«... وقد بلغني أن أقواماً يقولون في إمارة أسامة، ولعمري لئن قالوا في إمارته لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله، وإن كان أبوه لخليقاً بالإمارة وإنه لخليق لها، فانفذوا بعث أسامة».
هكذا قال الحبيب المصطفى وهو فى مرضه الأخير يعانى شدة المرض , هكذا خرج عليهم وهو لا يستطيع حتى إمامة الناس فى الصلاة
هكذا خرج المصطفى لأصحابه رافضا اعتراضهم وعدم موافتهم على تامير أسامة بن زيد على جيش المسلمين المتوجه إلى فلسطين
ولما ولى الصديق الخلافة وانشغل المسلمون بحروب الردة ومانعى الزكاة إعترض صحابة الرسول على خروج الجيش حتى لا ينقسم جيش الاسلام فرفض أبو بكر وأمر أن لا يبقى أحد من جند أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجُرف
والسؤال الآن : هل ما فعله صحابة الرسول هو تقليل من إيمانهم وعدم طاعتهم للرسول ؟
بالعكس ما فعلوه هو قمة الطاعة وقمة الايمان وقمة الفهم لحيقة الاسلام ومعنى اتباع السنة ومعنى استعمال الشريعة فى خدمة امور الامة
الصحابة علمهم النبى أن يستعملوا عقولهم فى فهم الشريعة ، وكما علمهم ان يؤمنوا عن اقتناع فى العهد المكى كذلك علمهم أن العقل هو مناط التكليف فى امور الشريعة
علم النبى اصحابه أن يستعملوا عقولهم فيما ليس بوحى فيقول الحباب بن المنذر بن الجموح فى غزوة بدر: يا رسول الله، منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتعداه ولا نقصر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال رسول الله: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة". قال الحباب: يا رسول الله، ليس بمنزل ولكن انهض حتى تجعل القلب كلها من وراء ظهرك، ثم غور كل قليب بها إلا قليبًا واحدًا، ثم احفر عليه حوضًا، فنقاتل القوم ونشرب ولا يشربون، حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله: "قد أشرت بالرأي
لو كان الصحابة لا يعتزون بآرائهم والتى هى مطلب شرعى لا جدال فيه لما رأينا الصحابة يختلفون ويتناقشون ويتحاورون على أول خليفة للمسلمين فى سقيفة بنى ساعدة
أى عظمة وأية عقول تلك ؟
هذه العقول وهذا الفهم للشريعة هو الذى بنى أعظم حضارة عرفتها البشرية , وهى التى جعلت حاكمهم يوما يقف مزهوا وينادى السحابة فى السماء : أينما تمطرين فسيأتينى خراجك
من المهم أن نعرف كيف نفهم الشريعة
هناك قاعدة فقهية تقول الوسائل التى تؤدى إلى الواجب ولا يتم الواجب إلا بها فهى واجب
بمعنى إذا كان نصر الأمة واجب فالوسائل التى تؤدى إليها واجب أيضا
ولا أعتقد أن أمة يمكن لها أن تتقدم دون نهضة علمية وثقافية وفكرية
هذه الوسائل - وهى النهضة العلمية - ما دامت فى الحكم الواجب بل والفرض فهى كالصلاة المفروضة فى حكمها فهى تقدم مثلا على سنن الصلاة وبقية السنن كالعمرة وصلاة القيام وصيام السنن
والخطأ الذى وقع فيه كثير من الدعاة عدم فهمهم لحقيقة العلم ومنزلته وجعلوا جل إهتمامهم بالعلم الشرعى وهم لا يعلمون أن العلم التجريبى جزء لا يتجزأ من العلم الشرعى
فمثلا كيف لى كمتخصص شرعى أن أتجاهل كمة الآيات التى تتحدث عن العلم بفروعه المختلفة كونية وطبية وفيزيائية وكيميائية وغيرها ؟
ومن العجب العجاب أنهم أخذوا يتناحرون على بند واحد فى الدستور والأغرب أنه بند محسوم ، بل والأغرب كنا نتجادل فى فرعيات بشكل غريب وكما قال الشيخ محمد الغزالى : نتجادل فى فرعيات والغرب يتناقش فى أمور نهضوية
فيقول تعالى ( سخر لكم البحر ..) ( وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم ..) ( قل سيروا فى الأرض ) سخر لمن ؟ سخر لمن يبحث ويأخذ بالأسباب وليس لمن يجادل فى أمور فرعية
نستنبط من هذا :
أولا : انسياق العامة وراء شيخ او عالم او داعية أو سياسى لمجرد أن يقول رأيه الشخصى فى مسألة فهذا قمة الفهم الخاطئ للشريعة لان هذا الداعية او السياسى لن يكون أعظم من الصحابة الذين اختلفو ولن يكون أعظم من المصطفى خير الخلق والذى اخذ براى الحباب وهو فى الثلاثين من عمره
ثانيا : عدم فهمنا لقفه الاولويات هو قمة الفهم الخاطئ للشريعة بمعنى اذا كنا أثبتنا أن وسائل نهضة الأمة أصبحت فرضا فعدم الأخذ بها هى قمة المعصية .. ومن هذا نقول عدم إعطاء المجال لعلماء مصر فى الخارج والداخل وعدم الأخذ بآرائهم أثناء وضع الدستور وعدم عمل حوارات بناءة لتثقيف رجل الشارع البسيط على كل بند فى الدستور وبالتالى محو عقله ليحل محله عقل من يسير البلد كل ذلك عصيان لله وخروج على مفهوم الشريعة
انا على يقين ان مصر تحتاج الى العلماء والمفكرين فى هذه الفترة اكثر من احتياجها للدعاة
لماذا ؟ لأن وسائل نهضة الأمة والتى لن تتم دونهم هى فريضة شرعية لا جدال فيها ولا نقاش
ستوضع بنود الدستور , هل تم عمل ندوات ومؤتمرات حضرها علماء مصر فى الداخل والخارج وإذاعتها على الفضائيات ؟ لم يحدث هذا
كم عالما خارج مصر تمت دعوته لحضور ندوة أو مؤتمر لمناقشة نهضة علمية كل فى تخصصه ليتم الحوار والنقاش حتى نعرف كيف ستتم بلورة هذه الأفكار كبنود فى الدستور ؟
هل شاركنا بقية الشعب فى حوارات عن كيفية صنع النهضة العلمية وبلورتها فى شكل بنود دستورية ؟
كم مؤتمرا وكم برنامجا فى الفترة الماضية إذيعت فى وسائل الإعلام ؟
وكيف لا يتم إدراج عالم بحجم الدكتور أحمد زويل فى اللجنة التأسيسية للدستور ؟
كيف تسير مصر بهذه الطريقة ؟
وكيف لى كمواطن بسيط أن أصوت على بنود فى الدستور فى تخصصات لا ألم بها دون وجود تثقيف إعلامى لشهور قبل التصويت ؟
هل سيصبح الدستور سلق بيض ؟؟؟
أم ماذا ؟ أنا فى غاية الحيرة والقلق والضيق
قضية العلم والتعليم والبحث العلمى , الإقتصاد والتمويل للأبحاث العلمية والمعملية القضايا الإجتماعية والسياسية وغيرها
كيف نضمن ان دستورنا سيأخذ بيد الأمة إلى مشارف العالم الأول ؟
هل مستقبل الأمم يحدد بهذه الطريقة التى لا تمت إلى حقيقة الإسلام ولا إلى أدنى عقل
أود أن أشير إلى نقطة هامة لفتت انتباهى اليوم وذكرتنى بقضية الفزاعة التى كان يستخدمها النظام السابق والتى كان يهدد بها اى شخص يحاول ان يكون ملتزما دينيا والا اتهم بالارهاب
وأتذكر فى سنوات تعليم الاولى بالكلية والتى قضيتها بأسيوط قبل أن احول مسارى للقاهرة فكنا ونحن طلبة أشبه بسجن وكنا نسرق اوقات الصلاة حتى اننى اتذكر ان الامن منعنا من من صلاة الجمعة فى المسجد بحجة ان رئيس الوزراء فى زيارة لأسيوط ، ولم يكن احد منا يستطيع أن يجاهر بعبادته بحرية ، واتذكر كم تالمنا عندما قتل الامن زميلنا طالب الصيدلة بعد ان ساقوه الى مقابر الوليدية باسوط وتالمنا اكثر من الاعلام المجحف الظالم والذى صور زميلنا على انه ارهابى
هذه الفزاعة تستخدم اليوم من احزاب الاغلبية فى البرلمان
لقد سمعت اليوم الدكتور صفوت حجازى وهى شخصية اقدرها جدا لكنه اليوم استخدم نفس الفزاعة واخذ يصور كل من يقول رايه فى الدستور على انه ضد الاسلام وانه من حزب المصرين الاحرار وهذا الكلام الذى لا يمت الى معنى السياسة ولا الفطنة
فليس معنى اننى اختار شخصا فى البرلمان أو الحكومة الا اعترض على تصرفاته واسير خلفه بلا وعى ولا روية
فما شان ملاحظاتنا على الدستور بالاحزاب الليبرالية او غيرها ؟
المهم ادخل فى صلب الموضوع واقول فى عجالة :-
ميزانية البحث العلمي في أمريكا تقترب من 9%
والناتج المحلى فى الولايات المتحدة 14.624 تريليون
علما بأن التريليون يساوى ألف مليار دولار
ميزانية معمل أبحاث البحرية الأمريكية فقط 2و1 مليار دولار
وفى السويد فان ميزانية البحث العلمى 4% من الناتج المحلى والذى يبلغ 337,893 مليار دولار
ولنتأمل مثلا كوريا الجنوبية التى قامت في الفترة من 1990 الي 2000 بانفاق ميزانيتها بالكامل علي البحث العلمي والتعليم
وأخيرا أود أن أشير إلى ضخامة عدد الباحثين فى الدول الكبرى فمثلا بلغ عددهم فى الولايات المتحدة حوالى 1.3 مليون باحث تليها الصين بنحو 900ألف باحث وعندما أقول باحث فتساوى عندنا عالم لا يخرج من معمله
هذه المبالغ فى دول تسير بسرعة الصاروخ فما بالنا بمن يسير بسرعة ( الحمار ) معنى هذا أننا نحتاج الى اضعاف هذه المبالغ لسببين الاول حتى نقلص الفجوة بيننا وبينهم وثانيا حتى نساير التقدم العلمى العالمى
ولا يعقل بعد كل ذلك أن أحدهم يقول سوف نهزمهم بالايمان لأن الله تعالى يقول ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة .. ) ثم إن التقدم العلمى هو فى حد ذاته جزء لا يتجزء من الإيمان بل هو دعامته التى ترسخه
نحن الآن فى معضلة حقيقية لا نشعر بها
نتحدث عن علوم الفضاء ام علوم الذرة وبحورها العميقة نتحدث عن علوم الكيمياء ام الفيزياء ام علوم النبات ام الطاقة أم ماذا ؟ فأفرع العلوم تتوسع وتتشعب بطريقة لا يصدقها عقل ونحن ما زلنا نياما
سنداس تحت الأقدام ونباع فى أسواق العبيد بلا ثمن إن لم نبدأ من الآن على الطريق الصحيح وكفانا فهما خاطئا للاسلام
فقد ظلمنا إسلامنا وظلمنا قرآننا وظلمنا نبينا بعدم وعينا وبفهمنا المعوج
فهل سنشارك فى محاولة لفعل شئ ام اننا سنظل نعيش فى عالمنا الوردى وعالم الف ليلة وليلة
بقلم / دكتور أحمد كلحى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