زيارة القبور
زيارة القبور مستحبة للرجال لما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن عبد الله بن بريدة عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها. فإنها تذكركم الاخرة» وكان النهي ابتداء لقرب عهدهم بالجاهلية، وفي الوقت الذي لم يكونوا يتورعون فيه عن هجر الكلام وفحشه، فلما دخلوا في الإسلام واطمأنوا به وعرفوا أحكامه، أذن لهم الشارع بزيارتها: وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «استأذنت ربي أن استغفر لها، فلم يؤذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي. فزوروها، فإنها تذكر الموت» رواه أحمد ومسلم وأهل السنن إلا الترمذي.
ولما كان المقصود من الزيارة التذكر والاعتبار، جاز زيارة قبور الكفرة لهذا المعنى نفسه، فإن كانوا ظالمين وأخذهم الله بظلمهم، استحب البكاء واظهار الافتقار إلى الله عند المرور بقبورهم وبمصارعهم، لما رواه البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه - يعني لما وصلوا الحجر - ديار لثمود - «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم».
.صفة الزيارة:
إذا وصل الزائر إلى القبر استقبل وجه الميت وسلم عليه ودعا له، وقد جاء في ذلك:
1- عن بريدة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أنتم فرطنا ونحن لكم تبع، ونسأل الله لنما ولكم العافية» رواه أحمد ومسلم وغيرهما.
2- وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: «السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالاثر» رواه الترمذي.
3- وعن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها، يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. اللهم اغفر لاهل بقيع الغرقد» رواه مسلم.
4- وروى عنها قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: «قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون».
وأما ما يفعله بعض من لاعلم لهم، من التمسح بالاضرحة وتقبيلها والطواف حولها، فهو من البدع المنكرة، التي يجب اجتنابها ويحرم فعلها، فإن ذلك بالكعبة زادها الله شرفا.
ولا يقاس عليها قبر نبي ولا ضريح ولي والخير كله في الاتباع، والشر كله في الابتداع.
قال ابن القيم: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا زار القبور يزورها للدعاء لاهلها والترحم عليهم والاستغفار لهم.
فأبى المشركون إلا دعاء الميت والاقسام على الله به وسؤاله الحوائج والاستعانة به، والتوجه إليه، بعكس هديه صلى الله عليه وسلم، فإنه هدي توحيد وإحسان إلى الميت، وهدي هؤلاء شرك وإساءة إلى نفوسهم وإلى الميت، وهم ثلاثة أقسام إما أن يدعوا للميت، أو يدعوا به، أو عنده، ويرون الدعاء عنده أولى من الدعاء في المساجد، ومن تأمل هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تبين له الفرق بين الأمرين.
.زيارة النساء:
رخص مالك وبعض الأحناف ورواية عن أحمد وأكثر العلماء، في زيارة النساء للقبور، لحديث عائشة: كيف أقول لهم يارسول الله - أي عند زيارتها للقبور -.
وقد تقدم عن عبد الله بن أبي مليكة، أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن فقلت لها: أليس كان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ قالت نعم.
كان نهى عن زيارة القبور، ثم أمر بزيارتها رواه الحاكم والبيهقي وقال: تفرد به بسطام بن مسلم البصري.
وقال الذهبي: صحيح.
وفي الصحيحين عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بامرأة عند قبر تبكي على صبي لها، فقال لها: «اتقي الله، واصبري»، فقالت: وما تبالي بمصيبتي.
فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها مثل الموت، فأتت بابه، فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يارسول الله، لم أعرفك.
فقال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» ووجهة الاستدلال أن الرسول صلى الله عليه وسلم رآها عند القبر فلم ينكر عليها ذلك.
ولان الزيارة من أجل التذكير بالاخرة، وهو أمر يشترك فيه الرجال والنساء، وليس الرجال بأحوج إليه منهن.
وكره قوم الزيارة لهن لقلة صبرهن وكثرة جزعهن، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله زوارات القبور» رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه.
قال القرطبي: اللعن المذكور في الحديث إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من المبالغة.
ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج.
وما ينشأ من الصياح، ونحو ذلك.
وقد يقال: إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الاذن لهن، لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء.
قال الشوكاني - تعليقا على كلام القرطبي -: وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر