دور العقل فى مجال السمعيات
إن أولى القضايا التي نريد أن نطرحها هنا هي تلك القضية التي نحاول من خلالها بيان دور العقل في مجال الأمور التي يحتمها السمع ويقضي فيها .
والعقل ليس له دور هنا سوى إقناع نفسه إن أراد أن يقتنع بأن القضايا المطروحة من قبل السمع ليست من قبيل الأمور المستحيلة.
والأمر المستحيل هو ذلك الأمر الذي لا يقبل الوجود أصلاً لذاته، فهو معدوم، ووجوده مستحيل.
وقضية البعث التي نحن بصددها تعني أن الله عز وجل سيعيد الحياة إلى الناس، وتلحق كل روح بجسد صاحبها فيحيي بعودة هذه الروح إليه، ويحشر الناس هكذا لرب العالمين، وتتوالى مشاهد القيامة بعد هذا الإحياء.
وإحياء أفراد البشر فرداً فرداً، وما يشاء الله إحياءه على النحو أمر ممكن، ولسنا هنا مطالبين بتصور الإمكان، وإنما نحن فقط نقف عند حدود تصور أن مثل هذا الأمر غير محال.
إن المتأمل في هذا الموقف لا يحتاج إلى دليل عليه أكثر من الالتفات إلى الماضي، فالله عز وجل قد خلق هذه الكائنات من العدم حين كانت معدومة قبل الخلق الأول، كانت موصوفة بالإمكان، أي أنها كانت ممكنة الوجود، ولولا هذا الإمكان لما وجدت بالفعل، ومن المعلوم أن هذا الوصف الذي وصفت به في حال العدم الأول لا يمكن أن ينفصل عنها في العدم الثاني، إذ لا مبرر لذلك ولا مسوغ له، بل نقول : إن العكس قد يكون هو الصحيح، ذلك أن هذا الوصف حين كان لها قبل الخلق الأول، وثبت بالتجربة ترجح وجوده، فإن هذه التجربة نفسها تسهل على العقل تصور وجوده مرة أخرى.
وبالنسبة للفاعل الذي يرجح الوجود على العدم يمكن أن نتصوره في غير الله عز وجل حين يرجح وجود شئ على عدمه، ثم ينعدم هذا الشئ، ثم يقول لنا الفاعل الذي أوجده أولاً: إني قادر على إيجاده مرة أخرى، فإنه يكون من السهل على من شاهد تجربته الأولى أن يصدقوه فيما دعى، وفيما قال : ذلك أن إيجاده الشئ في المرة الأولى أكسبه شيئاً من التمكن في القدرة على الإيجاد.
وهذا مثال إذا حاولنا من خلاله أن نتصور إعادة الله الأجسام وإلحاق الأرواح بها، يصلح هذا المثال أن يقرب لنا هذا الموقف بالنسبة لله، ويصوره لعقولنا، على أن ينبغي أن لا ننسى والحالة هذه ، أن هذا المثال وما يشبهه يكون من قبيل تقريب الحقائق لا التعبير عنها تعبيراً على نحو ما هي عليه، فالله عز وجل لا يستفيد كما لا في قدرته من خلال تجربة ما، فقدرته مطلقة من غير أن تشحذها التجربة (ولله المثل الأعلى).
ويتكرر حديث القرآن الكريم حين يلفت الأنظار بقوة إلى هذا المثل من التقريب لعقولنا حين تتصور حقيقة لا نستطيع لأمر يخصها أن تدركها إدراكاً كاملاً فيقول :
" فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة " سورة الإسراء : آية 51. ، " كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين"(2) سورة الأنبياء : آية 104.
"وضرب لنا مثلاً ونسى خلقه قال من يحيى العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم"(3)، "وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون" سورة يس : آية 78 ، 79." أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد " سورة ق : آية 15..
وهذه الآيات تؤكد كلها أن تصور الحشر وإعادة الحياة إلى الأجسام أمر ممكن، بل هو أقرب إلى احتمال الوجود من العدم، وأبعد من أن يكون أمراً مستحيلاً استحالة اجتماع النقيضين أو استحالة اجتماع الحركة والسكون، أو البياض والسواد، أو تصور تقدم الابن على أبيه في الوجود، أو تأخر الأب على ابنه في الوجود كذلك.
