الأحد، 25 مارس 2012

موسوعة العقيدة - أسماء الله الحسنى : الماجد المجيد

الماجد المجيد

مع الاسم الرابع والسبعين من أسماء الله الحُسنى، والاسم هو الماجد والمجيد.
 فالماجد اسمٌ من أسماء الله الحُسنى ورد في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي ذكر فيه أسماء الله الحُسنى عدّاً وإحصاءً.
 قبل أن نبدأ بشرح هذا الاسم الجليل، ينبغي أن نعلم علم اليقين أن طبيعة النفس البشرية مفطورةٌ على حبِّ الكمال، وأن أسماء الله الحُسنى أسماءٌ حُسنى كاملة، فكمال الله عزَّ وجلَّ وفِطرة النفس التي فُطرت على حبِّ الكمال يتوافقان.
 فلذلك لا يطمئن الإنسان، ولا تقبل نفسه على الله إلا إذا رأى في الله الكمال المطلق بينما الإنسانُ كمالهُ نسبيّ يصيب كثيراً وقد يخطئ قليلاً، ويبقى عند الناس كاملاً، لكن الله سبحانه وتعالى كماله مطلق، لذلك الشرّ المطلق لا وجود له، لأنه يتناقض مع وجود الله، لكن الشرَّ النسبي يوظِّفه الله سبحانه وتعالى للخير المطلق.
 فالماجد اسمٌ مشتقٌ من المجد، والمجد في لغة العرب نهاية الشرف، نهاية السمو نهاية الرفعة، نهاية الكمال، يقال رجلٌ ماجد أي رجلٌ شريف له آباء متقدِّمون في الشرف.
 كلمة الماجد معناها: من حيث النسب ؛ ينتمي إلى أشرف أسرة، ومن حيث السلوك كثير الخير مفضال معطاء، فربنا عزَّ وجلَّ كماله مطلق وفعله خير كله.
 والماجد في حق الله تعالى المتناهي في الكمال والعز، ونفس الإنسان تحبُّ الكمال لذلك النفس الإنسانية لا يملؤها إلا معرفة الله، فلو أنها اختارت غير الله، اختارت مادون الله فإنها تبقى في اضطراب، لا تسكن، ولا تستريح.
 يمر الإنسان في مراحل مِنْ حياته في حالات متنوعة، يطلب المال مثلاً فإذا بلغه وجمعه سقط من عينيه وأصبح شيئاً تافهاً، يطلب اللذائذ فإذا اقتنصها صغرت في عينه، أما إذا طلب الله سبحانه وتعالى ومهما جدَّ في الطلب يبقى سعيداً إلى أقصى درجة لأن الله لا نهائي، لأن الله كماله مطلق.
 لذلك هناك نقطة دقيقة.. الشاب يوصف بأنه يعيش أحلاماً وإذ هو شاب في مقتبل العمر يتصور بيته ويتصور زوجته، ويتصور عمله، واختصاصه ومكانته، فهو لا يزال شاباً ويسعده الحلم، وتسعده الآمال، فإذا وصل إلى حدوده القصوى، أي إذا تزوج، أو توظف، أو اختار هذه الحرفة دون تلك وزوال العمل فيها فإنَّ حياته أصبحت مغلقة، محددة، هذا بيته وهذه زوجته، وهؤلاء أولاده، وهذا دخله، وهذه مكانته. وهذه حرفته.
 ومن ثمّ يشعر بالفراغ، كما يشعر بالرتابة.. لذلك الناجحون في الحياة المادية من عجيب أمرهم أنهم ينصرفون إلى الميسر أحياناً لأن حياتهم أصبحت مملة، بلغوا قمة النجاح، ماذا بعد النجاح ؟ لابُدَّ من التغيير.
 فالإنسان إذا نجح في عمله، وفي زواجه وكان بعيداً عن الله عزَّ وجلَّ معرفةً وسلوكاً فإنه يبحث عن لذائذ مستجدة، فلذلك تراه ينحرف انحرافات خطيرة لا لأنه يحبها، بل لأنه يجدد من خلالها حياته.
 أمّا المؤمن إذا عرف الله عزَّ وجلَّ فمعرفتُه بالله تملأ نفسه إلى أبد الآبدين، لأن النفس لا نهائية، لا يملؤها إلا المطلق، أما المحدود لا يملؤها، فهي أكبر، فالدنيا محدودة، والدنيا بكلّ لذائذها محدودة، فالشيء الثابت أن الإنسان يشتري بيتاً واسعاً، في الأسبوعين الأولين أو الثلاثة يسعد به أشد السعادة، أما بعد حين فيغدو لا معنى له، يتزوج أجمل امرأة ثم لا يلبث أن يركب أفخر مركبة وبعد حين تجده في سأم وفتور وتناقص، الأشياء الدنيوية محدودة، والنفس لا محدودة، فإذا طلبت السعادة في المحدود لن تجدها، وما سوى الله محدود، أجل كلّ ما سوى الله كلّه محدود، كلِّ شيء ما سوى الله يخبو بريقه، تتناقص لذَّته، تتناقص ثمرته.
 إذًا إن أردت الله فأنت في سعادةٍ متنامية، وإن أردت ما سوى الله فأنت في سعادةٍ متناقصة، إذًا فالمشكلة ليست مع الشاب، فقط بل ومع كل إنسانٍ ولو بلغ كهولته وتوضحت معالم حياته وتحددت، إنَّ نفسه لا نهائية، فإن أراد المحدود وتحلقت نفسه به، وقع في الحيرة وفي الضجر، فإما أن ينحرف، وإما أن يهديه الله إليه.
 فالماجد في حق الله تعالى هو المتناهي في الكمال والعزَّ، له الجمال في الأوصاف والأفعال، الذي يعامل عباده بالكرم والجود ويتجلى لهم بنور الوداد، ماجد وذاته ماجدة، أفعاله كريمة، مودته لعباده بالغة، ومن كلمات الدعاء.. اللهم أنت الماجد المجيد، الفعال لما يريد نسألك الأمن يوم الوعيد، أنت الماجد المجيد.
