الحى
مع الاسم الواحد والخمسين من دروس أسماء الله الحُسنى، والاسم هو الحي القيوم.
الحي: اسمٌ من أسماء الله تعالى التي وردت في القرآن الكريم، والتي وردت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بد من أن نذكر القارىء الكريم بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
فأن تتعرف إلى أسماء الله الحُسنى فهذا يؤلف أكبر جزء من عقيدة المسلم، فلا يكفي أن تقول الله خلق السماوات والأرض، هذا الإيمان يستوي فيه الناس جميعاً على اختلاف اتجاهاتهم وانتماءاتهم، بل إن المقصرين، بل إن الكافرين، بل إن عباد الأوثان، بل إن إبليس، اعترف أن الله خلق السماوات والأرض ولكن التفاضل بين المؤمنين في معرفة أسماء الله الحُسنى؛ معانيها ومضامينها
لو أنك التقيت مع إنسان لا تعرف عنه شيئاً، قلت له عرفني عن ذاتك قال لك: أنا فلان، هل يكفي أن يذكر اسمه لتعرفه ؟.. بل أنت تريد أن تعرف ماذا يعمل ؟ ماذا يحمل من شهادات ؟ ماذا له من إنجازات؟ ما حجمه الاجتماعي ؟ ما حجمه الاقتصادي ؟ ما مستوى ذكائه؟.. أنت حينما تقول عرفني عليك، لا تقصد أن يخبرك باسمه الفلاني، بل تريد أكثر من اسمه، تريد كلّ إجابة عمّا سبق من أسئلة.
ضربت هذا المثل لأنتقل منه إلى حقيقة هي أن الذي يقول إن الله خلق السماوات والأرض، هذا الإيمان لا يكفي كي تستقيم على أمر الله فحجم الإيمان قد يكون أقل من قوة الشهوة.
لذلك يقع الإنسان في المعصية، لكن كلما زاد إيمان الإنسان بوجود الله، وأنه هو الفعال وبيده كل شيء، وهو الكامل وهو الواحد، والمصير كله إليه، وكل شيء بيده، هذا الإيمان كبر حجمه، وأصبح أكبر من شهوات الإنسان ؛ لذلك تصعب الاستقامة على ضعيفي الإيمان، وتهون على أقوياء الإيمان، فقوي الإيمان يستقيم بلا جهد لأنه يرى عظمة الله عز وجل والله سبحانه وتعالى حينما قال:
الاسم هو: الحي القيوم ؛ الحياة نقيض الموت، وشتان بين الحياة والموت، شتان بين إنسان ملء السمع والبصر، يتكلم، يتحدث، يبتسم يسأل، يجيب يفكر، يحاكم، ينتقل، يمشي، يعمل، وبين إنسان جثة هامدة ملقى على الطريق، شتان بين الحياة والموت، كما أن هناك فرقاً كبيراً بين الحياة والموت، فهناك فرق كبير بين قلب حي بذكر الله، وبين قلب ميت، قال تعالى:
الإنسان من دون إله يعبده، من دون إله ينيب إليه، من دون إله يلجأ إليه، من دون إله يحتمي به، من دون إله يطمئنه، حياته جحيم أكبر ما فيها القلق، الخوف من المجهول، الخوف من أحداث مستقبلية تظهر فجأة، متى يصاب بهذا المرض ؟ لا أحد يدري، وكلما ابتعد الإنسان عن ربه امتلأ قبله خوفًا.
سبعة وثمانون بالمائة من مواطني البلاد الغربية المتفوقة علمياً وحضارياً، يخاف وهو في البيت، ثمانون بالمائة لا يتجولون بعد غروب الشمس أبداً، ثلاثة وثلاثون بالمائة يرون أن كل قوى السلطة لا تحميهم، حياة القلق، حياة العذاب، قال تعالى:
إن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال، للكثيرين من خلقه ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين، هذه السكينة خاصة بالمؤمنين، والله أيها الإخوة الثراء إكرام ؛ إنكم لترَوْن في قلب المؤمن من السكينة، والطمأنينة، والرضا بقضاء الله وقدره، والشوق إلى لقياه، والراحة إلى قضائه، ما لو وزع على أهل بلد لكفاهم.
المؤمن سر، الله عز وجل يضع سره في المؤمن، ترى أن دخله أقل من حاجته، وتراه مطمئناً، وهناك من يخزن الذهب والعملات الصعبة وإذا حدث خطر فله ببلاد أخرى أرصدة ضخمة، ومع كل هذه الأرصدة ومع كل هذه الإمكانات، ومع كل هذه الاحتياطات، فإن الخوف يأكل قلبه.
لو سألتني عن قانون الخوف، أقول لك إنه الشرك، قال تعالى:
قفْ في شرفة بناء وانظر إلى الشارع المزدحم بالسيارات والمشاة كل هؤلاء سيكونون تحت أطباق الثرى بعد حين، وسوف يطويهم الموت، فحياتنا حياة مؤقتة، أما الحياة الحقيقية، الحياة الأبدية الدائمة، الحياة التي لا موت معها، حياة الدار الآخرة.
سمعت بعض الفنانين بمصر، ما ركب طائرة في حياته، خشية أن تقع فيموت، اعتنى بنظام غذائه عناية تفوق حد الخيال، يأكل يومًا سمكًا ويومًا دجاجًا، طعامه لحم خفيف، لحم أبيض، ومساءً فواكه، ومع كل هذه العناية والحرص، وذلك الحذر فقد مات.
وبصراحة، يكون إنسان ملء السمع والبصر، متألقاً، ذكياً، قوياً غنياً سيد بيته، أولاده أمامه متأدبون، وزوجته خاضعة له، فإذا مات ؛.. حزن شديد، بعد أسبوع، يفك الحزن، بعد أسبوعين يبتسمون، ثلاثة أسابيع يُرفع الشّعار الأسود، بعد شهرين أو ثلاثة وكأنه لم يكن، يقولون إذا ذكِر المرحوم لقد انتهى، وكل واحد منا على هذا الطريق وكأنه لم يكن، لذلك فإن الله فرق بين الحيوان والحياة قال تعالى:
استعرض حياة الناس.. زوجة جيدة، لكن أولاد سيئون.. أو أولاد جيدون وزوجة سيئة، أو زوجة جيدة أولاد جيدون لكن الدخل قليل، أو دخل كثير ولكن عقم من دون أولاد.. أو دخل كثير وله أولاد لكن الصحة متردية، والمرض يُنغّص حياته.
طبيعة الحياة الدنيا قائمة على المُنغِصات، لذلك حياتنا الدنيا ليست حياةً أرداها الله لنا.. أرادها الله لنا ممراً، أرادها الله لنا معبراً أرادها الله لنا مدرسةً، أرادها الله لنا إعداداً، ما أرادها الله لنا استقراراً ولا ركوناً ولا خلوداً.
فكل إنسان يتحرك حركةً خلاف تصميم الله عز وجل يشقى.. الحياة الدنيا حياة مفعمة بالمنغصات، هكذا أرادها الله، هكذا صممت، من أجل ألا تركن إليها، من أجل أن تجعلها منطلقاً ومعبراً، لذلك ورد في الحديث:
" أوحى ربك إلى الدنيا أنه من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه" .
حياك الله، يعني أبقاك حياً، لنستعرض ماذا تعني كلمة حياة ؛ أحيا الله الأرض، أخرج منها النبات، أحياها بالغيث أنزل عليها المطر، الحي في صفة الله تعالى هو الباقي.. فإذا قلنا الله حي يعني حياةً دائمةً، وإذا قلنا فلان حي حياته مؤقتة.. شيء قد يلفت النظر، قد يشترك الإنسان في صفة مع خالقه ؛ الله حي والإنسان حي، ولكن يجب أن يؤمن إيماناً يقينياً أنه " ليس كمثله شيء".. كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك.. إذا قلت الله حي، يعني حياة دائمة باقية، هو الباقي، فلان حي حياة مؤقتة.
