الأربعاء، 28 مارس 2012

موسوعة علوم الحديث : الآراء فى تدوين الحديث

الآراء فى تدوين الحديث

        لقد تبين أثناء البحث في موضوع تدوين السنة -وخاصة في دراسة رجال الحديث في عصر الصحابة والتابعين- أن أمير مصر "عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي" (-85هـ) قد حاول جمع حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .

        وقد روى هذا إمام الديار المصرية ومحدثها "الليث بن سعد"؛ فقال: (حدثني يزيد بن أبي حبيب أن عبد العزيز بن مروان كتب إلى كثير بن مرة الحضرمي -وكان قد أدرك بحمص سبعين بدريًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ليث: وكان يسمى الجن المقدم، قال: فكتب إليه أن يكتب إليه بما سمع من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أحاديثهم إلا حديث أبي هريرة فإنه عندنا(1)) لم يطلب حديث أبي هريرة لأنه كان عنده وكان قد سمعه عبد العزيز بن مروان من أبي هريرة (2).

        لقد طلب أمير مصر كتابة حديث رسول الله -عليه الصلاة والسلام- من إمام حمص وعاملها الذي كان طالباً للعلم حافظاً ثقة(3)، وقد كان هذا الطلب أثناء إمارته على مصر بين سنة (65-85 )هجرية ، ويمكننا أن نجد هذا بحد أقرب إلى الحقيقة إذا عرفنا أن كثير بن مرة توفي بين سنة (70-80(4)) للهجرة ، فلو فرضنا أنه توفي سنة (75هـ) فمعنى هذا أن طلب الأمير كان قبل هذه السنة، والراجح عندي أن طلب الأمير عبد العزيز، كان في السنين الأولى من إمارته لما عرف عنه من حب للعلم وأهله، وتفان في خدمة الدين (5).

        إلا أن المصادر لم تخبرنا عن امتثال كثير بن مرة للأمير، فنقف أمام هذا الخبر التاريخي متسائلين: تُرى هل كتب كثير للأمير ما طلب منه من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟ وإذا كتب إليه فما مقدار ما كتبه؟ وعن أي الصحابة كتب إليه؟ ثم إلى من آلت تلك الصحف أو الدفاتر المدونة ؟ كل هذه أسئلة تعرض أمامنا، وتحتاج إلى بحث وتنقيب .

        وريثما يكشف لنا التاريخ عن خبايا تراثنا الإسلامي العظيم، نجيب عن هذه الأسئلة على ضوء ما لدينا من أخبار قليلة.
إن ما نعرفه من عناية هؤلاء بالحديث يرجح عندنا أن يستجيب كثير بن مرة لطلب الأمير، ولو ظن الأمير عبد العزيز امتناع عالم حمص عن إجابته ما كتب إليه، مما يرجح عندي أن كثيرًا تلقى رسالة الأمير وأجابه إلى طلبه، لما عرف عن كثير من نشاط علمي عظيم.

        ومن الصعب في هذا المجال أن نقدر مقدار ما كتب كثير، لأن المراجع لم تنص على شيء من هذا (6)،فأرجو من الله أن أوفق فيما بعد للكشف عن ذلك وإيضاحه بما يكفل لنا الحكم العلمي الصحيح.

        ونقول الآن بعد هذا الخبر: إذا ثبتت استجابة كثير بن مرة لطلب أمير مصر فيعني هذا أن بعض الحديث النبوي قد دون رسميًا في منتصف العقد الهجري الثامن قبل انقضاء القرن الأول..

        وعلى أية حال، فإن اهتمام أمير مصر بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتدوينه يزيدنا ثقة بأن التدوين قد سار جنبًا إلى جنب مع الحفظ، ولم يتأخر قط إلى عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، فيكون شرف المساهمة في تدوين الحديث، قد كلل الوالد الأمير والابن الخليفة البار، ويكون لهما جميعاً شرف العمل لحفظ الحديث وتدوينه رسميًا.