 ومن الحقائق التي لا تخفي أن الإنسان إذا أحبَّ شيئاً تغنَّى به، فإذا أنت أحببت صديقاً فلتراقب نفسك خلال شهر مثلاً فأينما جلست تتحدث عنه وأنت لا تشعر، فمن أحبَّ شيئاً تغنَّى به ومن أحبَّ الله تغنَّى بكماله، والثناء على الله عزَّ وجلَّ مسعد، الله عزَّ وجلَّ عنده كل شيء يسعدك فيه، إذا أقبلت عليه أسعدك.
 ذكرت في بعض الأبحاث نقطة دقيقة خلاصتها أنّ الدعاء وسيلة، والدعاء غاية،هو وسيلة لأنه سلاح بيدك، أما غاية لأنك لمجرد أن تدعو الله وأن تتصل به فأنت أسعد الناس، فإذا كان إقبالك على الدعاء ضعيف يخلق الله لك حاجةً عنده من أجل أن تدعوه فإذا دعوته اتصلت به وسعدت بقربه.
 الماجد هو الواسع الكرم، الغنيُّ المغني.
 سمعت قصة من إنسان تأثرت لها.. رجل يحب الخير، وقد أصيب طفل صغير بحادث سير، ومات أبوه وأمه في الحادث وبقي الطفل الصغير حياً، فهذا المُحسن امتلأ قلبه رقةً لهذا الطفل المصاب فأجرى له في سبع أو ثماني سنوات سبع عشرة عمليةً جراحية بالغة التكاليف، نشأ هذا الطفل و هو يرى هذا المحسن يعطف عليه وينقله من مشفى إلى آخر، ومن بلدٍ عربيٍ إلى بلد أجنبي، إلى أن استطاع هذا الطفل أن يمشي على قدميه، في أثناء الوداع عندما أراد أن يرسله إلى أهله الأباعد طبعاً، رفض أن يذهب حتى يودِّع عمه المُحسن، فلما التقى به أقبل عليه ليودعه فتعثرت قدمه فوقع من شدة محبته وتعلقه، قال لي هذا المحسن: لقد أعطاني الطفل علبةً من العلكة -المسكة- ساعة وداعه، وأقسم لي هذا الإنسان أن هذه العلبة أغلى عندي من حي المالكي كله عندكم على الصفين أحد أحياء دمشق الراقية.. طفل ماذا يملك ؟ يملك هذه العلبة قدمها هديةً رمزيةً لمن أحسن إليه..
 فقد أردت أن أقيس وقائع هذه القصة على حالنا.. أنت ماذا قدَّمت إلى الله ؟ الذي قدَّم لك الوجود، قدَّم لك الحواس الخمس، قدَّم لك العقل، قدَّم لك الأعضاء، قدّم لك زوجة صممها لك أجمل تصميم وأحسنه، قدَّم لك بيتاً، وأولاداً ومكانةً، أمدك بكلّ ما تحتاج ثم هداك إليه.. فأنت ماذا قدَّمت ؟ هذا الطفل لا يملك إلا هذه العلبة فقدمها، تكاليف سبع عشرة عملية جراحية أنفقها عليه، مئات الألوف بل بضع عشرات مئات الألوف حتى تمكَّن من أن يمشي على قدميه، وهذا الطفل يشعر أن هذا الإنسان َقَّدم له كلَّ شيء، فرفض أن يذهب إلى أهله قبل أن يودعه فلما التقى به ومن شدة فرحه تعثر وقدم له هذه العلبة، قال لي: والله تلك العلبة أغلى عندي من حيّ المالكي.. أقسم على ذلك، لأنه عبَّر بها عن شكره.. فهل يا ترى أنت شكرت الله عزَّ وجلَّ ؟ لو أن الله لم يخلقنا لما كان لنا وجود، إذًا وجودنا منّة منه وتفضّلاً.. فقد قال الله تعالى:
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1)﴾
(سورة الإنسان)
 أنت موجود فقد قال الله تعالى:
﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)﴾
(سورة الانفطار)
 وجعلك مكرّماً.. دخلت منذ يومين إلى مشتل فواجهتني لوحة يبلغ ارتفاعها من الأرض إلى ارتفاع المنبر، ورأيت فيها صفاً فيه ثلاثون صورة عرضاً، وفيه تسعون صورة طولاً، كلّ صورة تمثل نوعاً من النبات خلقه الله تعالى خصيصاً لتمتع عينيك بهذا النبات، هذا النبات نبات زينة لا يؤكل ولا يشرب لكنه مخلوقٌ لتمتع عينيك به، أنواع لا تعدُّ ولا تحصى، كم نوع من الورود ومن نباتات الزينة، من ألوان الأطعمة من ألوان الفواكه، من أنواع الأطيار، هذا كلُّه مخلوق للإنسان فقد قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)﴾
(سورة الإسراء)
 فلذلك تجد الإنسان أحياناً يسأل نفسه: الله عزَّ وجلَّ منحك نعماً كثيرة.. نعمة الإيجاد والإمداد والهدى والرشاد، أنت ماذا قدمت لخلقه ؟.. أكبر سؤال ينبغي أن تسأل نفسك عنه ماذا فعلت من أجل ربي ؟ ماذا فعلت إرضاءً لربي ؟.
 في الأعم الأغلب يأتي اسم الماجد بعد اسم الواجد.. الواجد هو الغني، والماجد هو المغني، أي غني مُغْنٍ، أما في بني البشر فهناك غني غير مغن، حريصٌ على المال يكدسُهُ أكداساً طائلة، يعيش فقيراً ليموت غنياً، وهذا من أندم الناس.. وبالمناسبة.. المال قوة، وبالمال بإمكانك أن تصل به إلى أعلى درجات الجِنان.
 ذات مرة سألني أخّ سؤالاً دقيقاً، قال لي: هل هناك من حرج أن ننفق على معيشتنا أموالاً طائلة بغير حساب، مادمنا نؤدِّي زكاة أموالنا، لا نقترف إثماً ؟ فقلت أنا لن أجيبك بكلمةً واحدة بنعم أو لا بل سأذكر لك مثلاً:
 لو أنَّ إنساناً معه مئة مليون، وعلم أن شركة استثمارية تعطي ربما على الليرة الواحدة(فرضاً)ملياراً -وهذا الكلام كلام افتراضي - رَبِحَ بكل ليرة ملياراً، وأنت معك مئة مليون، فهل تغامر وتشتري بأربعين مليوناً سيارة، وبستين مليوناً بيتاً وتمكث بدون أكل ؟، أم أنك تشتري بيتاً بعشرة ملايين ليرة وسيارة بمليونين وتضع باقي المبلغ بالاستثمار، فالأرباح مغرية، وكلُّ ليرة تربح ملياراً ؟ إن الذي معه كتلة نقدية يمكن أن يعيش حياة معقولة مكرّمة، ثمّ إذا كان عنده فائض من ذاك المال فلينفقه في طاعة الله، فهذا الفائض في الآخرة. كلِّ ليرة منه بمليار، كلِّ ليرة تعود عليه بألف مليار، كلِّ ليرة مليار مليار هذا في الآخرة، فهل من المعقول أن أستهلك الفائض النقدي كله في النفقة اليومية ؟ لا.. فالقضيَّة هذه قضية تجارية، الذي يمتلك كتلة نقدية زائدة من الممكن أن يصل بها في الجنة إلى أعلى عليين.
 فللإنسان حق أن يأكل ويشرب ويسكن ويركب باعتدال، وما زاد عن حاجاته بإمكانه أن ينفقه في مرضاة الله، وسيرى اللقمة إذا أطعمها فقيراً في سبيل الله كجبل أحدٍ يوم القيامة، فهذه اللقمة الواحدة إذا أطعمتها معوزّاً، فلو قلت إذًا إنّ الليرة أعطَتْ ربحًا مليارًا فإن الكلام معقول، حجم جبل مقابل حجم لقمة يفوق المليار.
 فالواجد الماجد الغني المغني هو الله، والله عزَّ وجلَّ إذا أعطى أدهش، فقد أعطاك صحة.. يقول لك الطبيب هذا الدسَّام مثلاً ثمنه ثمانون ألفًا تكلفة العملية أربعمائة وخمسون ألفاً، زرع كبد سبعة ملايين، زرع كلية ثمانمائة ألف.. فإذا عافاك الله عزَّ وجلَّ، فأنت إذاً تملك ألف مليون وأنت ماشٍ على رجليك، حواس خمس، جهاز هضم، وجهاز دوران، وجهاز تنفس، وجهاز طرح الفضلات، وجهاز تصفية، وأعصاب، وعضلات، وهيكل عظمي، وعقل في رأسك، وجلد سليم، معنى ذلك أنَّ ثمنك يعدل ألف مليون، فإذا أنعم الله عزَّ وجلَّ عليك بالصحة فقد أعطاك شيئاً ثميناً، والصحة تنتهي عند الموت، فعلى قَدْرِ ما كنت معتنياً بصحتك يتحاشاك الموت إلى حين، إلاّ أنه لابد آتٍ ذات يوم.
 ذكرتُ ذات مرة أن مغنيًا لم يركب طائرة في حياته، خوفاً من أن يموت في حادث طيران، أَكْلُهُ أكلٌ مدهشٌ فيوماً يأكل سمكاً، ويوماً يأكل دجاجاً، مساءً فواكه متنوعة، أعتقد أنه عاش إلى التسعين، لكن بعد كلَّ هذا العمر مات، ولقد قرأت عنه مقالة أن عنايته بصحته لا توصف، شيء مثل الخيال، ومع ذلك مات، معنى ذلك أن الموت يأتي على كل شيء حتى الصحة، فما الذي يبقى؟ العمل الصالح، لذلك أعظمُ نعمة، نعمة الهدى، ثم الصحة، ثم الكفاية، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
((... مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ آمِنًا فِي سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا ))
(سنن ابن ماجة)
 اسم الماجد لم يرد في القرآن الكريم، إلا أن الذي ورد هو المجيد، وبعد قليل ننتقل إلى اسم المجيد إن شاء الله، فالماجد أي رفيع الشرف، المتناهي بالمجد والكمال، الواسع العطاء الغني، المغنيُّ. المغني هذا هو الماجد.. أنت كمؤمن ما علاقتك بهذا الاسم ؟
 فالمؤمن أيها القارىء الكريم.. وهذا كلام دقيق جداً.. لأنه عرف الله، كلَّ حياته عطاء، يعطي من وقته، من جهده ومن ماله، ومن خبراته يقدم كلَّ شيء فالأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، إلا أن هذا العطاء أساسه إيمان، يعدُّ صاحبه لاجتياز عقبات الآخرة، فالمؤمن طموح جداً، فإذا إنسان قدَّم لك خدمة وقال لك: أريد عليها مائة ألف، هناك أشخاص يأخذون الأجر المكافئ لجهدهم تماماً، فإنه يعرف قيمة جهده يقول لك: إن هذه العملية تكلف أربعمائة وخمسين ألفاً، لو فرضنا أن إنساناً قدمها لوجه الله. أيهما أكثر طموحاً ؟ الثاني الذي قدمها لوجه الله لأن الله عزَّ وجلَّ يعطيه عطاء لا يصدق يوم القيامة، فأساس الإيمان مبنيٌ على العطاء لا على الأخذ، تعيش وتأكل وتشرب وتزوج أولادك، أما أساس إيمانك أن تعطي مما أعطاك الله، لذلك الله عزَّ وجلَّ قال:
﴿الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)﴾
(سورة البقرة)
 أي أن أحد أركان حياة المؤمن، أحد سماته الأساسية، أحد ركائز حياته.
﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾
 لكنك تعامل من ؟ تعامل الكريم، يعطيك عطاءً لا يصدق، أوّلاً: يعطيك في الدنيا رحمته وهي تشمل الصحة، وتشمل راحة البال، وتشمل الرفعة، والطمأنينة والثقة بالمستقبل، أما الكافر فكثيراً ما ترتعد فرائصه خوفاُ من تقلبات الأيام وعثرات الزمان، مهما كان غنياً، فحسبه بؤساً أن سَلَبَهُ نعمةَ الأمن فقد قال تعالى:
﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) ﴾
(سورة الأنعام)
 الله يعطيك المال وقد يأخذ منك نعمة الأمن، ويأخذ منك نعمة راحة البال، يأخذ منك نعمة الطمأنينة، يأخذ منك السعادة تعيش في لذائذ متناقصة تعقبها كآبات متنامية.
 فالله عزَّ وجلَّ قال:
﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾
(سورة الزخرف)
﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ ﴾
(سورة فاطر)
 فأنت كمؤمن إذا عرفت أن الله ماجد أي غنيٌ مُغنٍ، متناهٍ في الشرف والرفعة والمجد وهو يعطي عطاءً لا نهائياً، إذًا فَتَخلَّقْ بأخلاق الله.
 فحظ العبد من هذا الاسم أن يعامل الخلق بالصفح والإحسان، والعفو والإكرام، واللين والبشاشة، وتجنّب الشقاق، وأن يعطي من ماله للفقراء، وأن يتواضع مع الخلق، وان يرفق بالضعفاء، وأن يعامل الناس كأنهم أهله وجيرانه.
 فأنت عليك أن تَتَخلّق بأخلاق الله.. بالمناسبة دائماً عندما نضع قطعة من الحديد تحت أشعة الشمس، تكتسب منها شيئاً فتكتسب الحرارة، حارةً، ثمّ ضع هذه القطعة في اليراد تجدها باردة، معنى ذلك أن هذه القطعة اكتسبت من هذه الثلاجة البرودة كما اكتسبت من تلك الشمس الساطعة الحرارة.. أنت إذا اتصلت بالله فلابد أن تكتسب شيئاً !! فقطعة حديد لا تعقل إن وضعتها تحت أشعة الشمس تكتسب الحرارة وإن وضعتها في ثلاجةٍ تكتسب البرودة، وأنت إذا اتصلت بالله ألا ينبغي أن تكتسب منه شيئاً ؟ فالصلاة التي هي عماد الدين وعصام اليقين ودرة الطاعات، وأعظم القربات، هذه الصلاة من أجل أن تكتسب الكمال من الله، لا يمكن أن تكون صلاتك صحيحة وتكون بخيلاً، معنى ذلك أنك غير متصل بالله، لا يمكن أن تكون الصلاة صحيحة وتكون جباناً، لا يمكن أن تكون الصلاة صحيحة وأنت حقود هذا شيء مستحيل حقد، جبن، بخل، لؤم، قسوة، قلب قاسٍ لايرقّ للناس هذا كله يتناقض مع الصلاة.
 فقد قال الله تعالى:
﴿ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾
(سورة العنكبوت الآية: 45)
﴿ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾
 أي أكبر ما فيها.. فلذلك إذا أنت اتصلت بالله يجب أن تشتق لنفسك من اسمه صفة الكرم، فإنك إذا خرجت من البيت ساعياً لعملك فالتقيت بإنسان وسألك أجبته، أو طلب إعانة أعنته، أو وجدته ضالاً هديته، أو وجدته فقيراً أغنيته، همك الأول أن تسعد خلق الله عزَّ وجلَّ.
 فأنا لي ملاحظة سأضعها بين أيدي القراء الكرام.. فأضربُ أمثلة من واقع الحياة.. أنت راكب بسيارة عامة وبجانبك صديق فدفعت عنه، فهل يظل ساكتاً ولا يتحرَّك نحوك شاكراً لك، أم يبتسم ولا يقول لك شكراً ؟ فهل من المعقول أن تدفع ثلاث ليرات بهذه السيارة العامة ولا يلتفت لك شاكراً، مهما كان لئيماً، مهما كان عديم الإحساس، مهما كان جلفاً، وهل من الممكن أن تدفع عن إنسان بمركبة عامة ولا يبتسم لك ويقول لك شكراً؟! وهل من الممكن أن تقدم لإنسان هدية ويأخذها ويضعها بجواره ويقول لك: خير. نعم. ويبقى صامتاً، لا بل سوف يقول لك شكراً لقد كلفت نفسك من أجلي.. إنك لن تجد إنساناً تصنع معه معروفاً، إلاّ و يكون له ردّ فعل حميد نحوك، لن تجد إنساناً مهما كان لئيماً، مهما كان موقعه منك وقدمت له شيئاً إلاّ ويقدم لك شيئاً بالمقابل، فلو قلتَ له كلمة طيبة، لردَّ عليك بكلمة طيبة، لو ابتسمت له ابتسامة، سيبتسم لك بابتسامة مثلها، لو صافحته مصافحة حارة لردَّ بمصافحة حارة مثلها أو أحسن منها.
 فخالق الأكوان ذو الكمال المطلق إذا أنت خطبت وده بالتوبة وخطبت وده بالطاعة، خطبت وده بالعمل الصالح، إن خطبت وده بالإحسان إلى خلقه وجدت جزاء ذلك عنده، فهل من الممكن أن تتقرب إلى الله وألاّ تجد ردَّ فعل من الله؟! مستحيل.. فإذا الإنسان أحسن لخلق الله سوف يجد في نفسه الطمأنينة، والسعادة، والتوفيق، والحفظ، والتأييد، سوف يجد تكريما، والتكريم شيء استثنائي، شيءٌ مستثنى عن معاملة عامة الناس، مستثنى عن القواعد العامة التي تحكم البشر، هذه الكرامة دليل أن الله قبل هذا العمل. أَلَمْ يقل النبي عليه الصلاة والسلام:
((عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ عَنْ مِيتَةِ السُّوءِ ))
(سنن الترمذي)
 التعامل بهذا الدين كما قلت مرارًا تجارة رابحة.. كيف تكون التجارة ؟ ما أكثر ما يكون فيها من جهد ونشاط نشاط تجاري ؟ بِدءاً من شراء المحل وتزيين المحل وترتيب المحل وتعيين الموظفين وشراء مستودعات وفتح اعتمادات واستيراد بضاعة وعرض البضاعة ومندوب مبيعات ومندوب مُشتريات والتسويق، وبعد هذا قبض ثمن البضاعة ثم صفقة ثانية وثالثة الخ.... هذا النشاط الطويل العريض إذا لم ينتهِ بربح فهو سلوك مضحك لا معنى له، للتجارة هدفٌ واحد هو تحقيق الربح فإذا لم يتحقق الربح فكل هذا النشاط لا معنىً له، جهد ضائع وهو جهد غير ذي معنى..