النقطة الثانية ؛ الحي في صفة الله أنه باقٍ حياً بذاته، أما أنت وأنا وكل واحد منا حي لا بذاته، بل بإمداد الله له، فإذا قطع الله الإمداد صار جثةً هامدة، والواحد منا ألف سبب يسلبه حياته ويجعله خلال لحظة ميتاً.. ساعة سكتةٌ دماغية، ساعة سكتة قلبية، ساعة اضطراب بكهرباء القلب اختلف النظم ومات الإنسان، فإذا انتابتْه نوبة خفقان أذيني شديد يموت باسترخاء القلب، مئةوثمانون ضربه وبعدها يرتخي القلب ثم يموت الإنسان.
فالله عز وجل حي بذاته، حياته ليست مستمدة من جهة أخرى نحن حياتنا نستمدها منه، عمر الإنسان بعمر شرايينه، عمره متعلق بقلبه وشرايينه ودسامات قلبه، متعلق بجهازه العصبي، متعلق بعمل الدماغ، متعلق بالكليتين.. لو أن البول احتبس في الكليتين ست ساعات تتوقف الكليتان، وإذا توقفت الكليتان ينتهي الإنسان، لا يعيش الإنسان ثلاث ساعات من دون كبد، إذا تشمع تشمعاً كاملاً خلال ثلاث ساعات يموت الإنسان.
مرةً التقيت مع إنسان شديد الأذى للناس، والأذى في طبعه، قال بعض الشعراء في وصفه، ووصف أمثاله من الناس:
المؤمن الصادق، أي إنسان أمامه يراه عبداً لله، دون أن تعرف من هو فإذا أردت أن تتقرب إلى الله فقدم لهذا الإنسان خدمةً، والله وحده يجازيك. قال تعالى:
أحياناً الخدمة تكلفه هاتفاً، يريد " لحسة " يعني مالاً يتقاضاه مقابل هاتفه مثلاً، وأحياناً الخدمة تكلفه بطاقة، توصية كلمة، أحياناً تكلفه غض بصر فقط، ولكنه لا يرحمك، لا يرحمك إلا بمبلغ فوق طاقتك، تشعر بأنك ذبحت، حتى يرحمك، ليس له أجرٌ إطلاقاً، لأنها خدمة بأجر.
حياتنا غير ذاتية، حياتنا متوقفة على أجهزة كثيرة إذا توقف أحدها نموت.. فالإنسان عندما يكون مضطجعاً ويقف فجأة يضطرب جسمه بشكل لا يصدق، يأتي أمر عن طريق شوارد معينة في الدم، تضيق كل شرايين الجزء العلوي في الإنسان، لأن الإنسان إذا كان نائماً ثم وقف فجأةً، فالدم بحكم الجاذبية يهبط إلى الأسفل، فما الذي يبقي الدم في الرأس.. لو أن الدم نقص في الرأس يصاب الإنسان بالدوار ويقع.. إذا تقدم الإنسان في السن فإن نهض من السرير قد يصيبه الغثيان لأن جهاز ضبط الوقوف بعد الاستلقاء ضعف قليلاً.
فأنا لا أعرف كم جهازٍ في الجسم إذا تعطل أحدها تصبح حياة الإنسان جحيماً لا يطاق، حياتنا ليست من ذاتنا، حياتنا متوقفة على إمداد الله لنا، على حفظه لنا.
حدّثني مرّة أحد أطباء العيون فقال: العين فيها ماء، وهناك غدة تغذي هذا الماء كما أنّ هناك مصرفًا لهذا الماء، فالماء الذي يفيض من الغدّة يضاف إلى ماء العين، وهو يتناسب تماماً مع ما يخرج من ماء العين، وللعين ضغط وقد يقيس الطبيب ضغط العين، فإذا وجد الضغط مناسباً فالوضع سليم، إذا كان هذا المصرف مسدوداً والتغذية مستمرة يزداد الضغط وقد تسبب عمى، وقد تسبب أمراضاً وبيلة في الإنسان.. يعني حياتنا، استخدامنا لعينينا فلو أنّ ذرة بحجم الهباب وقفت في مجرى تصريف ماء العين، لَغَيَّرَ الدمع كرة العين ولانتابها خلط مائي، لكن هناك غدّة تغذي لتجديد الماء، وهناك مكان يصرف وبهذا تبقى العين سليمة، ويبقى الإنسان سعيدًا بسلامة عينه.
فيا ترى كم جهازًا إذا تعطل تصبح حياتنا جحيماً فليعلم كلّ منا أنّ حياتنا غير أصيلة في وُجودها، وحياتنا ليست من ذواتنا، أما في الجنة، إذا أكرمنا الله في الجنة فحياة ما بعدها موت ولا يعروها مرض، ولا يخامرها خوف، ولعل الله سبحانه وتعالى أراد أن يضاعف سعادتنا في الجنة أضعافاً مضاعفة إذا تفضّل الله علينا بدخولها، وإذا قبل منا عملنا، وإذا عفا عنا.. فإذا سمح الله لمؤمن أن يدخل الجنة.. فالسعادة في الجنة أضعاف مضاعفة، فما كان من أعراض تنتابه في الدنيا كالقلق والخوف والمرض والحزن والانحدار المريع نتيجة تقدّم السنّ ليس له وجود في الجنة إذ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
قال لي مرةً أخٌ: " كنت من خمسين سنة أنشط مما أنا عليه الآن " قلت له طبعاً الشاب مثلا يصعد أربع درجات معاً في سلّم البناء، أما الكبير فدرجةً، درجةً، ترى إنساناً متقدماً بالسن ماشياً ببطء، ولقد كان شاباً زمنًا طويلا ثمّ تقدمت به السن، وكل إنسان على هذا الطريق الإجباري سائر، وليس له اختيار.
إذا قلنا: إن الله حي أي متصف بالحي اة الأبدية، لا بداية لها ولا نهاية لها، هو الباقي أزلاً وأبداً، والحي الذي لا يموت، لأن الذي يجوز عليه الموت حكم عليه بأنه ميِّت، دقق باللغة، قال تعالى:
الآن على الأرض ستّة آلاف مليون إنسان فمن زمن آدم إلى يوم القيامة كم إنسانًا ؟.. الله أعلم، وإذا إنسان واحد من هؤلاء البشر يظلم فالله عز وجل ليس عادلاً، لأن عدله مطلق وليس نسبياً، أما أي قاضٍ إذا فصل في 999 حكمًا وكان في واحدٍ منها ظالماً فاسمه عادل، ولو أنه فصل في 90بالمائة من قضاياه وكان عادلاً في عشرة منها ظلماً خطأً منه أو عدم إدراك الحقيقة اسمه عادل، والإنسان نسبي، يقال فلان مرتب فترتيبه نسبي، فلان نظيف، نظافة نسبية، فلان دقيق، دقة نسبية، فلان كريم، فكرمه نسبي، فالإنسان نسبي، أما الله عز وجل فهو مطلق، معنى مطلق، أي إذا قال الله تعالى:
لذلك فالإنسان العاقل يربط مصيره مع الله، ولا يعتنق إلا مبدأ الله ولا ينضم إلا إلى أهل الله، ولا يتحرك إلا وفق الحق، لأن الحق هو الله، وإذا استقام على أمر الله، فالله هو الحافظ، وإذا كان في ظل الله فالله هو الذي يؤيده وينصره،فكل إنسان ربط مصيره مع الله فهو السعيد حقًّا، هو الذي يتفوق ويفوز.