        وأنا بهذه النتيجة لا أريد أن أخالف ما أشهر عند أئمة هذا العلم من أن تدوين الحديث النبوي كان على رأس المائة الأولى في خلافة عمر بن عبد العزيز، بل أضع يدي على مفتاح بحث تاريخي له أهميته في تاريخ تدوين تراثنا الزاخر، ينتظر من يتفرغ ليكشف عنه، فنحن في هذا لسنا بدعاً، ولا نأتي بشيء جديد سوى أننا ننقض غبار الماضي عن جواهرنا المكنونة، ونحاول أن نسلكها في عقد يصور لنا الحقيقة التاريخية.
----------------
(1)- انظر تهذيب التهذيب ص356 ج6.
(2) - طبقات ابن سعد ص157 قسم 2 ج7 وتهذيب التهذيب ص429 ج8
(3) - انظر تذكرة الحفاظ ص49ج1.
(4) -انظر تهذيب التهذيب ص429ج8.
(5) - انظر النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ص171 ، 174 ج1.
(6) - لأن التاريخ الأموي دون في عهد الدولة العباسية وقد اهتم المؤرخون بالحوادث الكبرى وبالخلفاء العريضة من حياة الأمراء, وكانت كثير من مزايا الأمويين تطمس أو تصغر تمشيًا مع سياسة العباسيين الذين لا يسرهم التحدث بمفاخر من قبلهم، انظر : أضواء على التاريخ الإسلام ص85 ونحن لا نشك بوجود مؤرخين منصفين نرجو أن نجد عندهم فيما بعد ما يروي غليلنا في هذه النقطة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رأي الشيخ محمد رشيد رضا في تدوين الحديث
        قال الإمام محمد رشيد رضا:( لعل أول من كتب الحديث وغيره من التابعين في القرن الأول، وجعل ما كتبه مصنفًا مجموعا هو خالد بن معدان الحمصي، روي عنه أنه لقي سبعين صحابيًا.

        قال الذهبي في تذكرة الحفاظ وقال بحير: ما رأيت أحدًا ألزم للعلم منه، وكان علمه في مصحف له أزرار وعرا) .

        ثم قال: فخالد بن معدان جمع علمه في مصنف واحد جعل له وقاية لها أزرار وعرا تمسكها لئلا يقع شيء من تلك الصحف، وكان ذلك في القرن الأول، فإنه مات سنة 103هـ أو سنة 104هـ ، ولكن المشهور أن أول من كتب الحديث ابن شهاب الزهري القرشي، ولعل سبب ذلك أخذ أمراء بني أمية عنه(1)).

الرد عليه

        بعد أن رأينا موقف العلماء من الكتابة خلال القرن الأول الهجري وفي النصف الأول من القرن الثاني، وبعد أن وجدنا أدله علمية قاطعة تثبت وقوع التدوين في عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم وفي عصر الصاحبة والتابعين.

        بعد هذا لا يمكننا أن نقبل رأي الأستاذ الإمام وذلك من ناحيتين:

        الأولى : إذا اعتبرنا التدوين الشخصي الخاص بكل عالم ـ فإن كثيرين من الصحابة والتابعين سبقوا خالدا في هذا المضمار، وحافظوا على ما كتبوه، فابن عمرو حفظ صحفه في صندوق له حلق، وغيره في كراريس ودفاتر، كهمام بن منبه، وابن شهاب، فمجرد وجود علم خالد ابن معدان في مصحف له أزرار لا يكفي لأن يكون أول من دون الحديث في عصره.

        الثانية: إذا عتبرنا التدوين الرسمي للحديث استجابة لرغبة عمر بن عبد العزيز فقد سبق خالدا إلى التدوين أبو بكر بن حزم وابن شهاب الزهري، وقد ثبت أن ابن شهاب كتب لعمر الحديث في دفاتر وزعت على كل أرض له عليها سلطان.

        فخالد لم يكن أول من صنف، سواء أكان هذا التصنيف خاصا أم رسميا، فهناك من سبقه في جمع الحديث، ويمكننا أن نعتبر صحف خالد من أولى الصحف التي ضمت علمه في ذلك القرن.

        وإذا كان المشهور أن ابن شهاب الزهري أول من كتب الحديث ـ فإن هذا محمول على تنفيذه أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز، لا لأن أمراء بني أمية أخذوا عنه، لأن أخذ الأمراء عنه لا يؤثر في الأدلة الأخرى التي تثبت استجابته لأمر الخليفة وتدوينه الحديث في دفاتر، وقد كتب كثيرا من حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم في أثناء طلبه العلم.