 فلو طبقنا ذلك على الدين.. قرأنا قرآن صلينا وصمنا وحججنا وزكَّينا، وحضرنا مجالس العلم، وكانت عندنا مكتبة إسلامية، والكتاب الفلاني لابن فلان، وغيره لفلان الفلاني وهكذا، والطبعة حديثة، أحاديث الكتاب مخرَّجة، هذا الكاتب رد عليه فلان هذا هو النشاط الديني، بين مطالعة وبين تأليف وبين استماع إلى أشرطة، بين حضور مجالس للعلم و بين أداء الصلوات هذا النشاط كلَّه إجمالاً، إذا لم ينتهِ بك إلى أن تتصل بالله وأن تسعد بقربه لا معنى له إطلاقاً.
 فأصبح الدين اليوم لدى الكثيرين من المسلمين ثقافة على فلوكلور على تقاليد وعادات على عاطفة جوفاء وهم بذلك يخدعون أنفسهم ويوردونها الموارد الآسنة، أما حينما تتصل بالله وتقطف ثمار القرب، وتجني الأمن والطمأنينة، وتجني سعادة القرب، عندئذٍ أنت متديّن، المشكلة في الدين: أنك لن تستطيع أن تتصل بالله إلا إذا كنت مستقيماً على أمره، هذا هو بيت القصيد، لكي لا يضيّع الإنسان وقته، ولكي يتحرك العبد حركة ناجحة ولكي لا يبدد نشاطه في حركة غير ذات طائل عليه أن يدرك حقيقة علاقته بالله تعالى ثم يخلص له العبادة.
 ملخص الملخص يجب أن تعرفه وأن تستقيم على أمره حتى تسعد بقربه هذه هي العبادة فقد قال تعالى:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ﴾
(سورة الذاريات)
 تعرفه، تطيعه، تسعد بقربه، وانتهى الأمر إلى رضوان الله ولا شيء غير ذلك.
 شيء آخر.. من لوازم هذا الاسم أدب المؤمن مع هذا الاسم أن ترتفع همَّته عن الخلائق، فمادام الله كمالُه مطلق وعطاؤه مطلق، دع الخلق إلى الخالق، دعهم، تجد الإنسان المنافق والمنحرف أرضيّاً مع الناس، ماذا تكلم فلان، لا أنا سوف أقوم بالرد عليه، أما المؤمن فهو تارك الناس، ويلتفت إلى رب الناس، هناك شيء أساسي في حياته. فالله هو الأساس والغاية.
 أحياناً تدخل إلى دائرة لتقابل فلاناً المسؤولَ، وقد تجد في الممشى مائة شخص، وخمسين باباً مفتوحاً، وخمسين موظفاً جالساً لا تريد أحداً منهم، لكن تريد المدير العام فقط، هدفك واحد فقط وكل هؤلاء الذين في دربك تتجاوزهم والمؤمن كذلك هدفه الوصول إلى الله تعالى.
 قيل: علاقة المؤمن بهذا الاسم: أن ترتفع همَّته عن الخلائق مع تعلِّقه بمولاه، فمن عرف أن الله هو الواجد الماجد سمت همته إليه واعتمد عليه في كلِّ الأمور، أي أنّ المؤمن ربَّاني، والمنافق شيطاني.
 الحديث القدسي:
(( إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ))
(صحيح مسلم)
 وأنتقل بك أيها القارىء الكريم بعد هذا إلى اسمٍ آخر قريب من هذا الاسم وهو اسم المجيد.. الماجد على وزن فاعل، أما المجيد على وزن فعيل، المجيد صيغة مبالغة، أي سامع وسميع، ماجد ومجيد، حافظ وحفيظ، وزن فعيل من أوزان صيغ المبالغة.
 وإذا قلنا مبالغة في حقِّ الله عزَّ وجلَّ، فهذه المبالغة كماً وكيفاً، إذا قلنا إن الله عز وجل مجيد أي يتناهى في الرفعة في كلِّ صفاته هذا معنى المبالغة.. أما المبالغة النوعية فالله على كلّ شيء قدير مهما بدا كبيراً، وعلى الأشياء كلّها قدير مهما كثرت، مهما كثرت ومهما كبرت.
 في اسم المجيد قالوا: المجد هو الشرف كما قلت قبل قليل لكن شرف الذات إذا قارنه حسنُ الفعال سمي مجداً.
 مثلاً: إنسان درسنا نسبه ينتمي إلى أرقى أسرة لكن أفعاله سيئة لا يسمى ماجداً، إنسان آخر أعماله طيبة لكن لا نعرف أصله ولا الأسرة التي ينتمي إليها ولا ماضيه. فهو إذاً ماجد، أسرع به عمله، ولو بطأ به نسبه. شرف الذات إذا قارنه حسن الفعال سمي مجداً، والمجد المروءة والسخاء والكرم وكرم الفعال.
 سيدنا سعد بن عبادة كان يقول: اللهم هب لي حمداً ومجداً لا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال، اللهم لا يصلحني إلا هو، ولا أصلح إلا عليه.
 كلام دقيق.. إن من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى، فإذا أفقرته أفسدت عليه دينه، وبعض الناس مقاومته هشة إذا أغناه الله يعصيه على الفور، أي أنَّه على الدخل الكبير يرتكب الموبقات، أما على الدخل المحدود مستقيم.
(( وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فإذا أغنيته أفسدت عليه دينه))
 هذا حديث شريف.. إلا أن الآية الكريمة تعطيك قاعدة عامة وثابتة، قال الله تعالى:
﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ﴾
(سورة الشورى)
 معنى ذلك أن الله عزَّ وجلَّ إذا قنن، فإنّه يقنن تقنين تأديب لا تقنين عجز، إذا وجدتَ الأمطار قد شحَّت، والموارد قلَّت، والأعمال أصبحت عسيرة، والأمور غير ميسرة، معنى ذلك أنه تقنينٌ من الله عزَّ وجلَّ، وهذا التقنين لا يمكن أن يكون تقنين عجز إلا أنه تقنين تأديب.
 إذا قطعوا مرافق الماء عن بيوتنا فالسبب أن المياه غير كافية، هذا تقنين عجز، إذا قطعت الكهرباء باليوم ساعة معنى ذلك يوجد تقنين عجز، أما إذا الله عزَّ وجلَّ قنن الموارد فلا يمكن أن يكون عجزاً لأن الله عنده خزائن كل شيء:
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ﴾
(سورة الحجر)
 فإذا قنن فالتقنين تقنين تأديب، فهذا الصحابي الجليل قال داعياً: اللهم هب لي حمداً ومجداً ولا مجد إلا بفعال ولا فعال إلا بمال اللهم لا يصلحني إلا هو ولا أصلح إلا عليه.
 فإذا رأيت إنساناً عظيماً وليس له عمل صالح فإن عظمته تكون فارغة، العظمة أساسها العمل العظيم، لا مجد إلا بفعال ولا فعال إلا بمال.
 وبعد فإذا رجا إنسان ربّه أن يكون غنياً ليكون بهذا المال ماجداً انقلب هذا الطلب إلى عبادة، فلو أن شخصاً يبحث عن مال وهدفه إذا اغتنى أن يبني مسجداً، أو يبني معهداً شرعياً، أو يطعم الفقراء، أو يكرم الأيتام وينشئ ميتماً مثلاً، وينفق إنفاق الطامع برحمة الله ويرجو وجهه، أو يعلم الطلاب على حسابه لكي يصبحوا دعاة، فإذا كان هذا هدفه فعمله عبادة، وأي عبادة.
 التقيت مرّة بإنسان بينما كنت في زيارات إحدى المحافظات فوجدت مسجداً قد أنشيء حديثاً على الساحل فأعجبني ودخلت وصليت فيه، ثم دعاني هذا الإنسان لشرب كأس من القهوة، فقال لي: أنا الذي بنيت هذا المسجد، حدثني عن قصته فسمعت كلاماً غريباً قال لي: لما أنهيت الخدمة الإلزامية من حوالي عشرين سنة، وكنت والله، لا أملك درهماً ولا ديناراً فأخذت من أُختي سوارها وبعته بثلاثمائة ليرة وسافرت إلى إحدى دول الخليج، وبينما أنا بالطائرة ما تكلمت بلساني إلا أنّهُ قد خطر في بالي خاطر: لو أن الله جبر خاطري في هذه السفرة لأُعمِّرن مسجداً، أَقسَم بالله أنه لم ينطق هذا بشفتيه، ثم قال لي: وأكرمني الله عزَّ وجلَّ إكراماً منقطع النظير ثم رجعت إلى بلدي واشتريت أرضاً مساحتها خمسة دونمات وتقدمت بطلب رخصة فلم يحصل عليها، قالوا: المنطقة غير منظمة ثم قابل مسؤولاً كبيراً هو المحافظ الذي قال له: عمِّر ولا بأس عليك ثمّ قال: وبكل بساطة عمّرنا مسجداً كبيراً ضخماً ومرتب نظيف وهو الذي صليت فيه قبل قليل، وهو على مرأى من المسافرين قبل مدينة بانياس، لونه بني لطيف، أمنيته كانت إلى الله: إذا أكرمتني يارب فإني أعمر مسجداً، طلب بصدق النية فالله أعطاه، فإذا طلب أحد مال من الله لكي يعمرمسجاًد أو لينشئ معهداً شرعياً، أوليبني داراً للأيتام، لينفق على طلاب علم ولكي ينشر الدعوة إلى الله، هذا الغنى آل أمره إلى عبادة ولم يصبح غنى مطغياً أو غنىً منسياً لأنه أدّى حقَّ الله في المال، لأن المؤمن القوي خيرً وأحبُّ إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف.. والمال قوة، لكن هذا المال يحتاج إلى نية ويحتاج إلى إيمان، والإيمان يفرز نية عالية، والنية العالية تحوّل طلب المال إلى عبادة.
 أما إذا كان إنسان همه أن ينشئ هنا فيلاًّ، هناك شاليه، وأن يشتري السيارة الشبح ويستقلها زهواً، هذه لم تصبح عبادة بل أصبحت أعماله للدنيا.
 فلذلك طلب المال من أجل الأفعال الصالحة يعدُّ عبادة، يقول: اللهم هب لي حمداً ومجداً، ولا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال اللهم لا يصلحني إلا هو ولا أصلح إلا عليه.
 وإنّني أدعو أحياناً فأقول: اللهمَّ صُن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالاقتدار، فنسأل عندئذٍ شر خلقك ونبتلى بحمد من أعطى وذمِّ من منع، وأنت من فوقهم وليُّ العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء.
 فإذا الإنسان أتقن عمله، أتقن مصلحته، أتقن تجارته، أتقن صناعته، أتقن وظيفته، أتقن طبه، أتقن هندسته، وجاءه دخل كبير وحل مشاكل الناس به فهو في أعلى درجات العبادة، إنه مستقيم، طاهر، ورع، كسب مالاً وزوج شاباً، واشترى بيتاً لإنسان فقير آواه به، حل مشكلة إنسان، وفَّق بين زوجين، آوى إنساناً عليه دعوى إخلاء مثلاً، فتاة أمَّن لها بيتاً وبعد هذا تقدم لها شاب ليتزوجها، أحياناً تجد البنت إذا ملكت بيتاً فإنها على الفور تتزوَّج، إذا كنت ميسور الحال وعندك بنتٌ مستقيمة وطاهرة نقية وتقدم لها شاب لا بيت عنده ولا يملك ثمنه فاشتر لها بيتًا وزوجهما، فهناك آباء أعجلّ أفعالهم كثيراً.