زلت في الحديث عن معنى كلمة الحي، الحي هو دائم الحياة الذي له البقاء المطلق، فأقول:
هو الذي لم يسبق وجوده عدم ولا يلحق بقاءه فناء، أيّ إنسان بالتاريخ القريب والبعيد ربط مصيره بإنسان، فلما وقع هذا الإنسان وقع معه ولما انهار انهارَ معه، فمغامرة ومقامرة، أن تربط مصيرك بمصير مخلوق يموت، أما بطولتك وذكاؤك وتفوقك ونجاحك في الحياة أن تربط مصيرك بالحي الذي لا يموت، فكل إنسان لو مات إنسان وكان مع الحي الذي لا يموت فهو لمْ يمُتْ. قال تعالى:
هم يسمعوني كما تسمعوني أنتم، فالحياة دائمة، والموت عبارة عن ثوب خلعته فقط، أنت أنت، مشاعرك ثقافتك، ذكرياتك، إقبالك معرفتك بالله هي هي، إلا أن الثوب الذي تلبسه نزع عنك وصار هناك ثوب آخر، لذلك خط المؤمن البياني صاعد حتى عند الموت يبقى صاعداً، وما الموت إلا نقطة على الخط الصاعد.
بصراحة أقول لكم: الزمن ليس في صالح الكافر، بل هو في صالح المؤمن، مضي الزمن، فالكافر كل البيض في سلة واحدة وضعه، كل أهدافه في الدنيا، كل سعادته في المال والشهوات والنساء والسهرات والحفلات، كل إنجازه مادي، فكلما تقدم به الزمن ضعفت قدرته على الاستمتاع بالحياة، فحركة الزمن ليست في صالح الكافر، لأن مضي الزمن أولاً يضعف قدرته على المتعة، يضعف قدرته على الاستمتاع بالحياة الدنيا، بالطيبات بالطعام بالشراب بالنساء، لذلك عنده قلق عميق يخشى الموت، يخشى ما يرتبط بالموت، يكره القرآن لأنه يُقرأ على الأموات، يكره بعض النباتات لأنها توضع على القبور.
أغرب شيء كنت مرةً في لبنان وجدت محلاً ضخماً يبيع لوازم الموتى يسمونه صالة كبيرة، لا أحد يرغب بأن يدخل لهذا المكان، إلا طبعاً التجار الذين يتعاملون مع هذه المواد.
فالموت لغير المؤمن مخيف جداً، نهاية حتمية، أما المؤمن مضي الزمن لصالحه، فكلما امتد به العمر قربه من سعادته المطلقة، كلما امتد به العمر قربه من لقاء الله عز وجل، كلما امتد به العمر قربه من عرسه، وكلما امتد به العمر قربه من تحفته التي هي الموت.
ما قولك في أنّ بعض الناس ينخلع قلبه ذكر الموت ؟ بينما بعضهم يتمنى لقاء الله عز وجل ؟! تصور أن النبي عليه الصلاة والسلام، لما خيّره جبريل بين أن يبقى حيًّا في الدنيا وبين أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى، قال بل الرفيق الأعلى ماذا رأى النبي ؟ فعندما تكون حياة الإنسان بذلاً واستقامة وعطاء وخدمة للناس والتزاماً بالشرع وورعاً، وهو يحيى ليرضي الله عز وجل فالموت عند هذا جزء من سعادته العظمى، لذلك هؤلاء الذين يأتيهم الموت وهم على طهارة يأتيهم بأحب الناس إليهم على الإطلاق، وموتهم نوع من السعادة لذلك قال الله عز وجل:
لذلك قال تعالى:
الحي، قال بعض العلماء: " هو الموجود الواجب الوجود ".
من المعلوم، أنّه في أبحاث مر معنا في العقيدة، من هو واجب الوجود، وما هو ممكن الوجود، وما هو مستحيل الوجود، فالكون كله ممكن الوجود، والله واجب الوجود.
وقال بعضهم: " الحي هو الباقي من أزل الأزل إلى أبد الأبد "، وأنت معه والأزل هو عمق الوجود ودوامه في الماضي، والأبد هو دوام الوجود وبقاؤُه في المستقبل.
وقيل: الحي الذي ليس لحياته زوال والذي لا يموت، والإنس والجن يموتون، قال تعالى:
الفعَّال ؛ الدَّرَّاك، والدراك صيغة مبالغة من الإدراك، يعني أن علمه مطلق، وفعله مطلق، وهو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم.
أحياناً مدير دائرة تمر عليه ألف قضية من وراء ظهره، بذكاء تمرُّ من تحته، لا يشعر، ليس عنده إمكانية أن يعرف ما يجري بغير الغرفة التي هو فيها، تأتيه معلومات، من داوم ومن لم يداوم، يتفق موظف مع مراقب الدوام، يسجله موجودًا بينما هو مسافر، فأحياناً تجد إنسانًا على أعلى درجة من الذكاء وتمر عليه ألف قضية دون أن يعلم.
الإمام الغزالي يقول الحي ؛ هو الفعال، الدَّرَّاك، يعني على كل شيء قدير وبكل شيء عليم، يعني قدرته متعلقة بكل ممكن، وعلمه متعلق بالواجب والممكن والمستحيل.
يقول القشيري، الحي ؛ " هو الله تعالى حي، وحياته صفة من صفاته زائدة على بقائه، فهو دائم البقاء الذي لا سبيل إلى فنائه ".
اسم الحي القيوم ورد في القرآن خمس مرات، ورد في البقرة في آية الكرسي، وهي سيّدة آي القرآن، وأعظم آية فيه، قال تعالى:
قد ترى سياره ثمنها خمسة ملايين، عشرة ملايين شاحنة ضخمة هَوَتْ جانبًا، بل تحطَّمَت، فكل من سافر إلى حلب مثلا يشاهد حادثين أو ثلاثة، فالسيارات هوَتْ وانقلبَت لأنّ صاحبها نائم " النوم سلطان وقدرته نافذة، فالله عز وجل لا تأخذه سنة ولا نوم أما نحن فبني البشر فنصف عمرنا نوم. لكن الله :
الله هو الموجود، وكلما وحد الإنسان ربّه كثيرًا أحبه الله أكثر، والمؤمن لا يعبأ بأحد، أديب مع الناس كلهم، يحترمهم جميعاً، يخدمهم جميعاً أما قلبه لا يعلقه إلا بالله، هذا هو التوحيد، الله يغار، إن رأى قلبك مع غيره، هذا الغير ضايقك بإلهام من الله من أجل أن تفك ارتباطك معه فلتكن ذكياً ولا تعلق قلبك إلا بالله مباشرةً، وعامل الناس بالإحسان.
تحدثت مرةً عن بحث خطير جداً.. هناك حبٌ في الله وحب مع الله، الحب في الله من كمال الإيمان، فأنا أحب إخواني لأنني أحب الله أحب أخي المؤمن لأنني أحب الله، أحب زوجتي لأنها مستقيمة لأنني أحب الله أحبها، أما إذا أحببتها مع الله، يعني نفذت أمرها وعصيت الله، إذا أحببت إنساناً مع الله، أرضيته ولم ترض الله فقد هويْت منزلقًا، الحب مع الله عين الشرك والحب في الله من كمال الإيمان، يجب أن تفرق بدقة بالغة بين أن تحب مع الله، وبين أن تحب في الله.
محبة النبي محبة في الله، محبة أهل الحق محبة في الله، محبة إخوانك في الإيمان محبة في الله، محبة أهلك وأولادك محبة في الله أما إذا أطعت مخلوقاً وعصيت الخالق، بدافع الحب، فهذا حب مع الله وهو عين الشرك.
قصة مشابهة ؛ روى القشيري أن رجلاً قال: إن صديقي فلاناً مات فمن كثرة ما بكيت عليه ذهب بصري، فقيل له إن الذنب ذنبك حيث أحببت الحي الذي يموت، هلا أحببت الحي الذي لا يموت حتى كنت تستغني عن البكاء على صديقك.
وبعد فالإنسان يحب من حوله، يحب زوجته وأولاده وإخوانه، ثم يأتيه ملك الموت، سيبقى في القبر وحيداً، أشد الناس حباً له يشيعه حتى شفير القبر، طبعاً النساء يودعنه في المنزل، أما أولاده فوداعهم إلى شفير القبر يلقون عليه النظرة الأخيرة، ولكن بعد أن يضع الحفار تلك الرقاقة وبعد أن يهيل التراب، وينصرف الناس، من بقي مع هذا الإنسان الحي الذي لا يموت هو الذي لا يبقى.