        وهذا يدل علي أسبقية ابن شهاب على غيره في التدوين ومع هذا فهناك من دون قبله ـ بشكل غير رسمي ـ وحفظ علمه في صحف واعتنى بصحفه وحرص عليها من الضياع، فقد ثبت لدينا أن كثيرًا قبل ابن شهاب وقبل خالد بن معدان كتبوا الحديث وحفظوه في كل ما تيسر لديهم من وسائل، ورغبة منهم في حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من الضياع أو التحريف.
--------------------
(1) - مجلة المنار :ص754ج10

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رأي الشيعة في تدوين الحديث
        قال المرجع الديني الأكبر السيد حسن الصدر(1272-1354هـ) : (وقد وهم الحافظ الجلال السيوطي في كتابه تدريب الراوي، حيث زعم أن ابتداء تدوين الحديث وقع في رأس المائة، قال: أما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع في رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز بأمره، ففي صحيح البخاري في أبواب العلم: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم...قال في فتح الباري، يستفاد من هذا ابتداء تدوين الحديث النبوي ، ثم أفاد أن أول من دونه بأمر عمر بن عبد العزيز ابن شهاب. انتهى ما في تدريب الراوي،

        قلت"السيد حسن الصدر": كانت خلافة عمر بن عبد العزيز سنتين وخمسة أشهر مبدؤها عاشر صفر سنة ثمان أو تسع وتسعين ومات سنة إحدى ومائة لخمس أول ست مضين وقيل لعشر بقين من رجب ، ولم يؤرخ زمان أمره ولا نقل ناقل امتثال أمره بتدوين الحديث في زمانه، والذي ذكره الحافظ ابن حجر من باب الحدس والاعتبار ، لا عن نقل العمل بأمره بالعيان، ولو كان له عند أهل العلم بالحديث أثر بالعيان لما نصوا أن الإفراد لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان على رأس المائتين، كما اعترف به شيخ الإسلام وغيره..

        قال"ابن حجر": إلى أن رأَى بعض الأئمة أن تفرد أحاديث النبس -صلى الله عليه وسلم- خاصة، وذك في رأس المائتين وعدد جماعة...

        وكذلك الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ نص أن أول زمن التصنيف وتدوين السنن وتأليف الفرو -بعد انقراض دولة بني أمية وتحول الدولة إلى بني العباس...ولا يقاس بالذهبي غيره في الخبرة بالتواريخ في أمثال هذه الأمور، فلم يذكر ما ذكره السيوطي، بل كل من كتب في الأوائل من علماء السنة لم يذكره، اللهم إلا أن يقال باستبعاد عدم الأخذ بقول مثل عمر بن عبد العزيز فلعله جمع بعده فلا يكون الحكم بجمعه في رأس المائة من القول السديد المحقق، عصمنا الله تعالى من التسرع في القول(1)).

الرد عليه

        أقول إن ما ذكره السيوطي ليس وهماً بل حقيقة علمية ، كما تبين لنا من البحث.

        وأما قصر مدة خلافة عمر بن عبد العزيز، وعدم تأريخ زمن أمره فإنه لا ينافي استجابة العلماء لأمر الخليفة، وأما أنه لم ينقل هذا فاقل فهذا حكم يناقض الدليل، فقد كثر الناقلون، ونص ابن عبد البر على أن ابن شهاب امتثل لأمر الخليفة وكتب الحديث في دفاتر، وبعث الخليفة إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا(2).

        ولم يكن ما ذكره ابن حجر من باب الحدس والتخمين، ثم إن ما ذكره علماء الحديث من أن إفراد تدوين حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان على رأس المائتين –لا ينافي قط تدوينه استجابة لأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز.

        ونحن لا نشك في أن بعض المدونات الأولى في عصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي عصر الصحابة كانت خالية من فتاوى الصحابة، وأقوى دليل على هذا الصحيفة الصادقة، والصحيفة الصحيحة، وإن كان بعض المصنفين قد كتب عمل الصحابة وفتاواهم إلى جانب الحديث فهذا لا ينافي كونهم دونوا الحديث على رأس المائة الأولي وقبلها.