إن الأمور التي يحكم العقل عليها بالاستحالة كلها أمور لا تقبل الوجود أصلاً لذاتها، والبعث وحشر الأجساد بعد أن تعود إليها الأرواح ليس أمراً من قبيل هذه الأمر المستحيلة.
وليس بغريب علينا الآن أن نقول : إنه يكفي للعقل أن يتصور هذا القدر من التصور فقط، يكفيه أن يتصور أن الحشر ليس من قبيل الأمر المستحيل، وما عدا ذلك من الكيفيات والتحديات، فإنه يجب عليه أن لا يقحم نفسه في محاولة تصورها أو الوقوف عليها.
إنه يجب عليه أن يؤمن باليوم الآخر، وبالحياة الأخرى إيماناً جازماً ما دام قد أدرك أن ما يقع في الحياة الأخرى ليس من قبيل الأمر المستحيل.
ومن هذا المنطلق نستطيع أن نتصور كيف جعل القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة الإيمان بالبعث واليوم الآخر وما فيه ركناً مهماً يشكل أحد أركان الإيمان الستة.
قال تعالى :"والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون" سورة البقرة : آية 4..
" .... إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً "سورة النساء : آية 59.
".... ولا تأخذكم بهما رِأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر..." سورة النور : آية 2." الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون" سورة النمل : 3 ، لقمان : 4..
وفي حديث طويل رفعه مسلم بن الحجاج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر فيه أن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان الستة.
ونحن ننقله هنا بتمامه : ففي صحيح مسلم بالسند إلى عمر بن الخطاب: قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه. وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً . قال : صدقت وقال : فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال : فأخبرني عن الإيمان. قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره.
قال : صدقت. قال : فأخبرني عن الإحسان. قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
قال : فأخبرني عن الساعة. قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها. قال : أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاه الشاه يتطاولون في البنيان. ثم انطلق فلبثت ملياً ثم قال لي : يا عمر أتدري من السائل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم. قال : فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ] صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ـ ص 161 وما بعدها ..
ونستطيع أن نستخلص مما سبق نقطتين على غاية الأهمية :
إحداهما : أن الحشر ممكن وإعادة الحياة جائزة.
ثانيتهما : أن هذا العود سمعي الوقوع على كيفية لا يعلمها إلا الله وحده، وإن كنا نتصورهما بعض التصور.
والنقطة الأولى : من هاتين النقطتين قد تصورها العقل وحده أو بمعرفة الشرع له.
أما الثانية : فقد حكم الشرع فيها بقواطع النصوص التي تجعلنا نؤمن بها من غير أن نكون مستعدين للجدل أو المراء.
وجماع هاتين النقطتين في الحقيقة يصور مواقف المليين من هذه القضية لها، وإن نازعتهم الفلاسفة في بعض هذه القضايا.
يقول الإيجي : وهو مفكر أشعري : [ أجمع أهل الملل عن آخرهم على جوازه ووقوعه. وأنكرهما الفلاسفة المواقف ـ للإيجي ـ ص 372..
أما الجواز : فلأن جمع الأجزاء على ما كانت عليه وإعادة التأليف المخصوص فيها أمر ممكن ـ كما مر ـ والله عالم بتلك الأجزاء، قادر على جمعها وتأليفها لما بينا من عموم علمه وقدرته، وصحة القبول والفعل توجب الصحة قطعاً.
وأما الوقوع : فلأن الصادق أخبر عنه في مواضع لا تحصى بعبارات لا تقبل التأويل حتى صار معلوماً بالضرورة كونه من الدين، وكل ما أخبر به الصادق فهو حق ] المواقف ـ للإيجي ـ ص 372..
ويستفيد حجة الإسلام من النصوص الشرعية وأحكام العقل معاً فيبين موقفه النهائي الذي يراه في هذه القضية ، وهو لا يخالف به الموقف السابق في قليل ولا كثير فييما عدا طبيعة العرض وأسلوب التفكير.
قال : [ أما الحشر فيعني به إعادة الخلق وقد دلت عليه القواطع الشرعية، وهو ممكن بدليل الابتداء السابق فإن الإعادة خلق ثان، ولا فرق بينه وبين الابتداء، وإنما يسمى إعادة بالإضافة إلى الابتداء السابق، والقادر على الإنشاء والابتداء قادر على الإعادة وهو المعنى بقوله : " قل يحييها الذي أنشأها أول مرة " ] الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي / 180 ، والآية من سورة يس رقم : 79.