يقول لك: أنا من أجل أولادي لم أدفع زكاة مالي، لن ينجو من عذاب الله، ومن أجل ولد معين لم يعدل بين بقية أولاده لقي الله وهو عليه غضبان.
هل من إنسان يستاهل أن ترضيه وأن تسخط الله عز وجل ؟ هل من إنسان على وجه الأرض يستاهل أن ترضيه بسخط الله ؟ فمن يعتقد مثل هذا ويتصرف بغير الهوى من الله فهو أحمق.
أعرف آباء كثيرين من أجل بقاء المال مع الذكور يحرمون الإناث ويلقى الله وهو عليه غضبان، فهل أولاده ينفعونه أو يدفعون عنه عند الله عز وجل
سئل ابنٌ عاق إلى أين تذهب ؟ قال: ذاهب لأسكر على روح والدي.. السكر على روح والده، ترك له أبوه ثروة طائلة وحرم بناته، فهل نفعه هذا الولد بعد الموت.
لذلك ليس من مخلوق على ظهر الأرض يستأهل أن ترضيه بسخط الله.. في الأرض كلها.. أرض الله ولا تعبأ بأحد.
مع الاسم الواحد والخمسين من دروس أسماء الله الحُسنى، والاسم هو الحي القيوم.
الحي: اسمٌ من أسماء الله تعالى التي وردت في القرآن الكريم، والتي وردت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بد من أن نذكر القارىء الكريم بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ))
وفرق كبير بين من يعدها وبين من يحصيها، فالعد شيء، والإحصاء شيء آخر، فالعد كمي وأي إنسان بإمكانه أن يعدها وأن يحفظها، لكن الإحصاء شيء آخر أن تقف عندها اسماً اسماً، أن تتعرف إلى مضمون الاسم، ماذا تعني كلمة الحي ؟.. ماذا تعني كلمة القيوم؟.. وهكذا بقية الأسماء الحسنى.فأن تتعرف إلى أسماء الله الحُسنى فهذا يؤلف أكبر جزء من عقيدة المسلم، فلا يكفي أن تقول الله خلق السماوات والأرض، هذا الإيمان يستوي فيه الناس جميعاً على اختلاف اتجاهاتهم وانتماءاتهم، بل إن المقصرين، بل إن الكافرين، بل إن عباد الأوثان، بل إن إبليس، اعترف أن الله خلق السماوات والأرض ولكن التفاضل بين المؤمنين في معرفة أسماء الله الحُسنى؛ معانيها ومضامينها
لو أنك التقيت مع إنسان لا تعرف عنه شيئاً، قلت له عرفني عن ذاتك قال لك: أنا فلان، هل يكفي أن يذكر اسمه لتعرفه ؟.. بل أنت تريد أن تعرف ماذا يعمل ؟ ماذا يحمل من شهادات ؟ ماذا له من إنجازات؟ ما حجمه الاجتماعي ؟ ما حجمه الاقتصادي ؟ ما مستوى ذكائه؟.. أنت حينما تقول عرفني عليك، لا تقصد أن يخبرك باسمه الفلاني، بل تريد أكثر من اسمه، تريد كلّ إجابة عمّا سبق من أسئلة.
ضربت هذا المثل لأنتقل منه إلى حقيقة هي أن الذي يقول إن الله خلق السماوات والأرض، هذا الإيمان لا يكفي كي تستقيم على أمر الله فحجم الإيمان قد يكون أقل من قوة الشهوة.
لذلك يقع الإنسان في المعصية، لكن كلما زاد إيمان الإنسان بوجود الله، وأنه هو الفعال وبيده كل شيء، وهو الكامل وهو الواحد، والمصير كله إليه، وكل شيء بيده، هذا الإيمان كبر حجمه، وأصبح أكبر من شهوات الإنسان ؛ لذلك تصعب الاستقامة على ضعيفي الإيمان، وتهون على أقوياء الإيمان، فقوي الإيمان يستقيم بلا جهد لأنه يرى عظمة الله عز وجل والله سبحانه وتعالى حينما قال:
﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)﴾
وكلمة إنما دقيقة جداً، فهي كلمة تفيد الحصْر، مما يعني أن العلماء وحدهم ولا أحد سواهم يخشون الله، إذاً ما من طريق إلى طاعة الله، وإلى خشيته، وإلى الاستقامة على أمره إلا أن تعرفه، فكلما عرفته خشعت له، كلما نمت معرفتك نمت استقامتك، وكأن مؤشر الاستقامة يتحرك مع مؤشر العلم والمعرفة بشكل دائم.الاسم هو: الحي القيوم ؛ الحياة نقيض الموت، وشتان بين الحياة والموت، شتان بين إنسان ملء السمع والبصر، يتكلم، يتحدث، يبتسم يسأل، يجيب يفكر، يحاكم، ينتقل، يمشي، يعمل، وبين إنسان جثة هامدة ملقى على الطريق، شتان بين الحياة والموت، كما أن هناك فرقاً كبيراً بين الحياة والموت، فهناك فرق كبير بين قلب حي بذكر الله، وبين قلب ميت، قال تعالى:
﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)﴾
قال تعالى:
﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)﴾
قال تعالى:
﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)﴾
آيات كثيرة تؤكد أن الذي لم يعرف الله عز وجل ميت، وأن القلب يحيا بذكر الله:
﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾
يحيا القلب بذكر الله ويطمئن بذكر الله، والإنسان المعاصر يفقد شيئاً ثميناً جداً وهو الطمأنينة، حوله كل شيء لكن عليه يحيط به ألف خطر، خطر السرطان، ولا بد من فحْص، وخطر بقيّة الأمراض، وخطر الحوادث أيضًا، لذلك تنمو شركات التأمين بنمو القلق في النفوس.الإنسان من دون إله يعبده، من دون إله ينيب إليه، من دون إله يلجأ إليه، من دون إله يحتمي به، من دون إله يطمئنه، حياته جحيم أكبر ما فيها القلق، الخوف من المجهول، الخوف من أحداث مستقبلية تظهر فجأة، متى يصاب بهذا المرض ؟ لا أحد يدري، وكلما ابتعد الإنسان عن ربه امتلأ قبله خوفًا.
سبعة وثمانون بالمائة من مواطني البلاد الغربية المتفوقة علمياً وحضارياً، يخاف وهو في البيت، ثمانون بالمائة لا يتجولون بعد غروب الشمس أبداً، ثلاثة وثلاثون بالمائة يرون أن كل قوى السلطة لا تحميهم، حياة القلق، حياة العذاب، قال تعالى:
﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)﴾
أطعمك من جوع وآمنك من خوف، والأمن نعمة لا تعدلها نعمة لا يحوزها إلا المؤمن حصراً، والدليل:
﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)﴾
للمؤمنين وحدهم، لذلك إذا آمنت بالله، وإستقمت على أمره، ولُذتَ بحماه وأويت إلى جنابه فأول ثمرة من ثمرات الإيمان أن الله يدخلك في رحمته، ويطمئن قلبك.. فهناك أشخاص قلوبهم بأعلى درجة من النشاط أوردتهم شراينهم دماغهم أعصابهم، ومع ذلك فهو يقول لك أجريتُ فحوصاً كاملة.. إن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال، للكثيرين من خلقه ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين، هذه السكينة خاصة بالمؤمنين، والله أيها الإخوة الثراء إكرام ؛ إنكم لترَوْن في قلب المؤمن من السكينة، والطمأنينة، والرضا بقضاء الله وقدره، والشوق إلى لقياه، والراحة إلى قضائه، ما لو وزع على أهل بلد لكفاهم.
المؤمن سر، الله عز وجل يضع سره في المؤمن، ترى أن دخله أقل من حاجته، وتراه مطمئناً، وهناك من يخزن الذهب والعملات الصعبة وإذا حدث خطر فله ببلاد أخرى أرصدة ضخمة، ومع كل هذه الأرصدة ومع كل هذه الإمكانات، ومع كل هذه الاحتياطات، فإن الخوف يأكل قلبه.
لو سألتني عن قانون الخوف، أقول لك إنه الشرك، قال تعالى:
﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)﴾
الشرك يعني الخوف، قال تعالى:
﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)﴾
فالله عز وجل حي، والحي نقيض الميت، الحياة نقيض الموت، ورد في القرآن الكريم كلمة الحي وان وتعني جنس الحياة قال تعالى:
﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)﴾
أصل الحياة في القرآن يعني الحي وان قال تعالى:
﴿ وَمَا هَذِهِ الحياةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحيوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
أي هو دار الحياة الدائمة، حياتنا في الدنيا حياة مؤقتة، كل إنسان له عمر، فكل هؤلاء الذين على الأرض بعد مئتي عام لا ترى منهم أحداً، فالخمسة آلاف مليون إنسان لا تجد بعد مئتي عام منهم أحداً في كل القارات الخمس.قفْ في شرفة بناء وانظر إلى الشارع المزدحم بالسيارات والمشاة كل هؤلاء سيكونون تحت أطباق الثرى بعد حين، وسوف يطويهم الموت، فحياتنا حياة مؤقتة، أما الحياة الحقيقية، الحياة الأبدية الدائمة، الحياة التي لا موت معها، حياة الدار الآخرة.
سمعت بعض الفنانين بمصر، ما ركب طائرة في حياته، خشية أن تقع فيموت، اعتنى بنظام غذائه عناية تفوق حد الخيال، يأكل يومًا سمكًا ويومًا دجاجًا، طعامه لحم خفيف، لحم أبيض، ومساءً فواكه، ومع كل هذه العناية والحرص، وذلك الحذر فقد مات.
عش ما شئت فإنك ميت وأحبب ما شئت فإنك مفارق
واعمل ما شئت فإنك مجزي به
***
واعمل ما شئت فإنك مجزي به
***
كل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت.
الليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر
والعمر مهما طال فلا بد من نزول القبر.
***
حياتنا في الدنيا غير حقيقية، حياة مجازية، حياة مؤقتة، لأنه يعقبها موت، يعقبها زوال، يعقبها عدم.الليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر
والعمر مهما طال فلا بد من نزول القبر.
***
وبصراحة، يكون إنسان ملء السمع والبصر، متألقاً، ذكياً، قوياً غنياً سيد بيته، أولاده أمامه متأدبون، وزوجته خاضعة له، فإذا مات ؛.. حزن شديد، بعد أسبوع، يفك الحزن، بعد أسبوعين يبتسمون، ثلاثة أسابيع يُرفع الشّعار الأسود، بعد شهرين أو ثلاثة وكأنه لم يكن، يقولون إذا ذكِر المرحوم لقد انتهى، وكل واحد منا على هذا الطريق وكأنه لم يكن، لذلك فإن الله فرق بين الحيوان والحياة قال تعالى:
﴿ وَمَا هَذِهِ الحياةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحيوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
الحياة الحقيقية، الحياة الخالية من كل نغص، هل منا أحد ليس لديه منغصات ؟ هذه سنة الله في الحياة الدنيا: " إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح من عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى..".استعرض حياة الناس.. زوجة جيدة، لكن أولاد سيئون.. أو أولاد جيدون وزوجة سيئة، أو زوجة جيدة أولاد جيدون لكن الدخل قليل، أو دخل كثير ولكن عقم من دون أولاد.. أو دخل كثير وله أولاد لكن الصحة متردية، والمرض يُنغّص حياته.
طبيعة الحياة الدنيا قائمة على المُنغِصات، لذلك حياتنا الدنيا ليست حياةً أرداها الله لنا.. أرادها الله لنا ممراً، أرادها الله لنا معبراً أرادها الله لنا مدرسةً، أرادها الله لنا إعداداً، ما أرادها الله لنا استقراراً ولا ركوناً ولا خلوداً.
فكل إنسان يتحرك حركةً خلاف تصميم الله عز وجل يشقى.. الحياة الدنيا حياة مفعمة بالمنغصات، هكذا أرادها الله، هكذا صممت، من أجل ألا تركن إليها، من أجل أن تجعلها منطلقاً ومعبراً، لذلك ورد في الحديث:
(( إن أشقى الناس فيها أرغبهم فيها، وإن أسعد الناس فيها أرغبهم عنها ))
اتركها تأتك، أقبل عليها تَفر منك." أوحى ربك إلى الدنيا أنه من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه" .
حياك الله، يعني أبقاك حياً، لنستعرض ماذا تعني كلمة حياة ؛ أحيا الله الأرض، أخرج منها النبات، أحياها بالغيث أنزل عليها المطر، الحي في صفة الله تعالى هو الباقي.. فإذا قلنا الله حي يعني حياةً دائمةً، وإذا قلنا فلان حي حياته مؤقتة.. شيء قد يلفت النظر، قد يشترك الإنسان في صفة مع خالقه ؛ الله حي والإنسان حي، ولكن يجب أن يؤمن إيماناً يقينياً أنه " ليس كمثله شيء".. كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك.. إذا قلت الله حي، يعني حياة دائمة باقية، هو الباقي، فلان حي حياة مؤقتة.
النقطة الثانية ؛ الحي في صفة الله أنه باقٍ حياً بذاته، أما أنت وأنا وكل واحد منا حي لا بذاته، بل بإمداد الله له، فإذا قطع الله الإمداد صار جثةً هامدة، والواحد منا ألف سبب يسلبه حياته ويجعله خلال لحظة ميتاً.. ساعة سكتةٌ دماغية، ساعة سكتة قلبية، ساعة اضطراب بكهرباء القلب اختلف النظم ومات الإنسان، فإذا انتابتْه نوبة خفقان أذيني شديد يموت باسترخاء القلب، مئةوثمانون ضربه وبعدها يرتخي القلب ثم يموت الإنسان.
فالله عز وجل حي بذاته، حياته ليست مستمدة من جهة أخرى نحن حياتنا نستمدها منه، عمر الإنسان بعمر شرايينه، عمره متعلق بقلبه وشرايينه ودسامات قلبه، متعلق بجهازه العصبي، متعلق بعمل الدماغ، متعلق بالكليتين.. لو أن البول احتبس في الكليتين ست ساعات تتوقف الكليتان، وإذا توقفت الكليتان ينتهي الإنسان، لا يعيش الإنسان ثلاث ساعات من دون كبد، إذا تشمع تشمعاً كاملاً خلال ثلاث ساعات يموت الإنسان.
مرةً التقيت مع إنسان شديد الأذى للناس، والأذى في طبعه، قال بعض الشعراء في وصفه، ووصف أمثاله من الناس:
أنا حرٌ ومذهب كل حر مذهبي ما كنت بالغاوي ولا المتعصب
يأبى فؤادي أي يميل إلى الأذى حب الأذية من طباع العقـرب
لي أن أرد مساءة بمســاءة لو أنني أرضى بظرف خلبـي
حسب المسيء شعوره ومقالـه في سره يا ليتني لم أذنـــب
***
فمرة التقيت مع إنسان شعرت أنه يحب الأذى، كلما أوقع الأذى بإنسان شعر بنشوة، أردت أن أعظه وأن أضيق عليه لعله يرعوي، قلت له، إن الله عنده السرطان في كل أنحاء الجسم، بدءاً من الجلد إلى الدم إلى العظام إلى الأحشاء، إلى الدماغ.. والله عنده تشمع كبد، وعنده فشل كلوي، وعنده اضطراب نظم، ذكرت له أمراضاً وبيلة، كل مرض ينخلع القلب له، وهؤلاء الذين أمامك كلهم عباده، فإذا أسأت إليهم انتقم منك فانتبه.يأبى فؤادي أي يميل إلى الأذى حب الأذية من طباع العقـرب
لي أن أرد مساءة بمســاءة لو أنني أرضى بظرف خلبـي
حسب المسيء شعوره ومقالـه في سره يا ليتني لم أذنـــب
***
المؤمن الصادق، أي إنسان أمامه يراه عبداً لله، دون أن تعرف من هو فإذا أردت أن تتقرب إلى الله فقدم لهذا الإنسان خدمةً، والله وحده يجازيك. قال تعالى:
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)﴾
هذا الإله العظيم، يقول لك أقرضني، أقرضني بخدمة أحد عبادي أما الآن من ضعف الإيمان، وانهماك الإنسان بالمال، غدًا لا يتحرك بلا مال ولا يردّ لهفة ملهوف إلا بمال أحياناً الخدمة تكلفه هاتفاً، يريد " لحسة " يعني مالاً يتقاضاه مقابل هاتفه مثلاً، وأحياناً الخدمة تكلفه بطاقة، توصية كلمة، أحياناً تكلفه غض بصر فقط، ولكنه لا يرحمك، لا يرحمك إلا بمبلغ فوق طاقتك، تشعر بأنك ذبحت، حتى يرحمك، ليس له أجرٌ إطلاقاً، لأنها خدمة بأجر.