        واستشهاده بما ذكره الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ لا يجدي نفعاً، لأن الحافظ الذهبي لخص الحالة في القرن الأول ، ولم يدرس التدوين دراسة موضوعية تفصيلية، ومع هذا نراه يذكر في تراجم من صنف من العلماء أنهم أول من صنفوا في بلادهم، وليس من المفروض على الذهبي أن يفصل في التدوين لأن تذكرته في رجال الحديث، لا في علم الحديث ومصطلحه.

        وأما أن أحداً من الأوائل الذين كتبوا في الحديث وعلومه -لم يذكر ما ذكره الجلال السيوطي، فهذا مردود ما كشف عنه بحثنا، فقد ذكر ذلك الرامهرمزي، وبين سبب كراهة من كره الكتابة في الصدر الأول، وجمع بين أحاديث السماح بالكتابة والنهي عنها، وإذا كان الرامهرمزي لم ينقل إلينا النص كالسيوطي حرفياً، فقد ذكر ما يفهم منه أن بعض العلماء كانوا قد دونوا في القرن الأول،(3) كما بين اهتمام عمر بن عبد العزيز بنشر السنة والمحافظة عليها(4).

        ووضع الخطيب البغدادي كتابه (تقييد العلم) لعرض سير التدوين في العصر الأول، وبين كثيرًا مما خفي على الناس، وأثبت أن بعض طلاب العلم وأهله قد مارسوا التدوين في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعده.

        وروى أبو عبيد القاسم بن سلام (157-224هـ) بسنده عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، قال: (لما استخلف عمر بن عبد العزيز أرسل إلى المدينة يلتمس كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصدقات وكتاب عمر بن الخطاب.... فنسخا له (5)).

        فما أظن بعد هذا أن يدعي إنسان أن أمر عمر بن عبد العزيز لم ينفذ أو لم يؤخذ به، فما ذهب إليه علماء الحديث من أن ابتداء تدوين الحديث وقع في رأس المائة الأولى ليس من باب الحدس والتسرع بالقول، وحمل قولهم هذا على التدوين الرسمي الذي تبنيه الدولة، أما التدوين الشخصي والفردي فكان منذ عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

        بعد ما ذكره السيد حسن الصدر قال:(إذ عرفت هذا فاعلم أن الشيعة أول من تقدم في جمع الآثار والأخبار، في عصر النبي المختار عليه وعليهم الصلاة والسلام ، واقتدوا بإمامهم أمير المؤمنين عليه السلام).

        ثم ذكر كتابًا لعلي رضي الله عنه كان عظيماً مدرجاً، وذكر صحيفته المعلقة بسيفه، ثم ذكر كتاباً لأبي رافع مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سماه "كتاب السنن والأحكام والقضايا"، وقد توفي أبو رافع في أول خلافة علي رضي الله عنه، قال السيد حسن الصدر:(وأول خلافة علي أمير المؤمنين سنة خمس وثلاثين من الهجرة، فلا أقدم من أبي رافع في التأليف بالضرورة(6)).

        أقول: إذا صح هذا الخبر فإن أبا رافع يكون ممن دون في عصر الصحابة، وقد سبقه عبد الله بن عمرو الذي كتب في عهده -صلى الله عليه وسلم- ، وإذا صح هذا الخبر وكان كتابه مرتباً على الأبواب: (الصلاة والصيام والحج والزكاة والقضايا)كما ذكر السيد حسن الصدر، كان لأبي رافع شرف الأولوية في التأليف لا في التدوين، وصحة هذا لا تحملنا على أن ننفي ما ثبت تاريخياً من أخبار التدوين في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز.
-------------------
(1) -تأسيس علوم الشيعة ص278ـ279.
(2) -انظر جامع بيان العلم وفضله ص76ج1.
(3) - انظر المحدث الفاصل ص71:آ-71:ب.
(4) -انظر المرجع السابق ص153:آ.
(5) - الأموال ص358-359.
(6) -تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ص279-280 وقد نقل عن الشيخ أبي العباس النجاشي ما ذكره عن أبي رافع ، ثم قال السيد حسن الصدر: وأول من صنف في الآثار مولانا أبو عبد الله سلمان الفارسي(ر) ..وأول من صنف الحديث والآثار بعد المؤسسين أبو ذر الغفاري صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وله كتاب الخطبة يشرح فيها الأمور بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكره الشيخ أبو جعفر الطوسي في الفهرست ، ثم يذكر كتابا لعبيد الله بن ابي رافع في قضايا أمير المؤمنين وكتاب تسمية من شهد مع أمير المؤمنين الجمل وصفين والنهروان من الصحابة ، ثم ذكر بعض أخبار الكتب لأشخاص طعن فيهم أهل السنة كالحارث بن عبد الله الأعور الهمداني، أو أخبار كتب لم تثبت عند أهل السنة، انظر تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ص282وما بعدها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رأي المستشرقين في تدوين الحديث
        لقد عرفنا أن المسلمين حفظوا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في صدورهم وصحفهم، فساهمت الذاكرة والأقلام والصحف والدفاتر في حفظ السنّة المطهرة، وسار الحفظ في الصدور وفي الصحف جنباً إلى جنب في سبيل هذه الغاية.

        ورأينا مراحل التدوين الفردي والرسمي، وثبت لنا وقوع التدوين في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي عصر الصحابة والتابعين بأدلة قاطعة لا يرقى إليها الشك، ولا يعتريها الظن، وعرفنا أن ضرورة حفظ الحديث لم تنتظر خلافة عمر بن عبد العزيز وإذنه ، بل دعت إلى تدوينه قبله بكثير، وكان لعمر بن عبد العزيز شرف مساهمة الدولة في تبني هذا التدوين والإشراف عليه، وتحريك همم العلماء للجمع والتصنيف ، الذي ظهرت بوادره في النصف الأول من القرن الثاني ، ونضجت ثماره في المصنفات الكثيرة التي أخرجها أوائل المصنفين في مختلف بلاد الدولة الإسلامية آنذاك.

        بعد هذا لن نؤخذ بما وصل إليه المستشرقون وأعلنوه من أن السنة قد دونت في عصر مبكر، ولن نقع فيما نصبه بعضهم من شراك خلف بحوثهم، وإن ظهرت بعض أبحاثهم في ثوب علمي نقي.

        فقد كتب "جولد تسيهر" فصلاً خاصاً حول كتابة الحديث في كتاب "دراسات إسلامية" أتى فيه بأدلة كثيرة على تدوين الحديث في أول القرن الهجري الثاني، وكان في الفصل الأول من كتابه (قد سرد طائفة من الأخبار، تشير إلى بعض الصحف التي دوّنت في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، ولكنه حاطها بكثير من التشكك في أمرها، والريبة في صحتها) .

        وقد رمى بهذا إلى غرضين:

        أحدهما: إضعاف الثقة باستظهار السنة وحفظها في الصدور، لتعويل الناس منذ القرن الهجري الثاني على الكتابة.

        والآخر: وصْم السنة كلها بالاختلاف والوضع على ألسِنة المدونين لها، الذين لم يجمعوا منها إلا ما يوافق أهواءهم، ويعبر عن آرائهم ووجهات نظرهم في الحياة...

        وحاول المستشرق "سوفاجيه" في كتابه "الحديث عند العرب" أن يفند المعتقد الخطأ عن وصول السنة بطريق المشافهة وحدها، وجمع أدلة كثيرة على تدوين الأحاديث والتعويل على هذا التدوين في عصر مبكر يبدأ أيضاً في مطلع القرن الهجري الثاني، وليس في حياة الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وغايته لا تختلف في شيء عن غاية جولد تسيهر)(1).

        ويقول الدكتور "صبحي الصالح": (وأما "دوزي" فلعله يخدع برأيه المعتدل كثيراً من علمائنا، فضلاً عن أوساط المتعلمين فينا، فقد كان هذا المستشرق يعترف بصحة قسم كبير من السنة النبوية التي حفظت في الصدور ، ودوّنت في الكتب بدقة بالغة، وعناية لا نظير لها،"وما كان يعجب لكثير من الموضوعات والمكذوبات تتخلل كتب الحديث ـ .

        فتلك كما يقول طبيعة الأشياء نفسها ـ بل للكثير من الروايات الصحيحة الموثوقة التي لا يرقي إليها الشك، ( ونصف صحيح البخاري على الأقل جدير بهذا الوصف عند أشد المحدثين غلواً في النقد)، مع أنها (2)، تشتمل على أمور كثيرة يود المؤمن الصادق لو لم ترد فيها"(3).