قال لي أخ أنا أمّنت بيتاً لهذه البنت فإذا تقدم أحد خطبها وتزوجها فله هذا البيت ولم يمض إلا وقت قليل حتى تزوجت، وانحلت مشكلة شابين بحاجة إلى زواج، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه..
(( وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))
(صحيح البخاري)
 فإذا أحد طلب المال من الله تعالى ليحل فيه مشاكل المسلمين نقول له: نِعم الطلب حباً وكرامة لطلبك، وهذا عملٌ من أرقى الأعمال وأرجاها عند الله تعالى.
 الله عزَّ وجلَّ ذكر اسمه المجيد في القرآن الكريم، قال الله تعالى:
﴿ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1) ﴾
(سورة ق)
 فالقرآن كتابنا المقررحدِّث عنه ولا حرج، حدِّث عن نظمه، وعن إعجازه، وعن تشريعه، وعن أخباره، وعن حلاله وعن حرامه، وعن وعده، وعن وعيده، وعن صوره، وعن مشاهد يوم القيامة فيه وعن قصص أنبيائه هذا الكلام كلام الله عزَّ وجلَّ.
فالله عزَّ وجلَّ قال:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾
(سورة الأنعام)
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ﴾
(سورة الكهف)
 الكون كله في كفِّة والقرآن في كفة وهو بين أيدينا، والله الذي لا إله إلا هو لو وقفت عند حروفه حرفاً حرفاً لوجدت العجب العجاب، لو وقفت عند حركات الحروف لوجدت العجب العجاب، قواعد هامة.
 قال تعالى:
﴿ وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ ﴾
 أي الشريف، فلله الشرف والمجد والعلو والعظمة في ذاته وصفاته وأفعاله، ووصف الله تعالى قرآنه بأنه مجيد لكثرة فوائده، فالمجيد في صفة الله يدل على كثرة إحسانه وأفضاله، والمجيد هو الشريف بذاته الجليل بأفعاله الجزيل بعطائه، البالغ المنتهى في الكرم، وقيل المجيد المتناهي في الشرف في ذاته وصفاته وأفعاله وهو الجليل في نعوته والجميل في ملكه وملكوته.
 جاء اسم المجيد في آيات آخرى فالله عز وجل في سورة هود قال:
﴿قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) ﴾
(سورة هود)
 أي أنه كثير العطاء.
﴿ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ﴾
 فإذا الإنسان تعرَّف إلى الله واستقام على أمره يهديه سُبُل السلام، فهناك أزمات طاحنة.. ويوجد دعاء للنبي، اللهم صلِّ عليه يقول فيه:
(( اللَّهم إني أعوذ بك من فجأة نقمتك، وتحوِّل عافيتك، وجميع سخطك ))
 أحياناً يقع البلاء فجأةً، ويداهم المرض العُضال فجأةً..فاللهمّ إنا نعوذ بك من فجأة نقمتك، وتحوِّل عافيتك، وجميع سخطك.. أحياناً تكون المفاجأة في الأولاد، أو المفاجأة في الزوجة، مفاجأة عنده خمسة أولاد وعندما حلل إكتشف أنه لا ينجب، وعنده خمسة أولاد من غيره. فجأةً وقع الخبر عليه وقعْ الصاعقة !! فمثل هذا الخبر يكون مدمّراً وهو شيء لا يحتمل، ففي حياة الكافر والعاصي مفاجآت، وأخبار كالصواعق.
 أما المؤمن فالله عزَّ وجلَّ يهديه سُبُل السلام، فهو في سلام مع نفسه، وفي سلام مع من حوله، وفي سلام مع ربُّه، وفي سلام مع مستقبله:
﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾
(سورة التوبة)
 المؤمن في سلام، لن تجد عنده مفارقات وأخباراً صاعقة، ذات مرةٍ دعينا من قبل أحد الإخوان لمزرعة، وقال لي: هذه مزرعة عمَّي، و بينما نحن في المزرعة دخل عمَّه ولم يسلِّم على الموجودين جميعاً وعددهم ثلاثون رجلاً، ولكنني ضقت ذرعًا من تصرُّفه هذا، فقال لي هذا الأخ: عمي حضر من المشفى الآن حيث كان يقوم بتكرير دمه وغسل كليتيه. فلا تؤاخذه على تصرُّفه فهو لم يعد يرى بعينيه من كثرة الألم، والغسيل كل أسبوع مرة، يمشِي دون أن يرى أحداً أو يحس بأحد، فالهم حجبه عن الناس كلَّهم.
 فقد يصاب الإنسان بمصيبة في جسده أو ماله أو عياله مما يجعله لا يرى شيئاً مما حوله، فإذا طمأنك الله عزَّ وجلَّ وقال لك:
﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾
(سورة الطور)
﴿ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾
 فلا تخف، فأنت موضع عنايتنا، فأحياناً تجد أن الله عزَّ وجلَّ يلقي بقلبك الطمأنينة وتشعر بالثقة، وتشعر بأنَّ العناية تحوطك، فاحمد الله على نعمائه فالله قال:
﴿ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾
 فهل هذا شيء قليل أن يعتني الله بك ويدافع عنك ويطمئنك، ويُلقي السكينة بقلبك والسعادة فهل هذا قليل ؟ والثمن بيدك وهو طاعتك، فأطعه وانظر متدبرا في قول القائل:
أطع أمرنا نرفع لأجلك حجبنا.. فإنا منحنا بالرضى من أحبَّنا
ولُذ بحمانا واحتم بجنابنا..  لنحميك مما فيه أشرار خلقنا
وعن ذكرنا لا يشغُلنَّك شاغلٌ  وأخلص لنا تلقِ المسرَّة والهنا
وسلِّم إلينا الأمر في كلِّ ما يكُن  فما القرب والإبعاد إلا بأمرنا.