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾
اخدم العباد، وابتغ هذا العمل عند رب العباد، أعط العباد مما أعطاك الله ولا تخش لومة لائم ؛ أجل لا تخشَ فالله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.حياتنا غير ذاتية، حياتنا متوقفة على أجهزة كثيرة إذا توقف أحدها نموت.. فالإنسان عندما يكون مضطجعاً ويقف فجأة يضطرب جسمه بشكل لا يصدق، يأتي أمر عن طريق شوارد معينة في الدم، تضيق كل شرايين الجزء العلوي في الإنسان، لأن الإنسان إذا كان نائماً ثم وقف فجأةً، فالدم بحكم الجاذبية يهبط إلى الأسفل، فما الذي يبقي الدم في الرأس.. لو أن الدم نقص في الرأس يصاب الإنسان بالدوار ويقع.. إذا تقدم الإنسان في السن فإن نهض من السرير قد يصيبه الغثيان لأن جهاز ضبط الوقوف بعد الاستلقاء ضعف قليلاً.
فأنا لا أعرف كم جهازٍ في الجسم إذا تعطل أحدها تصبح حياة الإنسان جحيماً لا يطاق، حياتنا ليست من ذاتنا، حياتنا متوقفة على إمداد الله لنا، على حفظه لنا.
حدّثني مرّة أحد أطباء العيون فقال: العين فيها ماء، وهناك غدة تغذي هذا الماء كما أنّ هناك مصرفًا لهذا الماء، فالماء الذي يفيض من الغدّة يضاف إلى ماء العين، وهو يتناسب تماماً مع ما يخرج من ماء العين، وللعين ضغط وقد يقيس الطبيب ضغط العين، فإذا وجد الضغط مناسباً فالوضع سليم، إذا كان هذا المصرف مسدوداً والتغذية مستمرة يزداد الضغط وقد تسبب عمى، وقد تسبب أمراضاً وبيلة في الإنسان.. يعني حياتنا، استخدامنا لعينينا فلو أنّ ذرة بحجم الهباب وقفت في مجرى تصريف ماء العين، لَغَيَّرَ الدمع كرة العين ولانتابها خلط مائي، لكن هناك غدّة تغذي لتجديد الماء، وهناك مكان يصرف وبهذا تبقى العين سليمة، ويبقى الإنسان سعيدًا بسلامة عينه.
فيا ترى كم جهازًا إذا تعطل تصبح حياتنا جحيماً فليعلم كلّ منا أنّ حياتنا غير أصيلة في وُجودها، وحياتنا ليست من ذواتنا، أما في الجنة، إذا أكرمنا الله في الجنة فحياة ما بعدها موت ولا يعروها مرض، ولا يخامرها خوف، ولعل الله سبحانه وتعالى أراد أن يضاعف سعادتنا في الجنة أضعافاً مضاعفة إذا تفضّل الله علينا بدخولها، وإذا قبل منا عملنا، وإذا عفا عنا.. فإذا سمح الله لمؤمن أن يدخل الجنة.. فالسعادة في الجنة أضعاف مضاعفة، فما كان من أعراض تنتابه في الدنيا كالقلق والخوف والمرض والحزن والانحدار المريع نتيجة تقدّم السنّ ليس له وجود في الجنة إذ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
قال لي مرةً أخٌ: " كنت من خمسين سنة أنشط مما أنا عليه الآن " قلت له طبعاً الشاب مثلا يصعد أربع درجات معاً في سلّم البناء، أما الكبير فدرجةً، درجةً، ترى إنساناً متقدماً بالسن ماشياً ببطء، ولقد كان شاباً زمنًا طويلا ثمّ تقدمت به السن، وكل إنسان على هذا الطريق الإجباري سائر، وليس له اختيار.
إذا قلنا: إن الله حي أي متصف بالحي اة الأبدية، لا بداية لها ولا نهاية لها، هو الباقي أزلاً وأبداً، والحي الذي لا يموت، لأن الذي يجوز عليه الموت حكم عليه بأنه ميِّت، دقق باللغة، قال تعالى:
﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)﴾
الذي تنتهي حياته إلى الموت هو في حكم الميِّت، أما إذا مات فعلاً يسمى مَيْت، ميِّت أي سيموت وميْت مات فعلاً.
﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)﴾
فكل منا ميّت، أي محكوم عليه بالموت مع وقف التنفيذ، أما إذا قلنا فلان ميْت أي مات حقيقةً، ونحن إذا قلنا عن أنفسنا أحياء، حياتنا مزورة، لأننا ميّتون بأمر الله، ميتون بقضاء الله، ميتون بأصل وجودنا على وجه الأرض، قال تعالى:
﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾
الحي هو دائم الحياة له البقاء المطلق، الإنسان مهما عاش لابد من أن يموت، فحياته مقيّدة بعمره، أما من له البقاء المطلق هو الله عز وجل كلمة مطلق كبيرة جداً، ومدلولها واسع واسع.الآن على الأرض ستّة آلاف مليون إنسان فمن زمن آدم إلى يوم القيامة كم إنسانًا ؟.. الله أعلم، وإذا إنسان واحد من هؤلاء البشر يظلم فالله عز وجل ليس عادلاً، لأن عدله مطلق وليس نسبياً، أما أي قاضٍ إذا فصل في 999 حكمًا وكان في واحدٍ منها ظالماً فاسمه عادل، ولو أنه فصل في 90بالمائة من قضاياه وكان عادلاً في عشرة منها ظلماً خطأً منه أو عدم إدراك الحقيقة اسمه عادل، والإنسان نسبي، يقال فلان مرتب فترتيبه نسبي، فلان نظيف، نظافة نسبية، فلان دقيق، دقة نسبية، فلان كريم، فكرمه نسبي، فالإنسان نسبي، أما الله عز وجل فهو مطلق، معنى مطلق، أي إذا قال الله تعالى:
﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً(49)﴾
فلا يظلم أبدًا حتى ولا عصفورًا واحدًا، ولا دابة، فالله عز وجل مطلق، الحي هو دائم الحياة له البقاء المطلق، والإنسان عندما يربط وجوده أو سعادته أو أهدافه، أو مصالحه بإنسان يموت فقد ارتكب حماقة كبيرة، الإنسان إذا ربط سعادته بإنسان يموت، فسعادته منوطة بهذا الإنسان فإذا مات مات معه.لذلك فالإنسان العاقل يربط مصيره مع الله، ولا يعتنق إلا مبدأ الله ولا ينضم إلا إلى أهل الله، ولا يتحرك إلا وفق الحق، لأن الحق هو الله، وإذا استقام على أمر الله، فالله هو الحافظ، وإذا كان في ظل الله فالله هو الذي يؤيده وينصره،فكل إنسان ربط مصيره مع الله فهو السعيد حقًّا، هو الذي يتفوق ويفوز.