        فلم يكن غرض هذا المستشرق خالصًا للعلم والبحث المجرد حين مال إلى الاعتراف بصحة ذلك النصيب الكبير من السنة، وإنما كان يفكر أولاً وآخراً فيما اشتملت عليه هذه السنة الصحيحة من نظرات مستقلة في الكون والحياة والإنسان، وهي نظرات لا يدرأ عنها استقلالها النقد والتجريح، لأنها لم تنبثق من العقل الغربي المعجز، ولم تصور حياة الغرب الطليقة من كل قيد (4)).

        وعثر المستشرق (شبرنجر) على كتاب "تقييد العلم" للخطيب البغدادي فوجد فيه شواهد وأخبارًا تدل على تدوين المسلمين للحديث في عصر مبكر، فكتب مقالاً حول ما وجده.

        واطّلع (جولد تسيهر) على ما كتبه سلفه (شبرنجر) وأيد فكرة كتابة المسلمين للحديث في عصر مبكر، إلا أنه : تأمل في الأخبار التي عرضها سلفه "شبرنجر" نقلاً عن الخطيب البغدادي وغيره، فوجدها تارة تقول بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أجاز كتابة العلم، وطوراً تدعي بأنه نهى عنها، وتذكر مرة أن الصحابة حضوا عليها، ثم لا تلبث أن تروي كراهتهم لها، وتَعْرِض كَتْبَ بعض التابعين للعلم، ثم تذكر استنكاف بعضهم الآخر ـ .

        رأى ذلك فظن بهذه الأخبار سوءاً، وأراد أن يرى خلالها يد الوضع والتزوير، فتصور حزبين متناضلين اتخذا من هذه الأخبار سلاحًا يذود كل منهما به عن رأيه ، ويدفع خصمه فقال: إن أهل الرأي ـالذين اعتمدوا في وضع فروع الشريعة على عقلهم، وأهملوا شأن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ـ كان من حججهم أن الحديث لم يكتب دهراً طويلاً، فغابت معالمه، وتشتّت أمره، وأيّدوا رأيهم بأخبار اختلقوها، تثبت أنه لم يكتب، ولم يقف خصومهم "أهل الحديث " واجمين ، بل فعلوا فعلتهم واختلقوا الأخبار تأييداً لقولهم، فنسبوا إلى الرسول –صلى الله عليه وسلم- أحاديث في إباحة الكتابة(5)).

        هكذا رأى جولد تسيهر أهل الرأي يدعون عدم كتابة الحديث، فيضعون من الأخبار ما يثبت دعواهم، وأهل الحديث يرون جواز تقييد العلم، فيضعون ما يثبت دعواهم، ليحتجوا بصحة ما لديهم من أحاديث في خلافاتهم الفقهية، أراد جولد زيهر أن يصور علماء الأمة ومفكريها، حزبين متعصبين لآرائهم ، يستجيزون الكذب في سبيل ذلك !! فساء ما تصوره وبئس ما انتهى إليه.

        وقد قيض الله لكتاب " تقييد العلم " أن ينشر في دمشق، ويحقق تحقيقاً علميا دقيقاً، على يدي أستاذنا الدكتور "يوسف العش"، الذي درس أخباره دراسة عميقة، ثم قدم للكتاب المذكور بتصدير علمي قيم، كشف فيه عن خطأ جولد تسيهر في رأيه (حين قال : إن من ادّعى عدم جواز الكتابة هم أهل الرأي، وأن مخالفيهم هم من أهل الحديث :

        " قال الدكتور العش" ـ: فالخلاف لم يكن بين هاتين الفئتين، لأن من أهل الرأي من امتنع عن الكتابة كعيسي بن يونس(-187هـ) وحماد بن زيد (-179هـ) وعبد الله بن إدريس(-192هـ) وسفيان الثوري(-161هـ) وبينهم من أقرها كحماد بن سلمة (-167هـ) والليث بن سعد (-175هـ) ،وزيد بن قدامة (-161هـ) ويحيى بن اليمان (189هـ) وغيرهم، ومن المحدثين من كره الكتابة كابن علية(-200هـ) وهشيم بن بشير (-183هـ) وعاصم بن ضميرة(-174هـ) وغيرهم ، ومنهم من أجازها كبقية الكلاعي( -197هـ) وعكرمة بن عمار(-159هـ) ومالك بن أنس(-179هـ) وغيرهم(6).

        بهذه البراهين القوية نقض الدكتور العش رأي جولد زيهر وقوض كل ما بناه على رأيه من صور وهمية، وبين بعد البحث والتأمل (أن ليس من أوصاف مشتركة توحد بين أصحاب إحدى الطائفتين، فليس الفريقان حزبين اتفق أفرادهما في الرأي ، واستعدوا لخوض المعركة متضامنين، يناصر بعضهم بعضاً، إنما تمسكوا برأيهم عن عقيدة نفسية، أو عن ميول شخصية، أو عن ذوق خاص، أو عن عادة مستحكمة، وعندنا أن الطائفتين المتخاصمتين متفقتان بالغاية ، ولو أنهما تشاحنتا في القول، فكلتاهما تبغي الدفاع عن العلم والتقدم به(7)).

        بعد تلك الأخبار عن التدوين وحرص الأمة على سلامة الحديث النبوي، لا يمكننا أن نسلم بما ذهب إليه المستشرقون ، وخاصة بعد أن ظهر أمرهم على ضوء ما بيّنّاه، فالسنة حفظت منذ عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الصدور، وقيّد بعضها في الصحف، وكانت محل اعتناء المسلمين في مختلف عصورهم، فتناقلوها جيلاً عن جيل؛ حفظاً ودراسة بالمشافهة والكتابة، واجتهدوا وسعهم لحفظ الحديث بأسانيده في مصنفات ومسانيد تكفل لأهل العلم معرفة القوي من الضعيف ، خشية تسرب الكذب إلى حديثه -صلى الله عليه وسلم- .

        ثم اجتهد كبار العلماء في جمع الحديث الصحيح على أسلم قواعد التثبت العلمي، فرحلوا في طلب ذلك، وسمعوا بأنفسهم، وتثبتوا وسعهم، وكتبوا بأيديهم، فظهرت الكتب المجردة من الضعيف وأجمعت الأمة الإسلامية ـ التي فهمت الإسلام واتخذته سبيلها في مختلف وجوه حياتها ـ على صحة (صحيح البخاري) ، (صحيح مسلم).

        فإذا اعترف المستشرقون ببعض الحقيقة العلمية، وأقروا جانباً مما أثبتته المصادر الإسلامية ، فلا يجوز لنا على أي حال أن نقبل ما ذهبوا إليه من طعن في صحاح السنة، باسم طبيعة تطور الرواية أو غير ذلك، كما لا يجوز لنا أيضاً أن نقبل منهم إضعاف ثقتنا باستظهار السنة وحفظها، ما دام قد ثبت تقييد بعض الحديث منذ عهده -صلى الله عليه وسلم-، فلا تعارض بين حفظ الحديث وكتابته، ولا يقتضي وجود أحدهما انعدام الآخر أو ضعفه.
------------------
(1)- انظر هذا البحث في علوم الحديث ومصلحه للدكتور صبحي الصالح ص23-30.
(2) -أي الروايات الصحيحة.
(3) - أشار الدكتور صبحي الصالح في هامش الصفحة 26 إلى أن عبارة دوزي في الأصل أوقح من أن يوردها على حالها وأحال على الأصل بالفرنسية.
(4) - علوم الحديث ومصطلحه ص26.
(5) - مجلة الثقافة المصرية العدد 351 السنة السابقة الصفحة 22-23 من مقالة أستاذنا الدكتور يوسف العش " نشأة تدوين العلم في الإسلام".
(6) - تقييد العلم ص21-22 وأنظر مقالة الدكتور العش في مجلة الثقافة المصرية العدد 353 السنة السابعة الصفحة :9: 10.
(7) - مجلة الثقافة المصرية العدد 353 السنة السابعة الصفحة 10.

=========
المصدر :
انظر كتاب " السنة قبل التدوين" للدكتور / محمد عجاج الخطيب

وانظر كتاب البداية والنهاية لابن كثير