على نحو صحيح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاسم والمسمى في جانب الله عز وجل
إذا كان الاسم قد تميز عند المسمى فيما يتعلق بالحادثات على نحو ما سبق. فإن الاسم والمسمى في جانب ما يتعلق بالله عز وجل متمايزان أيضاً تمايزاً واضحاً بحيث لا يقال مع هذا التمايز إن الاسم هو المسمى.
بيد أن هناك فرقاً واضحاً بين ما يحدثه الاسم من إثارة في ذهن السامع إذا كان الاسم اسماً لبعض الحادثات أو كان اسماً لله عز وجل.
فإذا كان الاسم اسماً لبعض الحادثات فإنه يكشف في ذهن السامع عن معناه الذي يدل عليه دلالة واضحة وهذا المعنى ـ كما سبق أن بينا ـ هو صورة مدلول الاسم المنتزعة من الواقع.
وهذا أمر معقول ومفهوم.
أما إذا كان الاسم من أسماء الله عز وجل فإنه لا يحدث في الذهن مثل ذلك الأثر الذي أحدثه صاحبه، ذلك أن أحداً ما لا يستطيع القول : إن في ذهنه صورة لديه تنطبق عليه غاية الانطباق قد انتزعها من الوجود الفعلي لله عز وجل.
وعلى هذا فإن الاسم الذي أبيح لنا أن نطلقه على الله عز وجل لا يكون القصد منه بالدرجة الأولى الدلالة على صورة في الذهن مطابقة لوجود الله الفعلي، وإنما القصد من إطلاق اسم من أسماء الله عز وجل أن هذا الاسم يدل على صورة تقريبية في ذهن السامع يستطيع من خلالها أن يتصور شيئاً من التصور يتعلق بذات الله أو بصفة من صفاته.
ويدل على هذا الذي ذهبنا إليه أمران :
أحدهما : أن جميع فرق المسلمين ـ إلا من شذ منهم ـ متفقون على أن ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة من أسماء الله عز وجل لا يجوز أن نقول في واحد منها: إنه يدل على شئ في ذات الله مماثلة لذلك الشئ الذي يدل عليه نفس الاسم لو أطلق على بعض الحوادث.
وعلى سبيل المثال : فإننا قد نطلق على الله وصف القادر ونطلق على بعض أفراد النوع الإنساني نفس الوصف ـ ولم تر واحداً من العلماء قال : إن القادر يثير في الذهن معنى واحداً إذا نسب إلى الله ونسب إلى البشر أو غيرهم من الكائنات وإنما رأيناهم يقولون : إن الله قادر وله قدرة ولكن لا كقدرتنا .
وإذا قيل : إن لله يداً وللإنسان يداً فإن واحداً من العلماء المعتبرين لم يقل: بأن لفظ اليد لها نفس المفهوم وعين الدلالة إذا نسبت إلى الله ونسبت إلى البشر.
ونحن لم نر خلافاً بين العلماء المعتبرين في الفكر الإسلامي حول هذه الجزئية وإنما هم جميعاً متفقون على أنه لا يجوز أن يكون لله يد بمعنى الجارحة.
وقل مثل هذا في نحو الوجه ، والجنب والعين والرجل والساق .... إلخ وقصارى ما وقع بين العلماء من خلاف يرجع إلى نقطة محددة وهي : هل يجوز لنا أن نضع لفظاً مكان لفظ بحيث يحدد مفهوم اللفظ الأصلي ويصرفه عن ما كان يشتمل عليه من احتمال المشابهة أو لا يجوز ؟
وبرغم أن العلماء متفقون فيما بينهم على أنه لا يجوز أن نفهم من لفظ يحتمل التشبيه المشابهة بين الله وبين خلقه حيث إن مثل هذا الفهم مرفوض شرعاً بنحو قوله تعالى : (ليس كمثله شئ) برغم أنهم متفقون على هذا الحد إلا أنهم انقسموا إلى فريقين في الإجابة عن هذا التساؤل، فبينما يرى البعض منهم أنه من الجائز أن تؤول اللفظ الذي يحتمل التشبيه بلفظ آخر لا يحتمل ذلك التشبيه ويكون معنى اللفظ الذي وقع عليه الاختيار مشمول ضمناً في مدلول اللفظ الأصلي وعلى سبيل المثال فإنه إذا ورد في النص الشرعي لفظ ـ اليد ـ مضافاً إلى الله عز وجل يمكن أن نحمل هذا اللفظ ـ اليد على القدرة على اعتبار أن القدرة داخلة ضمناً في معنى اليد ومفهومة.
بينما يرى بعض العلماء جواز ذلك، يرى فريق آخر أنه لا يجوز أن نؤول في ألفاظ القرآن أو النصوص الشرعية المعتبرة التي تحدد صفات الله عز وجل بل نؤمن بها على ما جاءت عليه على وجه لا يوقعنا في التشبيه أو المماثلة بين الله وخلقه.
وعليه فإن الأسماء الموهمة تتحول عند الفريقين إلى صفات لائقة بالله عز وجل وليس واحد منها يدل على جارحة محسوسة لأن ذلك يتنافى مع كمال الله عز وجل.
ومن هنا فإننا نستطيع القول : إن ما يبدو لنا من خلاف مستمر بين الفريقين هو في الحقيقة خلاف يشبه أن يكون لفظياً غير أن العصبيات المذهبية من جهة وحب الذات والتكابس بالعلم والتفاخر بالمعرفة من جهة أخرى مضافاً إليهما جهل بعض الجاهلين من أتباع هذا الفريق أو ذاك.
كل هذا وكثير غيره، مما يماثله، أو يقرب منه ، قد وسع شقة الخلاف حتى بدى لبعض الناظرين أن ما بين الفريقين صدع لا يرأب وشعث لا يلم وإذا قلت لبعضهم إن ما بين الفريقين من خلاف سهل ميسور اتكأ على أريكته ثم قال إن الخرق قد اتسع على الراقع وإن ما بين الفريقين إنما هو كفر وإيمان.
والأمر أيسر من ذلك " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون "