الخلاف فى الصفات الخبرية
نشأة الخلاف في الصفات الخبرية
لقد دفع المسلمين إلى القول : في الصفات وغيرها تغير المجتمع بعد عصر الفتح وازدواج الثقافات المختلفة ودخول الأفكار الأجنبية عن الإسلام إلى الساحة الإسلامية طفرة وبغير هوادة.
ولقد كان المسلمون في عصر المبعث لا يهتمون بهذه الفلسفات في نفس الوقت الذي كان المسلمون الأوائل فيه يفهمون القرآن وأقوال النبي الكريم فهماً يليق بعقولهم ومكانتهم الدينية، فكانت الصفات تذكر في القرآن أو السنة، وكانت الأسماء ترد أمامهم في النصوص الشرعية فيفهمونها فهماً على وجهها الصحيح اللائق بجلال الله عز وجل.
ولا يعقل بحال من الأحوال أن يقال : إن الصحابة لم يكونوا يفهمون عن الله قولاً ولا يفقهون للنبي حديثاً فهذا أمر غير مقبول.
والمقبول الوحيد هو أن هؤلاء كانوا يفهمون ويفقهون لكنهم لم يتورطوا في الجدل أو المراء.
أولاً : لأنهم لم يكونوا يستجيزون الجدل أو المراء ولا يستحبون ذلك شرعياً.
ثانياً : أنه لم تكن هناك حاجة ملحة للدخول في جدل أو مراء ولم تكن هناك شبهة عارضة يثيرها فكر مغرض أو إنسان ينطوي على سوء الطوية للإسلام وأهله، من أجل ذلك كله وجدنا السلف الصالح من الصحابة وأوائل التابعين كانوا يفهمون الآيات والأحاديث التي تتحدث عن أسماء الله وصفاته ويمرونها كما هي من غير نقاش ولا جدل ولا مراء.
ولكن الفتنة حين أطلت برأسها وكان بعض الصحابة ما يزال حياً لم يمسك عن الحديث، بل إنما أفتى بما يراه الحق والصواب.
يتبين من هذا العرض السريع أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وسابقي الأمة لم يكونوا على جهل بدلالات ألفاظ القرآن.
وتلك قضية ينبغي أن تكون واضحة غاية الوضوح في الأذهان ـ غير أن الصحابة على الجملة أو واحداً منهم بذاته لم يدعوا أنهم قد وقفوا على حقيقة الذات الإلهية وتصورها على ما هي عليه في الحقيقة ونفس الأمر فهذه مسألة أكبر من إمكانات العقول وأعز من أن تدركها العقول، وهذا القول نفسه ينطبق على حقيقة الصفات الإلهية، فالوقوف على حقيقة كل صفة والإحاطة بها إحاطة تامة أمر فوق العقول وأعلى من طاقة الإنسان.
وهذا لا يتنافى مع قولنا السابق من أن الصحابة يفهمون مدلول اللفظ الواصف لله عز وجل أو اللفظ الذي يذكر اسماً من أسماء الله سبحانه.
ولباب القول في هذه المرحلة الفكرية : أن الصحابة كانوا يفهمون القرآن والحديث فيما يتعلق بموضوع الأسماء والصفات ولكنهم نظراً لما قلناه سلفاً كانوا يمرون النص من غير محاولة التفريع عليه أو الاستنباط منه إلى غير ذلك. مما يشبه ذلك من محاولات وكان هذا أمراً طبيعياً اقتضاه العصر واقتضته الظروف.
ثم جاء عصر احتكاك الأذهان وتزاوج الثقافات فأدى علم الكلام دوره المرسوم له من رد الشبه عن الإسلام ومحاولة فهم العقيدة من القرآن فهماً صحيحاً.
وإذا كان العلم البشري والتفكير الإنساني لا يكون كاملاً غاية الكمال فإن هذا النقص الذي يعتري التفكير الإنساني قد ظهر في بعض نواحي علم الكلام على يد المتورطين في بعض قضاياه بدافع رد الفعل أو كان هذا النقص الذي اعترى بعض جوانب علم الكلام بسبب الدخلاء الذين دخلوا على المتكلمين لا يريدون تحقيق غاياتهم المرسومة بقدر ما يريدون التشويش على الإسلام وأهله.
ولو أننا أسقطنا مثل هذه النقائص من الحساب لوجدنا علم الكلام قد انطوى أهله على نية حسنة وأشخصوا أمامهم هدفاً يريدون تحقيقه وسلكوا إلى هذا الهدف سبلاً إن كان بعضهم كبا وهو يقطعها بعض الكبوات إلا أنها في النهاية تبقى سبلاً معبدة لتحقيق غايتها المرسومة.
وفي ظروف طرأت على الجو الإسلامي وعكرت صفو الأفكار الإسلامية ظهرت رغبات صادقة من بعض علماء الأمة في محاولة إصلاح المسار الفكري وتنحية كل خطأ أو زلة وقع فيها بعض المفكرين الإسلاميين والأخذ بيد من كبا على الطريق حتى تنتصب قامته كي تسلك الجماعة الإسلامية إلى هدفها سبيلاً صحيحة تبرأ من الزلات والكبوات.
ـ غير أن هذه الرغبة على نبل مقصدها قد وقعت تحت تأثير انفعال رهيب جعلها لا تتأتى في عرض رغبتها النبيلة الراقية، فأثارت ضدها القاصي والداني فتوجهت الأسئلة وطلبات الاستفتاء من كل صوب كلها تبتغي تحديداً واضحاً لبعض معالم العقيدة الإسلامية.
ـ وظهر في الساحة الإسلامية أدعياء السلف المحدثون الذين يريدون العودة من جديد إلى طريق السلف وانتهاج منهج أوائل الأمة.
ـ غير أن هذه الدعوة قد فسرت طريقة السلف وأوائل الأمة حسبما يلائم فكرها ويتناسب مع وجهتها.
ـ الأمر الذي يجد استحساناً عند الكثيرين فكثر الخلاف وانتشر الشغب وأصبح كل يدعي أن الحق عنده، وكل حزب يريد أن تطير الأفئدة والقلوب إلى ما يراه، وما زالت الأمة إلى الآن تعاني هذا الأثر السئ وينوء بأعناق الأمة هذه الأحمال الثقال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناهج المختلفين في الصفات الخبرية
المتأمل في مناهج هذه الفرق المختلفة والمقارنة بينها وبين ما ذهب إليه سلف الأمة وانتهجه المسلمون في عصر المبعث يجد نفسه أمام طرائق ثلاث من المناهج والأساليب التي انتهجها علماء الأمة إلى الآن في فهمهم لآيات الأسماء والصفات والآثار الواردة فيهما.
الطريقة الأولى : طريقة السلف الأوائل الذين شاهدوا عصر المبعث وعاصروا نزول القرآن.
وهؤلاء القوم ـ كما ذكرنا ـ كانوا يفهمون النص ولكنهم لم يفرعوا عليه بل أمروه بغير جهل بمدلول الألفاظ التي تعبر عنه.
ـ ولو أن أحداً منهم قد سئل في عصر المبعث أو بعده بقليل عن نص من النصوص التي يوهم ظاهرها التشبيه، كاليد والأصبع والجنب والعين والوجه والقدم والساعد ... إلخ، لما قال واحد منهم : أن مدلول هذه الألفاظ مقصود لذاته، ولو أنهم سمعوا ما سمعنا أن لله يداً على الحقيقة المادية أو إصبعاً أو جنباً، لتبرموا بهذا السماع غاية التبرم ولكان لهم موقف مأثور يتناقله من بعدهم جيل بعد جيل.
ـ هذه مسألة نسبتها إلى عصر المبعث وأهله لا تتجاوز حد البداهة العقلية.
ـ وكان ينبغي على من جاءوا بعد هؤلاء أن يسلموا بنحو ما ذكرناه تسليماً لا يقل جدلاً ولا مراء.
ـ غير أنه لم يؤثر عن الصحابة أنهم وقفوا عند هذه النصوص وقالوا فيها أو تحدثوا عنها لأسباب سبق ذكرها.
ـ أما الموقف الثاني : فهو موقف لعلماء الكلام وغيرهم ممن قرأوا هذه النصوص ورأوا أن هناك ضرورة ملحة للإبانة عن المقصد من ورائها وتحديد المراد منها فحددوا مفهوم هذه الألفاظ محتكمين إلى قانون التأويل العام بحيث لم يتخذ واحد منهم موقفاً في نص من النصوص متأثراً بهواه، بل إن جميعهم كانوا يؤولون النصوص الشرعية التي تحتاج إلى تأويل وهو محكوم بمسألة حمل النص على بعض ما يحتمله اللفظ بحيث يكون لائقاً أن ينسب إلى الله عز وجل ولا يتعارض مع قضية الألوهية.
ـ ولم نر واحداً من هؤلاء المؤولين للنصوص حمل النص على معنى لا يحتمله النص أو صرف اللفظ إلى معنى لم يكن ضمن المعاني التي وضعه الواضع من أجلها أو ضمنه الشرع إياها.
ـ وهذا موقف في غاية السلامة بحيث لم يكن يستوجب هذه الضجة الكبرى التي أثيرت ضده حتى وصلت إلى حد فاقت معه كل خلق يرضاه الذوق العام.
ـ الموقف الثالث وقد تحمس له بعض المتأخرين ونسبوه إلى السلف.
وخلاصة هذا الموقف : أن النصوص الشرعية التي يوهم ظاهرها التشبيه يجب أن تقف عند حدود دلالتها الوضعية من غير تصرف فيها أو محاولة تأويلها، بل يجب علينا أن نمرها كما جاءت عليه.
وإلى هنا يعد هذا الموقف نقطة اشتراك بين جميع القائلين بالوقوف عند حدود النص.
إلا أن أدعياء هذا الموقف والمتحمسين له انقسموا إلى طرائق متعددة :
1ـ فبعضهم التزم هذا الموقف زهداً في الحديث ورفض أن يتصرف في النصوص خوفاً على نفسه وصيانة لعقيدته، فهم يستسلمون للنص استسلاماً ويؤمنون به على نحو ما أراده الله عز وجل من غير أن يحاول الدخول في محاولة تحديد المراد من هذا النص أو ذاك.
وهذا الفريق انتسب إليه كثرة كاثرة من الأتقياء الذين يخشون على عقيدتهم ويرون أن الحديث في مثل هذه الأمور من قبيل الجدل المنهي عنه، وهم يعتقدون بصدق أن العقل البشري قاصر عن إدراك ما يتعلق بالله وصفاته ويحيط به إحاطة تامة.
وبعض الذين ينتمون إلى هذا الفريق لديهم قدرة على التأويل وهم يعتقدون ويميلون إليه على وجهه الصحيح، ولكنهم يخشون آثاره ورد الفعل العنيف من أولئك الذين لا يدركون حقائق الأمور ولا يرغبون في نفس الوقت عن تجنب الخوض فيها (**).
2ـ وهناك فرقة أخرى ممن يعتقدون هذا الاتجاه ( اتجاه الوقوف عند حدود النص) رأوا أن حدود النص معناها حمل كل لفظ على المعنى الأول الذي يتبادر منه وينطبع في الأذهان عند إطلاقه.
وعليه فقد حمل اليد على ما يتبادر منها لأول وهلة وكذا الوجه والإصبع والقدم إلى آخره.
ولهذا المعنى نفسه حملوا النصوص الواردة في النزول والاستواء على حقيقتها وفرعوا على ذلك تفريعات شنيعة (**).
وهذه الطائفة من الناس فتحت مجالاً واسعاً لتسلل الأفكار الغريبة عن الإسلام ودخولها إلى الجو الإسلامي فأحدثت جدلاً عظيماً وأساءت إلى بعض طوائف الإسلام إساءة بالغة وجرحت شعور الموحدين المؤمنين بالله إيماناً ينسب إليه كل كمال على وجه الوجوب ويرفع عنه كل نقص على وجه الوجوب كذلك.
وما زالت الأمة إلى الآن تعاني آثار هذا التيار وتجني ثماره المرة.
3ـ وهناك طائفة ثالثة تؤمن بالوقوف عند حدود النص وتعلن أنه لا يجوز التصرف فيه وتصرح بأنه ينبغي حمل كل نص على أول معنى يتبادر من الألفاظ وترفع شعار عدم جواز التأويل بحال من الأحوال.
فإذا وقع هؤلاء أن بدر منهم ما يشبه الله بخلقه أو يوهم التجسيم اعتذروا عن ذلك وقالوا ( بلا كيف ).
ومسألة ( بلا كيف ) هذه قد حيرت العقول وأخذت بألباب المفكرين.
إذ إن المرء لا يفهم ( إن أراد أن يفهم ) الموقف الحقيقي لهذه الطائفة حين تقول: إن لله يداً ووجهاً وعيناً ... إلخ ، على المعنى الحقيقي للفظ ولكن بلا كيف.
وإن الله عز وجل قد استوى على العرش وهو ينزل عنه نزولاً حقيقياً إلى السماء الدنيا كل ليلة ولكن بلا كيف.
والله عز وجل في السماء وهو في جهة هي جهة العلو على المعنى الحقيقي لهذه الألفاظ ولكن بلا كيف.
إنها مسألة محيرة حقاً فصدر هذه الجمل كلها ينص على التشبيه صراحة وأواخر هذه الجمل كلها يقول بلا كيف.
فإن أرادوا أوائل الجمل كانوا مشبهة وإن أرادوا أواخر هذه الجمل كانوا من المتأولين والجمع بين الطرفين تناقض.
هذه هي المناهج الثلاثة التي انتهجتها الأمة على اختلاف طوائفها فيما يتعلق بأمر الصفات.
كل منهج منها يخالف الآخر مخالفة تامة حتى لو ادعى متأخروا السلفية أن منهجهم هو منهج السلف الأوائل وأن ما يقولون به قد قال به المسلمون في عصر المبعث.
والحق أقول : إنه لو كان هناك محاولة انتساب إلى السلف الأوائل فإن المؤولين بهذا الانتساب أولى لأنهم أقرب الفريقين إلى منهج السلف