زلت في الحديث عن معنى كلمة الحي، الحي هو دائم الحياة الذي له البقاء المطلق، فأقول:
هو الذي لم يسبق وجوده عدم ولا يلحق بقاءه فناء، أيّ إنسان بالتاريخ القريب والبعيد ربط مصيره بإنسان، فلما وقع هذا الإنسان وقع معه ولما انهار انهارَ معه، فمغامرة ومقامرة، أن تربط مصيرك بمصير مخلوق يموت، أما بطولتك وذكاؤك وتفوقك ونجاحك في الحياة أن تربط مصيرك بالحي الذي لا يموت، فكل إنسان لو مات إنسان وكان مع الحي الذي لا يموت فهو لمْ يمُتْ. قال تعالى:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)﴾
أنا لا أنسى في السيرة موقف النبي عليه الصلاة والسلام لما خاطب قتلى بدر من الكفار، خاطبهم بأسمائهم واحداً واحداً، يا فلان يا فلان يا فلان: " هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً، لقد كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، قالوا أتخاطب قوماً جيفوا ؟ قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ".هم يسمعوني كما تسمعوني أنتم، فالحياة دائمة، والموت عبارة عن ثوب خلعته فقط، أنت أنت، مشاعرك ثقافتك، ذكرياتك، إقبالك معرفتك بالله هي هي، إلا أن الثوب الذي تلبسه نزع عنك وصار هناك ثوب آخر، لذلك خط المؤمن البياني صاعد حتى عند الموت يبقى صاعداً، وما الموت إلا نقطة على الخط الصاعد.
بصراحة أقول لكم: الزمن ليس في صالح الكافر، بل هو في صالح المؤمن، مضي الزمن، فالكافر كل البيض في سلة واحدة وضعه، كل أهدافه في الدنيا، كل سعادته في المال والشهوات والنساء والسهرات والحفلات، كل إنجازه مادي، فكلما تقدم به الزمن ضعفت قدرته على الاستمتاع بالحياة، فحركة الزمن ليست في صالح الكافر، لأن مضي الزمن أولاً يضعف قدرته على المتعة، يضعف قدرته على الاستمتاع بالحياة الدنيا، بالطيبات بالطعام بالشراب بالنساء، لذلك عنده قلق عميق يخشى الموت، يخشى ما يرتبط بالموت، يكره القرآن لأنه يُقرأ على الأموات، يكره بعض النباتات لأنها توضع على القبور.
أغرب شيء كنت مرةً في لبنان وجدت محلاً ضخماً يبيع لوازم الموتى يسمونه صالة كبيرة، لا أحد يرغب بأن يدخل لهذا المكان، إلا طبعاً التجار الذين يتعاملون مع هذه المواد.
فالموت لغير المؤمن مخيف جداً، نهاية حتمية، أما المؤمن مضي الزمن لصالحه، فكلما امتد به العمر قربه من سعادته المطلقة، كلما امتد به العمر قربه من لقاء الله عز وجل، كلما امتد به العمر قربه من عرسه، وكلما امتد به العمر قربه من تحفته التي هي الموت.
ما قولك في أنّ بعض الناس ينخلع قلبه ذكر الموت ؟ بينما بعضهم يتمنى لقاء الله عز وجل ؟! تصور أن النبي عليه الصلاة والسلام، لما خيّره جبريل بين أن يبقى حيًّا في الدنيا وبين أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى، قال بل الرفيق الأعلى ماذا رأى النبي ؟ فعندما تكون حياة الإنسان بذلاً واستقامة وعطاء وخدمة للناس والتزاماً بالشرع وورعاً، وهو يحيى ليرضي الله عز وجل فالموت عند هذا جزء من سعادته العظمى، لذلك هؤلاء الذين يأتيهم الموت وهم على طهارة يأتيهم بأحب الناس إليهم على الإطلاق، وموتهم نوع من السعادة لذلك قال الله عز وجل:
﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ(73)﴾
سلام.. إذا دعيَ شخص إلى وليمة وكان ضيف الشرف الأول، فإنك ترى حس الاستقبال، والترحيب المصافحة الابتسامة الشفافة العريضة يا أهلاً ويا سهلاً، نورتم نحن على شوق لهذا اللقاء، المكان واسع لائق، والماء البارد دونه، وأطباق الطعام على اختلافها ؛ ألوانًا مذاقًا فهذه صورة، فهذه يعني إذا إنسان كُرم في الدنيا، فكيف إذا كرَّمك خالق الأكوان ؟! وشتّان بين تكريم زائل، وتكريم باقٍ أبدًا.لذلك قال تعالى:
﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)﴾
الزيادة رؤية وجه الله الكريم، ورد في الأثر وفي الأحاديث الصحيحة أن المؤمن ينظر إلى وجه الله الكريم فيغيب خمسين ألف عام من نشوة النظرة !! قال تعالى:
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾
وأكبر عقاب لأهل الكفر، قال تعالى:
﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)﴾
محجوب عن الله عز وجل.الحي، قال بعض العلماء: " هو الموجود الواجب الوجود ".
من المعلوم، أنّه في أبحاث مر معنا في العقيدة، من هو واجب الوجود، وما هو ممكن الوجود، وما هو مستحيل الوجود، فالكون كله ممكن الوجود، والله واجب الوجود.
وقال بعضهم: " الحي هو الباقي من أزل الأزل إلى أبد الأبد "، وأنت معه والأزل هو عمق الوجود ودوامه في الماضي، والأبد هو دوام الوجود وبقاؤُه في المستقبل.
وقيل: الحي الذي ليس لحياته زوال والذي لا يموت، والإنس والجن يموتون، قال تعالى:
﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)﴾
الإمام الغزالي يُعرّف الحي " بأنه الفعال الذي لا يموت "، فالحي الكامل المطلق وهو الذي يندرج جميع المدركات تحت إدراكه.الفعَّال ؛ الدَّرَّاك، والدراك صيغة مبالغة من الإدراك، يعني أن علمه مطلق، وفعله مطلق، وهو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم.
أحياناً مدير دائرة تمر عليه ألف قضية من وراء ظهره، بذكاء تمرُّ من تحته، لا يشعر، ليس عنده إمكانية أن يعرف ما يجري بغير الغرفة التي هو فيها، تأتيه معلومات، من داوم ومن لم يداوم، يتفق موظف مع مراقب الدوام، يسجله موجودًا بينما هو مسافر، فأحياناً تجد إنسانًا على أعلى درجة من الذكاء وتمر عليه ألف قضية دون أن يعلم.
الإمام الغزالي يقول الحي ؛ هو الفعال، الدَّرَّاك، يعني على كل شيء قدير وبكل شيء عليم، يعني قدرته متعلقة بكل ممكن، وعلمه متعلق بالواجب والممكن والمستحيل.
يقول القشيري، الحي ؛ " هو الله تعالى حي، وحياته صفة من صفاته زائدة على بقائه، فهو دائم البقاء الذي لا سبيل إلى فنائه ".
اسم الحي القيوم ورد في القرآن خمس مرات، ورد في البقرة في آية الكرسي، وهي سيّدة آي القرآن، وأعظم آية فيه، قال تعالى:
﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)﴾
أحياناً شخص يكون ملء السمع والبصر، شخصية فذة، فإن سهر إلى الساعة الواحدة ليلاً غلبه النعاس وأضجعه، فمهما كان ذكياً ومهما كان قويا لم يعد لديه مقاومة، فانتباهه وذكاؤه مع الإرهاق تلاشى وأخذ يكبو.قد ترى سياره ثمنها خمسة ملايين، عشرة ملايين شاحنة ضخمة هَوَتْ جانبًا، بل تحطَّمَت، فكل من سافر إلى حلب مثلا يشاهد حادثين أو ثلاثة، فالسيارات هوَتْ وانقلبَت لأنّ صاحبها نائم " النوم سلطان وقدرته نافذة، فالله عز وجل لا تأخذه سنة ولا نوم أما نحن فبني البشر فنصف عمرنا نوم. لكن الله :
﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ﴾
الآية الثانية في آل عمران:
﴿الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)﴾
في سورة طه:
﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111)﴾
في سورة الفرقان:
﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً (58)﴾
في غافر:
﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)﴾
روى الإمام الرازي أنه مات لبعضهم ابن فبكى عليه حتى عمي فقال بعضهم له: الذنب ذنبك، لأنك أحببت حياً يموت، ولو أحببت الحي الذي لا يموت لما وقعَت في هذا الحزن، قال النبي الكريم:
(( لو كنت متخذاً من العباد خليلاً لكان أبو بكر خليلي))
أنا فيما أعتقد أنّه لا يوجد رجلان على وجه الأرض أحبا بعضهما حباً إلى درجة غير معقولة كحبّ أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، أعطاه ماله كله، قال: يا أبا بكر، ماذا أبقيت لنفسك؟ قال: الله ورسوله.. قال ما ساءني قط.. قال أيضًا :
((ما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر..))