***
 الله عزَّ وجلَّ قال:
﴿ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ﴾
 عطاؤه لا حدود له، فالله عزَّ وجلَّ أحياناً يعطي الإنسان قليلا من الدنيا قد يختلَّ توازنه بسببه،كأن يعطيه بيتاً جميلاً، زوجةً جميلة، تجارة رابحة، فكيف إذا أعطاك الله الجنَّة.. ولندقق النظر في هذا الكلام، إذا ذهبنا إلى طرطوس، وركبنا زورقاً إلى جزيرة أرواد وأخرجت من جيبك إبرةً وقمت بغمسها في مياه البحر وسحبتها بعد ذلك فانظر مقدار ما حملته وتعلَّق بها من ماء.. يقول النبي اللهمَّ صلِّ عليه:
(( ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غُمِس في مياه البحر ))
 الدنيا بقصورها، بنسائها، بمركباتها، بمياهها، بأماكنها الجميلة.. ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غُمِس في مياه البحر.
(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ))
(صحيح البخاري)
 لذلك الموت عند المؤمن تُحفته وعُرسُه، لأنَّه دخل الجنَّة وقد رأى مقامه فيها:
﴿ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ﴾
 فالله يهيّئ لنا مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر إذا أكرمنا بالجنَّة فهناك كل ما لا يتصوَّره العقل، والثمن طاعته فقط.
 وفي سورة البروج قال تعالى:
﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) ﴾
(سورة البروج)
 فلا إرادَةَ فوقَ إرادةِ الله أبداً، فالله هو المريد، هو القادر، هو الفعَّال، هو الحكم، هو العدل، لا رادَّ لما أمر، ولا معقِّب لحكمه، وقد وصف الله سبحانه وتعالى عرشَّه بأنَّه مجيد، ملكه ملك عظيم.
 وهناك آية ثالثة قال تعالى:
﴿بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) ﴾
(سورة البروج)
 معنى قرآن مجيد أي كثير الخير، إن قرأته، إن تعلمْت أحكام تلاوته، إن فهمته، إن طبَّقته، إن تعلَّمت منه، لا حدود لفضائل القرآن، لذلك من أُوتي القرآن ورأى أنَّ أحداً أُوتي خيراً منه فقد حقَّر ما عظَّمه الله، من تعلَّم القرآن متَّعه الله بعقله حتى يموت، أكرر من أوتي القرآن فرأى أنَّ أحداً أُوتي خيراً منه فقد حقَّر ما عظَّمه الله.
 قال: من تخلَّق باسم المجيد، ينبغي أن يكون كريماً في جميع الأحوال مع ملازمة الأدب، فمن المستحيل أن ترى مؤمناً بخيلاً.. بل تجده كريماً يعطي ولا يضنُّ بعلمه ولا بخبرته.
 حدَّثني أخ.. عافاه الله من مرضه، وهذه القصَّة منذ ثلاثين عاماً.. عنده محل لصناعة الحلويات - الكاتو -، دخل عليه شخص من أقاصي الجزيرة وببساطة قال له: أتعلمني صنع الكاتو ؟ فقال له: على العين، تفضَّل للداخل، وقام بعمل العيارات والأوزان المناسبة أمامه، وطبخها أمامه وبعد أن انتهى من العمل طلب منه أن يقوم بعمل مثلها أمامه.. ثم أقسم هذا الأخ.. أنَّه منذ ثلاثين سنة وإلى الآن يزوره ذاك الأخ ويحضر له هديَّة من الحسكة، فقد أسس محلاً هناك في بلده وأخذ الله بيده ولم ينس الفضل لثلاثين سنه فيحضر له كل سنة تنكة من السمن.
 الإيمان أساسه العطاء، وقد حدَّثني طبيب متخصص في الأورام الخبيثة قال لي: جاءت امرأة شابَّة في ريعان الشباب مصابة بمرض خبيث في الحنجرة وكادت تختنق، ولا أمل في شفائها، وقد قامت مع ذويها بزيارة مشافي وعيادات عدة جامعات بما فيها الجامعة الأمريكية في لبنان والكل أجمعوا على أنه لا أمل بشفائها، قالوا لزوجها، لا أمل في شفائها.. ولكن بعد أن غادر العيادة رجع إلى الطبيب ليحاول مرةً أخرى وقال له: أنا سوف أقوم بإجراء محاولة أخيرة، ولكن الأمل ضعيفٌ جداً، وأقاموا بفندق قريب وأجرى الطبيب للمرأة جلسة أشعة يومياً، وبعد حين تحسنت حالها، وبعد ثمانية أشهر تقريباً بدأ شبح هذا المرض الخطير يتراجع، ثمّ أذن الله بشفائها وعافاها وأنجبت الأولاد.. وهذه القصة منذ أكثر من خمسٍ وعشرين سنة.. ويقول الطبيب لي: كل سنة يأتي الزوج للطبيب بخروفين صفيحة من السمن. فقال له الطبيب أخيراً: والله لقد رددت الجميل بالجميل الكثير فوفيّتْ، بل أكثرت، فيقول له الزوج: والله لئن مت أنا، فأولادي من بعدي يتابعون هذا العمل وفاءً منا لحسن صنيعك.
 فقد كان ميؤوساً من شفائها ولم يتقاصَ الطبيب شيئاً على علاجها، وكان هذا الزوج فقيراً جداً وأغناه الله بعد ذلك، ونظير علاجه وخدمته طيلة ثمانية أشهر وتراجع المرض وشفاء الزوجة بفضل الله، ومَنِّهِ ولم ينس الزوج هذا الفضل، فإذا كان الفضل لإنسان فَلَمْ ينسه الزوج.
﴿ وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾
 فكيف إذا كان الفضل لله عزَّ وجلَّ ؟؟ فقد قال تعالى:
﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾
(سورة البقرة)
 الماجد والمجيد اسمان من أسماء الله الحُسنى.. وبشكلٍ ملخَّص.. الشريف بذاته، الحميد بأفعاله، الغنيٌ المُغني، الذي يعطي الخير الجزيل.
 أخلاق المؤمن نحو هذين الاسمين يترتّب عليه.. أن يقصد وجه الله الكريم لأنَّه المُغني وحده، وأن يُحسن للمخلوقات تأسياً بأخلاق الله، فاِتجِهْ إلى الله وحده وأكرم خلقه إن كنت آمنت بهذا الإسم الجليل