((سدوا كل خوخة إلا خوخة أبي بكر..))
((ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة، إلا أخي أبا بكر..))
إذا أكرم الله عز وجل رجلاً بعمرة وزار المسجد النبوي فإنه يسلم أولاً على النبي، ثم ينتقل ليُسلّم على أبي بكر رضي الله عنه، فليسلم عليه وليذكر أقوال النبي فيه تضطرب نفسه ويبكي، قال:
((ما ساءني قط فاعرفوا له ذلك ))
هذا الصديق، ومع ذلك:
(( لو كنت متخذاً من العباد خليلاً لكان أبو بكر خليلي ولكن أخ وصاحب في الله حتى يجمع الله بيننا ))
كل إنسان يضع كل أمله كل حبه، يعلق كل قلبه بإنسان من دون الله يسقط. لذلك عندما نزلت براءة السيدة عائشة من فوق سبع سماوات وفرحت فرحاً شديداً، وكان أبوها عندها، وقال لها قومي إلى رسول الله واشكريه، قالت: والله لا أقوم إلا لله، تبسم عليه الصلاة والسلام وقال:
((لقد عرفت الحق لأهله ))
لقد عرفت الفضل لأهله.الله هو الموجود، وكلما وحد الإنسان ربّه كثيرًا أحبه الله أكثر، والمؤمن لا يعبأ بأحد، أديب مع الناس كلهم، يحترمهم جميعاً، يخدمهم جميعاً أما قلبه لا يعلقه إلا بالله، هذا هو التوحيد، الله يغار، إن رأى قلبك مع غيره، هذا الغير ضايقك بإلهام من الله من أجل أن تفك ارتباطك معه فلتكن ذكياً ولا تعلق قلبك إلا بالله مباشرةً، وعامل الناس بالإحسان.
تحدثت مرةً عن بحث خطير جداً.. هناك حبٌ في الله وحب مع الله، الحب في الله من كمال الإيمان، فأنا أحب إخواني لأنني أحب الله أحب أخي المؤمن لأنني أحب الله، أحب زوجتي لأنها مستقيمة لأنني أحب الله أحبها، أما إذا أحببتها مع الله، يعني نفذت أمرها وعصيت الله، إذا أحببت إنساناً مع الله، أرضيته ولم ترض الله فقد هويْت منزلقًا، الحب مع الله عين الشرك والحب في الله من كمال الإيمان، يجب أن تفرق بدقة بالغة بين أن تحب مع الله، وبين أن تحب في الله.
محبة النبي محبة في الله، محبة أهل الحق محبة في الله، محبة إخوانك في الإيمان محبة في الله، محبة أهلك وأولادك محبة في الله أما إذا أطعت مخلوقاً وعصيت الخالق، بدافع الحب، فهذا حب مع الله وهو عين الشرك.
قصة مشابهة ؛ روى القشيري أن رجلاً قال: إن صديقي فلاناً مات فمن كثرة ما بكيت عليه ذهب بصري، فقيل له إن الذنب ذنبك حيث أحببت الحي الذي يموت، هلا أحببت الحي الذي لا يموت حتى كنت تستغني عن البكاء على صديقك.
وبعد فالإنسان يحب من حوله، يحب زوجته وأولاده وإخوانه، ثم يأتيه ملك الموت، سيبقى في القبر وحيداً، أشد الناس حباً له يشيعه حتى شفير القبر، طبعاً النساء يودعنه في المنزل، أما أولاده فوداعهم إلى شفير القبر يلقون عليه النظرة الأخيرة، ولكن بعد أن يضع الحفار تلك الرقاقة وبعد أن يهيل التراب، وينصرف الناس، من بقي مع هذا الإنسان الحي الذي لا يموت هو الذي لا يبقى.
(( عبدي رجعوا وتركوك وفي التراب دفنوك ولم يبق لك إلا أنا وأنا الحي الذي لا يموت ))
أليس من الذكاء أن تقيم علاقات طيبة مع الحي الذي لا يموت لأنك سوف تنفرد معه ولا أحد معك، والأهل ينصرفون إلى طعامهم إلى شرابهم بعد حين إلى نزههم ثم إلى متعهم، بعد حين كأنك لم تكن، الأولى أن تحب الله.يقول لك: أنا من أجل أولادي لم أدفع زكاة مالي، لن ينجو من عذاب الله، ومن أجل ولد معين لم يعدل بين بقية أولاده لقي الله وهو عليه غضبان.
هل من إنسان يستاهل أن ترضيه وأن تسخط الله عز وجل ؟ هل من إنسان على وجه الأرض يستاهل أن ترضيه بسخط الله ؟ فمن يعتقد مثل هذا ويتصرف بغير الهوى من الله فهو أحمق.
أعرف آباء كثيرين من أجل بقاء المال مع الذكور يحرمون الإناث ويلقى الله وهو عليه غضبان، فهل أولاده ينفعونه أو يدفعون عنه عند الله عز وجل
سئل ابنٌ عاق إلى أين تذهب ؟ قال: ذاهب لأسكر على روح والدي.. السكر على روح والده، ترك له أبوه ثروة طائلة وحرم بناته، فهل نفعه هذا الولد بعد الموت.
لذلك ليس من مخلوق على ظهر الأرض يستأهل أن ترضيه بسخط الله.. في الأرض كلها.. أرض الله ولا تعبأ بأحد.
فليتك تحلو والحياة مريــــرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامـــر وبيني وبين العالمين خــراب
صح منك الوصل فالكل هيـــن وكل الذي فوق التراب تـراب
***
بقي التخلّق باسم الحي، فاحذر أن تكون مع إنسان كالميت بين يدي غاسله، فالحذر الحذر أن تركن كلية لإنسان ما، ولكن قال العلماء " لتكن بين يدي ربك كالميت بين يدي مُغسِّله".وليت الذي بيني وبينك عامـــر وبيني وبين العالمين خــراب
صح منك الوصل فالكل هيـــن وكل الذي فوق التراب تـراب
***
هم الأحبة إن جاروا وإن عدلوا فليس لي عنهمُ معدل وإن عدلوا
والله وإن فتَّتوا في حبهم كبدي باق على حبهم راض بما فعلوا
***
فالمؤمن إذا أعطاه، وإذا منعه، وإذا قربه وإذا أبعده..يبقى متعلقا بربه فعطاؤه ومنعه لخيرهوالله وإن فتَّتوا في حبهم كبدي باق على حبهم راض بما فعلوا
***
كن مع الله ترَ الله معـــك واترك الكل وحاذر طمعك
وإذا أعطاك فمن يمنعـــه ثم من يعطي إذا ما منعـك
***
ليس لك إلا الله عز وجل، فالمؤمن الصادق بين يدي الله كالميت بين يدي المغسل، راض بقضائه، راض بقدره راض برزقه، راض بعطائه لك إن فرقك أو إن جمعك، كيفما شاء فكن في يده .وإذا أعطاك فمن يمنعـــه ثم من يعطي إذا ما منعـك
***
في الورى إن شاء فذاً ذقته وإذا شاء عليهم رفعــك
هذه ملة طه خذ بهــــا لا تطع عنها قصوراً دفعك
هذه ملة طه خذ بهــــا لا تطع عنها قصوراً دفعك